سورة المجادلة / الآية رقم 22 / تفسير في ظلال القرآن / أحمد بن علي العجمي / القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
القرآن الكريم
طريقة عرض الآيات
صور
نصوص

لاَ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ المُفْلِحُونَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي المُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ وَلَوْلا أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ

المجادلةالمجادلةالمجادلةالمجادلةالمجادلةالمجادلةالحشرالحشرالحشرالحشرالحشرالحشرالحشرالحشرالحشر




تلاوة آية تلاوة سورة الشرح الصوتي

التفسير


نحن في هذه السورة وفي هذا الجزء كله تقريباً مع أحداث السيرة في المجتمع المدني. مع الجماعة المسلمة الناشئة؛ حيث تُربى وتقوّم، وتعد للنهوض بدورها العالمي، بل بدورها الكوني، الذي قدره الله لها في دورة هذا الكون ومقدّراته. وهو دور ضخم يبدأ من إنشاء تصور جديد كامل شامل لهذه الحياة، في نفوس هذه الجماعة، وإقامة حياة واقعية على أساس هذا التصور، ثم تحمله هذه الجماعة إلى العالم كله لتنشئ للبشرية حياة إنسانية قائمة على أساس هذا التصور كذلك.. وهو دور ضخم إذن يقتضي إعداداً كاملاً.
ولقد كان أولئك المسلمون الذين يعدهم القدر لهذا الدور الضخم، ناساً من الناس. منهم السابقون من المهاجرين والأنصار الذين نضج إيمانهم، واكتمل تصورهم للعقيدة الجديدة، وخلصت نفوسهم لها، ووصلوا.. وصلوا إلى حقيقة وجودهم وحقيقة هذا الوجود الكبير؛ واندمجت حقيقتهم مع حقيقة الوجود، فأصبحوا بهذا طرفاً من قدر الله في الكون؛ لا يجدون في أنفسهم عوجاً عنه، ولا يجدون في خطاهم تخلفاً عن خطاه، ولا يجدون في قلوبهم شيئاً إلا الله.. كانوا كما جاء عنهم في هذه السورة: {لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله، ولو كانوا آباءهم او أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم. أولئك كتب في قلوبهم الإيمان، وأيدهم بروح منه، ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها. رضي الله عنهم ورضوا عنه. أولئك حزب الله. ألا إن حزب الله هم المفلحون}..
ولكن هؤلاء السابقين كانوا قلة بالقياس إلى الجماعة المسلمة المتزايدة العدد وبخاصة بعد أن أصبح الإسلام قوة ترهب حتى قبل الفتح ودخل فيه من لم يتلق من التربية الإسلامية القسط الكافي، ولم يتنفس في الجو الإسلامي فترة طويلة. كما دخل فيه من المنافقين من آثر المصلحة أو العافية على دَخل في القلوب، وتربص بالفرص، وذبذبة بين المعسكر الإسلامي والمعسكرات القوية المناوئة له في ذلك الحين. سواء معسكرات المشركين أو اليهود!
ولقد اقتضت تربية النفوس وإعدادها للدور الكوني الكبير المقدر لها في الأرض جهوداً ضخمة، وصبراً طويلاً، وعلاجاً بطيئاً، في صغار الأمور وفي كبارها.. كانت حركة بناء هائلة هذه التي قام بها الإسلام، وقام بها رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم بناء النفوس التي تنهض ببناء المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية، وتقوم على منهج الله، تفهمه وتحققه، وتنقله إلى أطراف الأرض في صورة حية متحركة، لا في صحائف وكلمات.
ونحن نشهد في هذه السورة وفي هذا الجزء كله طرفاً من تلك الجهود الضخمة، وطرفاً من الأسلوب القرآني كذلك في بناء تلك النفوس، وفي علاج الأحداث والعادات والنزوات؛ كما نشهد جانباً من الصراع الطويل بين الإسلام وخصومه المختلفين من مشركين ويهود ومنافقين.
وفي هذه السورة بصفة خاصة نشهد صورة موحية من رعاية الله للجماعة الناشئة؛ وهو يصنعها على عينه، ويربيها بمنهجه، ويشعرها برعايته، ويبني في ضميرها الشعور الحي بوجوده سبحانه معها في أخص خصائصها، وأصغر شؤونها، وأخفى طواياها؛ وحراسته لها من كيد أعدائها خفيه وظاهره؛ وأخذها في حماه وكنفه، وضمها إلى لوائه وظله؛ وتربية أخلاقها وعاداتها وتقاليدها تربية تليق بالجماعة التي تنضوي إلى كنف الله، وتنتسب إليه، وتؤلف حزبه في الأرض، وترفع لواءه لتعرف به في الأرض جميعاً.
ومن ثم تبدأ السورة بصورة عجيبة من صور هذه الفترة الفريدة في تاريخ البشرية. فترة اتصال السماء بالأرض في صورة مباشرة محسوسة، ومشاركتها في الحياة اليومية لجماعة من الناس مشاركة ظاهرة: {قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله، والله يسمع تحاوركمآ إن الله سميع بصير}.. فنشهد السماء تتدخل في شأن يومي لأسرة صغيرة فقيرة مغمورة، لتقرر حكم الله في قضيتها، وقد سمع سبحانه للمرأة وهي تحاور رسول الله فيها، ولم تكد تسمعها عائشة وهي قريبة منها! وهي صورة تملأ القلب بوجود الله وقربه وعطفه ورعايته.
يليها في سياق السورة توكيد أن الذين يحادون الله ورسوله وهم أعداء الجماعة المسلمة التي تعيش في كنف الله مكتوب عليهم الكبت والقهر في الأرض، والعذاب المهين في الآخرة، مأخوذون بما عملوا مما أحصاه الله عليهم، ونسوه هم وهم فاعلوه! {والله على كل شيء شهيد}..
ثم توكيد وتذكير بحضور الله سبحانه وشهوده لكل نجوى في خلوة، يحسب أصحابها أنهم منفردون بها. والله معهم أينما كانوا: {ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة، إن الله بكل شيء عليم}.. وهي صورة تملأ القلب كذلك بوجود الله وحضوره، كما تملؤه برقابته واطلاعه.
وهذا التوكيد مقدمة لتهديد الذين يتناجون في خلواتهم لتدبير المكايد للمسلمين، وملء قلوبهم بالحزن والهم والتوجس. تهديد بأن أمرهم مكشوف، وأن عين الله مطلعة عليهم، ونجواهم بالإثم والعدوان ومعصية الرسول مسجلة، وأن الله آخذهم بها ومعذبهم عليها. ونهي للمسلمين عن التناجي بغير البر والتقوى، وتربية نفوسهم وتقويمها بهذا الخصوص.
ثم يستطرد في تربية هذه النفوس المؤمنة؛ فيأخذها بأدب السماحة وبالطاعة في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ومجالس العلم والذكر. كما يأخذها بأدب السؤال والحديث مع الرسول صلى الله عليه وسلم والجد في هذا الأمر والتوقير.
أما بقية السورة بعد هذا فتنصرف إلى الحديث عن المنافقين الذين يتولون اليهود؛ ويتآمرون معهم، ويدارون تآمرهم بالكذب والحلف للرسول وللمؤمنين.
وتصورهم في الآخرة كذلك حلافين كذابين؛ يتقون بالحلف والكذب ما يواجههم من عذاب الله، كما كانوا يتقون بهما في الدنيا ما يواجههم من غضب رسول الله والمؤمنين! مع توكيد أن الذين يحادون الله ورسوله كتب الله عليهم أنهم في الأذلين وأنهم هم الأخسرون. كما كتب أنه ورسله هم الغالبون. وذلك تهويناً لشأنهم، الذي كان بعض المنتسبين إلى الإسلام وبعض المسلمين يستعظمه، فيحافظ على مودته معهم، ولا يدرك ضرورة تميز الصف المسلم تحت راية الله وحدها، والاعتزاز برعاية الله وحده، والاطمئنان إلى حراسته الساهرة للفئة التي يصنعها على عينه، ويهيئها لدورها الكوني المرسوم.
وفي ختام السورة تجيء تلك الصورة الوضيئة لحزب الله. هذه الصورة التي كان يمثلها بالفعل أولئك السابقون من المهاجرين والأنصار.. والتي كانت الآية الكريمة تشير لها كي ينتهي إليها أولئك الذين ما زالوا بعد في الطريق!
{لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوآدون من حآد الله ورسوله..} الخ الآية.. كما وردت في أول هذا التقديم..
{قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله، والله يسمع تحاوركمآ، إن الله سميع بصير. الذين يظاهرون منكم من نسآئهم ما هن أمهاتهم، إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم، وإنهم ليقولون منكراً من القول وزوراً، وإن الله لعفو غفور. والذين يظاهرون من نسآئهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتمآسا، ذلكم توعظون به، والله بما تعملون خبير. فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتمآسا، فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً، ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله. وتلك حدود الله، وللكافرين عذاب أليم}..
كان الرجل في الجاهلية يغضب لأمر من امرأته فيقول: انت عليّ كظهر أمي. فتحرم عليه، ولا تطلق منه. وتبقى هكذا، لا هي حل له فتقوم بينهما الصلات الزوجية؛ ولا هي مطلقة منه فتجد لها طريقاً آخر. وكان هذا طرفاً من العنت الذي تلاقيه المرأة في الجاهلية.
فلما كان الإسلام وقعت هذه الحادثة التي تشير إليها هذه الآيات، ولم يكن قد شرع حكم للظهار. قال الإمام أحمد: حدثنا سعد بن إبراهيم ويعقوب، قالا: حدثنا أبي، حدثنا محمد بن إسحاق، حدثني معمر ابن عبد الله بن حنظلة، عن يوسف بن عبد الله بن سلام، عن خويلة بنت ثعلبة. قالت: فيّ والله وفي أوس بن الصامت أنزل الله صدر سورة المجادلة. قالت: كنت عنده، وكان شيخاً كبيراً قد ساء خلقه، قالت: فدخل علي يوماً فراجعته بشيء فغضب، فقال: أنت علي كظهر أمي. قالت: ثم خرج فجلس في نادي قومه ساعة، ثم دخل علي، فإذا هو يريدني عن نفسي، قالت: قلت: كلا والذي نفس خويلة بيده، لا تخلص إلي وقد قلت ما قلت حتى يحكم الله ورسوله فينا بحكمه. قالت: فواثبني، فامتنعت منه فغلبته بما تغلب به المرأة الشيخ الضعيف، فألقيته عني. قالت: ثم خرجت إلى بعض جاراتي فاستعرت منها ثياباً، ثم خرجت حتى جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلست بين يديه فذكرت له ما لقيت منه، وجعلت أشكو إليه ما ألقى من سوء خلقه. قالت: فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يا خويلة ابن عمك شيخ كبير فاتقي الله فيه»قالت: فوالله ما برحت حتى نزل فيّ قرآن؛ فتغشى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان يتغشاه، ثم سري عنه، فقال لي: «يا خويلة قد أنزل الله فيك وفي صاحبك قرآناً».. ثم قرأ علي: {قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله، والله يسمع تحاوركمآ إن الله سميع بصير}.. إلى قوله تعالى: {وللكافرين عذاب أليم}.. قالت: فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم-: «مريه فليعتق رقبة». قالت: فقلت: يا رسول الله ما عنده ما يعتق. قال: «ليصم شهرين متتابعين». قالت: فقلت: والله إنه لشيخ ماله من صيام. قال: «فليطعم ستين مسكيناً وسقاً من تمر». قالت: فقلت: والله يا رسول الله ما ذاك عنده. قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم-: «فإنا سنعينه بعرق من تمر». قالت: فقلت يا رسول الله وأنا سأعينه بعرق آخر. قال: «قد أصبت وأحسنت فاذهبي فتصدقي به عنه، ثم استوصي بابن عمك خيراً». قالت: ففعلت.
فهذا هو الشأن الذي سمع الله ما دار فيه من حوار بين رسول الله صلى الله عليه وسلم والمرأة التي جاءت تجادله فيه. وهذا هو الشأن الذي أنزل الله فيه حكمه من فوق سبع سماوات، ليعطي هذه المرأة حقها، ويريح بالها وبال زوجها، ويرسم للمسلمين الطريق في مثل هذه المشكلة العائلية اليومية!
وهذا هو الشأن الذي تفتتح به سورة من سور القرآن: كتاب الله الخالد، الذي تتجاوب جنبات الوجود بكل كلمة من كلماته، وهي تتنزل من الملأ الأعلى.. تفتتح بمثل هذا الإعلان: {قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها..} فإذا الله حاضر هذا الشأن الفردي لامرأة من عامة المسلمين، لا يشغله عن سماعه تدبيره لملكوت السماوات والأرض؛ ولا يشغله عن الحكم فيه شأن من شؤون السماوات والأرض!
وإنه لأمر.. إنه لأمر أن يقع مثل هذا الحادث العجيب؛ وأن تشعر جماعة من الناس أن الله هكذا معها، حاضر شؤونها، جليلها وصغيرها، معنيّ بمشكلاتها اليومية، مستجيب لأزماتها العادية.
وهو الله.. الكبير المتعال، العظيم الجليل، القهار المتكبر، الذي له ملك السماوات والأرض وهو الغني الحميد.
تقول عائشة رضي الله عنها: الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات. لقد جاءت المجادلة خولة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في جانب البيت، ما أسمع ما تقول. فأنزل الله عز وجل: {قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله.. الآية}.
وفي رواية خولة أو خويلة للتصغير والتدليل للحادث، وتصرفها هي فيه، وذهابها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومجادلتها له، ونزول القرآن بالحكم.. في هذا كله صورة من حياة تلك الجماعة الفريدة في تلك الفترة العجيبة. وشعورها بتلك الصلة المباشرة، وانتظارها التوجيه من السماء في كل شأن من شؤونها واستجابة السماء لهذا الانتظار، الذي يجعل الجماعة كلها عيال الله هو يرعاها وهي تتطلع إليه تطلع الطفل الصغير لأبيه وراعيه!
وننظر في رواية الحادث في النص القرآني، فنجد عناصر التأثير والإيحاء والتربية والتوجيه تسير جنباً إلى جنب مع الحكم وتتخلله وتعقب عليه، كما هو أسلوب القرآن الفريد:
{قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله، والله يسمع تحاوركمآ، إن الله سميع بصير}.. وهو مطلع ذو إيقاع عجيب.. إنكما لم تكونا وحدكما.. لقد كان الله معكما. وكان يسمع لكما. لقد سمع قول المرأة. سمعها تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله. وعلم القصة كلها. وهو يعلم تحاوركما وما كان فيه.. إن الله سميع بصير.. يسمع ويرى. هذا شأنه وهذه صورة منه في الحادث الذي كان الله ثالثكما فيه..
وكلها إيقاعات ولمسات تهز القلوب..
ثم يقرر أصل القضية، وحقيقة الوضع فيها:
{الذين يظاهرون منكم من نسآئهم ما هن أمهاتهم. إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم. وإنهم ليقولون منكراً من القول وزوراً، وإن الله لعفو غفور}..
فهو علاج للقضية من أساسها. إن هذا الظهار قائم على غير أصل. فالزوجة ليست أماً حتى تكون محرمة كالأم. فالأم هي التي ولدت. ولا يمكن أن تستحيل الزوجة أماً بكلمة تقال. إنها كلمة منكرة ينكرها الواقع. وكلمة مزورة ينكرها الحق. والأمور في الحياة يجب أن تقوم على الحق والواقع، في وضوح وتحديد، فلا تختلط ذلك الاختلاط، ولا تضطرب هذا الاضطراب.. {وإن الله لعفو غفور} فيما سلف من هذه الأمور.
وبعد تقرير أصل القضية على هذا النحو المحدد الواضح يجيء الحكم القضائي في الموضوع. {والذين يظاهرون من نسآئهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتمآسا. ذلكم توعظون به، والله بما تعملون خبير}..
وقد جعل الله العتق في كفارات متنوعة، وسيلة من وسائل التحرير للرقاب التي أوقعها نظام الحروب في الرق إلى أجل، ينتهي بوسائل شتى هذه واحدة منها.
وهناك أقوال كثيرة في معنى: {ثم يعودون لما قالوا}.. نختار منها أنهم يعودون إلى الوطء الذي حرموه على أنفسهم بالظهار. فهذا أقرب ما يناسب السياق. فتحرير رقبة من قبل العودة إلى حله.. ثم التعقيب: {ذلكم توعظون به}.. فالكفارة مذكر وواعظ بعدم العودة إلى الظهار الذي لا يقوم على حق ولا معروف {والله بما تعملون خبير}.. خبير بحقيقته، وخبير بوقوعه، وخبير بنيتكم فيه.
وهذا التعقيب يجيء قبل إتمام الحكم لإيقاظ القلوب، وتربية النفوس، وتنبيهها إلى قيام الله على الأمر بخبرته وعلمه بظاهره وخافيه. ثم يتابع بيان الحكم فيه:
{فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتمآسا. فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً}..
ثم التعقيب للبيان والتوجيه:
{ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله}.. وهم مؤمنون.. ولكن هذا البيان، وهذه الكفارات وما فيها من ربط أحوالهم بأمر الله وقضائه.. ذلك مما يحقق الإيمان، ويربط به الحياة؛ ويجعل له سلطاناً بارزاً في واقع الحياة. {وتلك حدود الله}.. أقامها ليقف الناس عندها لا يتعدونها. وهو يغضب على من لا يرعاها ولا يتحرج دونها: {وللكافرين عذاب أليم}.. بتعديهم وتحديهم وعدم إيمانهم وعدم وقوفهم عند حدود الله كالمؤمنين..
وتلك العبارة الأخيرة: {وللكافرين عذاب أليم}.. تناسب ختام الآية السابقة، وهي في الوقت ذاته قنطرة تربط بينها وبين الآية اللاحقة التي تتحدث عمن يحادّون الله ورسوله. على طريقة القرآن في الانتقال من حديث لحديث في تسلسل عجيب:
{إن الذين يحآدّون الله ورسوله كبتوا كما كبت الذين من قبلهم، وقد أنزلنآ آيات بينات وللكافرين عذاب مهين. يوم يبعثهم الله جميعاً، فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه، والله على كل شيء شهيد}..
إن المقطع الأول في السورة كان صورة من صور الرعاية والعناية بالجماعة المسلمة. وهذا المقطع الثاني صورة من صور الحرب والنكاية للفريق الآخر. فريق الذين يحادون الله ورسوله، أي الذين يأخذون لهم موقفاً عند الحد الآخر في مواجهة الله ورسوله! وذكر المحادّة بمناسبة ذكره قبلها لحدود الله. فهؤلاء لا يقفون عند حد الله ورسوله، بل عند الحد الآخر المواجه! وهو تمثيل للمتخاصمين المتنازعين، لتفظيع عملهم وتقبيح موقفهم. وساء موقف مخلوق يتحدى فيه خالقه ورازقه، ويقف في تبجح عند الحد المواجه لحده!
هؤلاء المحادون المشاقون المتبجحون: {كبتوا كما كبت الذين من قبلهم}.. والأرجح أن هذا دعاء عليهم. والدعاء من الله سبحانه حكم. فهو المريد وهو الفعال لما يريد. والكبت القهر والذل. والذين من قبلهم إما أن يكونوا هم الغابرين من الأقوام الذين أخذهم الله بنكاله وإما أن يكونوا الذين قهرهم المسلمون في بعض المواقع التي تقدمت نزول هذه الآية، كما حدث في غزوة بدر مثلاً.
{وقد أنزلنا آيات بينات}..
تفصل هذه العبارة بين مصير الذين يحادون الله ورسوله في الدنيا ومصيرهم في الآخرة.. لتقرير أن هذا المصير وذاك تكفلت ببيانه هذه الآيات. وكذلك لتقرير أنهم يلاقون هذه المصائر لا عن جهل ولا عن غموض في الحقيقة، فقد وضحت لهم وعلموها بهذه الآيات البينات.
ثم يعرض مصيرهم في الآخرة مع التعقيب الموحي الموقظ المربي للنفوس:
{وللكافرين عذاب مهين. يوم يبعثهم الله جميعاً، فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه. والله على كل شيء شهيد}..
والمهانة جزاء التبجح. وهي مهانة يوم يبعثهم الله جميعاً. مهانة على رؤوس الجموع، وهو عذاب يقوم على حق وبيان لما عملوا. إن كانوا هم قد نسوه فإن الله أحصاه بعلمه الذي لا يند عنه شيء، ولا يغيب عنه خاف: {والله على كل شيء شهيد}..
وتلتقي صورة الرعاية والعناية، بصورة الحرب والنكاية، في علم الله واطلاعه، وشهوده وحضوره. فهو شاهد حاضر للعون والرعاية؛ وهو شاهد حاضر للحرب والنكاية. فليطمئن بحضوره وشهوده المؤمنون. وليحذر من حضوره وشهوده الكافرون!
ويستطرد السياق من تقرير حقيقة: {والله على كل شيء شهيد}.. إلى رسم صورة حية من هذا الشهود، تمس أوتار القلوب:
{ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض، ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم، ولا خمسة إلا هو سادسهم، ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم، أين ما كانوا، ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة، إن الله بكل شيء عليم}..
تبدأ الآية بتقرير علم الله الشامل لما في السماوات وما في الأرض على إطلاقه، فتدع القلب يرود آفاق السماوات وأرجاء الأرض مع علم الله المحيط بكل شيء في هذا المدى الوسيع المتطاول. من صغير وكبير، وخاف وظاهر، ومعلوم ومجهول..
ثم تتدرج من هذه الآفاق وتلك الأرجاء، وتزحف وتقرب حتى تلمس ذوات المخاطبين وتمس قلوبهم بصورة من ذلك العلم الإلهي تهز القلوب:
{ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم، ولا خمسة إلا هو سادسهم، ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا}..
وهي حقيقة في ذاتها، ولكنها تخرج في صورة لفظية عميقة التأثير. صورة تترك القلوب وجلة ترتعش مرة، وتأنس مرة، وهي مأخوذة بمحضر الله الجليل المأنوس. وحيثما اختلى ثلاثة تلفتوا ليشعروا بالله رابعهم. وحيثما اجتمع خمسة تلفتوا ليشعروا بالله سادسهم. وحيثما كان اثنان يتناجيان فالله هناك! وحيثما كانوا أكثر فالله هناك!
إنها حالة لا يثبت لها قلب؛ ولا يقوى على مواجهتها إلا وهو يرتعش ويهتز.. وهو محضر مأنوس نعم.
ولكنه كذلك جليل رهيب. محضر الله: {هو معهم أين ما كانوا}..
{ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة}..
وهذه لمسة أخرى تُرجف وتزلزل.. إن مجرد حضور الله وسماعه أمر هائل. فكيف إذا كان لهذا الحضور والسماع ما بعده من حساب وعقاب؟ وكيف إذا كان ما يسره المتناجون وينعزلون به ليخفوه، سيعرض على الأشهاد يوم القيامة وينبئهم الله به في الملأ الأعلى في ذلك اليوم المشهود؟!
وتنتهي الآية بصورة عامة كما بدأت:
{إن الله بكل شيء عليم}.
وهكذا تستقر حقيقة العلم الإلهي في القلوب، بهذه الأساليب المنوعة في عرضها في الآية الواحدة. الأساليب التي تعمق هذه الحقيقة في القلب البشري، وهي تدخل بها عليه من شتى المسالك والدروب!
ذلك التقرير العميق لحقيقة حضور الله وشهوده في تلك الصورة المؤثرة المرهوبة تمهد لتهديد المنافقين، الذين كانوا يتناجون فيما بينهم بالمؤامرات ضد الرسول صلى الله عليه وسلم وضد الجماعة المسلمة بالمدينة. مع التعجيب من موقفهم المريب:
{ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه، ويتناجون بالإثم والعدوان ومعصية الرسول، وإذا جآءوك حيوك بما لم يحيك به الله، ويقولون في أنفسهم: لولا يعذبنا الله بما نقول! حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير}.
والآية توحي بأن خطة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع المنافقين في أول الأمر كانت هي النصح لهم بالاستقامة والإخلاص، ونهيهم عن الدسائس والمؤامرات التي يدبرونها بالاتفاق مع اليهود في المدينة وبوحيهم. وأنهم بعد هذا كانوا يلجون في خطتهم اللئيمة، وفي دسائسهم الخفية، وفي التدبير السيئ للجماعة المسلمة، وفي اختيار الطرق والوسائل التي يعصون بها أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم ويفسدون عليه أمره وأمر المسلمين المخلصين.
كما أنها توحي بأن بعضهم كان يلتوي في صيغة التحية فيحورها إلى معنى سيِّئ خفي: {وإذا جاءوك حيوك بما لم يحيك به الله}. كأن يقولوا كما كان اليهود يقولون السام عليكم. وهم يوهمون أنهم يقولون: السلام عليكم. بمعنى الموت لكم أو بمعنى تسامون في دينكم! أو أية صيغة أخرى ظاهرها برئ وباطنها لئيم! وهم يقولون في أنفسهم: لو كان نبياً حقاً لعاقبنا الله على قولنا هذا. أي في تحيتهم، أو في مجالسهم التي يتناجون فيها ويدبرون الدسائس والمؤامرات.
وظاهر من سياق السورة من مطلعها أن الله قد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بما كانوا يقولونه في أنفسهم، وبمجالسهم ومؤامراتهم. فقد سبق في السورة إعلان أن الله قد سمع للمرأة المجادلة؛ وأنه ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم.. الخ. مما يوحي بأنه أطلع رسوله على مؤامرات أولئك المنافقين وهو حاضر مجالسهم! وبما يقولونه كذلك في أنفسهم.
ثم رد عليهم بقوله تعالى:
{حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير}..
وكشف هذه المؤامرات الخفية، وإفشاء نجواهم التي عادوا إليها بعدما نهوا عنها، وكذلك فضح ما كانوا يقولونه في أنفسهم: {لولا يعذبنا الله بما نقول}.. هذا كله هو تصديق وتطبيق لحقيقة علم الله بما في السماوات وما في الأرض، وحضوره لكل نجوى، وشهوده لكل اجتماع. وهو يوقع في نفوس المنافقين أن أمرهم مفضوح، كما يوحي للمؤمنين بالاطمئنان والوثوق.
وهنا يلتفت إلى الذين آمنوا، يخاطبهم بهذا النداء: {يا أيها الذين آمنوا} لينهاهم عن التناجي بما يتناجي به المنافقون من الإثم والعدوان ومعصية الرسول، ويذكرهم تقوى الله، ويبين لهم أن النجوى على هذا النحو هي من إيحاء الشيطان ليحزن الذين آمنوا، فليست تليق بالمؤمنين:
{يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول، وتناجوا بالبر والتقوى، واتقوا الله الذي إليه تحشرون. إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا وليس بضآرهم شيئاً إلا بإذن الله، وعلى الله فليتوكل المؤمنون}..
ويبدو أن بعض المسلمين ممن لم تنطبع نفوسهم بعد بحاسة التنظيم الإسلامي، كانوا يتجمعون عندما تحزب الأمور، ليتناجوا فيما بينهم ويتشاوروا بعيداً عن قيادتهم. الأمر الذي لا تقره طبيعة الجماعة الإسلامية، وروح التنظيم الإسلامي، التي تقتضي عرض كل رأي وكل فكرة وكل اقتراح على القيادة ابتداء، وعدم التجمعات الجانبية في الجماعة. كما يبدو أن بعض هذه التجمعات كان يدور فيها ما قد يؤدي إلى البلبلة، وما يؤذي الجماعة المسلمة ولو لم يكن قصد الإيذاء قائماً في نفوس المتناجين ولكن مجرد إثارتهم للمسائل الجارية وإبداء الآراء فيها على غير علم، قد يؤدي إلى الإيذاء، وإلى عدم الطاعة.
وهنا يناديهم الله بصفتهم التي تربطهم به، وتجعل للنداء وقعه وتأثيره: {يا أيها الذين آمنوا} لينهاهم عن التناجي إذا تناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول. ويبين لهم ما يليق بهم من الموضوعات التي يتناجى بها المؤمنون: {وتناجوا بالبر والتقوى}.. لتدبير وسائلهما وتحقيق مدلولهما. والبر: الخير عامة. والتقوى: اليقظة والرقابة لله سبحانه، وهي لا توحي إلا بالخير. ويذكرهم بمخافة الله الذي يحشرون إليه، فيحاسبهم بما كسبوا. وهو شاهده ومحصيه. مهما ستروه وأخفوه.
قال الإمام أحمد: حدثنا بهز وعفان، قالا: أخبرنا همام، عن قتادة، عن صفوان بن محرز، قال: كنت آخذاً بيد ابن عمر، إذ عرض له رجل، فقال: كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى يوم القيامة؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول «إن الله يدني المؤمن، فيضع عليه كنفه، ويستره من الناس، ويقرره بذنوبه، ويقول له: أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ حتى إذا قرره بذنوبه، ورأى في نفسه أنه قد هلك قال: فإني قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم. ثم يعطى كتاب حسناته. وأما الكفار والمنافقون فيقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم، ألا لعنة الله على الظالمين».
ثم ينفرهم من التناجي والمسارة والتدسس بالقول في خفية عن الجماعة المسلمة، التي هم منها، ومصلحتهم مصلحتها، وينبغي ألا يشعروا بالانفصال عنها في شأن من الشئون. فيقول لهم: إن رؤية المسلمين للوسوسة والهمس والانعزال بالحديث تبث في قلوبهم الحزن والتوجس، وتخلق جواً من عدم الثقة؛ وأن الشيطان يغري المتناجين ليحزنوا نفوس إخوانهم ويدخلوا إليها الوساوس والهموم. ويطمئن المؤمنين بأن الشيطان لن يبلغ فيهم ما يريد:
{إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا، وليس بضآرهم شيئاً إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون}..
فالمؤمنون لا يتوكلون إلا على الله. فليس وراء ذلك توكل، وليس من دون الله من يتوكل عليه المؤمنون!
وقد وردت الأحاديث النبوية الكريمة بالنهي عن التناجي في الحالات التي توقع الريبة وتزعزع الثقة وتبعث التوجس:
جاء في الصحيحين من حديث الأعمش بإسناده عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم-: إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون صاحبهما فإن ذلك يحزنه».
وهو أدب رفيع، كما أنه تحفظ حكيم لإبعاد كل الريب والشكوك. فأما حيث تكون هناك مصلحة في كتمان سر، أو ستر عورة، في شأن عام او خاص، فلا مانع من التشاور في سر وتكتم. وهذا يكون عادة بين القادة المسئولين عن الجماعة. ولا يجوز أن يكون تجمعاً جانبياً بعيداً عن علم الجماعة. فهذا هو الذي نهى عنه القرآن ونهي عنه الرسول. وهذا هو الذي يفتت الجماعة أو يوقع في صفوفها الشك وفقدان الثقة. وهذا هو الذي يدبره الشيطان ليحزن الذين آمنوا. ووعد الله قاطع في أن الشيطان لن يبلغ بهذه الوسيلة ما يريد في الجماعة المؤمنة، لأن الله حارسها وكالئها؛ وهو شاهد حاضر في كل مناجاه، وعالم بما يدور فيها من كيد ودس وتآمر. ولن يضر الشيطان المؤمنين.. {إلا بإذن الله}.. وهو استثناء تحفظي لتقرير طلاقة المشيئة في كل موطن من مواطن الوعد والجزم، لتبقى المشيئة حرة وراء الوعد والجزم..
{وعلى الله فليتوكل المؤمنون}.. فهو الحارس الحامي، وهو القوي العزيز، وهو العليم الخبير. وهو الشاهد الحاضر الذي لا يغيب. ولا يكون في الكون إلا ما يريد. وقد وعد بحراسة المؤمنين. فأي طمأنينة بعد هذا وأي يقين؟
ثم يأخذ الذين آمنوا بأدب آخر من آداب الجماعة:
{يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم: تفسحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم.
وإذا قيل: انشزوا فانشزوا، يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات. والله بما تعملون خبير}..
ويظهر من بعض الروايات التي حكت سبب نزول الآية أن لها علاقة واقعية بالمنافقين، مما يجعل بينها وبين الآيات قبلها أكثر من ارتباط واحد في السياق.
قال قتادة: نزلت هذه الآية في مجالس الذكر، وذلك أنهم كانوا إذا رأوا أحدهم مقبلاً ضنوا بمجالسهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرهم الله تعالى أن يفسح بعضهم لبعض.
وقال مقاتل بن حيان: أنزلت هذه الآية يوم الجمعة. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ في الصفة، وفي المكان ضيق. وكان يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار. فجاء ناس من أهل بدر وقد سُبقوا إلى المجالس فقاموا حيال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: السلام عليكم أيها النبي ورحمة الله وبركاته، فرد النبي صلى الله عليه وسلم عليهم. ثم سلموا على القوم بعد ذلك فردوا عليهم فقاموا على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم. فعرف النبي صلى الله عليه وسلم ما يحملهم على القيام، فلم يُفسح لهم.. فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم فقال لمن حوله من المهاجرين والأنصار من غير أهل بدر: «قم يا فلان. وأنت يا فلان» فلم يزل يقيمهم بعدة النفر الذين هم قيام بين يديه من المهاجرين والأنصار أهل بدر. فشق ذلك على من أقيم من مجلسه، وعرف النبي صلى الله عليه وسلم الكراهة في وجوههم. فقال المنافقون: ألستم تزعمون أن صاحبكم هذا يعدل بين الناس؟ والله ما رأيناه قد عدل على هؤلاء! إن قوماً أخذوا مجالسهم وأحبوا القرب من نبيهم، فأقامهم وأجلس من أبطأ عنه.. فبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «رحم الله رجلاً يفسح لأخيه» فجعلوا يقومون بعد ذلك سراعاً، فيفسح القوم لإخوانهم. ونزلت هذه الآية يوم الجمعة وإذا صحت هذه الرواية فإنها لاتتنافى مع الأحاديث الأخرى التي تنهى عن أن يقيم الرجل الرجل من مكانه ليجلس فيه. كما جاء في الصحيحين: «لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه فيجلس فيه، ولكن تفسحوا وتوسعوا».
وما ورد كذلك من ضرورة استقرار القادم حيث انتهى به المجلس. فلا يتخطى رقاب الناس ليأخذ مكاناً في الصدر!
فالآية تحض على الإفساح للقادم ليجلس، كما تحض على إطاعة الأمر إذا قيل لجالس أن يرفع فيرفع. وهذا الأمر يجيء من القائد المسئول عن تنظيم الجماعة.
لا من القادم.
والغرض هو إيجاد الفسحة في النفس قبل إيجاد الفسحة في المكان. ومتى رحب القلب اتسع وتسامح، واستقبل الجالس إخوانه بالحب والسماحة، فأفسح لهم في المكان عن رضى وارتياح، فأما إذا رأى القائد أن هناك اعتباراً من الاعتبارات يقتضي إخلاء المكان فالطاعة يجب أن ترعى عن طواعية نفس ورضى خاطر وطمأنينة بال. مع بقاء القواعد الكلية مرعية كذلك، من عدم تخطي الرقاب أو إقامة الرجل للرجل ليأخذ مكانه. وإنما هي السماحة والنظام يقررهما الإسلام. والأدب الواجب في كل حال.
وعلى طريقة القرآن في استجاشة الشعور عند كل تكليف، فإنه يعد المفسحين في المجالس بفسحة من الله لهم وسعة: {فافسحوا يفسح الله لكم}.. ويعد الناشزين الذين يرفعون من المكان ويخلونه عن طاعة لأمر الرسول برفعة في المقام: {وإذا قيل انشزوا فانشزوا يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات}.. وذلك جزاء تواضعهم وقيامهم عند تلقي الأمر بالقيام.
وقد كانت المناسبة مناسبة قرب من الرسول صلى الله عليه وسلم لتلقي العلم في مجلسه. فالآية تعلمهم: أن الإيمان الذي يدفع إلى فسحة الصدر وطاعة الأمر، والعلم الذي يهذب القلب فيتسع ويطيع؛ يؤديان إلى الرفعة عند الله درجات. وفي هذا مقابل لرفعة المكان الذي تطوعوا بتركه ورفعوا عنه لاعتبار رآه الرسول صلى الله عليه وسلم {والله بما تعملون خبير}.. فهو يجزي به عن علم ومعرفة بحقيقة ما تعملون، وبما وراءه من شعور مكنون.
وهكذا يتولى القرآن تربية النفوس وتهذيبها، وتعليمها الفسحة والسماحة والطاعة بأسلوب التشويق والاستجاشة. فالدين ليس بالتكاليف الحرفية، ولكنه تحول في الشعور، وحساسية في الضمير..
كذلك يعلمهم القرآن أدباً آخر في علاقتهم برسول الله صلى الله عليه وسلم فيبدو أنه كان هناك تزاحم على الخلوة برسول الله صلى الله عليه وسلم ليحدثه كل فرد في شأن يخصه؛ ويأخذ فيه توجيهه ورأية؛ أو ليستمتع بالانفراد به مع عدم التقدير لمهام رسول الله صلى الله عليه وسلم الجماعية؛ وعدم الشعور بقيمة وقته، وبجدية الخلوة به، وأنها لا تكون إلا لأمر ذي بال. فشاء الله أن يشعرهم بهذه المعاني بتقرير ضريبة للجماعة من مال الذي يريد أن يخلو برسول الله صلى الله عليه وسلم ويقتطع من وقته الذي هو من حق الجماعة. في صورة صدقة يقدمها قبل أن يطلب المناجاة والخلوة:
{يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة. ذلك خير لكم وأطهر. فإن لم تجدوا فإن الله غفور رحيم}..
وقد عمل بهذه الآية الإمام علي كرم الله وجهه فكان معه كما روي عنه دينار فصرفه دراهم.
وكان كلما أراد خلوة برسول الله صلى الله عليه وسلم لأمر تصدق بدرهم! ولكن الأمر شق على المسلمين. وعلم الله ذلك منهم. وكان الأمر قد أدى غايته، وأشعرهم بقيمة الخلوة التي يطلبونها. فخفف الله عنهم ونزلت الآية التالية برفع هذا التكليف؛ وتوجيههم إلى العبادات والطاعات المصلحة للقلوب:
{أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات؟ فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الله ورسوله. والله خبير بما تعملون}..
وفي هاتين الآيتين والروايات التي ذكرت أسباب نزولهما نجد لوناً من ألوان الجهود التربوية لإعداد هذه الجماعة المسلمة في الصغير والكبير من شؤون الشعور والسلوك.
ثم يعود السياق إلى المنافقين الذين يتولون اليهود، فيصور بعض أحوالهم ومواقفهم، ويتوعدهم بافتضاح أمرهم، وسوء مصيرهم، وانتصار الدعوة الإسلامية وأصحابها على الرغم من كل تدبيراتهم:
{ألم تر إلى الذين تولوا قوماً غضب الله عليهم؟ ما هم منكم ولا منهم، ويحلفون على الكذب وهم يعلمون. أعد الله لهم عذاباً شديداً، إنهم سآء ما كانوا يعملون. اتخذوا أيمانهم جُنة فصدوا عن سبيل الله، فلهم عذاب مهين. لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً. أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون. يوم يبعثهم الله جميعاً فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شيء. ألا إنهم هم الكاذبون. استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله، أولئك حزب الشيطان، ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون}..
وهذه الحملة القوية على المنافقين الذين يتولون قوماً غضب الله عليهم وهم اليهود تدل على أنهم كانوا يمعنون في الكيد للمسلمين، ويتآمرون مع ألد أعدائهم عليهم؛ كما تدل على أن سلطة الإسلام كانت قد عظمت، بحيث يخافها المنافقون، فيضطرون عندما يواجههم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون بما يكشفه الله من تدبيراتهم ومؤمراتهم إلى الحلف بالكذب لإنكار ما ينسب إليهم من مؤامرات وأقوال؛ وهم يعلمون أنهم كاذبون في هذه الأيمان. إنما هم يتقون بأيمانهم ما يتوقعونه من مؤاخذتهم بما ينكشف من دسائسهم: {اتخذوا أيمانهم جنة} أي وقاية. وبذلك يستمرون في دسائسهم للصد عن سبيل الله!
والله يتوعدهم مرات في خلال هذه الآيات: {أعد الله لهم عذاباً شديداً. إنهم ساء ما كانوا يعملون}.. {فلهم عذاب مهين}.. {لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً. أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}..
ويصور مشهدهم يوم القيامة في وضع مزر مهين، وهم يحلفون لله كما يحلفون للناس: {يوم يبعثهم الله جميعاً فيحلفون له كما يحلفون لكم}.. مما يشير إلى أن النفاق قد تأصل في كيانهم، حتى ليصاحبهم إلى يوم القيامة. وفي حضرة الله ذي الجلال. الذي يعلم خفايا القلوب وذوات الصدور! {ويحسبون أنهم على شيء}.
وهم على هواء لا يستندون إلى شيء. أي شيء!
ويدمغهم بالكذب الأصيل الثابت: {ألا إنهم هم الكاذبون}..
ثم يكشف عن علة حالهم هذه. فقد استولى عليهم الشيطان كلية {فأنساهم ذكر الله}.. والقلب الذي ينسى ذكر الله يفسد ويتمحض للشر: {أولئك حزب الشيطان}.. الخالص للشيطان الذي يقف تحت لوائه، ويعمل باسمه، وينفذ غاياته، وهو الشر الخالص الذي ينتهي إلى الخسران الخالص: {ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون}..
وهي حملة شديدة عنيفة تناسب الشر والأذى والفتنة التي يدبرونها للمسلمين مع أعدائهم الماكرين. وتطمئن قلوب المسلمين. والله سبحانه وتعالى يتولى عنهم الحملة على أعدائهم المستورين!
ولما كان أولئك المنافقون يأوون إلى اليهود شعوراً بأنهم قوة تخشى وترجى. ويطلبون عندهم العون والمشورة. فإن الله ييئسهم منهم، ويقرر أنه كتب على أعدائه الذلة والهزيمة، وكتب لنفسه ولرسوله الغلبة والتمكين:
{إن الذين يحآدون الله ورسوله أولئك في الأذلين. كتب الله لأغلبن أنا ورسلي. إن الله قوي عزيز}.. وهذا وعد الله الصادق الذي كان والذي لا بد أن يكون على الرغم مما قد يبدو أحياناً من الظاهر الذي يخالف هذا الوعد الصادق.
فالذي وقع بالفعل أن الإيمان والتوحيد قد غلبا على الكفر والشرك. واستقرت العقيدة في الله في هذه الأرض؛ ودانت لها البشرية بعد كل ما وقف في طريقها من عقبات الشرك والوثنية، وبعد الصراع الطويل مع الكفر والشرك والإلحاد. وإذا كانت هناك فترات عاد فيها الإلحاد أو الشرك إلى الظهور في بعض بقاع الأرض كما يقع الآن في الدول الملحدة والوثنية فإن العقيدة في الله ظلت هي المسيطرة بصفة عامة. فضلاً على أن فترات الإلحاد. والوثنية إلى زوال مؤكد، لأنها غير صالحة للبقاء. والبشرية تهتدي في كل يوم إلى أدلة جديدة تهدي إلى الاعتقاد في الله والتمكين لعقيدة الإيمان والتوحيد.
والمؤمن يتعامل مع وعد الله على أنه الحقيقة الواقعة. فإذا كان الواقع الصغير في جيل محدود أو في رقعة محدودة يخالف تلك الحقيقة، فهذا الواقع هو الباطل الزائل. الذي يوجد فترة في الأرض لحكمة خاصة. لعلها استجاشة الإيمان وإهاجته لتحقيق وعد الله في وقته المرسوم.
وحين ينظر الإنسان اليوم إلى الحرب الهائلة التي شنها أعداء الإيمان على أهل الإيمان في صورها المتنوعة، من بطش ومن ضغط ومن كيد بكل صنوف الكيد في عهود متطاولة، بلغ في بعضها من عنف الحملة على المؤمنين أن قتلوا وشردوا وعذبوا وقطعت أرزاقهم وسلطت عليهم جميع أنواع النكاية. ثم بقي الإيمان في قلوب المؤمنين، يحميهم من الانهيار، ويحمي شعوبهم كلها من ضياع شخصيتها وذوبانها في الأمم الهاجمة عليها، ومن خضوعها للطغيان الغاشم إلا ريثما تنقض عليه وتحطمه.
حين ينظر الإنسان إلى هذا الواقع في المدى المتطاول يجد مصداق قول الله تعالى. يجده في هذا الواقع ذاته بدون حاجة إلى الانتظار الطويل!!
وعلى أية حال فلا يخالج المؤمن شك في أن وعد الله هو الحقيقة الكائنة التي لا بد أن تظهر في الوجود، وأن الذين يحادون الله ورسوله هم الأذلون، وأن الله ورسله هم الغالبون. وأن هذا هو الكائن والذي لا بد أن يكون. ولتكن الظواهر غير هذا ما تكون!
وفي النهاية تجيء القاعدة الثابتة التي يقف عليها المؤمنون، أو الميزان الدقيق للإيمان في النفوس: {لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوآدون من حآدّ الله ورسوله، ولو كانوا آبآءهم أو أبنآءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم. أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه، ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها. رضي الله عنهم ورضوا عنه. أولئك حزب الله. ألا إن حزب الله هم المفلحون}..
إنها المفاضلة الكاملة بين حزب الله وحزب الشيطان، والانحياز النهائي للصف المتميز، والتجرد من كل عائق وكل جاذب، والارتباط في العروة الواحدة بالحبل الواحد.
{لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله}..
فما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه، وما يجمع إنسان في قلب واحد ودّين: ودّاً لله ورسوله ووداً لأعداء الله ورسوله! فإما إيمان أو لا إيمان. أما هما معاً فلا يجتمعان.
{ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم}..
فروابط الدم والقرابة هذه تتقطع عند حد الإيمان: إنها يمكن أن ترعى إذا لم تكن هناك محادة وخصومة بين اللوائين: لواء الله ولواء الشيطان. والصحبة بالمعروف للوالدين المشركين مأمور بها حين لا تكون هناك حرب بين حزب الله وحزب الشيطان. فأما إذا كانت المحادة والمشاقة والحرب والخصومة فقد تقطعت تلك الأواصر التي لا ترتبط بالعروة الواحدة وبالحبل الواحد. ولقد قتل أبو عبيدة أباه في يوم بدر. وهم الصديق أبو بكر بقتل ولده عبد الرحمن. وقتل مصعب بن عمير أخاه عبيد بن عمير. وقتل عمر وحمزة وعلي وعبيدة والحارث أقرباءهم وعشيرتهم. متجردين من علائق الدم والقرابة إلى آصرة الدين والعقيدة. وكان هذا أبلغ ما ارتقى إليه تصور الروابط والقيم في ميزان الله.
{أولئك كتب في قلوبهم الإيمان}..
فهو مثبت في قلوبهم بيد الله مكتوب في صدورهم بيمين الرحمن. فلا زوال له ولا اندثار، ولا انطماس فيه ولا غموض!
{وأيدهم بروح منه}..
وما يمكن أن يعزموا هذه العزمة إلا بروح من الله. وما يمكن أن تشرق قلوبهم بهذا النور إلا بهذا الروح الذي يمدهم بالقوة والإشراق، ويصلهم بمصدر القوة والإشراق.
{ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها}.




البحث


كلمات متتالية كلمات متفرقة




موضوعات القرآن
  • الإيمان
  • العلم
  • العبادات
  • أحكام الأسرة
  • المعاملات
  • الحدود والجنايات
  • الجهاد
  • الأطعمة والأشربة
  • أحكام الجنائز
  • الأخلاق
  • تكريم الله للإنسان
  • القصص والتاريخ
  • الأمثال