سورة الإنسان / الآية رقم 30 / تفسير في ظلال القرآن / أحمد بن علي العجمي / القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
القرآن الكريم
طريقة عرض الآيات
صور
نصوص

وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ العَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفاً وَالنَّاشِرَاتِ نَشْراً فَالْفَارِقَاتِ فَرْقاً فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً عُذْراً أَوْ نُذْراً إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ وَإِذَا الجِبَالُ نُسِفَتْ وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ لأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ لِيَوْمِ الفَصْلِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الفَصْلِ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ أَلَمْ نُهْلِكِ الأَوَّلِينَ ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الآخِرِينَ كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ

الإنسانالإنسانالإنسانالإنسانالإنسانالإنسانالمرسلاتالمرسلاتالمرسلاتالمرسلاتالمرسلاتالمرسلاتالمرسلاتالمرسلاتالمرسلات




تلاوة آية تلاوة سورة الشرح الصوتي

التفسير


في بعض الروايات أن هذه السورة مدنية، ولكنها مكية؛ ومكيتها ظاهرة جداً، في موضوعها وفي سياقها، وفي سماتها كلها. لهذا رجحنا الروايات الأخرى القائلة بمكيتها. بل نحن نلمح من سياقها أنها من بواكير ما نزل من القرآن المكي.. تشي بهذا صور النعيم الحسية المفصلة الطويلة، وصور العذاب الغليظ، كما يشي به توجيه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الصبر لحكم ربه، وعدم إطاعة آثم منهم أو كفور؛ مما كان يتنزل عند اشتداد الأذى على الدعوة وأصحابها في مكة، مع إمهال المشركين وتثبيت الرسول صلى الله عليه وسلم على الحق الذي نزل عليه، وعدم الميل إلى ما يدهنون به.. كما جاء في سورة القلم، وفي سورة المزمل، وفي سورة المدثر، مما هو قريب من التوجيه في هذه السورة.. واحتمال أن هذه السورة مدنية في نظرنا هو احتمال ضعيف جداً، يمكن عدم اعتباره!
والسورة في مجموعها هتاف رخي ندي إلى الطاعة، والالتجاء إلى الله، وابتغاء رضاه، وتذكر نعمته، والإحساس بفضله، واتقاء عذابه، واليقظة لابتلائه، وإدراك حكمته في الخلق والإنعام والابتلاء والإملاء..
وهي تبدأ بلمسة رفيقة للقلب البشري: أين كان قبل أن يكون؟ من الذي أوجده؟ ومن الذي جعله شيئاً مذكوراً في هذا الوجود؟ بعد أن لم يكن له ذكر ولا وجود: {هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً؟}..
تتلوها لمسة أخرى عن حقيقة أصله ونشأته، وحكمة الله في خلقه، وتزويده بطاقاته ومداركه: {إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً}..
ولمسة ثالثة عن هدايته إلى الطريق، وعونه على الهدى، وتركه بعد ذلك لمصيره الذي يختاره: {إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفورا}..
وبعد هذه اللمسات الثلاث الموحية، وما تثيره في القلب من تفكير عميق، ونظرة إلى الوراء. ثم نظرة إلى الأمام، ثم التحرج والتدبر عند اختيار الطريق.. بعد هذه اللمسات الثلاث تأخذ السورة في الهتاف للإنسان وهو على مفرق الطريق لتحذيره من طريق النار.. وترغيبه في طريق الجنة، بكل صور الترغيب، وبكل هواتف الراحة والمتاع والنعيم والتكريم: {إنا أعتدنا للكافرين سلاسل وأغلالاً وسعيرا. إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا. عيناً يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا}..
وقبل أن تمضي في عرض صور المتاع ترسم سمات هؤلاء الأبرار في عبارات كلها انعطاف ورقة وجمال وخشوع يناسب ذلك النعيم الهانئ الرغيد: {يوفون بالنذر، ويخافون يوماً كان شره مستطيراً، ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيرا. إنا نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا. إنا نخاف من ربنا يوماً عبوساً قمطريرا}.
ثم تعرض جزاء هؤلاء القائمين بالعزائم والتكاليف، الخائفين من اليوم العبوس القمطرير، الخيرين المطعمين على حاجتهم إلى الطعام، يبتغون وجه الله وحده، لا يريدون شكوراً من أحد، إنما يتقون اليوم العبوس القمطرير!
تعرض جزاء هؤلاء الخائفين الوجلين المطعمين المؤثرين. فإذا هو الأمن والرخاء والنعيم اللين الرغيد: {فوقاهم الله شر ذلك اليوم، ولقاهم نضرة وسرورا، وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا. متكئين فيها على الأرائك لا يرون فيها شمساً ولا زمهريرا. ودانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلا. ويطاف عليهم بآنية من فضة وأكواب كانت قواريرا، قواريرا من فضة قدروها تقديرا. ويسقون فيها كأساً كان مزاجها زنجبيلا، عيناً فيها تسمى سلسبيلا. ويطوف عليهم ولدان مخلدون إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤاً منثوراً. وإذا رأيت ثم رأيت نعيماً وملكاً كبيرا. عاليهم ثياب سندس خضر وإستبرق، وحلوا أساور من فضة وسقاهم ربهم شراباً طهورا. إن هذا كان لكم جزآء وكان سعيكم مشكورا}.
فإذا انتهى معرض النعيم اللين الرغيد المطمئن الهانئ الودود، اتجه الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لتثبيته على الدعوة في وجه الإعراض والكفر والتكذيب وتوجيهه إلى الصبر وانتظار حكم الله في الأمر؛ والاتصال بربه والاستمداد منه كلما طال الطريق: {إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا. فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثماً أو كفورا. واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا، ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلاً طويلا}..
ثم تذكيرهم باليوم الثقيل الذي لا يحسبون حسابه؛ والذي يخافه الأبرار ويتقونه، والتلويح لهم بهوان أمرهم على الله، الذي خلقهم ومنحهم ما هم فيه من القوة، وهو قادر على الذهاب بهم، والإتيان بقوم آخرين؛ لولا تفضله عليهم بالبقاء، لتمضي مشيئة الابتلاء. ويلوح لهم في الختام بعاقبة هذا الابتلاء: {إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون ورآءهم يوماً ثقيلا. نحن خلقناهم وشددنآ أسرهم وإذا شئنا بدلنآ أمثالهم تبديلا. إن هذه تذكرة فمن شآء اتخذ إلى ربه سبيلا. وما تشآءون إلا أن يشآء الله، إن الله كان عليماً حكيما. يدخل من يشآء في رحمته والظالمين أعد لهم عذاباً أليما}..
تبدأ السورة بالتذكير بنشأة الإنسان وتقدير الله في هذه النشأة، على أساس الابتلاء، وتختم ببيان عاقبة الابتلاء، كما اقتضت المشيئة منذ الابتداء. فتوحي بذلك البدء وهذا الختام بما وراء الحياة كلها من تدبير وتقدير، لا ينبغي معه أن يمضي الإنسان في استهتاره. غير واع ولا مدرك، وهو مخلوق ليبتلى، وموهوب نعمة الإدراك لينجح في الابتلاء.
وبين المطلع والختام ترد أطول صورة قرآنية لمشاهد النعيم. أو من أطولها إذا اعتبرنا ما جاء في سورة الواقعة من صور النعيم، وهو نعيم حسي في جملته، ومعه القبول والتكريم، وهو بتفصيله هذا وحسيته يوحي بمكيته، حيث كان القوم قريبي عهد بالجاهلية، شديدي التعلق بمتاع الحواس، يبهرهم هذا اللون ويعجبهم، ويثير تطلعهم ورغبتهم.
وما يزال هذا اللون من المتاع يثير تطلع صنوف من الناس، ويصلح جزاء لهم يرضي أعمق رغباتهم. والله أعلم بخلقه ما يصلح لهم وما يصلح قلوبهم، وما يليق بهم كذلك وفق تكوينهم وشعورهم. وهناك ما هو أعلى منه وأرق كالذي جاء في سورة القيامة: {وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة} والله أعلم بما يصلح للعباد في كل حال.
{هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً؟ إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً. إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً}..
هذا الاستفهام في مطلع السورة إنما هو للتقرير؛ ولكن وروده في هذه الصيغة كأنما ليسأل الإنسان نفسه: ألا يعرف أنه أتى عليه حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً؟ ثم ألا يتدبر هذه الحقيقة ويتملاها؟ ثم ألا يفعل تدبرها في نفسه شيئاً من الشعور باليد التي دفعته إلى مسرح الحياة، وسلطت عليه النور، وجعلته شيئاً مذكوراً بعد أن لم يكن شيئاً مذكوراً؟
إنها إيحاءات كثيرة تنبض من وراء صيغة الاستفهام في هذا المقام. وهي إيحاءات رفيقة وعميقة تثير في النفس تأملات شتى:
واحدة منها تتجه بالنفس إلى ما قبل خلق الإنسان ووجوده ابتداء. يعيش فيها مع هذا الكون وقد خلا من الإنسان.. كيف تراه كان؟.. والإنسان مخلوق مغرور في نفسه وفي قيمته، حتى لينسى أن هذا الكون كان وعاش قبل أن يوجد هو بأدهار وأزمان طوال. ولعل الكون لم يكن يتوقع خلق شيء يسمى الإنسان.. حتى انبثق هذا الخلق من إرادة الله فكان!
وواحدة منها تتجه إلى اللحظة التي انبثق فيها هذا الوجود الإنساني. وتضرب في تصورات شتى لهذه اللحظة التي لم يكن يعلمها إلا الله؛ والتي أضافت إلى الكون هذه الخليقة الجديدة، المقدر أمرها في حساب الله قبل أن تكون! المحسوب دورها في خط هذا الكون الطويل!
وواحدة منها تتجه إلى تأمل يد القدرة وهي تدفع بهذا الكائن الجديد على مسرح الوجود؛ وتعده لدوره، وتعدّ له دوره، وتربط خيوط حياته بمحور الوجود كله؛ وتهيئ له الظروف التي تجعل بقاءه وأداء دوره ممكناً وميسوراً؛ وتتابعه بعد ذلك في كل خطوة، ومعها الخيط الذي تشده به إليها مع سائر خيوط هذا الكون الكبير!
وإيحاءات كثيرة وتأملات شتى، يطلقها هذا النص في الضمير.. ينتهي منها القلب إلى الشعور بالقصد والغاية والتقدير، في المنشأ وفي الرحلة وفي المصير.
فأما امتداد هذا الإنسان بعد ذلك وبقاؤه فكانت له قصة أخرى:
{إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً}..
والأمشاج: الأخلاط. وربما كانت هذه إشارة إلى تكون النطفة من خلية الذكر وبويضة الأنثى بعد التلقيح.
وربما كانت هذه الأخلاط تعني الوراثات الكامنة في النطفة، والتي يمثلها ما يسمونه علمياً الجينات وهي وحدات الوراثة الحاملة للصفات المميزة لجنس الإنسان أولاً ولصفات الجنين العائلية أخيراً. وإليها يعزى سير النطفة الإنسانية في رحلتها لتكوين جنين إنسان، لا جنين أي حيوان آخر. كما تعزى إليها وراثة الصفات الخاصة في الأسرة.. ولعلها هي هذه الأمشاج المختلطة من وراثات شتى..
خلقته يد القدرة هكذا من نطفة أمشاج، لا عبثاً ولا جزافاً ولا تسلية، ولكنه خلق ليبتلى ويمتحن ويختبر. والله سبحانه يعلم ما هو؟ وما اختباره؟ وما ثمرة اختباره؟ ولكن المراد أن يظهر ذلك على مسرح الوجود، وأن تترتب عليه آثاره المقدرة في كيان الوجود، وأن تتبعه آثاره المقدرة. ويجزى وفق ما يظهر من نتائج ابتلائه.
ومن ثم جعله سميعاً بصيراً. أي زوده بوسائل الإدراك، ليستطيع التلقي والاستجابة. وليدرك الأشياء والقيم ويحكم عليها ويختار. ويجتاز الابتلاء وفق ما يختار..
وإذن فإن إرادة الله في امتداد هذا الجنس وتكرر أفراده بالوسيلة التي قدرها، وهي خلقته من نطفة أمشاج.. كانت وراءها حكمة. وكان وراءها قصد. ولم تكن فلتة.. كان وراءها ابتلاء هذا الكائن واختباره. ومن ثم وهب الاستعداد للتلقي والاستجابة، والمعرفة والاختبار.. وكان كل شيء في خلقه وتزويده بالمدارك وابتلائه في الحياة.. بمقدار!
ثم زوده إلى جانب المعرفة، بالقدرة على اختيار الطريق، وبين له الطريق الواصل. ثم تركه ليختاره، أو ليضل ويشرد فيما وراءه من طرق لا تؤدي إلى الله:
{إنا هديناه السبيل: إما شاكراً وإما كفوراً}..
وعبر عن الهدى بالشكر. لأن الشكر أقرب خاطر يرد على قلب المهتدي، بعد إذ يعلم أنه لم يكن شيئاً مذكوراً، فأراد ربه له أن يكون شيئاً مذكوراً. ووهب له السمع والبصر. وزوده بالقدرة على المعرفة. ثم هداه السبيل. وتركه يختار.. الشكر هو الخاطر الأول الذي يرد على القلب المؤمن في هذه المناسبة. فإذا لم يشكر فهو الكفور.. بهذه الصيغة الموغلة في الدلالة على الكفران.
ويشعر الإنسان بجدية الأمر ودقته بعد هذه اللمسات الثلاث. ويدرك أنه مخلوق لغاية. وأنه مشدود إلى محور. وأنه مزود بالمعرفة فمحاسب عليها. وأنه هنا ليبتلى ويجتاز الابتلاء. فهو في فترة امتحان يقضيها على الأرض، لا في فترة لعب ولهو وإهمال! ويخرج من هذه الآيات الثلاث القصار بذلك الرصيد من التأملات الرفيقة العميقة، كما يخرج منها مثقل الظهر بالتبعة والجد والوقار في تصور هذه الحياة، وفي الشعور بما وراءها من نتائج الابتلاء! وتغير هذه الآيات الثلاث القصار من نظرته إلى غاية وجوده، ومن شعوره بحقيقة وجوده، ومن أخذه للحياة وقيمها بوجه عام.
ومن ثم يأخذ في عرض ما ينتظر الإنسان بعد الابتلاء، واختياره طريق الشكر أو طريق الكفران.
فأما ما ينتظر الكافرين، فيجمله إجمالاً، لأن ظل السورة هو ظل الرخاء الظاهر في الصورة والإيقاع.
وظل الهتاف المغري بالنعيم المريح. فأما العذاب فيشير إليه في إجمال:
{إنا أعتدنا للكافرين سلاسل وأغلالاً وسعيراً}..
سلاسل للأقدام، وأغلالاً للأيدي، وناراً تتسعر يلقى فيها بالمسلسلين المغلولين!
ثم يسارع السياق إلى رخاء النعيم:
{إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافوراً. عيناً يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيراً}..
وهذه العبارة تفيد أن شراب الأبرار في الجنة ممزوج بالكافور، يشربونه في كأس تغترف من عين تفجر لهم تفجيراً، في كثرة ووفرة.. وقد كان العرب يمزجون كؤوس الخمر بالكافور حيناً وبالزنجبيل حيناً زيادة في التلذذ بها، فها هم أولاء يعلمون أن في الجنة شراباً طهوراً ممزوجاً بالكافور، على وفر وسعة. فأما مستوى هذا الشراب فمفهوم أنه أحلى من شراب الدنيا، وأن لذة الشعور به تتضاعف وترقى، ونحن لا نملك في هذه الأرض أن نحدد مستوى ولا نوعاً للذة المتاع هناك. فهي أوصاف للتقريب. يعلم الله أن الناس لا يملكون سواها لتصور هذا الغيب المحجوب.
والتعبير يسميهم في الآية الأولى {الأبرار} ويسميهم في الآية الثانية {عباد الله}.. إيناساً وتكريماً وإعلاناً للفضل تارة، وللقرب من الله تارة، في معرض النعيم والتكريم.
ثم يعرف بهؤلاء الأبرار عباد الله الذين قسم لهم هذا المتاع:
{يوفون بالنذر، ويخافون يوماً كان شره مستطيراً، ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً. إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزآءً ولا شكوراً. إنا نخاف من ربنا يوماً عبوساً قمطريراً}..
وهي صورة وضيئة شفافة لقلوب مخلصة جادة عازمة على الوفاء لله بتكاليف العقيدة، مع رحمة ندية بعباده الضعاف، وإيثار على النفس، وتحرج وخشية لله، ورغبة في رضاه، وإشفاق من عذابه تبعثه التقوى والجد في تصور الواجب الثقيل.
{يوفون بالنذر} فيفعلون ما اعتزموا من الطاعات، وما التزموا من الواجبات. فهم يأخذون الأمر جداً خالصاً لا يحاولون التفلت من تبعاته، ولا التفصي من أعبائه، ولا التخلي عنه بعد اعتزامه. وهذا معنى أنهم يوفون بالنذر. فهو أعم من المعنى العرفي المتبادر من كلمة {النذر}.
{ويخافون يوماً كان شره مستطيراً}.. فهم يدركون صفة هذا اليوم، الذي يتفشى شره ويصيب الكثيرين من المقصرين والمسيئين. فيخافون أن ينالهم شيء من شره. وهذه سمة الأتقياء، الشاعرين بثقل الواجب وضخامة التكاليف، الخائفين من التقصير والقصور، مهما قدموا من القرَب والطاعات.
{ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً}..
وهي تصور شعور البر والعطف والخير ممثلاً في إطعام الطعام، مع حبه بسبب الحاجة إليه. فمثل هذه القلوب لا يقال عنها: إنها تحب الطعام الذي تطعمه للضعاف المحاويج على اختلاف أنواعهم. إلا أن تكون في حاجة هي إلى هذا الطعام، ولكنها تؤثر به المحاويج.
وهذه اللفتة تشي بقسوة البيئة في مكة بين المشركين؛ وأنها كانت لا تفضي بشيء للمحاويج الضعاف؛ وإن كانت تبذل في مجالات المفاخرة الشيء الكثير. فأما الأبرار عباد الله فكانوا واحة ظليلة في هذه الهاجرة الشحيحة. وكانوا يطعمون الطعام بأريحية نفس، ورحمة قلب، وخلوص نية. واتجاه إلى الله بالعمل، يحكيه السياق من حالهم، ومن منطوق قلوبهم.
{إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزآء ولا شكوراً. إنا نخاف من ربنا يوماً عبوساً قمطريراً}..
فهي الرحمة الفائضة من القلوب الرقيقة الرفيقة، تتجه إلى الله تطلب رضاه. ولا تبتغي بها جزاء من الخلق ولا شكراً، ولا تقصد بها استعلاء على المحتاجين ولا خيلاء. كما تتقي بها يوماً عبوساً شديد العبوس، تتوقعه وتخشاه، وتتقيه بهذا الوقاء. وقد دلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه وهو يقول: «اتق النار ولو بشق تمرة».
وقد كان إطعام الطعام هكذا مباشرة هو وسيلة التعبير عن هذه العاطفة النبيلة الكريمة، ووسيلة الإشباع لحاجات المحاويج. ولكن صور الإحسان ووسائله قد تتغير بحسب البيئات والظروف، فلا تظل في هذه الصورة البدائية المباشرة. إلا أن الذي يجب الاحتفاظ به هو حساسية القلوب، وحيوية العاطفة، والرغبة في الخير ابتغاء وجه الله، والتجرد عن البواعث الأرضية من جزاء أو شكر أو نفع من منافع الحياة!
ولقد تنظم الضرائب، وتفرض التكاليف، وتخصص للضمان الاجتماعي، ولإسعاف المحاويج، ولكن هذا إنما يفي بشطر واحد من مزايا الاتجاه الإسلامي الذي ترمز إليه تلك الآيات، والذي توخاه بفريضة الزكاة.. هذا الشطر هو كفاية حاجة المحتاجين.. هذا شطر.. والشطر الآخر هو تهذيب أرواح الباذلين، ورفعها إلى ذلك المستوى الكريم. وهو شطر لا يجوز إغفاله ولا التهوين من شأنه فضلاً على أن تنقلب المعايير فيوصم ويقبح ويشوه، ويقال: إنه إذلال للآخذين وإفساد للواهبين.
إن الإسلام عقيدة قلوب، ومنهج تربية لهذه القلوب. والعاطفة الكريمة تهذب صاحبها وتنفع من يوجهها إليه من إخوانه. فتفي بشطري التربية التي يقصد إليها هذا الدين.
ومن ثم كان ذلك التصوير الكريم لذلك الشعور الكريم.
{فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسروراً}..
يعجل السياق بذكر وقايتهم من شر ذلك اليوم الذي كانوا يخافونه، ليطمئنهم في الدنيا وهم يتلقون هذا القرآن ويصدقونه! ويذكر أنهم تلقوا من الله نضرة وسروراً، لا يوماً عبوساً قمطريراً. جزاءً وفاقاً على خشيتهم وخوفهم، وعلى نداوة قلوبهم ونضرة مشاعرهم.
ثم يمضي بعد ذلك في وصف مناعم الجنة التي وجدوها:
{وجزاهم بما صبروا جنة وحريراً}.. جنة يسكنونها وحريراً يلبسونه.
{متكئين فيها على الأرائك لا يرون فيها شمساً ولا زمهريراً}.. فهم في جلسة مريحة مطمئنة والجو حولهم رخاء ناعم دافئ في غير حر، نديّ في غير برد. فلا شمس تلهب النسائم، ولا زمهرير وهو البرد القارس! ولنا أن نقول: إنه عالم آخر ليست فيه شمسنا هذه ولا شموس أخرى من نظائرها.
وكفى!
{ودانية عليهم ظلالها. وذللت قطوفها تذليلاً}.. وإذا دنت الظلال ودنت القطوف فهي الراحة والاسترواح على أمتع ما يمتد إليه الخيال!
فهذه هي الهيئة العامة لهذه الجنة التي جزى الله بها عباده الأبرار الذين رسم لهم تلك الصورة المرهفة اللطيفة الوضيئة في الدنيا.. ثم تأتي تفصيلات المناعم والخدمات..
{ويطاف عليهم بآنية من فضة، وأكواب كانت قواريرا، قواريرا من فضة قدروها تقديراً. ويسقون فيها كأساً كان مزاجها زنجبيلاً. عيناً فيها تسمى سلسبيلاً}..
فهم في متاعهم. متكئين على الأرائك بين الظلال الوارفة والقطوف الدانية والجو الرائق.. يطاف عليهم بأشربة في آنية من فضة، وفي أكواب من فضة كذلك، ولكنها شفة كالقوارير، مما لا تعهده الأرض في آنية الفضة، وهي بأحجام مقدرة تقديراً يحقق المتاع والجمال. ثم هي تمزج بالزنجبيل كما مزجت مرة بالكافور. وهي كذلك تملأ من عين جارية تسمى سلسبيلاً، لشدة عذوبتها واستساغتها لدى الشاربين!
وزيادة في المتاع فإن الذين يطوفون بهذه الأواني والأكواب بالشراب هم غلمان صباح الوجوه، لا يفعل فيهم الزمن، ولا تدركهم السن؛ فهم مخلدون في سن الصباحة والصبا والوضاءة. وهم هنا وهناك كاللؤلؤ المنثور:
{ويطوف عليهم ولدان مخلدون، إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤاً منثوراً}..
ثم يجمل السياق خطوط المنظر، ويلقي عليه نظرة كاملة تلخص وقعه في القلب والنظر:
{وإذا رأيت ثمّ رأيت نعيماً وملكاً كبيراً}..
نعيماً وملكاً كبيراً. هو الذي يعيش فيه الأبرار المقربون عباد الله هؤلاء، على وجه الإجمال والعموم! ثم يخصص مظهراً من مظاهر النعيم والملك الكبير؛ كأنه تعليل لهذا الوصف وتفسير:
{عاليهم ثياب سندس خضر وإستبرق، وحلوا أساور من فضة وسقاهم ربهم شراباً طهوراً}..
والسندس الحرير الرقيق، والإستبرق الحرير السميك المبطن.. وهم في هذه الزينة وهذا المتاع، يتلقونه كله من {ربهم} فهو عطاء كريم من معط كريم.. وهذه تضاف إلى قيمة ذلك النعيم!
ثم يتلقون عليه الود والتكريم:
{إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكوراً}..
يتلقون هذا النطق من الملأ الأعلى. وهو يعدل هذه المناعم كلها، ويمنحها قيمة أخرى فوق قيمتها..
وهكذا ينتهي ذلك العرض المفصل والهتاف الموحي للقلوب، الهتاف إلى ذلك النعيم الطيب والفرار من السلاسل والأغلال والسعير.. وهما طريقان. طريق مؤد إلى الجنة هذه وطريق مؤد إلى السعير!
وبعد انتهاء هذا الهتاف إلى الجنة ونعيمها الهنيء الرغيد، يعالج حالة المشركين المصرين على العناد والتكذيب، الذين لا يدركون حقيقة الدعوة، فيساومون عليها الرسول صلى الله عليه وسلم لعله يكف عنها، أو عما يؤذيهم منها. وبين المساومة للنبي صلى الله عليه وسلم وفتنة المؤمنين به وإيذائهم، والصد عن سبيل الله، والإعراض عن الخير والجنة والنعيم.
بين هذا كله يجيء المقطع الأخير في السورة يعالج هذا الموقف بطريقة القرآن الكريم:
{إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلاً. فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً. واذكر اسم ربك بكرة وأصيلاً. ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلاً طويلاً}..
وفي هذه الآيات الأربع تكمن حقيقة كبيرة من حقائق الدعوة الإيمانية. حقيقة ينبغي أن يعيش فيها الدعاة إلى الله طويلاً، وأن يتعمقوها تعمقاً كاملاً، وأن ينظروا بتدبر في مدلولاتها الواقعية والنفسية والإيمانية الكبيرة.
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يواجه المشركين بالدعوة إلى الله وحده. وهو لم يكن يواجه في نفوسهم مجرد عقيدة. ولو كان الأمر كذلك لكان أيسر كثيراً. فإن عقيدة الشرك المهلهلة التي كانوا عليها لم تكن من القوة والثبات بحيث يصمدون بها هكذا لعقيدة الإسلام القوية الواضحة البسيطة. إنما كانت الملابسات التي تحيط بالعقيدة وبالموقف هي التي تقود إلى تلك المعارضة العنيدة، التي شهدت بها الروايات التاريخية، وحكاها القرآن في مواضع منه شتى.. كانت المكانة الاجتماعية، والاعتزاز بالقيم السائدة في البيئة، وما يتلبس بها كذلك من مصالح مادية.. هي العنصر الأول الذي يقود إلى التشبث بالعقيدة الواهية الظاهرة البطلان، في وجه العقيدة القوية الظاهرة الاستقامة.. ثم كانت صور الحياة الجاهلية ومتاعها ولذائذها وشهواتها إلى جانب ذلك تزيد المقاومة والعناد والتأبي على العقيدة الجديدة، وما فيها من اتجاهات أخلاقية وقيم رفيعة، لا تسمح بانطلاق الغرائز والشهوات؛ ولا بالحياة العابثة الماجنة المطلقة من كوابح الأخلاق.
وهذه الأسباب سواء ما يتعلق منها بالمكانة والقيم الاجتماعية والسلطان والمال والمصالح، وما يتعلق منها بالإلف والعادة وصور الحياة التقليدية، وما يتعلق منها بالانطلاق من القيم والقيود الأخلاقية كانت قائمة في وجه الدعوة الأولى، وهي هي قائمة في وجه الدعوة في كل أرض وفي كل جيل. وهي تمثل العناصر الثابتة في معركة العقيدة، التي تجعلها معركة عنيدة لا تنتهي من قريب؛ وتجعل مشاقها وتكاليفها والثبات عليها من أعسر التكاليف.
ومن ثم ينبغي للدعاة إلى دين الله في أي أرض وفي أي زمان أن يعيشوا طويلاً في الحقيقة الكبيرة الكامنة في تلك الآيات، وملابسات نزولها على الرسول صلى الله عليه وسلم فهي ملابسات معركة واحدة يخوضها كل صاحب دعوة إلى الله، في أي أرض وفي أي زمان!
لقد تلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم التكليف من ربه لينذر، وقيل له: {يا أيها المدثر. قم فأنذر} فلما أن نهض بالتكليف واجهته تلك العوامل والأسباب التي تصد القوم عن الدعوة الجديدة، وتثير في نفوسهم التشبث بما هم عليه على شعورهم بوهنه وهلهلته وتقودهم إلى العناد الشديد، ثم إلى الدفاع العنيد عن معتقداتهم وأوضاعهم ومكانتهم ومصالحهم.
ومألوف حياتهم، ولذائذهم وشهواتهم.. إلى آخر ما تهدده الدعوة الجديدة أشد التهديد.
وأخذ هذا الدفاع العنيد صوراً شتى، في أولها إيذاء القلة المؤمنة التي استجابت للدعوة الجديدة، ومحاولة فتنتها عن عقيدتها بالتعذيب والتهديد. ثم تشويه هذه العقيدة وإثارة الغبار حولها وحول نبيها صلى الله عليه وسلم بشتى التهم والأساليب. كي لا ينضم إليها مؤمنون جدد. فمنع الناس عن الانضمام إلى راية العقيدة قد يكون أيسر من فتنة الذين عرفوا حقيقتها وذاقوها!
وفي الوقت ذاته راحوا يحاولون مع صاحب الدعوة صلى الله عليه وسلم طرقاً شتى من الإغراء إلى جانب التهديد والإيذاء ليلتقي بهم في منتصف الطريق؛ ويكف عن الحملة الساحقة على معتقداتهم وأوضاعهم وتقاليدهم؛ ويصالحهم ويصالحونه على شيء يرتضيه ويرتضونه! كما تعود الناس أن يلتقوا في منتصف الطريق عند الاختلاف على المصالح والمغانم وشؤون هذه الأرض المعهودة.
وهذه الوسائل ذاتها أو ما يشبهها هي التي يواجهها صاحب الدعوة إلى الله في كل أرض وفي كل جيل!
والنبي صلى الله عليه وسلم ولو أنه رسول، حفظه الله من الفتنة، وعصمه من الناس.. إلا أنه بشر يواجه الواقع الثقيل في قلة من المؤمنين وضعف. والله يعلم منه هذا، فلا يدعه وحده، ولا يدعه لمواجهة الواقع الثقيل بلا عون ومدد وتوجيه إلى معالم الطريق.
وهذه الآيات تتضمن حقيقة هذا العون والمدد والتوجيه:
{إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلاً}.
وهي اللفتة الأولى إلى مصدر التكليف بهذه الدعوة، وينبوع حقيقتها.. إنها من الله. هو مصدرها الوحيد. وهو الذي نزل بها القرآن. فليس لها مصدر آخر، ولا يمكن أن تختلط حقيقتها بشيء آخر لا يفيض من هذا الينبوع. وكل ما عدا هذا المصدر لا يُتلقى عنه، ولا يُستمد منه، ولا يُستعار لهذه العقيدة منه شيء، ولا يخلط بها منه شيء.. ثم إن الله الذي نزل هذا القرآن وكلف بهذه الدعوة لن يتركها. ولن يترك الداعي إليها، وهو كلفه، وهو نزّل القرآن عليه.
ولكن الباطل يتبجح، والشر ينتفش، والأذى يصيب المؤمنين، والفتنة ترصد لهم؛ والصد عن سبيل الله يملكه أعداء الدعوة ويقومون به ويصرون عليه، فوق إصرارهم على عقيدتهم وأوضاعهم وتقاليدهم وفسادهم وشرهم الذي يلجون فيه! ثم هم يعرضون المصالحة، وقسمة البلد بلدين، والالتقاء في منتصف الطريق.. وهو عرض يصعب رده ورفضه في مثل تلك الظروف العصبية!
هنا تجيء اللفتة الثانية:
{فاصبر لحكم ربك، ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً}..
إن الأمور مرهونه بقدر الله. وهو يمهل الباطل، ويملي للشر، ويطيل أمد المحنة على المؤمنين والابتلاء والتمحيص.. كل أولئك لحكمة يعلمها، يجري بها قدره، وينفذ بها حكمه.. {فاصبر لحكم ربك}.
حتى يجيء موعده المرسوم.. اصبر على الأذى والفتنة. واصبر على الباطل يغلب، والشر يتنفج. ثم اصبر أكثر على ما أوتيته من الحق الذي نزل به القرآن عليك. اصبر ولا تستمع لما يعرضونه من المصالحة والالتقاء في منتصف الطريق على حساب العقيدة: {ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً}.. فهم لا يدعونك إلى طاعة ولا إلى بر ولا إلى خير. فهم آثمون كفار. يدعونك إلى شيء من الإثم والكفر إذن حين يدعونك إلى الالتقاء بهم في منتصف الطريق! وحين يعرضون عليك ما يظنونه يرضيك ويغريك! وقد كانوا يدعونه باسم شهوة السلطان، وباسم شهوة المال، وباسم شهوة الجسد. فيعرضون عليه مناصب الرياسة فيهم والثراء، حتى يكون أغنى من أغناهم، كما يعرضون عليه الحسان الفاتنات، حيث كان عتبة بن ربيعة يقول له: «ارجع عن هذا الأمر حتى أزوجك ابنتي، فإني من أجمل قريش بنات!».. كل الشهوات التي يعرضها أصحاب الباطل لشراء الدعاة في كل أرض وفي كل جيل!
{فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً}.. فإنه لا لقاء بينك وبينهم؛ ولا يمكن أن تقام قنطرة للعبور عليها فوق الهوة الواسعة التي تفصل منهجك عن منهجهم، وتصورك للوجود كله عن تصورهم، وحقك عن باطلهم، وإيمانك عن كفرهم، ونورك عن ظلماتهم، ومعرفتك بالحق عن جاهليتهم!
اصبر ولو طال الأمد، واشتدت الفتنة وقوي الإغراء، وامتد الطريق..
ولكن الصبر شاق، ولا بد من الزاد والمدد المعين:
{واذكر اسم ربك بكرة وأصيلاً، ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلاً طويلاً}.
هذا هو الزاد. اذكر ربك في الصباح والمساء، واسجد له بالليل وسبحه طويلاً.. إنه الاتصال بالمصدر الذي نزّل عليك القرآن، وكلفك الدعوة، هو ينبوع القوة ومصدر الزاد والمدد.. والاتصال به ذكرا وعبادة ودعاءً وتسبيحاً.. ليلاً طويلاً.. فالطريق طويل، والعبء ثقيل. ولا بد من الزاد الكثير والمدد الكبير. وهو هناك حيث يلتقي العبد بربه في خلوة وفي نجاء، وفي تطلع وفي أنس، تفيض منه الراحة على التعب والضنى، وتفيض منه القوة على الضعف والقلة. وحيث تنفض الروح عنها صغائر المشاعر والشواغل، وترى عظمة التكليف، وضخامة الأمانة. فتستصغر ما لاقت وما تلاقي من أشواك الطريق!
إن الله رحيم، كلف عبده الدعوة، ونزل عليه القرآن، وعرف متاعب العبء، وأشواك الطريق. فلم يدع نبيه صلى الله عليه وسلم بلا عون أو مدد. وهذا هو المدد الذي يعلم سبحانه أنه هو الزاد الحقيقي الصالح لهذه الرحلة المضنية في ذلك الطريق الشائك.. وهو هو زاد أصحاب الدعوة إلى الله في كل أرض وفي كل جيل. فهي دعوة واحدة. ملابساتها واحدة. وموقف الباطل منها واحد، وأسباب هذا الموقف واحدة. ووسائل الباطل هي ذاتها وسائله. فلتكن وسائل الحق هي الوسائل التي علم الله أنها وسائل هذا الطريق.
والحقيقة التي ينبغي أن يعيش فيها أصحاب الدعوة إلى الله هي هذه الحقيقة التي لقنها الله لصاحب الدعوة الأولى صلى الله عليه وسلم هي أن التكليف بهذه الدعوة تنزل من عند الله. فهو صاحبها. وأن الحق الذي تنزلت به لا يمكن مزجه بالباطل الذي يدعو إليه الآثمون الكفار. فلا سبيل إلى التعاون بين حقها وباطلهم، أو الالتقاء في منتصف الطريق بين القائم على الحق والقائمين على الباطل. فهما نهجان مختلفان، وطريقان لا يلتقيان. فأما حين يغلب الباطل بقوته وجمعه على قلة المؤمنين وضعفهم، لحكمة يراها الله.. فالصبر حتى يأتي الله بحكمه. والاستمداد من الله والاستعانة بالدعاء والتسبيح ليلاً طويلاً هي الزاد المضمون لهذا الطريق..
.. إنها حقيقة كبيرة لا بد أن يدركها ويعيش فيها رواد هذا الطريق..
ثم يمضي السياق في توكيد الافتراق بين منهج الرسول صلى الله عليه وسلم ومنهج الجاهلية. بما يقرره من غفلتهم عن رؤية الخير لأنفسهم، ومن تفاهة اهتماماتهم، وصغر تصوراتهم.. يقول:
{إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوماً ثقيلاً}..
إن هؤلاء، القريبي المطامح والاهتمامات، الصغار المطالب والتصورات.. هؤلاء الصغار الزهيدين الذين يستغرقون في العاجلة ويذرون وراءهم يوماً ثقيلاً. ثقيلاً بتبعاته. ثقيلاً بنتائجه. ثقيلاً بوزنه في ميزان الحقيقة.. إن هؤلاء لا يطاعون في شيء ولا يتبعون في طريق؛ ولا يلتقون مع المؤمنين في هدف ولا غاية، ولا يؤبه لما هم فيه من هذه العاجلة، من ثراء وسلطان ومتاع، فإنما هي العاجلة، وإنما هو المتاع القليل، وإنما هم الصغار الزهيدون!
ثم توحي الآية بغفلتهم عن رؤية الخير لأنفسهم. فهم يختارون العاجلة، ويذرون اليوم الثقيل الذي ينتظرهم هناك بالسلاسل والأغلال والسعير، بعد الحساب العسير!
فهذه الآية استطراد في تثبيت الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه، في مواجهة هؤلاء الذين أوتوا من هذه العاجلة ما يحبون. إلى جانب أنها تهديد ملفوف لأصحاب العاجلة باليوم الثقيل.
يتلو ذلك التهوين من أمرهم عند الله الذي أعطاهم ما هم فيه من قوة وبأس، وهو قادر على الذهاب بهم وتبديل غيرهم منهم. ولكنه يتركهم لحكمة يجري بها قدره القديم:
{نحن خلقناهم وشددنا أسرهم، وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلاً}..
وهذه اللفتة تذكر هؤلاء الذين يعتزون بقوتهم، بمصدر هذه القوة، بل مصدر وجودهم ابتداء. ثم تطمئن الذين آمنوا وهم في حالة الضعف والقلة إلى أن واهب القوة هو الذي ينتسبون إليه وينهضون بدعوته. كما تقرر في نفوسهم حقيقة قدر الله وما وراءه من حكمة مقصودة، هي التي تجري وفقها الأحداث حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين.
{وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلاً}.. فهم لا يعجزون الله بقوتهم، وهو خلقهم وأعطاهم إياها.
وهو قادر على أن يخلق أمثالهم في مكانهم.. فإذا أمهلهم ولم يبدل أمثالهم فهو فضله ومنته وهو قضاؤه وحكمته..
ومن هنا تكون الآية استطراداً في تثبيت الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه؛ وتقريراً لحقيقة موقفهم وموقف الآخرين.. كما أنها لمسة لقلوب هؤلاء المستغرقين في العاجلة، المغترين بقوة أسرهم، ليذكروا نعمة الله، التي يتبطرون بها فلا يشكرونها؛ وليشعروا بالابتلاء الكامن وراء هذه النعمة. وهو الابتلاء الذي قرره لهم في مطلع السورة.
ثم يوقظهم إلى الفرصة المتاحة لهم، والقرآن يعرض عليهم، وهذه السورة منه تذكرهم:
{إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلاً}..
ويعقب على هذه اللفتة بإطلاق المشيئة، ورد كل شيء إليها، ليكون الاتجاه الأخير إليها، والاستسلام الأخير لحكمها؛ وليبرأ الإنسان من قوته إلى قوتها، ومن حوله إلى حولها.. وهو الإسلام في صميمه وحقيقته:
{وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليماً حكيماً}..
ذلك كي تعلم قلوب البشر أن الله هو الفاعل المختار، المتصرف القهار، فتتعلم كيف تتجه إليه وتستسلم لقدره.. وهذا هو مجال هذه الحقيقة الذي تجري فيه في مثل هذه النصوص. مع تقرير ما شاءه الله لهم من منحهم القدرة على إدراك الحق والباطل، والاتجاه إلى هذا أو ذاك وفق مشيئة الله، العليم بحقيقة القلوب، وما أعان به العباد من هبة الإدراك والمعرفة، وبيان الطريق، وإرسال الرسل، وتنزيل القرآن.. إلا أن هذا كله ينتهي إلى قدر الله، الذي يلجأ إليه الملتجئ، فيوفقه إلى الذكر والطاعة، فإذا لم يعرف في قلبه حقيقة القدرة المسيطرة، ولم يلجأ إليها لتعينه وتيسره، فلا هدى ولا ذكر، ولا توفيق إلى خير..
ومن ثم فهو:
{يدخل من يشاء في رحمته، والظالمين أعد لهم عذاباً أليماً}..
فهي المشيئة المطلقة تتصرف بما تريد. ومن إرادتها أن يدخل في رحمته من يشاء، ممن يلتجئون إليه، يطلبون عونه على الطاعة، وتوفيقه إلى الهدى.. {والظالمين أعد لهم عذاباً أليماً}. وقد أملى لهم وأمهلهم لينتهوا إلى هذا العذاب الأليم!
وهذا الختام يلتئم مع المطلع، ويصور نهاية الابتلاء، الذي خلق الله له الإنسان من نطفة أمشاج، ووهبه السمع والأبصار، وهداه السبيل إما إلى جنة وإما إلى نار..




البحث


كلمات متتالية كلمات متفرقة




موضوعات القرآن
  • الإيمان
  • العلم
  • العبادات
  • أحكام الأسرة
  • المعاملات
  • الحدود والجنايات
  • الجهاد
  • الأطعمة والأشربة
  • أحكام الجنائز
  • الأخلاق
  • تكريم الله للإنسان
  • القصص والتاريخ
  • الأمثال