سورة النساء / الآية رقم 100 / تفسير في ظلال القرآن / أحمد بن علي العجمي / القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
القرآن الكريم
طريقة عرض الآيات
صور
نصوص

لاَ يَسْتَوِي القَاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ المُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى القَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ المُجَاهِدِينَ عَلَى القَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً إِلاَّ المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُواًّ غَفُوراً وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ المَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُواًّ مُّبِيناً

النساءالنساءالنساءالنساءالنساءالنساءالنساءالنساءالنساءالنساءالنساءالنساءالنساءالنساءالنساء




تلاوة آية تلاوة سورة الشرح الصوتي

التفسير


هذا الدرس وثيق الصلة، شديد اللحمة بالدرس السابق والدرس الذي قبله كذلك. فهو تكملة موضوعية لموضوع الدرسين السابقين. ولو الرغبة في إقرار مبادئ المعاملات الدولية- كما يقررها الإسلام- لاعتبرناهما معاً مع هذا الدرس درساً واحداً متصلاً. إنما هي حلقات في خط واحد.
إن موضوعه الأساسي هو الهجرة إلى دار الإسلام؛ والحث على انضمام المسلمين المتخلفين في دار الكفر والحرب إلى الصف المسلم المجاهد في سبيل الله بالنفس والمال. واطراح الراحة النسبية والمصلحة كذلك في البقاء بمكة، إلى جوار الأهل والمال!
ولعل هذا هو المقصود بقوله تعالى في مطلع هذا الدرس: {لا يستوي القاعدون من المؤمنين- غير أولي الضرر- والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم. فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة- وكلا وعد الله الحسنى- وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً...}.. فما كان في المدينة قاعدون- إلا المنافقين المعوقين الذين تحدث عنهم بلهجة غير هذه اللهجة في الدرس الماضي!
وقد تلا هذه الفقرة فقرة أخرى فيها تحذير وتهديد لمن يظلون قاعدين هنالك في دار الكفر- وهم قادرون على الهجرة منها بدينهم وعقيدتهم- حتى تتوفاهم الملائكة {ظالمي أنفسهم}.. {فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً}..
ثم تلتها فقرة أخرى عن ضمان الله سبحانه لمن يهاجر في سبيله، منذ اللحظة التي يخرج فيها من بيته، قاصداً الهجرة إلى الله خالصة. عالج فيها كل المخاوف التي تهجس في النفس البشرية وهي تقدم على هذه المخاطرة، المحفوفة بالخطر، الكثيرة التكاليف في الوقت ذاته..
فالحديث مطرد عن الجهاد والهجرة إلى دار المجاهدين، وأحكام التعامل بين المسلمين في دار الهجرة وبقية الطوائف خارج هذه الدار- بما في ذلك المسلمون الذين لم يهاجروا- والحديث موصول.
كذلك يلم هذا الدرس بكيفية الصلاة عند الخوف- في ميدان القتال أو في أثناء طريق الهجرة- وتدل هذه العناية بالصلاة في هذه الآونة الحرجة، على طبيعة نظرة الإسلام إلى الصلاة- كما أسلفنا- كما يهيئ لإيجاد حالة تعبئة نفسية كاملة؛ في مواجهة الخطر الحقيقي المحدق بالجماعة المسلمة؛ من أعدائها الذين يتربصون بها لحظة غفلة أو غرة!
وينتهي الدرس بلمسة قوية عميقة التأثير؛ في التشجيع على الجهاد في سبيل الله؛ في وجه الآلام والمتاعب التي تصيب المجاهدين. وذلك في تصوير ناصع لحال المؤمنين المجاهدين، وحال أعدائهم المحاربين؛ على مفرق الطريق:
{ولا تهنوا في ابتغاء القوم.. إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون. وترجون من الله ما لا يرجون..}
وبهذا التصوير يفترق طريقان؛ ويبرز منهجان؛ ويصغر كل ألم، وتهون كل مشقة. ولا يبقى مجال للشعور بالضنى وبالكلال.
فالآخرون كذلك يألمون. ولكنهم يرجون من الله ما لا يرجون!
ويرسم هذا الدرس- بجملة الموضوعات التي يعالجها، وبطرائق العلاج التي يسلكها- ما كان يعتمل في جسم الجماعة المسلمة، وهي تواجه مشاق التكوين الواقعية؛ ومشكلات التكوين العملية. وما كان يشتجر في النفوس من عوامل الضعف البشري؛ ومن رواسب الماضي الجاهلي، ومن طبيعة الفطرة البشرية وهي تواجه التكاليف بمشاقها وآلامها؛ مع ما يصاحب هذه المشاق والآلام من أشواق ومن تطلع إلى الوفاء كذلك؛ يستثيرها المنهج الحكيم، ويستجيشها في الفطرة لتنهض بهذا الأمر العظيم.
ونرى ذلك كله مرتسماً من خلال الوصف للواقع؛ ومن خلال التشجيع والاستجاشة؛ ومن خلال المعالجة للمخاوف الفطرية والآلام الواقعية؛ ومن خلال التسليح في المعركة بالصلاة! وبالصلاة خاصة- إلى جانب التسلح بالعدة واليقظة- وبالثقة في ضمانة الله للمهاجرين، وثوابه للمجاهدين، وعونه للخارجين في سبيله، وما أعده للكافرين من عذاب مهين.
ونرى طريقة المنهج القرآني الرباني في التعامل مع النفس البشرية في قوتها وضعفها؛ وفي التعامل مع الجماعة الإنسانية في أثناء تكوينها وإنضاجها. ونرى شتى الخيوط التي يشدها منها في الوقت الواحد وفي الآية الواحدة.. ونرى- على الأخص- كيف يملأ مشاعر الجماعة المسلمة بالتفوق على عدوها، في الوقت الذي يملأ نفوسها بالحذر واليقظة والتهيؤ الدائم للخطر، وفي الوقت الذي يدلها كذلك على مواطن الضعف فيها، ومواضع التقصير، ويحذرها إياها أشد التحذير.
إنه منهج عجيب في تكامله وفي تقابله مع النفس البشرية؛ وفي عدد الأوتار التي يلمسها في اللمسة الواحدة، وعدد الخيوط التي يشدها في هذه النفس، فتصوت كلها وتستجيب!
لقد كان التفوق في منهج التربية، والتفوق في التنظيم الاجتماعي الذي قام عليه؛ هو الأمر البارز الظاهر فيما بين المجتمع المسلم وسائر المجتمعات حوله من فروق.. ولقد كان هذا التفوق البارز هو كذلك أوضح الأسباب- التي يراها البشر- لتمكن هذا المجتمع الناشئ الشاب- بكل ما كان في حياته من ملابسات ومن ضعف أحياناً وتقصير- من طي تلك المجتمعات الأخرى، والغلبة عليها. لا غلبة معركة بالسلاح فحسب؛ ولكن غلبة حضارة فتية على حضارات شاخت. غلبة منهج على مناهج، ونموذج من الحياة على نماذج؛ ومولد عصر جديد على مولد إنسان جديد..
ونكتفي بهذا القدر حتى نواجه النصوص بالتفصيل:
{لا يستوي القاعدون من المؤمنين- غير أولي الضرر- والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم. فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة، وكلا وعد الله الحسنى. وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً. درجات منه ومغفرة ورحمة. وكان الله غفوراً رحيماً}..
إن هذا النص القرآني كان يواجه حالة خاصة في المجتمع المسلم وما حوله؛ وكان يعالج حالة خاصة في هذا المجتمع من التراخي- من بعض عناصره- في النهوض بتكاليف الجهاد بالأموال والأنفس.
سواء كان المقصود أولئك الذين تخلفوا عن الهجرة احتفاظاً بأموالهم، إذ لم يكن المشركون يسمحون لمهاجر أن يحمل معه شيئاً من ماله؛ أو توفيراً لعناء الهجرة وما فيها من مخاطر، إذ لم يكن المشركون يتركون المسلمين يهاجرون، وكثيراً ما كانوا يحبسونهم ويؤذونهم- أو يزيدون في إيذائهم بتعبير أدق- إذا عرفوا منهم نية الهجرة.. سواء كان المقصود هم أولئك الذين تخلفوا عن الهجرة- وهو ما نرجحه- أو كان المقصود بعض المسلمين في دار الإسلام، الذين لم ينشطوا للجهاد بالأموال والأنفس- من غير المنافقين المبطئين الذين ورد ذكرهم في درس سابق- أو كان المقصود هؤلاء وهؤلاء ممن لم ينشطوا للجهاد بالأموال والأنفس في دار الحرب ودار الإسلام سواء.
إن هذا النص كان يواجه هذه الحالة الخاصة؛ ولكن التعبير القرآني يقرر قاعدة عامة؛ يطلقها من قيود الزمان، وملابسات البيئة؛ ويجعلها هي القاعدة التي ينظر الله بها إلى المؤمنين في كل زمان وفي كل مكان- قاعدة عدم الاستواء بين القاعدين من المؤمنين عن الجهاد بالأموال والأنفس- غير أولي الضرر الذين يقعدهم العجز عن الجهاد بالنفس، او يقعدهم الفقر والعجز عن الجهاد بالنفس والمال- عدم الاستواء بين هؤلاء القاعدين والآخرين الذين يجاهدون بأموالهم وأنفسهم.. قاعدة عامة على الإطلاق:
{لا يستوي القاعدون من المؤمنين- غير أولي الضرر- والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم}..
ولا يتركها هكذا مبهمة، بل يوضحها ويقررها، ويبين طبيعة عدم الاستواء بين الفريقين:
{فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة}..
وهذه الدرجة يمثلها رسول الله صلى الله عليه وسلم في مقامهم في الجنة.
في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله. وما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض».
وقال الأعمش عن عمرو بن مرة، عن أبي عبيدة، عن عبدالله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من رمى بسهم فله أجره درجة» فقال رجل: يا رسول الله، وما الدرجة؟ فقال: «أما إنها ليست بعتبة أمك. ما بين الدرجتين مائة عام».
وهذه المسافات التي يمثل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، نحسب أننا اليوم أقدر على تصورها؛ بعد الذي عرفناه من بعض أبعاد الكون. حتى إن الضوء ليصل من نجم إلى كوكب في مئات السنين الضوئية! وقد كان الذين يسمعون رسول الله صلى الله عليه وسلم يصدقونه بما يقول. ولكنا- كما قلت- ربما كنا أقدر- فوق الإيمان- على تصور هذه الأبعاد بما عرفناه من بعض أبعاد الكون العجيب!
ثم يعود السياق بعد تقرير هذا الفارق في المستوى بين القاعدين من المؤمنين- غير أولي الضرر- والمجاهدين بأموالهم وأنفسهم، فيقرر أن الله وعد جميعهم الحسنى:
{وكلاًّ وعد الله الحسنى}.
فللإيمان وزنه وقيمته على كل حال؛ مع تفاضل أهله في الدرجات وفق تفاضلهم في النهوض بتكاليف الإيمان؛ فيما يتعلق بالجهاد بالأموال والأنفس.. وهذا الاستدراك هو الذي نفهم منه أن هؤلاء القاعدين ليسوا هم المنافقين المبطئين. إنما هم طائفة أخرى صالحة في الصف المسلم ومخلصة؛ ولكنها قصرت في هذا الجانب؛ والقرآن يستحثها لتلافي التقصير؛ والخير مرجو فيها، والأمل قائم في أن تستجيب.
فإذا انتهى من هذا الاستدراك عاد لتقرير القاعدة الأولى؛ مؤكداً لها، متوسعاً في عرضها؛ ممعناً في الترغيب فيما وراءها من أجر عظيم:
{وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً. درجات منه ومغفرة ورحمة. وكان الله غفوراً رحيماً}.
وهذا التوكيد.. وهذه الوعود.. وهذا التمجيد للمجاهدين.. والتفضيل على القاعدين.. والتلويح بكل ما تهفو له نفس المؤمن من درجات الأجر العظيم.. ومن مغفرة الله ورحمته للذنوب والتقصير..
هذا كله يشي بحقيقتين هامتين:
الحقيقة الأولى: هي أن هذه النصوص كانت تواجه حالات قائمة في الجماعة المسلمة كما أسلفنا وتعالجها. وهذا كفيل بأن يجعلنا أكثر إدراكاً لطبيعة النفس البشرية، ولطبيعة الجماعات البشرية، وأنها مهما بلغت في مجموعها من التفوق في الإيمان والتربية فهي دائماً في حاجة إلى علاج ما يطرأ عليها من الضعف والحرص والشح والتقصير في مواجهة التكاليف، وبخاصة تكاليف الجهاد بالأموال والأنفس، مع خلوص النفس لله، وفي سبيل الله. وظهور هذه الخصائص البشرية- من الضعف والحرص والشح والتقصير- لا يدعو لليأس من النفس أو الجماعة، ولا إلى نفض اليد، منها وازدرائها؛ طالما أن عناصر الإخلاص والجد والتعلق بالصف والرغبة في التعامل مع الله موفورة فيها.. ولكن ليس معنى هذا هو إقرار النفس أو الجماعة على ما بدا منها من الضعف والحرص والشح والتقصير؛ والهتاف لها بالانبطاح في السفح، باعتبار أن هذا كله جزء من واقعها! بل لا بد لها من الهتاف لتنهض من السفح والحداء لتسير في المرتقى الصاعد، إلى القمة السامقة. بكل ألوان الهتاف والحداء.. كما نرى هنا في المنهج الرباني الحكيم.
والحقيقة الثانية: هي قيمة الجهاد بالأموال والأنفس في ميزان الله واعتبارات هذا الدين وأصالة هذا العنصر في طبيعة هذه العقيدة وهذا النظام. لما يعلمه الله- سبحانه- من طبيعة الطريق؛ وطبيعة البشر؛ وطبيعة المعسكرات المعادية للإسلام في كل حين.
إن الجهاد ليس ملابسة طارئة من ملابسات تلك الفترة. إنما هو ضرورة مصاحبة لركب هذه الدعوة! وليست المسألة- كما توهم بعض المخلصين- أن الإسلام نشأ في عصر الإمبراطوريات؛ فاندس في تصورات أهله- اقتباساً مما حولهم- أنه لا بد لهم من قوة قاهرة لحفظ التوازن!
هذه المقررات تشهد- على الأقل- بقلة ملابسة طبيعة الإسلام الأصيلة لنفوس هؤلاء القائلين بهذه التكهنات والظنون.
لو كان الجهاد ملابسة طارئة في حياة الأمة المسلمة ما استغرق كل هذه الفصول من صلب كتاب الله؛ في مثل هذا الأسلوب! ولما استغرق كذلك كل هذه الفصول من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي مثل هذا الأسلوب..
لو كان الجهاد ملابسة طارئة ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الكلمة الشاملة لكل مسلم إلى قيام الساعة: «من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بغزو مات على شعبة من النفاق».
ولئن كان صلى الله عليه وسلم رد في حالات فردية بعض المجاهدين، لظروف عائلية لهم خاصة، كالذي جاء في الصحيح أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم أجاهد. قال: «لك أبوان»؟ قال: نعم. قال: «ففيهما جاهد». لئن كان ذلك فإنما هي حالة فردية لا تنقض القاعدة العامة؛ وفرد واحد لا ينقص المجاهدين الكثيرين. ولعله صلى الله عليه وسلم على عادته في معرفة كل ظروف جنوده فرداً فرداً، كان يعلم من حال هذا الرجل وأبويه، ما جعله يوجهه هذا التوجيه..
فلا يقولن أحد- بسبب ذلك- إنما كان الجهاد ملابسة طارئة بسبب ظروف. وقد تغيرت هذه الظروف!
وليس ذلك لأن الإسلام يجب أن يشهر سيفه ويمشي به في الطريق يقطع به الروؤس! ولكن لأن واقع حياة الناس وطبيعة طريق الدعوة تلزمه أن يمسك بهذا السيف ويأخذ حذره في كل حين!
إن الله- سبحانه- يعلم أن هذا أمر تكرهه الملوك! ويعلم أن لا بد لأصحاب السلطان أن يقاوموه. لأنه طريق غير طريقهم، ومنهج غير منهجهم. ليس بالأمس فقط. ولكن اليوم وغداً. وفي كل أرض، وفي كل جيل!
وإن الله- سبحانه- يعلم أن الشر متبجح، ولا يمكن أن يكون منصفاً. ولا يمكن أن يدع الخير ينمو- مهما يسلك هذا الخير من طرق سلمية موادعة!- فإن مجرد نمو الخير يحمل الخطورة على الشر. ومجرد وجود الحق يحمل الخطر على الباطل. ولا بد أن يجنح الشر إلى العدوان؛ ولا بد أن يدافع الباطل عن نفسه بمحاولة قتل الحق وخنقه بالقوة!
هذه جبلة! وليست ملابسة وقتية...
هذه فطرة! وليست حالة طارئة...
ومن ثم لا بد من الجهاد.. لابد منه في كل صورة.. ولا بد أن يبدأ في عالم الضمير.
ثم يظهر فيشمل عالم الحقيقة والواقع والشهود. ولا بد من مواجهة الشر المسلح بالخير المسلح. ولا بد من لقاء الباطل المتترس بالعدد بالحق المتوشح بالعدة.. وإلا كان الأمر انتحاراً. أو كان هزلاً لا يليق بالمؤمنين!
ولا بد من بذل الأموال والأنفس. كما طلب الله من المؤمنين. وكما اشترى منهم أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة.. فأما أن يقدر لهم الغلب؛ أو يقدر لهم الاستشهاد؛ فذلك شأنه- سبحانه- وذلك قدره المصحوب بحكمته.. أما هم فلهم إحدى الحسنيين عند ربهم.. والناس كلهم يموتون عندما يحين الأجل.. والشهداء وحدهم هم الذين يستشهدون..
هناك نقط ارتكاز أصيلة في هذه العقيدة، وفي منهجها الواقعي، وفي خط سيرها المرسوم، وفي طبيعة هذا الخط وحتمياته الفطرية، التي لا علاقة لها بتغير الظروف.
وهذه النقط لا يجوز أن تتميع في حس المؤمنين- تحت أي ظرف من الظروف. ومن هذه النقط.. الجهاد.. الذي يتحدث عنه الله سبحانه هذا الحديث.. الجهاد في سبيل الله وحده. وتحت رايته وحدها.. وهذا هو الجهاد الذي يسمى من يقتلون فيه شهداء ويتلقاهم الملأ الأعلى بالتكريم..
بعد ذلك يتحدث عن فريق من القاعدين؛ أولئك الذين يظلون قاعدين في دار الكفر لا يهاجرون؛ تمسك بهم أموالهم ومصالحهم، أو يمسك بهم ضعفهم عن مواجهة متاعب الهجرة وآلام الطريق- وهم قادرون لو أرادوا واعتزموا التضحية- أن يهاجروا.. حتى يحين أجلهم؛ وتأتي الملائكة لتتوفاهم. يتحدث عنهم فيصورهم صورة زرية منكرة؛ تستنهض كل قاعد منهم للفرار بدينه وعقيدته، وبمصيره عند ربه؛ من هذا الموقف الذي يرسمه لهم:
{إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم.. قالوا: فيم كنتم؟ قالوا: كنا مستضعفين في الأرض. قالوا: ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها؟ فأولئك مأواهم جهنم، وساءت مصيراً. إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان، لا يستطيعون حيلة، ولا يهتدون سبيلاً. فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم، وكان الله عفوّاً غفوراً}..
لقد كان هذا النص يواجه حالة واقعة في الجزيرة العربية- في مكة وغيرها- بعد هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيام الدولة المسلمة. فقد كان هناك مسلمون لم يهاجروا. حبستهم أموالهم ومصالحهم- حيث لم يكن المشركون يدعون مهاجراً يحمل معه شيئاً من ماله- أو حبسهم إشفاقهم وخوفهم من مشاق الهجرة- حيث لم يكن المشركون يدعون مسلماً يهاجر حتى يمنعوه ويرصدوا له في الطريق.. وجماعة حبسهم عجزهم الحقيقي، من الشيوخ والنساء والولدان الذين لا يستطيعون حيلة للهرب ولا يجدون سبيلاً للهجرة..
وقد اشتد أذى المشركين لهؤلاء الباقين من أفراد المسلمين؛ بعد عجزهم عن إدراك الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه، ومنعهما من الهجرة. وبعد قيام الدولة المسلمة.
وبعد تعرض الدولة المسلمة لتجارة قريش في بدر، وانتصار المسلمين ذلك الانتصار الحاسم. فأخذ المشركون يسومون هذه البقية المتخلفة ألواناً من العذاب والنكال، ويفتنونهم عن دينهم في غيظ شديد.
وقد فتن بعضهم عن دينهم فعلاً؛ واضطر بعضهم إلى إظهار الكفر تقية، ومشاركة المشركين عبادتهم.. وكانت هذه التقية جائزة لهم يوم أن لم تكن لهم دولة يهاجرون إليها- متى استطاعوا- فأما بعد قيام الدولة، ووجود دار الإسلام، فإن الخضوع للفتنة، أو الالتجاء للتقية، وفي الوسع الهجرة والجهر بالإسلام، والحياة في دار الإسلام.. أمر غير مقبول.
وهكذا نزلت هذه النصوص؛ تسمي هؤلاء القاعدين محافظة على أموالهم ومصالحهم، أو إشفاقاً من مشاق الهجرة ومتاعب الطريق.. حتى يحين أجلهم.. تسميهم: {ظالمي أنفسهم}.. بما أنهم حرموها الحياة في دار الإسلام، تلك الحياة الرفيعة النظيفة الكريمة الحرة الطليقة. وألزموها الحياة في دار الكفر تلك الحياة الذليلة الخانسة الضعيفة المضطهدة، وتوعدهم {جهنم وساءت مصيراً}.. مما يدل على أنها تعني الذين فتنوا عن دينهم بالفعل هناك!
ولكن التعبير القرآني- على أسلوب القرآن- يعبر في صورة، ويصور في مشهد حي نابض بالحركة والحوار:
{إن الذين توفاهم الملائكة.. ظالمي أنفسهم.. قالوا: فيم كنتم؟ قالوا: كنا مستضعفين في الأرض! قالوا: ألم تكن أرض الله واسعة، فتهاجروا فيها؟!}..
إن القرآن يعالج نفوساً بشرية؛ ويهدف الى استجاشة عناصر الخير والمروءة والعزة فيها؛ وإلى مطاردة عوامل الضعف والشح والحرص والثقلة.. لذلك يرسم هذا المشهد.. إنه يصور حقيقة. ولكنه يستخدم هذه الحقيقة في موضعها أحسن استخدام، في علاج النفس البشرية..
ومشهد الاحتضار بذاته مشهد ترتجف له النفس البشرية، وتتحفز لتصور ما فيه. وإظهار الملائكة في المشهد يزيد النفس ارتجافاً وتحفزاً وحساسية.
وهم- القاعدون- ظلموا أنفسهم. وقد حضرت الملائكة لتتوفاهم وهذا حالهم.. ظالمي أنفسهم. وهذا وحده كفيل بتحريك النفس وارتجافها. إذ يكفي أن يتصور المرء نفسه والملائكة تتوفاه وهو ظالم لنفسه؛ وليس أمامه من فرصة أخرى لإنصاف نفسه، فهذه هي اللحظة الأخيرة.
ولكن الملائكة لا يتوفونهم- ظالمي أنفسهم- في صمت. بل يقلبون ماضيهم، ويستنكرون أمرهم! ويسألونهم: فيم أضاعوا أيامهم ولياليهم؟ وماذا كان شغلهم وهمهم في الدنيا:
{قالوا: فيم كنتم؟}..
فإن ما كانوا فيه ضياع في ضياع؛ كأن لم يكن لهم شغل إلا هذا الضياع!
ويجيب هؤلاء المحتضرون، في لحظة الاحتضار، على هذا الاستنكار، جواباً كله مذلة، ويحسبونه معذرة على ما فيه من مذلة.
{قالوا: كنا مستضعفين في الأرض}..
كنا مستضعفين. يستضعفنا الأقوياء. كنا أذلاء في الأرض لا نملك من أمرنا شيئاً.
وعلى كل ما في هذا الرد من مهانة تدعو إلى الزراية؛ وتنفر كل نفس من أن يكون هذا موقفها في لحظة الاحتضار، بعد أن يكون هذا موقفها طوال الحياة.
فإن الملائكة لا يتركون هؤلاء المستضعفين الظالمي أنفسهم. بل يجبهونهم بالحقيقة الواقعة؛ ويؤنبونهم على عدم المحاولة، والفرصة قائمة:
{قالوا: ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها؟!}..
إنه لم يكن العجز الحقيقي هو الذي يحملهم- إذن- على قبول الذل والهوان والاستضعاف، والفتنة عن الإيمان.. إنما كان هناك شيء آخر.. حرصهم على أموالهم ومصالحهم وأنفسهم يمسكهم في دار الكفر، وهناك دار الإسلام. ويمسكهم في الضيق وهناك أرض الله الواسعة. والهجرة إليها مستطاعة؛ مع احتمال الآلام والتضحيات.
وهنا ينهي المشهد المؤثر، بذكر النهاية المخيفة:
{فأولئك مأواهم جهنم، وساءت مصيراً}..
ثم يستثني من لا حيلة لهم في البقاء في دار الكفر؛ والتعرض للفتنة في الدين؛ والحرمان من الحياة في دار الإسلام من الشيوخ الضعاف، والنساء والأطفال؛ فيعلقهم بالرجاء في عفو الله ومغفرته ورحمته. بسبب عذرهم البين وعجزهم عن الفرار:
{إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان، لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً. فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم، وكان الله عفواً غفوراً}..
ويمضي هذا الحكم إلى آخر الزمان؛ متجاوزاً تلك الحالة الخاصة التي كان يواجهها النص في تاريخ معين؛ وفي بيئة معينة.. يمضي حكماً عاماً؛ يلحق كل مسلم تناله الفتنة في دينه في أية أرض؛ وتمسكه أمواله ومصالحه، أو قراباته وصداقاته؛ أو إشفاقه من آلام الهجرة ومتاعبها. متى كان هناك- في الأرض في أي مكان- دار للإسلام؛ يأمن فيها على دينه، ويجهر فيها بعقيدته، ويؤدي فيها عباداته؛ ويحيا حياة إسلامية في ظل شريعة الله، ويستمتع بهذا المستوى الرفيع من الحياة..
أما السياق القرآني فيمضي في معالجة النفوس البشرية؛ التي تواجه مشاق الهجرة ومتاعبها ومخاوفها؛ وتشفق من التعرض لها. وقد عالجها في الآيات السابقة بذلك المشهد المثير للاشمئزاز والخوف معاً. فهو يعالجها بعد ذلك ببث عوامل الطمأنينة- سواء وصل المهاجر إلى وجهته أو مات في طريقه- في حالة الهجرة في سبيل الله؛ وبضمان الله للمهاجر منذ أن يخرج من بيته مهاجراً في سبيله. ووعده بالسعة والمتنفس في الأرض والمنطلق، فلا تضيق به الشعاب والفجاج:
{ومن يهاجر- في سبيل الله- يجد في الأرض مراغماً كثيراً وسعة. ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله- ثم يدركه الموت- فقد وقع أجره على الله. وكان الله غفوراً رحيماً}..
إن المنهج الرباني القرآني يعالج في هذه الآية مخاوف النفس المتنوعة؛ وهي تواجه مخاطر الهجرة؛ في مثل تلك الظروف التي كانت قائمة؛ والتي قد تتكرر بذاتها أو بما يشابهها من المخاوف في كل حين.
وهو يعالج هذه النفس في وضوح وفصاحة؛ فلا يكتم عنها شيئاً من المخاوف؛ ولا يداري عنها شيئاً من الأخطار- بما في ذلك خطر الموت- ولكنه يسكب فيها الطمأنينة بحقائق أخرى وبضمانة الله سبحانه وتعالى.
فهو أولاً يحدد الهجرة بأنها {في سبيل الله}.. وهذه هي الهجرة المعتبرة في الإسلام. فليست هجرة للثراء، أو هجرة للنجاة من المتاعب، أو هجرة للذائذ والشهوات، أو هجرة لأي عرض من أعراض الحياة. ومن يهاجر هذه الهجرة- في سبيل الله- يجد في الأرض فسحة ومنطلقاً فلا تضيق به الأرض، ولا يعدم الحيلة والوسيلة. للنجاة وللرزق والحياة:
{ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً كثيراً وسعة}..
وإنما هو ضعف النفس وحرصها وشحها؛ يخيل إليها أن وسائل الحياة والرزق، مرهونة بأرض، ومقيدة بظروف، ومرتبطة بملابسات لو فارقتها لم تجد للحياة سبيلاً.
وهذا التصور الكاذب لحقيقة أسباب الرزق وأسباب الحياة والنجاة؛ هو الذي يجعل النفوس تقبل الذل والضيم، وتسكت على الفتنة في الدين؛ ثم تتعرض لذلك المصير البائس. مصير الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم. والله يقرر الحقيقة الموعودة لمن يهاجر في سبيل الله.. إنه سيجد في أرض الله منطلقاً وسيجد فيها سعة. وسيجد الله في كل مكان يذهب إليه، يحييه ويرزقه وينجيه..
ولكن الأجل قد يوافي في أثناء الرحلة والهجرة في سبيل الله.. والموت- كما تقدم في سياق السورة- لا علاقة له بالأسباب الظاهرة؛ إنما هو حتم محتوم عندما يحين الأجل المرسوم. وسواء أقام أم هاجر، فإن الأجل لا يستقدم ولا يستأخر.
غير أن النفس البشرية لها تصوراتها ولها تأثراتها بالملابسات الظاهرة... والمنهج يراعي هذا ويعالجه. فيعطي ضمانة الله بوقوع الأجر على الله منذ الخطوة الأولى من البيت في الهجرة إلى الله ورسوله:
{ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله- ثم يدركه الموت- فقد وقع أجره على الله}..
أجره كله. أجر الهجرة والرحلة والوصول إلى دار الإسلام والحياة في دار الإسلام.. فماذا بعد ضمان الله من ضمان؟
ومع ضمانة الأجر التلويح بالمغفرة للذنوب والرحمة في الحساب. وهذا فوق الصفقة الأولى.
{وكان الله غفوراً رحيماً}.
إنها صفقة رابحة دون شك. يقبض فيها المهاجر الثمن كله منذ الخطوة الأولى- خطوة الخروج من البيت مهاجراً إلى الله ورسوله- والموت هو الموت. في موعده الذي لا يتأخر. والذي لا علاقة له بهجرة أو إقامة. ولو أقام المهاجر ولم يخرج من بيته لجاءه الموت في موعده. ولخسر الصفقة الرابحة. فلا أجر ولا مغفرة ولا رحمة. بل هنالك الملائكة تتوفاه ظالماً لنفسه!
وشتان بين صفقة وصفقة! وشتان بين مصير ومصير!
ويخلص لنا من هذه الآيات التي استعرضناها من هذا الدرس- إلى هذا الموضع- عدة اعتبارات، نجملها قبل أن نعبر إلى بقية الدرس وبقية ما فيه من موضوعات.
يخلص لنا منها مدى كراهية الإسلام للقعود عن الجهاد في سبيل الله؛ والقعود عن الانضمام للصف المسلم المجاهد.
اللهم إلا من عذرهم الله من أولي الضرر، ومن العاجزين عن الهجرة لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً..
ويخلص لنا منها مدى عمق عنصر الجهاد وأصالته في العقيدة الإسلامية، وفي النظام الإسلامي، وفي المقتضيات الواقعية لهذا المنهج الرباني.. وقد عدته الشيعة ركناً من أركان الإسلام- ولهم من قوة النصوص ومن قوة الواقع ما يفسر اتجاههم هذا. لولا ما ورد في حديث: «بني الإسلام على خمس...» ولكن قوة التكليف بالجهاد؛ وأصالة هذا العنصر في خطر الحياة الإسلامية؛ وبروز ضرورته في كل وقت وفي كل أرض- الضرورة التي تستند إلى مقتضيات فطرية لا ملابسات زمنية- كلها تؤيد هذا الشعور العميق بجدية هذا العنصر وأصالته.
ويخلص لنا كذلك أن النفس البشرية هي النفس البشرية؛ وأنها قد تحجم أمام الصعاب، أو تخاف أمام المخاطر، وتكسل أمام العقبات، في خير الأزمنة وخير المجتمعات. وأن منهج العلاج في هذه الحالة، ليس هو اليأس من هذه النفوس. ولكن استجاشتها، وتشجيعها، وتحذيرها، وطمأنتها في آن واحد. وفق هذا المنهج القرآني الرباني الحكيم.
وأخيراً يخلص لنا كيف كان هذا القرآن يواجه واقع الحياة؛ ويقود المجتمع المسلم؛ ويخوض المعركة- في كل ميادينها- وأول هذه الميادين هو ميدان النفس البشرية؛ وطبائعها الفطرية، ورواسبها كذلك من الجاهلية. وكيف ينبغي أن نقرأ القرآن، ونتعامل معه ونحن نواجه واقع الحياة والنفس بالدعوة إلى الله.
بعد ذلك يستطرد الى رخصة، يبيحها الله للمهاجرين، أو الضاربين في الأرض للجهاد أو للتجارة. في حالة خوفهم أن يأخذهم الذين كفروا أسارى. فيفتنوهم عن دينهم. وهي رخصة القصر من الصلاة- وهو غير القصر المرخص به للمسافر إطلاقاً سواء خاف فتنة الذين كفروا أو لم يخف- فهذا قصر خاص.
{وإذا ضربتم في الأرض، فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة- إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا- إن الكافرين كانوا لكم عدواً مبيناً}..
إن الضارب في الأرض في حاجة ماسة إلى الصلة الدائمة بربه، تعينه على ما هو فيه، وتكمل عدته وسلاحه فيما هو مقدم عليه، وما هو مرصود له في الطريق.. والصلاة أقرب الصلات إلى الله. وهي العدة التي يدعى المسلمون للاستعانة بها في الشدائد والملمات. فكلما كان هناك خوف أو مشقة قال لهم: {واستعينوا بالصبر والصلاة}..
ومن ثم يجيء ذكرها هنا في إبانها المناسب، وفي وقت الحاجة إليها والاضطرار. فما أحوج الخائف في الطريق إلى أن يطمئن قلبه بذكر الله. وما أحوج المهاجر من أرضه إلى أن يلتجى ء إلى حمى الله.. غير أن الصلاة الكاملة- وما فيها من قيام وركوع وسجود- قد تعوق الضارب في الأرض عن الإفلات من كمين قريب.
أو قد تلفت إليه أنظار عدوه فيعرفوه. أو قد تمكن لهم منه وهو راكع أو ساجد فيأخذوه.. ومن ثم هذه الرخصة للضارب في الأرض أن يقصر في الصلاة عند مخافة الفتنة.
والمعنى الذي نختاره في القصر هنا هو المعنى الذي اختاره الإمام الجصاص. وهو أنه ليس القصر في عدد الركعات بجعلها اثنتين في الصلاة الرباعية. فهذا مرخص به للمسافر إطلاقاً، بلا تخصيص حالة الخوف من الفتنة. بل هذا هو المختار في الصلاة للمسافر- كفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل سفر- بحيث لا يجوز إكمال الصلاة في السفر في أرجح الأقوال.
وإذن فهذه الرخصة الجديدة- في حالة خوف الفتنة- تعني معنى جديداً غير مجرد القصر المرخص به لكل مسافر. إنما هو قصر في صفة الصلاة ذاتها. كالقيام بلا حركة ولا ركوع ولا سجود ولا قعود للتشهد. حيث يصلي الضارب في الأرض قائماً وسائراً وراكباً، ويومى ء للركوع والسجود.
وكذلك لا يترك صلته بالله في حالة الخوف من الفتنة، ولا يدع سلاحه الأول في المعركة، ويأخذ حذره من عدوه:
{إن الكافرين كانوا لكم عدواً مبيناً}.
وبمناسبة الحديث عن صلاة الضارب في الأرض، الخائف من فتنة الذين كفروا، يجيء حكم صلاة الخوف في أرض المعركة؛ وتحتشد جنبات هذا الحكم الفقهي بلمسات نفسية وتربوية شتى:
{وإذا كنت فيهم، فأقمت لهم الصلاة، فلتقم طائفة منهم معك، وليأخذوا أسلحتهم؛ فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم. ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك؛ وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم. ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم، فيميلون عليكم ميلة واحدة. ولا جناح عليكم- إن كان بكم أذى من مطر، أو كنتم مرضى- أن تضعوا أسلحتكم. وخذوا حذركم، إن الله أعد للكافرين عذاباً مهيناً. فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبكم. فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة، إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً}..
إن المتأمل في أسرار هذا القرآن؛ وفي أسرار المنهج الرباني للتربية، المتمثل فيه، يطلع على عجب من اللفتات النفسية، النافذة إلى أعماق الروح البشرية. ومنها هذه اللفتة في ساحة المعركة إلى الصلاة..
إن السياق القرآني لا يجيء بهذا النص هنا لمجرد بيان الحكم الفقهي في صفة صلاة الخوف. ولكنه يحشد هذا النص في حملة التربية والتوجيه والتعليم والإعداد للصف المسلم وللجماعة المسلمة.
وأول ما يلفت النظر هو الحرص على الصلاة في ساحة المعركة! ولكن هذا طبيعي بل بديهي في الاعتبار الإيماني. إن هذه الصلاة سلاح من أسلحة المعركة. بل إنها السلاح! فلا بد من تنظيم استخدام هذا السلاح، بما يتناسب مع طبيعة المعركة، وجو المعركة!
ولقد كان أولئك الرجال- الذين تربوا بالقرآن وفق المنهج الرباني- يلقون عدوهم بهذا السلاح الذي يتفوقون فيه قبل أي سلاح.
لقد كانوا متفوقين في إيمانهم بإله واحد يعرفونه حق المعرفة؛ ويشعرون أنه معهم في المعركة. متفوقين كذلك في إيمانهم بهدف يقاتلون من أجله؛ ويشعرون أنه أرفع الأهداف جميعاً. متفوقين أيضاً في تصورهم للكون والحياة ولغاية وجودهم الإنساني، تفوقهم في تنظيمهم الاجتماعي الناشئ من تفوق منهجهم الرباني.. وكانت الصلاة رمزاً لهذا كله، وتذكيراً بهذا كله. ومن ثم كانت سلاحاً في المعركة. بل كانت هي السلاح!
والأمر الثاني الذي يلفت النظر في هذا النص هو هذه التعبئة الروحية الكاملة تجاه العدو. وهذا الحذر الذي يوصى المؤمنون به تجاه عدوهم الذي يتربص بهم لحظة غفلة واحدة عن أسلحتهم وأمتعتهم، ليميل عليهم ميلة واحدة! ومع هذا التحذير والتخويف؛ التطمين والتثبيت؛ إذ يخبرهم أنهم إنما يواجهون قوماً كتب الله عليهم الهوان: {إن الله أعد للكافرين عذاباً مهيناً}.. وهذا التقابل بين التحذير والتطمين؛ وهذا التوازن بين استثارة حاسة الحذر وسكب فيض الثقة؛ هو طابع هذا المنهج في تربية النفس المؤمنة والصف المسلم، في مواجهة العدو الماكر العنيد اللئيم!
أما كيفية صلاة الخوف؛ فتختلف فيها آراء الفقهاء، أخذاً من هذا النص، ولكننا نكتفي بالصفة العامة، دون دخول في تفصيل الكيفيات المتنوعة.
{وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة، فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم، فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم. ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك. وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم}..
والمعنى: إذا كنت فيهم فأممتهم في الصلاة، فلتقم طائفة منهم تصلي معك الركعة الأولى. على حين تقف طائفة أخرى بأسلحتها من ورائكم لحمايتكم. فإذا أتمت الطائفة الأولى الركعة الأولى رجعت فأخذت مكان الحراسة، وجاءت الطائفة التي كانت في الحراسة ولم تصل. فلتصل معك ركعة كذلك. (وهنا يسلم الإمام إذ يكون قد أتم صلاته ركعتين).
عندئذ تجيء الطائفة الأولى فتقضي الركعة الثانية التي فاتتها مع الإمام. وتسلم- بينما تحرسها الطائفة الثانية- ثم تجيء الثانية فتقضي الركعة الأولى التي فاتتها وتسلم- بينما تحرسها الطائفة الأولى..
وبذلك تكون الطائفتان قد صلتا بإمامة الرسول صلى الله عليه وسلم وكذلك مع خلفائه وأمرائه، وأمراء المسلمين (منهم) في كل معركة.
{وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم. ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم، فيميلون عليكم ميلة واحدة}..
وهي رغبة في نفوس الكفار تجاه المؤمنين دائمة. والسنون تتوالى، والقرون تمر، فتؤكد هذه الحقيقة، التي وضعها الله في قلوب المجموعة المؤمنة الأولى. وهو يضع لها الخطط العامة للمعركة. كما يضع لها الخطة الحركية أحياناً. على هذا النحو الذي رأينا في صلاة الخوف.
على أن هذا الحذر، وهذه التعبئة النفسية، وهذا الاستعداد بالسلاح المستمر، ليس من شأنه أن يوقع المسلمين في المشقة.
فهم يأخذون منه بقدر الطاقة:
{ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر، أو كنتم مرضى، أن تضعوا أسلحتكم} فحمل السلاح في هذه الحالة يشق، ولا يفيد. ويكفي أخذ الحذر؛ وتوقع عون الله ونصره:
{وخذوا حذركم. إن الله أعد للكافرين عذاباً مهيناً}..
ولعل هذا الاحتياط، وهذه اليقظة، وهذا الحذر يكون أداة ووسيلة لتحقيق العذاب المهين الذي أعده الله للكافرين. فيكون المؤمنون هم ستار قدرته؛ وأداة مشيئته.. وهي الطمأنينة مع ذلك الحذر؛ والثقة في النصر على قوم أعد الله لهم عذاباً مهيناً...
{فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبكم. فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة. إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً}..
وهكذا يوجههم إلى الاتصال بالله في كل حال، وفي كل وضع، إلى جانب الصلاة.. فهذه هي العدة الكبرى، وهذا هو السلاح الذي لا يبلى..
فأما حين الاطمئنان {فأقيموا الصلاة}.. أقيموها كاملة تامة بلا قصر- قصر الخوف الذي تحدثنا عنه- فهي فريضة ذات وقت محدد لأدائها. ومتى زالت أسباب الرخصة في صفة من صفاتها عادت إلى صفتها المفروضة الدائمة.
ومن قوله تعالى: {إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً}.. يأخذ الظاهرية رأيهم في عدم قضاء الفائتة من الصلاة لأنها لا تجزي ولا تصح. لأن الصلاة لا تصح إلا في ميقاتها المعين. فمتى فات الميقات، فلا سبيل لإقامة الصلاة.. والجمهور على صحة قضاء الفوائت. وعلى تحسين التبكير في الأداء، والكراهية في التأخير.. ولا ندخل بعد هذا في تفصيلات الفروع..
ويختم هذا الدرس بالتشجيع على المضي في الجهاد؛ مع الألم والضنى والكلال. ويلمس القلوب المؤمنة لمسة عميقة موحية، تمس أعماق هذه القلوب، وتلقي الضوء القوي على المصائر والغايات والاتجاهات:
{ولا تهنوا في ابتغاء القوم. إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون. وترجون من الله ما لا يرجون. وكان الله عليماً حكيماً}..
إنهن كلمات معدودات. يضعن الخطوط الحاسمة، ويكشفن عن الشقة البعيدة، بين جبهتي الصراع..
إن المؤمنين يحتملون الألم والقرح في المعركة.. ولكنهم ليسوا وحدهم الذين يحتملونه.. إن أعداءهم كذلك يتألمون وينالهم القرح واللأواء.. ولكن شتان بين هؤلاء وهؤلاء.. إن المؤمنين يتوجهون إلى الله بجهادهم، ويرتقبون عنده جزاءهم.. فأما الكفار فهم ضائعون مضيعون، لا يتجهون لله، ولا يرتقبون عنده شيئاً في الحياة ولا بعد الحياة..
فإذا أصر الكفار على المعركة، فما أجدر المؤمنين أن يكونوا هم أشد إصراراً، وإذا احتمل الكفار آلامها، فما أجدر المؤمنين بالصبر على ما ينالهم من آلام. وما أجدرهم كذلك أن لا يكفوا عن ابتغاء القوم ومتابعتهم بالقتال، وتعقب آثارهم، حتى لا تبقى لهم قوة، وحتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله.
وإن هذا لهو فضل العقيدة في الله في كل كفاح.
فهناك اللحظات التي تعلو فيها المشقة على الطاقة، ويربو الألم على الاحتمال. ويحتاج القلب البشري إلى مدد فائض وإلى زاد. هنالك يأتي المدد من هذا المعين، ويأتي الزاد من ذلك الكنف الرحيم.
ولقد كان هذا التوجيه في معركة مكشوفة متكافئة. معركة يألم فيها المتقاتلون من الفريقين. لأن كلا الفريقين يحمل سلاحه ويقاتل.
ولربما أتت على العصبة المؤمنة فترة لا تكون فيها في معركة مكشوفة متكافئة.. ولكن القاعدة لا تتغير. فالباطل لا يكون بعافية أبداً، حتى ولو كان غالباً! إنه يلاقي الآلام من داخله. من تناقضه الداخلي؛ ومن صراع بعضه مع بعض. ومن صراعه هو مع فطرة الأشياء وطبائع الأشياء.
وسبيل العصبة المؤمنة حينئذ أن تحتمل ولا تنهار. وأن تعلم أنها إن كانت تألم، فإن عدوها كذلك يألم. والألم أنواع. والقرح ألوان.. {وترجون من الله ما لا يرجون}.. وهذا هو العزاء العميق. وهذا هو مفرق الطريق..
{وكان الله عليماً حكيماً}..
يعلم كيف تعتلج المشاعر في القلوب. ويصف للنفس ما يطب لها من الألم والقرح..




البحث


كلمات متتالية كلمات متفرقة




موضوعات القرآن
  • الإيمان
  • العلم
  • العبادات
  • أحكام الأسرة
  • المعاملات
  • الحدود والجنايات
  • الجهاد
  • الأطعمة والأشربة
  • أحكام الجنائز
  • الأخلاق
  • تكريم الله للإنسان
  • القصص والتاريخ
  • الأمثال