سورة النبأ / الآية رقم 17 / تفسير في ظلال القرآن / أحمد بن علي العجمي / القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
القرآن الكريم
طريقة عرض الآيات
صور
نصوص

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ النَّبَأِ العَظِيمِ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَاداً وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً وَأَنزَلْنَا مِنَ المُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجاً لِنُخْرِجَ بِهِ حَباًّ وَنَبَاتاً وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً إِنَّ يَوْمَ الفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَاباً وَسُيِّرَتِ الجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً لِلطَّاغِينَ مَآباً لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلاَ شَرَاباً إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً جَزَاءً وِفَاقاً إِنَّهُمْ كَانُوا لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّاباًوَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباًفَذُوقُوا فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً

النبأالنبأالنبأالنبأالنبأالنبأالنبأالنبأالنبأالنبأالنبأالنبأالنبأالنبأالنبأ




تلاوة آية تلاوة سورة الشرح الصوتي

التفسير


هذا الجزء كله ومنه هذه السورة ذو طابع غالب.. سورة مكية فيما عدا سورتي البينة والنصر وكلها من قصار السور على تفاوت في القصر. والأهم من هذا هو طابعها الخاص الذي يجعلها وحده على وجه التقريب في موضعها واتجاهها، وإيقاعها، وصورها وظلالها، وأسلوبها العام.
إنها طرقات متوالية على الحس. طرقات عنيفة قوية عالية. وصيحات. صيحات بِنوّم غارقين في النوم! نومهم ثقيل! أو بسكارى مخمورين ثقل حسهم الخُمار! أو بلاهين في سامر راقصين في ضجة وتصدية ومكاء! تتوالى على حسهم تلك الطرقات والصيحات المنبثقة من سور هذا الجزء كله بإيقاع واحد ونذير واحد: اصحوا. استيقظوا. انظروا. تلفتوا. تفكروا. تدبروا.. إن هنالك إلهاً. وإن هنالك تدبيراً. وإن هنالك تقديراً. وإن هنالك ابتلاء. وإن هنالك تبعة. وإن هنالك حساباً. وإن هنالك جزاء. وإن هنالك عذاباً شديداً. ونعيماً كبيراً.. اصحوا. استيقظوا. انظروا. تلفتوا. تفكروا. تدبروا.. وهكذا مرة أخرى. وثالثة ورابعة. وخامسة.. وعاشرة.. ومع الطرقات والصيحات يد قوية تهز النائمين المخمورين السادرين هزاً عنيفاً.. وهم كأنما يفتحون أعينهم وينظرون في خمار مرة، ثم يعودون لما كانوا فيه! فتعود اليد القوية تهزهم هزاً عنيفاً؛ ويعود الصوت العالي يصيح بهم من جديد؛ وتعود الطرقات العنيفة على الأسماع والقلوب.. وأحياناً يتيقظ النوام ليقولوا: في إصرار وعناد: لا.. ثم يحصبون الصائح المنذر المنبه بالأحجار والبذاء.. ثم يعودون لما كانوا فيه. فيعود إلى هزهم من جديد.
هكذا خيل إلي وأنا أقرأ هذا الجزء. وأحس تركيزه على حقائق معينة قليلة العدد، عظيمة القدر، ثقيلة الوزن. وعلى إيقاعات معينة يلمس بها أوتار القلوب. وعلى مشاهد معينة في الكون والنفس. وعلى أحداث معينة في يوم الفصل. وأرى تكرارها مع تنوعها. هذا التكرار الموحي بأمر وقصد!
وهكذا يحس القارئ وهو يقرأ: {فلينظر الإنسان إلى طعامه...} {فلينظر الإنسان مم خلق؟...} {أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت؟ وإلى السمآء كيف رفعت؟ وإلى الجبال كيف نصبت وإلى الأرض كيف سطحت؟} وهو يقرأ: {أأنتم أشد خلقاً أم السمآء بناها؟ رفع سمكها فسواها. وأغطش ليلها وأخرج ضحاها. والأرض بعد ذلك دحاها. أخرج منها مآءها ومرعاها. والجبال أرساها. متاعاً لكم ولأنعامكم} {ألم نجعل الأرض مهاداً؟ والجبال أوتاداً؟ وخلقناكم أزواجاً؟ وجعلنا نومكم سباتاً؟ وجعلنا الليل لباساً؟ وجعلنا النهار معاشا؟ وبنينا فوقكم سبعاً شداداً؟ وجعلنا سراجاً وهاجاً؟ وأنزلنا من المعصرات مآءً ثجاجاً؟ لنخرج به حباً ونباتا وجنات ألفافاً؟}... {فلينظر الإنسان إلى طعامه. أنا صببنا المآء صباً. ثم شققنا الأرض شقاً. فأنبتنا فيها حباً وعنباً وقضباً وزيتوناً ونخلاً، وحدآئق غلبا، وفاكهة وأبَّا. متاعاً لكم ولأنعامكم} وهو يقرأ {يا أيها الإنسان. ما غرك بربك الكريم، الذي خلقك فسواك فعدلك، في أي صورة ما شآء ركبك؟}
وهو يقرأ: {إذا الشمس كورت، وإذا النجوم انكدرت، وإذا الجبال سيرت، وإذا العشار عطلت، وإذا الوحوش حشرت، وإذا البحار سجرت، وإذا النفوس زوجت، وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت؟ وإذا الصحف نشرت، وإذا السمآء كشطت، وإذا الجحيم سعرت، وإذا الجنة أزلفت. علمت نفس مآ أحضرت} {إذا السمآء انفطرت، وإذا الكواكب انتثرت، وإذا البحار فجرت، وإذا القبور بعثرت. علمت نفس ما قدمت وأخرت} {إذا السمآء انشقت. وأذنت لربها وحقت. وإذا الأرض مدت، وألقت ما فيها وتخلت، وأذنت لربها وحقت...} {إذا زلزلت الأرض زلزالها، وأخرجت الأرض أثقالها، وقال الإنسان ما لها.. يومئذ تحدث أخبارها بأن ربك أوحى لها} هو يقرأ اللمحات والسبحات الكونية في مفاتح عدد من السور وفي ثناياها: {فلا أقسم بالخنس. الجوار الكنس. والليل إذا عسعس. والصبح إذا تنفس} {فلا أقسم بالشفق، والليل وما وسق. والقمر إذا اتسق} {والفجر. وليال عشر. والشفع والوتر. والليل إذا يسر} {والشمس وضحاها. والقمر إذا تلاها. والنهار إذا جلاها. والليل إذا يغشاها والسماء وما بناها. والأرض وما طحاها. ونفس وما سواها. فألهمها فجورها وتقواها} {والليل إذا يغشى. والنهار إذا تجلى. وما خلق الذكر والأنثى} {والضحى. والليل إذا سجى} الخ.. الخ..
وفي الجزء كله تركيز على النشأة الأولى للإنسان والأحياء الأخرى في هذه الأرض من نبات وحيوان. وعلى مشاهد هذا الكون وآياته في كتابه المفتوح. وعلى مشاهد القيامة العنيفة الطامة الصاخة القارعة الغاشية. ومشاهد الحساب والجزاء من نعيم وعذاب في صور تقرع وتذهل وتزلزل كمشاهد القيامة الكونية في ضخامتها وهولها.. واتخاذها جميعاً دلائل على الخلق والتدبير والنشأة الأخرى وموازينها الحاسمة. مع التقريع بها والتخويف والتحذير.. وأحياناً تصاحبها صور من مصارع الغابرين من المكذبين. والأمثلة على هذا هي الجزء كله. ولكنا نشير إلى بعض النماذج في هذا التقديم:
هذه السورة سورة النبأ كلها نموذج كامل لهذا التركيز على هذه الحقائق والمشاهد. ومثلها سورة النازعات وسورة عبس تحتوي مقدمتها إشارة إلى حادث معين من حوادث الدعوة.. وبقيتها كلها حديث عن نشأة الحياة الإنسانية والحياة النباتية ثم عن الصاخة: {يوم يفر المرء من أخيه، وأمه، وأبيه، وصاحبته وبنيه، لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه. وجوه يومئذ مسفرة. ضاحكة مستبشرة، ووجوه يومئذ عليها غبرة، ترهقها قترة} وسورة التكوير وهي تصور مشاهد الانقلاب الكوني الهائلة في ذلك اليوم، مع عرض مشاهد كونية موحية في صدد القسم على حقيقة الوحي وصدق الرسول.
وسورة الانفطار كذلك في عرض مشاهد الانقلاب مع مشاهد النعيم والعذاب، وهز الضمير البشري أمام هذه وتلك: {يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم... الخ} وسورة الانشقاق وهي تعرض مشاهد الانقلاب الكوني ومشاهد النعيم والعذاب.. وسورة البروج وهي تلقي إيقاعات سريعة حول مشاهد الكون ومشاهد اليوم بصدد إشارة إلى تعذيب الكفار لجماعة من المؤمنين في الدنيا بالنار. وعذاب الله لأولئك الكفار في الآخرة بالنار. وهو أشد وأنكى..
وسورة الطارق.. وهي تعرض مشاهد كونية مع نشأة الإنسان ونشأة النبات للقسم بالجميع: {إنه لقول فصل، وما هو بالهزل} وسورة الأعلى وتتحدث عن الخلق والتسوية والتقدير والهداية، وإخراج المرعى وأطواره تمهيداً للحديث عن الذكر والآخرة والحساب والجزاء.. وسورة الغاشية.. وهي تصوير لمشاهد النعيم والعذاب. ثم توجيه إلى خلق الإبل والسماء والأرض والجبال.. وهكذا.. وهكذا.. إلى نهاية الجزء باستثناء سور قليلة تتحدث عن حقائق العقيدة ومنهج الإيمان. كسورة الإخلاص. وسورة الكافرون. وسورة الماعون. وسورة العصر. وسورة القدر. وسورة النصر. أو تسري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتواسيه وتوجهه إلى الاستعاذة بربه من كل شر، كسور الضحى. والانشراح. والكوثر. والفلق. والناس.. وهي سور قليلة على كل حال..
وهناك ظاهرة أخرى في الأداء التعبيري لهذا الجزء. هناك أناقة واضحة في التعبير، مع اللمسات المقصودة لمواطن الجمال في الوجود والنفوس، وافتنان مبدع في الصور والظلال والإيقاع الموسيقي والقوافي والفواصل، تتناسق كلها مع طبيعته في خطاب الغافلين النائمين السادرين، لإيقاظهم واجتذاب حسهم وحواسهم بشتى الألوان وشتى الإيقاعات وشتى المؤثرات.. يتجلى هذا كله بصورة واضحة في مثل تعبيره اللطيف عن النجوم التي تخنس وتتوارى كالظباء في كناسها وتبرز، وعن الليل وكأنه حي يعس في الظلال، والصبح وكأنه حي يتنفس بالنور: {فلا أقسم بالخنس. الجوار الكنس؛ والليل إذا عسعس. والصبح إذا تنفس} وفي عرضه لمشاهد الغروب والليل والقمر: {فلا أقسم بالشفق، والليل وما وسق، والقمر إذا اتسق} أو لمشاهد الفجر والليل وهو يتمشى ويسري: {والفجر. وليال عشر. والشفع والوتر. والليل إذا يسر} {والضحى. والليل إذا سجى} وفي خطابه الموحي للقلب البشري: {يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم؟ الذي خلقك فسواك فعدلك..} وفي وصف الجنة: {وجوه يومئذ ناعمة، لسعيها راضية، في جنة عالية، لا تسمع فيها لاغية..} ووصف النار: {وأما من خفت موازينه فأمه هاوية. وما أدراك ماهيه؟ نار حامية!} والأناقة في التعبير واضحة وضوح القصد في اللمسات الجمالية لمشاهد الكون وخوالج النفس.
والعدول أحياناً عن اللفظ المباشر إلى الكناية، وعن اللفظ القريب إلى الاشتقاق البعيد، لتحقيق التنغيم المقصود، مما يؤكد هذه اللفتة خلال الجزء كله على وجه التقريب..
وهذه السورة نموذج لاتجاه هذا الجزء بموضوعاته وحقائقه وإيقاعاته ومشاهده وصوره وظلاله وموسيقاه ولمساته في الكون والنفس، والدنيا والآخرة؛ واختيار الألفاظ والعبارات لتوقع أشد إيقاعاتها أثراً في الحس والضمير.
وهي تفتتح بسؤال موح مثير للاستهوال والاستعظام وتضخيم الحقيقة التي يختلفون عليها، وهي أمر عظيم لا خفاء فيه، ولا شبهة؛ ويعقب على هذا بتهديدهم يوم يعلمون حقيقته: {عم يتساءلون؟ عن النبأ العظيم، الذي هم فيه مختلفون. كلا سيعلمون. ثم كلا سيعلمون!} ومن ثم يعدل السياق عن المعنى في الحديث عن هذا النبأ ويدعه لحينه، ويلفتهم إلى ما هو واقع بين أيديهم وحولهم، في ذوات أنفسهم وفي الكون حولهم من أمر عظيم، يدل على ما وراءه ويوحي بما سيتلوه: {ألم نجعل الأرض مهاداً، والجبال أوتاداً؟ وخلقناكم أزواجاً؟ وجعلنا نومكم سباتاً؟ وجعلنا الليل لباساً، وجعلنا النهار معاشاً؟ وبنينا فوقكم سبعاً شداداً؟ وجعلنا سراجاً وهاجاً؟ وأنزلنا من المعصرات مآء ثجاجاً؟ لنخرج به حباً ونباتاً وجنات ألفافاً؟}.
ومن هذا الحشد من الحقائق والمشاهد والصور والإيقاعات يعود بهم إلى ذلك النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون، والذي هددهم به يوم يعلمون! ليقول لهم ما هو؟ وكيف يكون: {إن يوم الفصل كان ميقاتاً. يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجاً. وفتحت السمآء فكانت أبواباً. وسيرت الجبال فكانت سراباً}..
ثم مشهد العذاب بكل قوته وعنفه: {إن جهنم كانت مرصاداً، للطاغين مآباً، لابثين فيهآ أحقاباً، لا يذوقون فيها برداً ولا شراباً. إلا حميماً وغساقاً. جزآء وفاقاً. إنهم كانوا لا يرجون حساباً، وكذبوا بآياتنا كذاباً، وكل شيء أحصيناه كتاباً. فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذاباً}..
ومشهد النعيم كذلك وهو يتدفق تدفقاً: {إن للمتقين مفازاً: حدائق وأعناباً، وكواعب أتراباً. وكأساً دهاقاً، لا يسمعون فيها لغواً ولا كذاباً. جزاء من ربك عطاء حساباً}.
وتختم السورة بإيقاع جليل في حقيقته وفي المشهد الذي يعرض فيه. وبإنذار وتذكير قبل أن يجيء اليوم الذي يكون فيه هذا المشهد الجليل: {رب السماوات والأرض وما بينهما الرحمن لا يملكون منه خطاباً. يوم يقوم الروح والملائكة صفاً لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صواباً. ذلك اليوم الحق. فمن شآء اتخذ إلى ربه مآباً. إنآ أنذرناكم عذابا قريباً. يوم ينظر المرء ما قدمت يداه، ويقول الكافر يا ليتني كنت تراباً}..
ذلك هو النبأ العظيم. الذي يتساءلون عنه. وذلك ما سيكون يوم يعلمون ذلك النبأ العظيم!
{عم يتساءلون؟ عن النبأ العظيم. الذي هم فيه مختلفون. كلا! سيعلمون. ثم كلا! سيعلمون}.. مطلع فيه استنكار لتساؤل المتسائلين، وفيه عجب أن يكون هذا الأمر موضع تساؤل. وقد كانوا يتساءلون عن يوم البعث ونبأ القيامة. وكان هو الأمر الذي يجادلون فيه أشد الجدل، ولا يكادون يتصورون وقوعه، وهو أولى شيء بأن يكون!
{عم يتساءلون؟}.. وعن أي شيء يتحدثون؟ ثم يجيب.
فلم يكن السؤال بقصد معرفة الجواب منهم. إنما كان للتعجيب من حالهم وتوجيه النظر إلى غرابة تساؤلهم، بكشف الأمر الذي يتساءلون عنه وبيان حقيقته وطبيعته:
{عن النبأ العظيم، الذي هم فيه مختلفون}.. ولم يحدد ما يتساءلون عنه بلفظه، إنما ذكره بوصفه.. النبأ العظيم.. استطراداً في أسلوب التعجيب والتضخيم.. وكان الخلاف على اليوم بين الذين آمنوا به والذين كفروا بوقوعه. أما التساؤل فكان من هؤلاء وحدهم.
ثم لا يجيب عن التساؤل، ولا يدلي بحقيقة النبأ المسؤول عنه. فيتركه بوصفه.. العظيم.. وينتقل إلى التلويح بالتهديد الملفوف، وهو أوقع من الجواب المباشر، وأعمق في التخويف:
{كلا! سيعلمون. ثم كلا! سيعلمون}.. ولفظ كلا، يقال في الردع والزجر فهو أنسب هنا للظل الذي يراد إلقاؤه. وتكراره وتكرار الجملة كلها فيه من التهديد ما فيه.
ثم يبعد في ظاهر الأمر عن موضوع ذلك النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون. ليلتقي به بعد قليل. يبعد في جولة قريبة في هذا الكون المنظور مع حشد من الكائنات والظواهر والحقائق والمشاهد، تهز الكيان حين يتدبرها الجنان:
{ألم نجعل الأرض مهاداً؟ والجبال أوتاداً؟ وخلقناكم أزواجاً؟ وجعلنا نومكم سباتاً؟ وجعلنا الليل لباساً؟ وجعلنا النهار معاشاً؟ وبنينا فوقكم سبعاً شداداً؟ وجعلنا سراجاً وهاجاً؟ وأنزلنا من المعصرات مآء ثجاجاً؟ لنخرج به حباً ونباتاً، وجنات ألفافاً؟}..
وهذه الجولة التي تتنقل في أرجاء هذا الكون الواسع العريض، مع هذا الحشد الهائل من الصور والمشاهد، تذكر في حيز ضيق مكتنز من الألفاظ والعبارات، مما يجعل إيقاعها في الحس حاداً ثقيلاً نفاذاً، كأنه المطارق المتوالية، بلا فتور ولا انقطاع! وصيغة الاستفهام الموجهة إلى المخاطبين وهي في اللغة تفيد التقرير صيغة مقصودة هنا، وكأنما هي يد قوية تهز الغافلين، وهي توجه أنظارهم وقلوبهم إلى هذا الحشد من الخلائق والظواهر التي تشي بما وراءها من التدبير والتقدير، والقدرة على الإنشاء والإعادة، والحكمة التي لا تدع أمر الخلائق سدى بلا حساب ولا جزاء.. ومن هنا تلتقي بالنبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون!
واللمسة الأولى في هذه الجولة عن الأرض والجبال:
{ألم نجعل الأرض مهاداً، والجبال أوتاداً؟}..
والمهاد: الممهد للسير.. والمهاد اللين كالمهد.. وكلاهما متقارب. وهي حقيقة محسوسة للإنسان في أي طور من أطوار حضارته ومعرفته. فلا تحتاج إلى علم غزير لإدراكها في صورتها الواقعية. وكون الجبال أوتاداً ظاهرة تراها العين كذلك حتى من الإنسان البدائي؛ وهذه وتلك ذات وقع في الحس حين توجه إليها النفس.
غير أن هذه الحقيقة أكبر وأوسع مدى مما يحسها الإنسان البدائي لأول وهلة بالحس المجرد. وكلما ارتقت معارف الإنسان وازدادت معرفته بطبيعة هذا الكون وأطواره، كبرت هذه الحقيقة في نفسه؛ وأدرك من ورائها التقدير الإلهي العظيم والتدبير الدقيق الحكيم، والتنسيق بين أفراد هذا الوجود وحاجاتهم؛ وإعداد هذه الأرض لتلقي الحياة الإنسانية وحضانتها؛ وإعداد هذا الإنسان للملاءمة مع البيئة والتفاهم معها.
وجعل الأرض مهاداً للحياة وللحياة الإنسانية بوجه خاص شاهد لا يمارى في شهادته بوجود العقل المدبر من وراء هذا الوجود الظاهر. فاختلال نسبة واحدة من النسب الملحوظة في خلق الأرض هكذا بجميع ظروفها. أو اختلال نسبة واحدة من النسب الملحوظة في خلق الحياة لتعيش في الأرض.. الاختلال هنا أو هناك لا يجعل الأرض مهاداً؛ ولا يبقي هذه الحقيقة التي يشير إليها القرآن هذه الإشارة المجملة، ليدركها كل إنسان وفق درجة معرفته ومداركه..
وجعل الجبال أوتاداً.. يدركه الإنسان من الناحية الشكلية بنظره المجرد، فهي أشبه شيء بأوتاد الخيمة التي تشد إليها. أما حقيقتها فنتلقاها من القرآن، وندرك منه أنها تثبت الأرض وتحفظ توازنها.. وقد يكون هذا لأنها تعادل بين نسب الأغوار في البحار ونسب المرتفعات في الجبال.. وقد يكون لأنها تعادل بين التقلصات الجوفية للأرض والتقلصات السطحية، وقد يكون لأنها تثقل الأرض في نقط معينة فلا تميد بفعل الزلازل والبراكين والاهتزازات الجوفية.. وقد يكون لسبب آخر لم يكشف عنه بعد.. وكم من قوانين وحقائق مجهولة أشار إليها القرآن الكريم. ثم عرف البشر طرفاً منها مئات السنين:
واللمسة الثانية في ذوات النفوس، في نواحي وحقائق شتى:
{وخلقناكم أزواجاً}..
وهي ظاهرة كذلك ملحوظة يدركها كل إنسان بيسر وبساطة.. فقد خلق الله الإنسان ذكراً وأنثى، وجعل حياة هذا الجنس وامتداده قائمة على اختلاف الزوجين والتقائهما. وكل إنسان يدرك هذه الظاهرة، ويحس ما وراءها من راحة ولذة ومتاع وتجدد بدون حاجة إلى علم غزير. ومن ثم يخاطب بها القرآن الإنسان في أية بيئة فيدركها ويتأثر بها حين يتوجه تأمله إليها، ويحس ما فيها من قصد ومن تنسيق وتدبير.
ووراء هذا الشعور المبهم بقيمة هذه الحقيقة وعمقها، تأملات أخرى حين يرتقي الإنسان في المعرفة وفي الشعور أيضاً.. هنالك التأمل في القدرة المدبرة التي تجعل من نطفة ذكراً، وتجعل من نطفة أنثى، بدون مميز ظاهر في هذه النطفة أو تلك، يجعل هذه تسلك طريقها لتكون ذكراً، وهذه تسلك طريقها لتكون أنثى.. اللهم إلا إرادة القدرة الخالقة وتدبيرها الخفي، وتوجيهها اللطيف، وإيداعها الخصائص التي تريدها هي لهذه النطفة وتلك، لتخلق منهما زوجين تنمو بهما الحياة وترقى!
{وجعلنا نومكم سباتاً. وجعلنا الليل لباساً. وجعلنا النهار معاشاً}..
وكان من تدبير الله للبشر أن جعل النوم سباتاً يدركهم فيقطعهم عن الإدراك والنشاط؛ ويجعلهم في حالة لا هي موت ولا هي حياة، تتكفل بإراحة أجسادهم وأعصابهم وتعويضها عن الجهد الذي بذلته في حالة الصحو والإجهاد والانشغال بأمور الحياة.. وكل هذا يتم بطريقة عجيبة لا يدرك الإنسان كنهها، ولا نصيب لإرادته فيها؛ ولا يمكن أن يعرف كيف تتم في كيانه.
فهو في حالة الصحو لا يعرف كيف يكون وهو في حالة النوم. وهو في حالة النوم لا يدرك هذه الحالة ولا يقدر على ملاحظتها! وهي سر من أسرار تكوين الحي لا يعلمه إلا من خلق هذا الوحي وأودعه ذلك السر؛ وجعل حياته متوقفة عليه. فما من حي يطيق أن يظل من غير نوم إلا فترة محدودة. فإذا أجبر إجباراً بوسائل خارجة عن ذاته كي يظل مستيقظاً فإنه يهلك قطعاً.
وفي النوم أسرار غير تلبية حاجة الجسد والأعصاب.. إنه هدنة الروح من صراع الحياة العنيف، هدنة تلم بالفرد فيلقي سلاحه وجنته طائعاً أو غير طائع ويستسلم لفترة من السلام الآمن، السلام الذي يحتاجه الفرد حاجته إلى الطعام والشراب. ويقع ما يشبه المعجزات في بعض الحالات حيث يلم النعاس بالأجفان، والروح مثقل، والأعصاب مكدودة، والنفس منزعجة، والقلب مروع. وكأنما هذا النعاس أحياناً لا يزيد على لحظات انقلاب تام في كيان هذا الفرد. وتجديد كامل لا لقواه بل له هو ذاته، وكأنما هو كائن حين يصحو جديد.. ولقد وقعت هذه المعجزة بشكل واضح للمسلمين المجهودين في غزوة بدر وفي غزوة أحد، وامتن الله عليهم بها. وهو يقول: {إذ يغشِّيكم النعاس أمنة منه} {ثم أنز ل عليكم من بعد الغم أمنة نعاساً يغشى طآئفة منكم} كما وقعت للكثير في حالات مشابهة!
فهذا السبات: أي الانقطاع عن الإدراك والنشاط بالنوم ضرورة من ضرورات تكوين الحي؛ وسر من أسرار القدرة الخالقة؛ ونعمة من نعم الله لا يملك إعطاءها إلا إياه. وتوجيه النظر إليها على هذا النحو القرآني ينبه القلب إلى خصائص ذاته، وإلى اليد التي أودعتها كيانه، ويلمسه لمسة تثير التأمل والتدبر والتأثر.
وكان من تدبير الله كذلك أن جعل حركة الكون موافقة لحركة الأحياء. وكما أودع الإنسان سر النوم والسبات، بعد العمل والنشاط، فكذلك أودع الكون ظاهرة الليل ليكون لباساً ساتراً يتم فيه السبات والانزواء. وظاهرة النهار ليكون معاشاً تتم فيه الحركة والنشاط.. بهذا تَوافقَ خلق الله وتناسق. وكان هذا العالم بيئة مناسبة للأحياء. تلبي ما ركب فيهم من خصائص. وكان الأحياء مزودين بالتركيب المتفق في حركته وحاجاته مع ما هو مودع في الكون من خصائص وموافقات. وخرج هذا وهذا من يد القدرة المبدعة المدبرة متسقاً أدق اتساق!
واللمسة الثالثة في خلق السماء متناسقة مع الأرض والأحياء:
{وبنينا فوقكم سبعاً شداداً. وجعلنا سراجاً وهاجاً. وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجاً. لنخرج به حباً ونباتاً، وجنات ألفافاً}..
والسبع الشداد التي بناها الله فوق أهل الأرض هي السماوات السبع، وهي الطرائق السبع في موضع آخر.. والمقصود بها على وجه التحديد يعلمه الله.. فقد تكون سبع مجموعات من المجرات وهي مجموعات من النجوم قد تبلغ الواحدة منها مائة مليون نجم وتكون السبع المجرات هذه هي التي لها علاقة بأرضنا أو بمجموعتنا الشمسية.
وقد تكون غير هذه وتلك مما يعلمه الله من تركيب هذا الكون، الذي لا يعلم الإنسان عنه إلا القليل.
إنما تشير هذه الآية إلى أن هذه السبع الشداد متينة التكوين، قوية البناء، مشدودة بقوة تمنعها من التفكك والانثناء. وهو ما نراه ونعلمه من طبيعة الأفلاك والأجرام فيما نطلق عليه لفظ السماء فيدركه كل إنسان.. كما تشير إلى أن بناء هذه السبع الشداد متناسق مع عالم الأرض والإنسان. ومن ثم يذكر في معرض تدبير الله وتقديره لحياة الأرض والإنسان. يدل على هذا ما بعده: {وجعلنا سراجاً وهاجاً}.. وهو الشمس المضيئة الباعثة للحرارة التي تعيش عليها الأرض وما فيها من الأحياء. والتي تؤثر كذلك في تكوين السحائب بتبخير المياه من المحيط الواسع في الأرض ورفعها إلى طبقات الجو العليا وهي المعصرات: {وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجاً}.. حين تعصر فتخر ويتساقط ما فيها من الماء. ومن يعصرها؟ قد تكون هي الرياح. وقد يكون هو التفريغ الكهربائي في طبقات الجو. ومن وراء هذه وتلك يد القدرة التي تودع الكون هذه المؤثرات! وفي السراج توقد وحرارة وضوء.. وهو ما يتوافر في الشمس. فاختيار كلمة سراج دقيق كل الدقة ومختار..
ومن السراج الوهاج وما يسكبه من أشعة فيها ضوء وحرارة، ومن المعصرات وما يعتصر منها من ماء ثجاج، ينصب دفعة بعد دفعة كلما وقع التفريغ الكهربائي مرة بعد مرة، وهو الثجاج، من هذا الماء مع هذا الإشعاع يخرج الحب والنبات الذي يؤكل هو ذاته، والجنات الألفاف الكثيفة الكثيرة الأشجار الملتفة الأغصان.
وهذا التناسق في تصميم الكون، لا يكون إلا ووراءه يد تنسقه، وحكمة تقدره، وإرادة تدبره. يدرك هذا بقلبه وحسه كل إنسان حين توجه مشاعره هذا التوجيه، فإذا ارتقى في العلم والمعرفة تكشفت له من هذا التناسق آفاق ودرجات تذهل العقول وتحير الألباب. وتجعل القول بأن هذا كله مجرد مصادفة قولاً تافهاً لا يستحق المناقشة. كما تجعل التهرب من مواجهة حقيقة القصد والتدبير في هذا الكون، مجرد تعنت لا يستحق الاحترام!
إن لهذا الكون خالقاً، وإن وراء هذا الكون تدبيراً وتقديراً وتنسيقاً. وتوالي هذه الحقائق والمشاهد في هذا النص القرآني على هذا النحو: من جعل الأرض مهاداً والجبال أوتاداً. وخلق الناس أزواجاً. وجعل نومهم سباتاً (بعد الحركة والوعي والنشاط) مع جعل الليل لباساً للستر والانزواء، وجعل النهار معاشاً للوعي والنشاط. ثم بناء السبع الشداد. وجعل السراج الوهاج. وإنزال الماء الثجاج من المعصرات. لإنبات الحب والنبات والجنات.. توالي هذه الحقائق والمشاهد على هذا النحو يوحي بالتناسق الدقيق، ويشي بالتدبير والتقدير، ويشعر بالخالق الحكيم القدير.
ويلمس القلب لمسات موقظة موحية بما وراء هذه الحياة من قصد وغاية.. ومن هنا يلتقي السياق بالنبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون!
ولقد كان ذلك كله للعمل والمتاع. ووراء هذا كله حساب وجزاء. ويوم الفصل هو الموعد الموقوت للفصل:
{إن يوم الفصل كان ميقاتاً. يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجاً. وفتحت السماء فكانت أبواباً. وسيرت الجبال فكانت سراباً}..
إن الناس لم يخلقوا عبثاً، ولن يتركوا سدى. والذي قدر حياتهم ذلك التقدير الذي يشي به المقطع الماضي في السياق، ونسق حياتهم مع الكون الذي يعيشون فيه ذلك التنسيق، لا يمكن أن يدعهم يعيشون سدى ويموتون هملاً! ويصلحون في الأرض أو يفسدون ثم يذهبون في التراب ضياعاً! ويهتدون في الحياة أو يضلون ثم يلقون مصيراً واحداً. ويعدلون في الأرض أو يظلمون ثم يذهب العدل والظلم جميعاً!
إن هناك يوماً للحكم والفرقان والفصل في كل ما كان. وهو اليوم المرسوم الموعود الموقوت بأجل عند الله معلوم محدود:
{إن يوم الفصل كان ميقاتاً}..
وهو يوم ينقلب فيه نظام هذا الكون وينفرط فيه عقد هذا النظام.
{يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجاً. وفتحت السماء فكانت أبواباً، وسيرت الجبال فكانت سراباً}..
والصور: البوق. ونحن لا ندري عنه إلا اسمه. ولا نعلم إلا أنه سينفخ فيه. وليس لنا أن نشغل أنفسنا بكيفية ذلك. فهي لا تزيدنا إيماناً ولا تأثراً بالحادث. وقد صان الله طاقتنا عن أن تتبدد في البحث وراء هذا الغيب المكنون، وأعطانا منه القدر الذي ينفعنا فلا نزيد! إنما نحن نتصور النفخة الباعثة المجمعة التي يأتي بها الناس أفواجاً.. نتصور هذا المشهد والخلائق التي توارت شخوصها جيلاً بعد جيل، وأخلت وجه الأرض لمن يأتي بعدها كي لا يضيق بهم وجه الأرض المحدود.. نتصور مشهد هذه الخلائق جميعاً.. أفواجاً.. مبعوثين قائمين آتين من كل فوج إلى حيث يحشرون. ونتصور الأجداث المبعثرة وهذه الخلائق منها قائمة. ونتصور الجموع الحاشدة لا يعرف أولها آخرها، ونتصور هذا الهول الذي تثيره تلك الحشود التي لم تتجمع قط في وقت واحد وفي ساعة واحدة إلا في هذا اليوم.. أين؟ لا ندري.. ففي هذا الكون الذي نعرفه أحداث وأهوال جسام:
{وفتحت السماء فكانت أبواباً. وسيرت الجبال فكانت سراباً}..
السماء المبنية المتينة.. فتحت فكانت أبواباً.. فهي منشقة. منفرجة. كما جاء في مواضع وسور أخرى. على هيئة لا عهد لنا بها. والجبال الرواسي الأوتاد سيرت فكانت سراباً. فهي مدكوكة مبسوسة مثارة في الهواء هباء، يحركه الهواء كما جاء في مواضع وسور أخرى. ومن ثم فلا وجود لها كالسراب الذي ليس له حقيقة. أو إنها تنعكس إليها الأشعة وهي هباء فتبدو كالسراب!
إنه الهول البادي في انقلاب الكون المنظور، كالهول البادي في الحشر بعد النفخ في الصور.
وهذا هو يوم الفصل المقدر بحكمة وتدبير..
ثم يمضي السياق خطوة وراء النفخ والحشر، فيصور مصير الطغاة ومصير التقاة. بادئاً بالأولين المكذبين المتسائلين عن النبأ العظيم:
{إن جهنم كانت مرصاداً، للطاغين مآباً، لابثين فيهآ أحقاباً. لا يذوقون فيها برداً ولا شراباً، إلا حميماً وغساقاً. جزآء وفاقاً. إنهم كانوا لا يرجون حساباً، وكذبوا بآياتنا كذاباً. وكل شيء أحصيناه كتاباً. فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذاباً}..
إن جهنم خلقت ووجدت وكانت مرصاداً للطاغين تنتظرهم وتترقبهم وينتهون إليها فإذا هي معدة لهم، مهيأة لاستقبالهم. وكأنما كانوا في رحلة في الأرض ثم آبوا إلى مأواهم الأصيل! وهم يردون هذا المآب للإقامة الطويلة المتجددة أحقاباً بعد أحقاب:
{لا يذوقون فيها برداً ولا شراباً}.. ثم يستثني.. فإذا الاستثناء أمرّ وأدهى: {إلا حميماً وغساقاً}.. إلا الماء الساخن يشوي الحلوق والبطون. فهذا هو البرد! وإلا الغساق الذي يغسق من أجساد المحروقين ويسيل. فهذا هو الشراب!
{جزاء وفاقاً}.. يوافق ما أسلفوا وما قدموا.. {إنهم كانوا لا يرجون حساباً}.. ولا يتوقعون مآباً.. {وكذبوا بآياتنا كذاباً}.. وجرس اللفظ فيه شدة توحي بشدة التكذيب وشدة الإصرار عليه.
بينما كان الله يحصي عليهم كل شيء إحصاء دقيقاً لا يفلت منه حرف: {وكل شيء أحصيناه كتاباً}..
هنا يجيء التأنيب الميئس من كل رجاء في تغيير أو تخفيف: {فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذاباً}..
ثم يعرض المشهد المقابل: مشهد التقاة في النعيم. بعد مشهد الطغاة في الحميم:
{إن للمتقين مفازاً. حدآئق وأعناباً. وكواعب أتراباً. وكأساً دهاقاً. لا يسمعون فيها لغواً ولا كذاباً.. جزآء من ربك عطآء حساباً}..
فإذا كانت جهنم هناك مرصداً ومآباً للطاغين، لا يفلتون منها ولا يتجاوزونها، فإن المتقين ينتهون إلى مفازة ومنجاة، تتمثل {حدائق وأعناباً} ويخص الأعناب بالذكر والتعيين لأنها مما يعرفه المخاطبون.. {وكواعب} وهن الفتيات الناهدات اللواتي استدارت ثديهن {أتراباً} متوافيات السن والجمال. {وكأساً دهاقاً} مترعة بالشراب.
وهي مناعم ظاهرها حسي، لتقريبها للتصور البشري. أما حقيقة مذاقها والمتاع بها فلا يدركها أهل الأرض وهم مقيدون بمدارك الأرض وتصوراتها.. وإلى جوارها حالة يتذوقها الضمير ويدركها الشعور: {لا يسمعون فيها لغواً ولا كذاباً}.. فهي حياة مصونة من اللغو ومن التكذيب الذي يصاحبه الجدل؛ فالحقيقة مكشوفة لا مجال فيها لجدل ولا تكذيب؛ كما أنه لا مجال للغو الذي لا خير فيه.. وهي حالة من الرفعة والمتعة تليق بدار الخلود..
{جزاء من ربك عطاء حساباً}.. ونلمح هنا ظاهرة الأناقة في التعبير والموسيقى في التقسيم بين {جزاء} و{عطاء}.. كما نلمحها في الإيقاع المشدود في الفواصل كلها على وجه التقريب.. وهي الظاهرة الواضحة في الجزء كله إجمالاً.
وتكملة لمشاهد اليوم الذي يتم فيه ذلك كله، والذي يتساءل عنه المتسائلون، ويختلف فيه المختلفون.
يجيء المشهد الختامي في السورة، حيث يقف جبريل عليه السلام والملائكة صفاً بين يدي الرحمن خاشعين. لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن في الموقف المهيب الجليل:
{رب السماوات والأرض وما بينهما الرحمن لا يملكون منه خطاباً، يوم يقوم الروح والملائكة صفاً لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صواباً}..
ذلك الجزاء الذي فصله في المقطع السابق: جزاء الطغاة وجزاء التقاة. هذا الجزاء {من ربك}.. {رب السماوات والأرض وما بينهما الرحمن}.. فهي المناسبة المهيأة لهذه اللمسة ولهذه الحقيقة الكبيرة. حقيقة الربوبية الواحدة التي تشمل الإنسان. كما تشمل السماوات والأرض، وتشمل الدنيا والآخرة، وتجازي على الطغيان والتقوى، وتنتهي إليها الآخرة والأولى.. ثم هو {الرحمن}.. ومن رحمته ذلك الجزاء لهؤلاء وهؤلاء. حتى عذاب الطغاة ينبثق من رحمة الرحمن. ومن الرحمة أن يجد الشر جزاءه وألا يتساوى مع الخير في مصيره!
ومع الرحمة والجلال: {لا يملكون منه خطاباً}.. في ذلك اليوم المهيب الرهيب: يوم يقف جبريل عليه السلام والملائكة الآخرون {صفاً لا يتكلمون}.. إلا بإذن من الرحمن حيث يكون القول صواباً. فما يأذن الرحمن به إلا وقد علم أنه صواب.
وموقف هؤلاء المقربين إلى الله، الأبرياء من الذنب والمعصية. موقفهم هكذا صامتين لا يتكلمون إلا بإذن وبحساب.. يغمر الجو بالروعة والرهبة والجلال والوقار. وفي ظل هذا المشهد تنطلق صيحة من صيحات الإنذار، وهزة للنائمين السادرين في الخمار:
{ذلك اليوم الحق. فمن شآء اتخذ إلى ربه مآباً. إنآ أنذرناكم عذاباً قريباً: يوم ينظر المرء ما قدمت يداه، ويقول الكافر: يا ليتني كنت تراباً}..
إنها الهزة العنيفة لأولئك الذين يتساءلون في ارتياب: {ذلك اليوم الحق}.. فلا مجال للتساؤل والاختلاف.. والفرصة ما تزال سانحة! {فمن شاء اتخذ إلى ربه مآباً}.. قبل أن تكون جهنم مرصاداً ومآباً!
وهو الإنذار الذي يوقظ من الخمار: {إنا أنذرناكم عذاباً قريباً}.. ليس بالبعيد، فجهنم تنتظركم وتترصد لكم. على النحو الذي رأيتم. والدنيا كلها رحلة قصيرة، وعمر قريب!
وهو عذاب من الهول بحيث يدع الكافر يؤثر العدم على الوجود: {يوم ينظر المرء ما قدمت يداه. ويقول الكافر: يا ليتني كنت تراباً}.. وما يقولها إلا وهو ضائق مكروب!
وهو تعبير يلقي ظلال الرهبة والندم، حتى ليتمنى الكائن الإنساني أن ينعدم. ويصير إلى عنصر مهمل زهيد. ويرى هذا أهون من مواجهة الموقف الرعيب الشديد.. وهو الموقف الذي يقابل تساؤل المتسائلين وشك المتشككين. في ذلك النبأ العظيم!!!




البحث


كلمات متتالية كلمات متفرقة




موضوعات القرآن
  • الإيمان
  • العلم
  • العبادات
  • أحكام الأسرة
  • المعاملات
  • الحدود والجنايات
  • الجهاد
  • الأطعمة والأشربة
  • أحكام الجنائز
  • الأخلاق
  • تكريم الله للإنسان
  • القصص والتاريخ
  • الأمثال