سورة الممتحنة / الآية رقم 13 / تفسير في ظلال القرآن / أحمد بن علي العجمي / القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
القرآن الكريم
طريقة عرض الآيات
صور
نصوص

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ المُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ القُبُورِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفاًّ كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ

الممتحنةالممتحنةالممتحنةالممتحنةالممتحنةالممتحنةالصفالصفالصفالصفالصفالصفالصفالصفالصف




تلاوة آية تلاوة سورة الشرح الصوتي

التفسير


هذه السورة حلقة في سلسلة التربية الإيمانية والتنظيم الاجتماعي والدولة في المجتمع المدني. حلقة من تلك السلسلة الطويلة، أو من ذلك المنهج الإلهي المختار للجماعة المسلمة المختارة، التي ناط بها الله تحقيق منهجه الذي يريده للحياة الإنسانية، في صورة واقعية عملية، كما يستقر في الأرض نظاماً ذا معالم وحدود وشخصية مميزة؛ تبلغ إليه البشرية أحياناً، وتقصر عنه أحياناً، ولكنها تبقى معلقة دائماً بمحاولة بلوغه؛ وتبقى أمامها صورة واقعية منه، تحققت يوماً في هذه الأرض.
وقد اقتضى هذا كما قلنا في أول هذا الجزء إعداداً طويلاً في خطوات ومراحل. وكانت الأحداث التي تقع في محيط هذه الجماعة، أو تتعلق بها، مادة من مواد هذا الإعداد. مادة مقدرة في علم الله، تقوم عليها مادة أخرى هي التفسير والتوضيح والتعقيب والتوجيه.
وفي مضطرب الأحداث، وفي تيار الحياة المتدفق، تمت عملية بناء النفوس المختارة لتحقيق ذلك المنهج الإلهي في الأرض. فلم تكن هناك عزلة إلا العزلة بالتصور الإيماني الجديد، وعدم خلطه بأية رقع غريبة عنه في أثناء التكوين النفسي لهذه الجماعة. وكانت التربية المستمرة متجهة دائماً إلى إنشاء هذا التصور الإيماني الخاص المميز، المنعزل بحقيقته وطبيعته عن التصورات السائدة في العالم كله يومذاك، وفي الجزيرة العربية بصفة خاصة. أما الناس الذين يُنشأ هذا التصور المتميز في نفوسهم فلم يكونوا بمعزل عن واقع الحياة ومضطرب الأحداث، بل كانوا يصهرون في بوتقة الحوادث يوماً بعد يوم، ومرة بعد مرة، ويعاد صهرهم في الأمر الواحد والخلق الواحد مرات كثيرة، وتحت مؤثرات متنوعة؛ لأن الله الذي خلق هذه النفوس يعلم أنها ليست كلها مما يتأثر ويستجيب ويتكيف ويستقر على ما تكيف به منذ اللمسة الأولى. وكان يعلم أن رواسب الماضي، وجواذب الميول الطبيعية، والضعف البشري، وملامسات الواقع، وتحكم الإلف والعادة، كلها قد تكون معوقات قوية تغلب عوامل التربية والتوجيه مرة بعد مرة. وتحتاج في مقاومتها إلى التذكير المتكرر، والصهر المتوالي.. فكانت الأحداث تتوالى كما هي منسوقة في قدر الله، وتتوالى الموعظة بها. والتحذير على ضوئها، والتوجيه بهديها، مرة بعد مرة.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم في يقظة دائمة وإلهام بصير، بالتقاط الأحداث والوقائع والمناسبات في كل فرصة، واستخدامها بحكمة بالغة في بناء هذه النفوس. والوحي والإلهام يؤيدانه ويسددانه صلى الله عليه وسلم حتى تصنع تلك الجماعة المختارة على عين الله. بتوفيق الله. على يدي رسول الله.
هذه السورة حلقة في سلسلة ذلك الإعداد الطويل، تستهدف مع غيرها مما جاء في مثل موضوعها إقامة عالم رباني خالص في ضمير المسلم.
عالم محوره الإيمان بالله وحده، يشد المسلمين إلى هذا المحور وحده، بعروة واحدة لا انفصام لها؛ ويبرئ نفوسهم من كل عصبية أخرى. عصبية للقوم أو للجنس أو للأرض أو للعشيرة أو للقرابة. ليجعل في مكانها جميعاً عقدة واحدة. هي عقدة الإيمان بالله. والوقوف تحت راية الله. في حزب الله.
إن العالم الذي يريده الإسلام عالم رباني إنساني. رباني بمعنى أنه يستمد كل مقوماته من توجيه الله وحكمه، ويتجه إلى الله بكل شعوره وعمله. وإنساني بمعنى أنه يشمل الجنس الإنساني كله في رحاب العقيدة وتذوب فيه فواصل الجنس والوطن واللغة والنسب. وسائر ما يميز إنساناً عن إنسان، عدا عقيدة الإيمان. وهذا هو العالم الرفيع اللائق أن يعيش فيه الإنسان الكريم على الله، المتضمن كيانه نفحة من روح الله.
ودون إقامة هذا العالم تقف عقبات كثيرة كانت في البيئة العربية وما تزال في العالم كله إلى اليوم عقبات من التعصب للبيت، والتعصب للعشيرة، والتعصب للقوم، والتعصب للجنس، والتعصب للأرض. كما تقف عقبات من رغائب النفوس وأهواء القلوب، من الحرص والشح وحب الخير للذات، ومن الكبرياء الذاتية والالتواءات النفسية.. وألوان غيرها كثيرمن ذوات الصدور!
وكان على الإسلام أن يعالج هذا كله في الجماعة التي يعدها لتحقيق منهج الله في الأرض في صورة عملية واقعة. وكانت هذه الصورة حلقة في سلسلة هذا العلاج الطويل.
وكان بعض المهاجرين الذين تركوا ديارهم وأموالهم وأهليهم في سبيل عقيدتهم، ما تزال نفوسهم مشدودة إلى بعض من خلفوا هنالك من ذرية وأزواج وذوي قربى. وعلى الرغم من كل ما ذاقوا من العنت والأذى في قريش فقد ظلت بعض النفوس تود لو وقعت بينهم وبين أهل مكة المحاسنة والمودة؛ وأن لو انتهت هذه الخصومة القاسية التي تكلفهم قتال أهليهم وذوي قرابتهم، وتقطع ما بينهم وبينهم من صلات!
وكان الله يريد استصفاء هذه النفوس واستخلاصها من كل هذه الوشائج، وتجريدها لدينه وعقيدته ومنهجه. وهو سبحانه يعلم ثقل الضغط الواقع عليها من الميول الطبيعية ورواسب الجاهلية جميعاً وكان العرب بطبيعتهم أشد الناس احتفالاً بعصبية القبيلة والعشيرة والبيت فكان يأخذهم يوماً بعد يوم بعلاجه الناجع البالغ، بالأحداث وبالتعقيب على الأحداث، ليكون العلاج على مسرح الحوادث وليكون الطرق والحديد ساخن!
وتذكر الروايات حادثاً معيناً نزل فيه صدر هذه السورة. وقد تكون هذه الروايات صحيحة في سبب النزول المباشر. ولكن مدى النصوص القرآنية دائماً أبعد من الحوادث المباشرة.
وقد قيل في هذا الحادث: إن حاطب بن أبي بلتعة كان رجلاً من المهاجرين. وكان من أهل بدر أيضاً. وكان له بمكة أولاد ومال، ولم يكن من قريش أنفسهم بل كان حليفاً لعثمان.
فلما عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على فتح مكة لما نقض أهلها عهد الحديبية أمر المسلمين بالتجهيز لغزوهم، وقال: «اللهم عَمِّ عليهم خبرنا». وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة من أصحابه بوجهته، كان منهم حاطب. فعمد حاطب فكتب كتاباً وبعثه مع امرأة مشركة قيل من مزينة جاءت المدينة تسترفد إلى أهل مكة يعلمهم بعزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على غزوهم، ليتخذ بذلك عندهم يداً. فأطلع الله تعالى رسوله على ذلك استجابة لدعائه. وإمضاء لقدره في فتح مكة. فبعث في أثر المرأة، فأخذ الكتاب منها.
وقد روى البخاري في المغازي، ورواه مسلم في صحيحه من حديث حصين بن عبد الرحمن، عن سعد ابن عبيدة عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن علي رضي الله عنه قال: «بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا مرثد والزبير بن العوام وكلنا فارس وقال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها امرأة من المشركين معها كتاب من حاطب بن أبي بلعتة إلى المشركين». فأدركناها تسير على بعير لها حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: الكتاب؟ فقالت ما معي كتاب. فأنخناها فالتمسنا فلم نر كتاباً. فقلنا: ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم لتخرجن الكتاب أو لنجردنك. فلما رأت الجد أهوت إلى حجزتها، وهي متحجزة بكساء، فأخرجته. فانطلقنا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر: يا رسول الله. قد خان الله ورسوله والمؤمنين، فدعني فلأضربن عنقه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما حملك على ما صنعت؟» قال حاطب: والله ما بي إلا أن أكون مؤمناً بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم أردت أن تكون لي عند القوم يد. يدفع الله بها عن أهلي ومالي، وليس أحد من أصحابك إلا له هناك من عشيرته من يدفع الله به عن أهله وماله. فقال: «صدق لا تقولوا إلا خيراً» فقال عمر: إنه قد خان الله ورسوله والمؤمنين، فدعني فلأضرب عنقه. فقال: «أليس من أهل بدر؟ فقال: لعل الله اطلع إلى أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة أو قد غفرت لكم» فدمعت عينا عمر، وقال: الله ورسوله أعلم. وزاد البخاري في كتاب المغازي: فأنزل الله السورة: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أوليآء تلقون إليهم بالمودة} وفي رواية أخرى أن الذين أرسلوا كانوا هم علي والزبير والمقداد.
والوقوف قليلاً أمام هذا الحادث وما دار بشأنه لا يخرج بنا عن ظلال القرآن والتربية به وبالأحداث والتوجيهات والتعقيبات عن طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم القائد المربي العظيم..
واول ما يقف الإنسان أمامه هو فعلة حاطب، وهو المسلم المهاجر، وهو أحد الذين أطلعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على سر الحملة.. وفيها ما يكشف عن منحنيات النفس البشرية العجيبة، وتعرض هذه النفس للحظات الضعف البشري مهما بلغ من كمالها وقوتها؛ وأن لا عاصم إلا الله من هذه اللحظات فهو الذي يعين عليها.
ثم يقف الإنسان مرة أخرى أمام عظمة الرسول صلى الله عليه وسلم وهو لا يعجل حتى يسأل: «ما حملك على ما صنعت» في سعة صدر وعطف على لحظة الضعف الطارئة في نفس صاحبه، وإدراك ملهم بأن الرجل قد صدق، ومن ثم يكف الصحابة عنه: «صدق لا تقولوا إلا خيراً». ليعينه وينهضه من عثرته، فلا يطارده بها ولا يدع أحداً يطارده. بينما نجد الإيمان الجاد الحاسم الجازم في شدة عمر: «إنه قد خان الله ورسوله والمؤمنين. فدعني فلأضرب عنقه».. فعمر رضي الله عنه إنما ينظر إلى العثرة ذاتها فيثور لها حسه الحاسم وإيمانه الجازم. أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فينظر إليها من خلال إدراكه الواسع الشامل للنفس البشرية على حقيقتها، ومن كل جوانبها، مع العطف الكريم الملهم الذي تنشئه المعرفة الكلية. في موقف المربي الكريم العطوف المتأني الناظر إلى جميع الملابسات والظروف..
ثم يقف الإنسان أمام كلمات حاطب، وهو في لحظة ضعفه، ولكن تصوره لقدر الله وللأسباب الأرضية هو التصور الإيماني الصحيح.. ذلك حين يقول: «أردت أن تكون لي عند القوم يد.. يدفع الله بها عن أهلي ومالي».. فالله هو الذي يدفع، وهذه اليد لا تدفع بنفسها، إنما يدفع الله بها. ويؤكد هذا التصور في بقية حديثه وهو يقول: «وليس أحد من أصحابك إلا له هناك من عشيرته من يدفع.. الله.. به عن أهله وماله» فهو الله حاضر في تصوره، وهو الذي يدفع لا العشيرة. إنما العشيرة أداة يدفع الله بها..
ولعل حس رسول الله الملهم قد راعى هذا التصور الصحيح الحي في قول الرجل، فكان هذا من أسباب قوله صلى الله عليه وسلم-: «صدق. لا تقولوا إلا خيراً».
وأخيراً يقف الإنسان أمام تقدير الله في الحادث؛ وهو أن يكون حاطب من القلة التي يعهد إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم بسر الحملة.
وأن تدركه لحظة الضعف البشري وهو من القلة المختارة. ثم يجري قدر الله بكف ضرر هذه اللحظة عن المسلمين. كأنما القصد هو كشفها فقط وعلاجها! ثم لا يكون من الآخرين الذين لم يعهد إليهم بالسر اعتراض على ما وقع، ولا تنفج بالقول: ها هو ذا أحد من استودعوا السر خانوه، ولو أودعناه نحن ما بحنا به! فلم يرد من هذا شيء. مما يدل على أدب المسلمين مع قيادتهم، وتواضعهم في الظن بأنفسهم، واعتبارهم بما حدث لأخيهم..
والحادث متواتر الرواية. أما نزول هذه الآيات فيه فهو أحد روايات البخاري. ولا نستبعد صحة هذه الرواية؛ ولكن مضمون النص القرآني كما قلنا أبعد مدى، وأدل على أنه كان يعالج حالة نفسية أوسع من حادث حاطب الذي تواترت به الروايات، بمناسبة وقوع هذا الحادث، على طريقة القرآن.
كان يعالج مشكلة الأواصر القريبة، والعصبيات الصغيرة، وحرص النفوس على مألوفاتها الموروثة ليخرج بها من هذا الضيق المحلي إلى الأفق العالمي الإنساني.
وكان ينشئ في هذه النفوس صورة جديدة، وقيماً جديدة، وموازين جديدة، وفكرة جديدة عن الكون والحياة والإنسان، ووظيفة المؤمنين في الأرض، وغاية الوجود الإنساني.
وكان كأنما يجمع هذه النبتات الصغيرة الجديدة في كنف الله؛ ليعلمهم الله ويبصرهم بحقيقة وجودهم وغايته، وليفتح أعينهم على ما يحيط بهم من عداوات ومكر وكيد، وليشعرهم أنهم رجاله وحزبه، وأنه يريد بهم أمراً، ويحقق بهم قدَراً. ومن ثم فهم يوسمون بسمته ويحملون شارته، ويعرفون بهذه الشارة وتلك السمة بين الأقوام جميعاً. في الدنيا والآخرة. وإذن فليكونوا خالصين له، منقطعين لولايته، متجردين من كل وشيجة غير وشيجته. في عالم الشعور وعالم السلوك.
والسورة كلها في هذا الاتجاه. حتى الآيات التشريعية التنظيمية الواردة في آخرها عن معاملة المهاجرات المؤمنات، ومبايعة من يدخلن في الإسلام، والفصل بين المؤمنات وأزواجهن من الكفار. وبين المؤمنين وزوجاتهم من الكوافر.. فكلها تنظيمات منبثقة من ذلك التوجيه العام.
ثم ختام السورة كما بدأت بالنهي عن موالاة أعداء الله، ممن غضب عليهم الله، سواء من المشركين أو من اليهود. ليتم التميز والانفراد والمفاصلة من جميع الوشائج والروابط غير رابطة العقيدة وغير وشيجة الإيمان..
{يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة، وقد كفروا بما جاءكم من الحق، يخرجون الرسول وإياكم، أن تؤمنوا بالله ربكم. إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم؛ ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل. إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء، ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء، وودوا لو تكفرون}..
تبدأ السورة بذلك النداء الودود الموحي: {يا أيها الذين آمنوا}.. نداء من ربهم الذي آمنوا به، يدعوهم باسم الإيمان الذي ينسبهم إليه.
يدعوهم ليبصرهم بحقائق موقفهم، ويحذرهم حبائل أعدائهم، ويذكرهم بالمهمة الملقاة على عاتقهم.
وفي مودة يجعل عدوهم عدوه، وعدوه عدوهم:
{لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة}..
فيشعر المؤمنين بأنهم منه وإليه. يعاديهم من يعاديه. فهم رجاله المنتسبون إليه الذين يحملون شارته في هذه الأرض، وهم أوداؤه وأحباؤه. فلا يجوز أن يلقوا بالمودة إلى أعدائهم وأعدائه.
ويذكرهم بجريرة هؤلاء الأعداء عليهم وعلى دينهم وعلى رسولهم، وعدوانهم على هذا كله في تجن وظلم:
{وقد كفروا بما جاءكم من الحق. يخرجون الرسول وإياكم. أن تؤمنوا بالله ربكم}..
فماذا أبقوا بعد هذه الجرائر الظالمة للموالاة والمودة؟ كفروا بالحق. وأخرجوا الرسول والمؤمنين، لا لشيء إلا لأنهم آمنوا بالله ربهم؟ إنه يهيج في قلوب المؤمنين هذه الذكريات المرتبطة بعقيدتهم. وهي التي حاربهم المشركون من أجلها، لا من أجل أي سبب آخر. ويبرز القضية التي عليها الخلاف والخصومة والحرب. فهي قضية العقيدة دون سواها. قضية الحق الذي كفروا به والرسول الذي أخرجوه، والإيمان الذي من أجله أخرجوهم.
وإذا تمحضت القضية هكذا وبرزت، ذكّرهم بأنه لا محل إذن للمودة بينهم وبين المشركين إن كانوا قد خرجوا من ديارهم ابتغاء رضوان الله وجهاداً في سبيله:
{إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي وإبتغاء مرضاتي}..
فما يجتمع في قلب واحد أن يهاجر جهاداً في سبيل الله ابتغاء مرضاة الله، مع مودة لمن أخرجه من أجل إيمانه بالله، وهو عدو الله وعدو رسول الله!
ثم يحذرهم تحذيراً خفياً مما تكن قلوبهم، وما يسرون به إلى أعدائهم وأعداء الله من المودة، وهو مطلع على خفية القلوب وعلانيتها:
{تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم}.
ثم يهددهم تهديداً مخيفاً، يثير في القلب المؤمن الوجل والمخافة:
{ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل}..
وهل يخيف المؤمن شيء ما يخيفه أن يضل سواء السبيل بعد الهداية والوصول؟!
وهذا التهديد وذلك التحذير يتوسطان تبصير المؤمنين بحقيقة أعدائهم وما يضمرون لهم من الشر والكيد. ثم تجيء البقية:
{إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطون إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء}..
فلا تعرض لهم فرصة يتمكنون فيها من المسلمين حتى يتصرفوا معهم تصرف العدو الأصيل. ويوقعوا بهم ما يملكون من أذى ومن تنكيل بالأيدي وبالألسنة وبكل وسيلة وكل سبيل.
والأدهى من هذا كله والأشد والأنكى:
{وودوا لو تكفرون}..
وهذه عند المؤمن أشد من كل أذى ومن كل سوء يصيبه باليد أو اللسان. فالذي يود له أن يخسر هذا الكنز العزيز. كنز الإيمان. ويرتد إلى الكفر، هو أعدى من كل عدو يؤذيه باليد وباللسان!
والذي يذوق حلاوة الإيمان بعد الكفر، ويهتدي بنوره بعد الضلال، ويعيش عيشة المؤمن بتصوراته ومداركه ومشاعره واستقامة طريقه وطمأنينة قلبه يكره العودة إلى الكفر كما يكره أن يلقى في النار.
أو أشد. فعدو الله هو الذي يود أن يرجعه إلى جحيم الكفر وقد خرج منه إلى جنة الإيمان، وإلى فراغ الكفر الخاوي بعد عالم الإيمان المعمور.
لهذا يتدرج القرآن في تهييج قلوب المؤمنين ضد أعدائه وأعدائهم حتى يصل إلى قمته بقوله لهم عنهم: {وودوا لو تكفرون}..
هذه هي الجولة الأولى بلمساتها المتعددة. ثم تليها جولة ثانية بلمسة واحدة تعالج مشاعر القرابة ووشائجها المتأصلة؛ والتي تشتجر في القلوب فتجرها جراً إلى المودة؛ وتنسيها تكاليف التميز بالعقيدة:
{لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم. يوم القيامة يفصل بينكم. والله بما تعملون بصير}.
إن المؤمن يعمل ويرجو الآخرة. ويزرع هنا وينتظر الحصاد هناك. فلمسة قلبه بما يكون في الآخرة من تقطيع وشائج القربى كلها إذا تقطعت وشيجة العقيدة، من شأنها أن تهون عنده شأن هذه الوشائج في فترة الحياة الدنيا القصيرة؛ وتوجهه إلى طلب الوشيجة الدائمة التي لا تنقطع في دنيا ولا في آخرة:
ومن ثم يقول لهم: {لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم}.. التي تهفون إليها وتتعلق قلوبكم بها؛ وتضطركم إلى موادة أعداء الله وأعدائكم وقاية لها كما حدث لحاطب في حرصه على أولاده وأمواله وكما تجيش خواطر آخرين غيره حول أرحامهم وأولادهم الذين خلفوهم في دار الهجرة. لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم. ذلك أنه {يوم القيامة يفصل بينكم}.. لأن العروة التي تربطكم مقطوعة. وهي العروة التي لا رباط بغيرها عند الله.
{والله بما تعملون بصير}.. مطلع على العمل الظاهر والنية وراءه في الضمير.
ثم تأتي الجولة الثالثة فتصل المسلمين بأول هذه الأمة الواحدة: أمة التوحيد. وهذه القافلة الواحدة: قافلة الإيمان. فإذا هي ممتدة في الزمان، متميزة بالإيمان، متبرئة من كل وشيجة تنافي وشيجة العقيدة.. إنها الأمة الممتدة منذ إبراهيم. أبيهم الأول وصاحب الحنيفية الأولى. وفيه أسوة لا في العقيدة وحدها، بل كذلك في السيرة، وفي التجارب التي عاناها مع عاطفة القرابة ووشائجها؛ ثم خلص منها هو ومن آمن معه، وتجرد لعقيدته وحدها:
{قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه؛ إذ قالوا لقومهم: إنا برآء منكم، ومما تعبدون من دون الله، كفرنا بكم، وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده. إلا قول إبراهيم لأبيه، لأستغفرن لك، وما أملك لك من الله من شيء. ربنا عليك توكلنا، وإليك أنبنا، وإليك المصير. ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا، واغفر لنا ربنا، إنك أنت العزيز الحكيم.. لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر.
ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد}..
وينظر المسلم فإذا له نسب عريق، وماض طويل، وأسوة ممتدة على آماد الزمان، وإذا هو راجع إلى إبراهيم، لا في عقيدته فحسب، بل في تجاربه التي عاناها كذلك. فيشعر أن له رصيداً من التجارب أكبر من رصيده الشخصي وأكبر من رصيد جيله الذي يعيش فيه. إن هذه القافلة الممتدة في شعاب الزمان من المؤمنين بدين الله، الواقفين تحت راية الله، قد مرت بمثل ما يمر به، وقد انتهت في تجربتها إلى قرار اتخذته. فليس الأمر جديداً ولا مبتدعاً ولا تكليفاً يشق على المؤمنين.. ثم إن له لأمة طويلة عريضة يلتقي معها في العقيدة ويرجع إليها، إذا انبتت الروابط بينه وبين أعداء عقيدته. فهو فرع من شجرة ضخمة باسقة عميقة الجذور كثيرة الفروع وارفة الظلال.. الشجرة التي غرسها أول المسلمين.. إبراهيم..
مر إبراهيم والذين معه بالتجربة التي يعانيها المسلمون المهاجرون. وفيهم أسوة حسنة: {إذ قالوا لقومهم: إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله، كفرنا بكم، وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده}..
فهي البراءة من القوم ومعبوداتهم وعباداتهم. وهو الكفر بهم والإيمان بالله. وهي العداوة والبغضاء لا تنقطع حتى يؤمن القوم بالله وحده. وهي المفاصلة الحاسمة الجازمة التي لا تستبقي شيئاً من الوشائج والأواصر بعد انقطاع وشيجة العقيدة وآصرة الإيمان. وفي هذا الفصل الخطاب في مثل هذه التجربة التي يمر بها المؤمن في أي جيل. وفي قرار إبراهيم والذين معه أسوة لخلفائهم من المسلمين إلى يوم الدين.
ولقد كان بعض المسلمين يجد في استغفار إبراهيم لأبيه وهو مشرك ثغرة تنفذ منها عواطفهم الحبيسة ومشاعرهم الموصولة بذوي قرباهم من المشركين. فجاء القرآن ليشرح لهم حقيقة موقف إبراهيم في قوله لأبيه: {لأستغفرن لك}..
فلقد قال هذا قبل أن يستيقن من إصرار أبيه على الشرك. قاله وهو يرجو إيمانه ويتوقعه: {فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه}.. كما جاء في سورة أخرى.
ويثبت هنا أن إبراهيم فوض الأمر كله لله، وتوجه إليه بالتوكل والإنابة والرجوع إليه على كل حال:
{وما أملك لك من الله من شيء. ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير}..
وهذا التسليم المطلق لله، هو السمة الإيمانية الواضحة في إبراهيم يبرزها هنا ليوجه إليها قلوب أبنائه المسلمين. كحلقة من حلقات التربية والتوجيه بالقصص والتعقيب عليه، وإبراز ما في ثناياه من ملامح وسمات وتوجيهات على طريقة القرآن الكريم.
ويستطرد لهذا في إثبات بقية دعاء إبراهيم ونجواه لمولاه:
{ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا}..
فلا تسلطهم علينا. فيكون في ذلك فتنة لهم، إذ يقولون: لو كان الإيمان يحمي أهله ما سلطنا عليهم وقهرناهم! وهي الشبهة التي كثيراً ما تحيك في الصدور، حين يتمكن الباطل من الحق، ويتسلط الطغاة على أهل الإيمان لحكمة يعلمها الله في فترة من الفترات.
والمؤمن يصبر للابتلاء، ولكن هذا لا يمنعه أن يدعو الله ألا يصيبه البلاء الذي يجعله فتنة وشبهة تحيك في الصدور.
وبقية الدعاء:
{واغفر لنا}..
يقولها إبراهيم خليل الرحمن. إدراكاً منه لمستوى العبادة التي يستحقها منه ربه، وعجزه ببشريته عن بلوغ المستوى الذي يكافئ به نعم الله وآلاءه، ويمجد جلاله وكبرياءه فيطلب المغفرة من ربه، ليكون في شعوره وفي طلبه أسوة لمن معه ولمن يأتي بعده.
ويختم دعاءه وإنابته واستغفاره يصف ربه بصفته المناسبة لهذا الدعاء:
{ربنا إنك أنت العزيز الحكيم}..
العزيز: القادر على الفعل، الحكيم: فيما يمضي من تدبير.
وفي نهاية هذا العرض لموقف إبراهيم والذين معه، وفي استسلام إبراهيم وإنابته يعود فيقرر الأسوة ويكررها؛ مع لمسة جديدة لقلوب المؤمنين:
{لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر. ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد}..
فالأسوة في إبراهيم والذين معه متحققة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر. هؤلاء هم الذين يدركون قيمة التجربة التي عاناها هذا الرهط الكريم، ويجدون فيها أسوة تتبع، وسابقة تهدي. فمن كان يرجو الله واليوم الآخر فليتخذ منها أسوة.. وهو تلميح موح للحاضرين من المؤمنين.
فأما من يريد أن يتولى عن هذا المنهج. من يريد أن يحيد عن طريق القافلة. من يريد أن ينسلخ من هذا النسب العريق. فما بالله من حاجة إليه سبحانه {فإن الله هو الغني الحميد}..
وتنتهي الجولة وقد عاد المؤمنون أدراجهم إلى أوائل تاريخهم المديد، ورجعوا بذكرياتهم إلى نشأتهم في الأرض؛ وعرفوا تجاربهم المذخورة لهم في الأجيال المتطاولة، ورأوا القرار الذي انتهى إليه من مروا بهذه التجربة؛ ووجدوها طريقاً معبدة من قبل ليسوا هم أول السالكين فيها.
والقرآن الكريم يؤكد هذا التصور ويكرره ليتصل ركب المؤمنين، فلا يشعر بالغربة أو الوحشة سالك ولو كان وحده في جيل! ولا يجد مشقة في تكليف نهض به السالكون معه في الطريق!
بعدئذ يعود فينسم على هذه القلوب التي يعلم الله ما بها من حنين ورغبة في زوال حالة العداء والجفوة التي تكلفهم هذه المشقة. ينسم عليها بنسمة الأمل الندية في أن ينضم هؤلاء الأعداء إلى راية الإسلام، وإلى صفوف المسلمين؛ فيكون هذا هو الطريق لزوال الجفوة وقيام الود على أساسه الركين.. ثم يخفف عنهم مرة أخرى وهو يضع القاعدة الإسلامية الكبرى في العلاقات الدولية بين المسلمين وغيرهم، فيجعل المقاطعة والخصومة خاصة بحالة العداء والعدوان.
فأما حين ينتفي العداء والعدوان فهو البر لمن يستحق البر، وهو القسط في المعاملة والعدل:
{عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة، والله قدير والله غفور رحيم. لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم. إن الله يحب المقسطين. إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم، وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم. ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون}..
إن الإسلام دين سلام، وعقيدة حب، ونظام يستهدف أن يظلل العالم كله بظله، وأن يقيم فيه منهجه، وأن يجمع الناس تحت لواء الله إخوة متعارفين متحابين. وليس هنالك من عائق يحول دون اتجاهه هذا إلا عدوان أعدائه عليه وعلى أهله. فأما إذا سالموهم فليس الإسلام براغب في الخصومة ولا متطوع بها كذلك! وهو حتى في حالة الخصومة يستبقي أسباب الود في النفوس بنظافة السلوك وعدالة المعاملة، انتظاراً لليوم الذي يقتنع فيه خصومه بأن الخير في أن ينضووا تحت لوائه الرفيع. ولا ييأس الإسلام من هذا اليوم الذي تستقيم فيه النفوس، فتتجه هذا الاتجاه المستقيم.
وفي الآية الأولى من هذا المقطع إشارة إلى هذا الرجاء الذي لا يغلب عليه اليأس؛ في معرض التخفيف على نفوس بعض المهاجرين، وتغذية قلوبهم المتعبة بمشقة المقاطعة والحرب للأهل والعشيرة:
{عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة}..
وهذا الرجاء من الله، معناه القطع بتحققه. والمؤمنون الذين سمعوه لا بد قد أيقنوا به، ولقد وقع بعد هذا بوقت قصير أن فتحت مكة، وأن أسلمت قريش، وأن وقف الجميع تحت لواء واحد، وأن طويت الثارات والمواجد، وأن عاد الجميع إخوة مؤتلفي القلوب.
{والله قدير}.. يفعل ما يريد بلا معقب.
{والله غفور رحيم}.. يغفر ما سلف من الشرك والذنوب..
وإلى أن يتحقق وعد الله الذي دل عليه لفظ الرجاء رخص الله لهم في موادة من لم يقاتلوهم في الدين ولم يخرجوهم من ديارهم. ورفع عنهم الحرج في أن يبروهم، وأن يتحروا العدل في معاملاتهم معهم فلا يبخسونهم من حقوقهم شيئاً. ولكنه نهى أشد النهي عن الولاء لمن قاتلوهم في الدين وأخرجوهم من ديارهم وساعدوا على إخراجهم. وحكم على الذين يتولونهم بأنهم هم الظالمون.. ومن معاني الظلم الشرك بالرجوع إلى قوله تعالى: {إن الشرك لظلم عظيم}.. وهو تهديد رهيب يجزع منه المؤمن، ويتقي أن يدخل في مدلوله المخيف!
وتلك القاعدة في معاملة غير المسلمين هي أعدل القواعد التي تتفق مع طبيعة هذا الدين ووجهته ونظرته إلى الحياة الإنسانية، بل نظرته الكلية لهذا الوجود، الصادر عن إله واحد، المتجه إلى إله واحد، المتعاون في تصميمه اللدني وتقديره الأزلي، من وراء كل اختلاف وتنويع.
وهي أساس شريعته الدولية، التي تجعل حالة السلم بينه وبين الناس جميعاً هي الحالة الثابتة، لا يغيرها إلا وقوع الاعتداء الحربي وضرورة رده، أو خوف الخيانة بعد المعاهدة، وهي تهديد بالاعتداء؛ أو الوقوف بالقوة في وجه حرية الدعوة وحرية الاعتقاد. وهو كذلك اعتداء. وفيما عدا هذا فهي السلم والمودة والبر والعدل للناس أجمعين.
ثم هي القاعدة التي تتفق مع التصور الإسلامي الذي يجعل القضية بين المؤمنين ومخالفيهم هي قضية هذه العقيدة دون غيرها؛ ويجعل القيمة التي يضن بها المؤمن ويقاتل دونها هي قضية العقيدة وحدها. فليس بينهم وبين الناس ما يتخاصمون عليه ويتقاتلون إلا حرية الدعوة وحرية الاعتقاد، وتحقيق منهج الله في الأرض، وإعلاء كلمة الله.
وهذا التوجيه يتفق مع اتجاه السورة كلها إلى إبراز قيمة العقيدة، وجعلها هي الراية الوحيدة التي يقف تحتها المسلمون. فمن وقف معهم تحتها فهو منهم. ومن قاتلهم فيها فهو عدوهم. ومن سالمهم فتركهم لعقيدتهم ودعوتهم، ولم يصد الناس عنها، ولم يحل بينهم وبين سماعها، ولم يفتن المؤمنين بها، فهو مسالم لا يمنع الإسلام من البر به والقسط معه.
إن المسلم يعيش في هذه الأرض لعقيدته، ويجعلها قضيته مع نفسه ومع الناس من حوله. فلا خصومة على مصلحة، ولا جهاد في عصبية أي عصبية من جنس أو أرض أو عشيرة أو نسب. إنما الجهاد لتكون كلمة الله هي العليا، ولتكون عقيدته هي المنهج المطبق في الحياة.
ولقد نزلت بعد ذلك سورة التوبة وفيها {براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين.. الخ} فانتهت بهذا حالة المعاهدة والموادعة بين المسلمين والمشركين كافة. بعد مهلة أربعة أشهر لأصحاب المعاهدات غير المسماة الأجل، ومهلة إلى انتهاء الأجل لأصحاب المعاهدات المسماة. ولكن هذا إنما كان بعدما أثبتت التجارب أن القوم لا يرعون عهودهم مع المسلمين إلا ريثما تسنح لهم الفرصة لنقضها وهم الرابحون! فانطبقت القاعدة الأخرى: {وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سوآء إن الله لا يحب الخائنين} وكان هذا ضرورة لتأمين القاعدة الإسلامية وهي حينئذ شبه الجزيرة كلها من المتربصين بالمسلمين من أعدائهم المعايشين لهم من المشركين وأهل الكتاب الذين تكررت غدراتهم ونقضهم للعهود. وهي حالة اعتداء في صميمها، تنطبق عليها حالة الاعتداء. وبخاصة أن الامبراطوريتين المحيطتين بأرض الإسلام قد بدأتا تجمعان له وتشعران بخطره، وتؤلبان عليه الإمارات العربية المتاخمة الخاضعة للدولتين الرومانية والفارسية. فلم يبق بد من تطهير المعسكر الإسلامي من بقية أعدائه قبل الالتحام في المعارك الخارجية المتوقعة يومذاك.
ونكتفي بهذا القدر من الاستطراد لنعود إلى سياق السورة في حكم المؤمنات المهاجرات: {يا أيها الذين آمنوا إذا جآءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن، الله أعلم بإيمانهن، فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار، لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن، وآتوهم مآ أنفقوا، ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذآ آتيتموهن أجورهن؛ ولا تمسكوا بعصم الكوافر، واسألوا مآ أنفقتم وليسألوا مآ أنفقوا.
ذلكم حكم الله يحكم بينكم والله عليم حكيم. وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل مآ أنفقوا، واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون}..
وقد ورد في سبب نزول هذه الأحكام أنه كان بعد صلح الحديبية الذي جاء فيه: «على ألا يأتيك منا أحد وإن كان على دينك إلا رددته إلينا».. فلما كان الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه بأسفل الحديبية جاءته نساء مؤمنات يطلبن الهجرة والانضمام إلى دار الإسلام في المدينة؛ وجاءت قريش تطلب ردهن تنفيذاً للمعاهدة. ويظهر أن النص لم يكن قاطعاً في موضوع النساء، فنزلت هاتان الآيتان تمنعان رد المهاجرات المؤمنات إلى الكفار، يُفتنّ في دينهن وهن ضعاف.
ونزلت أحكام هذه الحالة الدولية معها، تنظم التعامل فيها على أعدل قاعدة تتحرى العدل في ذاته دون تأثر بسلوك الفريق الآخر، وما فيها من شطط وجور. على طريقة الإسلام في كل معاملاته الداخلية والدولية.
وأول إجراء هو امتحان هؤلاء المهاجرات لتحري سبب الهجرة، فلا يكون تخلصاً من زواج مكروه، ولا طلباً لمنفعة، ولا جرياً وراء حب فردي في دار الإسلام!
قال ابن عباس: كان يمتحنهن: بالله ما خرجت من بغض زوج، وبالله ما خرجت رغبة عن أرض إلى أرض، وبالله ما خرجت التماس دنيا، وبالله ما خرجت إلا حباً لله ورسوله.
وقال عكرمة: يقال لها: ما جاء بك إلا حب الله ورسوله، وما جاء بك عشق رجل منا، ولا فراراً من زوجك.
وهذا هو الامتحان.. وهو يعتمد على ظاهر حالهن واقرارهن مع الحلف بالله. فأما خفايا الصدور فأمرها إلى الله، لا سبيل للبشر إليها: {الله أعلم بإيمانهن..} فإذا ما أقررن هكذا {فلا ترجعوهن إلى الكفار}..
{لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن}..
فقد انبتت الوشيجة الأولى: وشيجة العقيدة.. فلم تعد هناك وشيجة أخرى يمكن أن تصل هذه القطيعة. والزوجية حالة امتزاج واندماج واستقرار، لا يمكن أن تقوم إذا انقطعت هذه الوشيجة الأولى. والإيمان هو قوام حياة القلب الذي لا تقوم مقامه عاطفة أخرى، فإذا خوى منه قلب لم يستطع قلب مؤمن أن يتجاوب معه، ولا أن يأنس به، ولا أن يواده ولا أن يسكن إليه ويطمئن في جواره. والزواج مودة ورحمة وأنس وسكن.
وكان الأمر في أول الهجرة متروكاً بغير نص، فلم يكن يفرق بين الزوجة المؤمنة والزوج الكافر؛ ولا بين الزوج المؤمن والزوجة الكافرة، لأن المجتمع الإسلامي لم يكن قد استقرت قواعده بعد.
فأما بعد صلح الحديبية أو فتح الحديبية كما يعتبره كثير من الرواة فقد آن أن تقع المفاصلة الكاملة؛ وأن يستقر في ضمير المؤمنين والمؤمنات، كما يستقر في واقعهم، أن لا رابطة إلا رابطة الإيمان، وأن لا وشيجة إلا وشيجة العقيدة، وأن لا ارتباط إلا بين الذين يرتبطون بالله.
ومع إجراء التفريق إجراء التعويض على مقتضى العدل والمساواة فيرد على الزوج الكافر قيمة ما أنفق من المهر على زوجته المؤمنة التي فارقته تعويضاَ للضرر. كما يرد على الزوج المؤمن قيمة ما أنفق من المهر على زوجته الكافرة التي يطلقها من عصمته.
وبعد ذلك يحل للمؤمنين نكاح المؤمنات المهاجرات متى آتوهن مهورهن.. مع خلاف فقهي: هل لهن عدة، أم لا عدة إلا للحوامل حتى يضعهن حملهن؟ وإذا كانت لهن عدة فهل هي عدة المطلقات.. ثلاثة قروء.. أم هي عدة استبراء للرحم بحيضة واحدة؟
{وآتوهم مآ أنفقوا ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذآ آتيتموهن أجورهن. ولا تمسكوا بعصم الكوافر، واسألوا مآ أنفقتم وليسألوا مآ أنفقوا}.
ثم يربط هذه الأحكام كلها بالضمانة الكبرى في ضمير المؤمن. ضمانة الرقابة الإلهية وخشية الله وتقواه:
{ذلكم حكم الله يحكم بينكم، والله عليم حكيم}..
وهي الضمانة الوحيدة التي يؤمن عليها من النقض والالتواء والاحتيال. فحكم الله، هو حكم العليم الحكيم. وهو حكم المطلع على ذوات الصدور. وهو حكم القوي القدير. ويكفي أن يستشعر ضمير المسلم هذه الصلة، ويدرك مصدر الحكم ليستقيم عليه ويرعاه. وهو يوقن أن مرده إلى الله.
فإذا فات المؤمنين شيء مما أنفقوا، بامتناع الكوافر أو أهليهن من رد حق الزوج المؤمن كما حدث في بعض الحالات عوضهم الإمام مما يكون للكافرين الذين هاجرت زوجاتهم من حقوق على زوجاتهم في دار الإسلام، أو مما يقع من مال الكفار غنيمة في أيدي المسلمين:
{وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا} ويربط هذا الحكم وتطبيقاته كذلك بالضمان الذي يتعلق به كل حكم وكل تطبيق:
{واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون}..
وهي لمسة للمؤمنين بالله عميقة الأثر في القلوب.
وهكذا تكون تلك الأحكام بالمفاصلة بين الأزواج تطبيقاً واقعياً للتصور الإسلامي عن قيم الحياة وارتباطاتها؛ وعن وحدة الصف الإسلامي وتميزه من سائر الصفوف؛ وعن إقامة الحياة كلها على أساس العقيدة، وربطها كلها بمحور الإيمان؛ وإنشاء عالم إنساني تذوب فيه فوارق الجنس واللون واللغة والنسب والأرض. وتبقى شارة واحدة تميز الناس.




البحث


كلمات متتالية كلمات متفرقة




موضوعات القرآن
  • الإيمان
  • العلم
  • العبادات
  • أحكام الأسرة
  • المعاملات
  • الحدود والجنايات
  • الجهاد
  • الأطعمة والأشربة
  • أحكام الجنائز
  • الأخلاق
  • تكريم الله للإنسان
  • القصص والتاريخ
  • الأمثال