سورة الأنعام / الآية رقم 12 / تفسير في ظلال القرآن / أحمد بن علي العجمي / القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
القرآن الكريم
طريقة عرض الآيات
صور
نصوص

وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ قُل لِّمَن مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُل لِّلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِياًّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المُشْرِكِينَ قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ مَن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الفَوْزُ المُبِينُ وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَهُوَ القَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الحَكِيمُ الخَبِيرُ

الأنعامالأنعامالأنعامالأنعامالأنعامالأنعامالأنعامالأنعامالأنعامالأنعامالأنعامالأنعامالأنعامالأنعامالأنعام




تلاوة آية تلاوة سورة الشرح الصوتي

التفسير


هذه الموجة الجديدة ذات المد العالي والإيقاع الرهيب، تجيء في أعقاب الحديث عن التكذيب والإعراض والسخرية والاستهزاء؛ وما ختم به هذا الحديث وما تخلله من التهديد المخيف؛ مع توجيه الأنظار والقلوب إلى الاعتبار بمصارع المكذبين المستهزئين.. كما أنها تجيء بعد موجة الافتتاح السابقة للحديث عن المكذبين؛ والتي عرضت حقيقة الألوهية في المجال الكوني العريض؛ وفي المجال الإنساني العميق. وهي كذلك تعرض حقيقة الألوهية في مجالات أخرى، بإيقاعات جديدة؛ ومع مؤثرات كذلك جديدة.. فيقع الحديث عن التكذيب بين موجة الافتتاح وهذه الموجة؛ ويبدو أمره في غاية النكارة وفي غاية البشاعة!
ولقد عرضت الموجة الأولى حقيقة الألوهية ممثلة في خلق السماوات والأرض، وجعل الظلمات والنور، وخلق الإنسان من طين، وقضاء الأجل الأول لعمره، وتسمية الأجل الثاني لبعثه. مقررة شمول ألوهية الله للسماوات وللأرض، وإحاطة علمه بسر الناس وجهرهم وما يكسبونه في السر والجهر.. كل أولئك لا لمجرد التقرير اللاهوتي أو الفلسفي النظري السلبي. ولكن لتقرير مقتضيات هذه الحقائق في الحياة الإنسانية. من إسلامها بجملتها لله وحده، لا تعدل به أحداً، ولا تمتري في هذه الوحدانية. ومن إقرارها بشمول الألوهية لشئون الكون ولشئون الحياة الإنسانية في السر والجهر. ومن ترتيب النتائج الطبيعية لهذه الحقائق في الاستسلام لحاكمية الله وحده في شؤون الحياة الأرضية كالاستسلام لهذه الحاكمية في الشؤون الكونية..
فأما هذه الموجة الجديدة فتستهدف كذلك إبراز حقيقة الألوهية، ممثلة في الملك والفاعلية، وفي الرزق والكفالة؛ وفي القدرة والقهر؛ وفي النفع والضر.. كل ذلك لا لمجرد التقرير اللاهوتي أو الفلسفي النظري السلبي.. ولكن لتقرير مقتضيات هذه الحقائق من توحيد الولاية والتوجه؛ وتوحيد الاستسلام والعبودية.. واعتبار الولاية والتوجه مظهر الاستسلام والعبودية. فإذا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستنكر أن يتخذ غير الله ولياً؛ بين أن هذا الاستنكار قائم أولاً على أن الله يطعم ولا يطعم؛ وقائم ثانياً على أن تولي غير الله نقض لما أُمر به من الإسلام وعدم الشرك أيضاً..
ويصاحب عرض حقيقة الألوهية، في هذه الصورة ولهذا الغرض، جملة مؤثرات قوية تخلخل القلوب. تبدأ بعرض حقيقة الملكية لكل شيء. وحقيقة أن الله هو الذي يطعم ولا يطعم. وعرض العذاب الرعيب الذي يعد مجرد صرفه رحمة من الله وفوزاً عظيماً. وعرض القدرة على الضر والخير. وعرض الاستعلاء والقهر. وعرض الحكمة والخبرة.. ثم الإيقاع الرهيب المزلزل، المتمثل في الأمر العلوي الهائل: قل. قل. قل:
فإذا تم هذا العرض بكل مؤثراته العميقة، جاء الختام بالإيقاع العالي المجلجل.. إيقاع الإشهاد على التوحيد، وإنكار الشرك، والمفاصلة الحاسمة؛ مصحوباً كذلك بالأمر العلوي في كل فاصلة: {قل: أي شيء أكبر شهادة؟}.
{قل: الله}.. {قل: لا أشهد}.. {قل: إنما هو إله واحد}.. مما يضفي على الجو كله رهبة غامرة؛ ويضفي على الأمر كله طابع جد مرهوب!
{قل: لمن ما في السماوات والأرض؟ قل لله، كتب على نفسه الرحمة، ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه، الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون. وله ما سكن في الليل والنهار، وهو السميع العليم}..
إنه موقف المواجهة للبيان والتقرير، ثم المفاصلة.. ومن ثم يبدأ بتوجيه الرسول صلى الله عليه وسلم لهذه المواجهة. مواجهة المشركين- الذين يعرفون أن الله هو الخالق ثم يعدلون به من لا يخلق؛ فيجعلون له شركاء مع الله في تصريف حياتهم- مواجهتهم بالسؤال عن الملكية- بعد الخلق- لكل ما في السماوات والأرض، مسقصياً بهذا السؤال حدود الملكية في المكان:
{ما في السماوات والأرض}.. مع تقرير الحقيقة التي لم يكونوا هم يجادولن فيها؛ والتي حكى القرآن في مواضع إقرارهم الكامل بها:
{قل: لمن ما في السماوات والأرض؟ قل: لله}..
ولقد كان العرب في جاهليتهم- على كل ما في هذه الجاهلية من ضلال في التصور ينشأ عنه انحطاط في الحياة- أرقى- في هذا الجانب- من الجاهلية العلمية الحديثة، التي لا تعرف هذه الحقيقة، والتي تغلق فطرتها وتعطلها دون رؤية هذه الحقيقة! كانوا يعرفون ويقررون أن لله ما في السماوات والأرض. ولكنهم ما كانوا يرتبون على هذه الحقيقة نتائجها المنطقية؛ بإفراد الله سبحانه بالحاكمية فيما يملك، وعدم التصرف فيه إلا بإذن الله وحده وشرعه.. وبهذا اعتبروا مشركين، وسميت حياتهم بالجاهلية! فكيف بمن يخرجون الحاكمية في أمرهم كله من اختصاص الله سبحانه؛ ويزاولونها هم بأنفسهم؟! بماذا يوصفون وبماذا توصف حياتهم؟ لا بد من إعطائهم صفة أخرى غير الشرك.. فهو الكفر والظلم والفسق كما يقرر الله سبحانه.. أياً كانت دعواهم في الإسلام وأياً كانت الصفة التي تعطيها لهم شهادات الميلاد!
ونعود إلى الآية. لنجد السياق يلحق بهذا التقرير لملكية الله- سبحانه- لما في السماوات وما في الأرض، أنه- سبحانه:
{كتب على نفسه الرحمة}..
فهو سبحانه المالك، لا ينازعه منازع، ولكنه- فضلاً منه ومنة- كتب على نفسه الرحمة. كتبها بإرادته ومشيئته؛ لا يوجبها عليه موجب؛ ولا يقترحها عليه مقترح؛ ولا يقتضيها منه مقتض- إلا إرادته الطليقة وإلا ربوبيته الكريمة- وهي- الرحمة- قاعدة قضائه في خلقه، وقاعدة معاملته لهم في الدنيا والآخرة.. والاعتقاد إذن بهذه القاعدة يدخل في مقوّمات التصور الإسلامي، فرحمة الله بعباده هي الأصل، حتى في ابتلائه لهم أحياناً بالضراء. فهو يبتليهم ليعد طائفة منهم بهذا الابتلاء لحمل أمانته، بعد الخلوص والتجرد والمعرفة والوعي والاستعداد والتهيؤ عن طريق هذا الابتلاء؛ وليميز الخبيث من الطيب في الصف، وليعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه؛ وليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حيّ عن بينة.
والرحمة في هذا كله ظاهرة..
على أن تلمس مواضع رحمة الله ومظاهرها يستغرق الأعمار والأجيال. فما من لحظة إلا وتغمر العباد فيها الرحمة.. إنما ذكرنا الرحمة في الابتلاء بالضراء، لأن هذه هي التي قد تزيغ فيها القلوب والأبصار!
ولن نحاول نحن أن نتقصى مواضع الرحمة الإلهية أو مظاهرها- وإن كنا سنشير إشارة مجملة إلى شيء من ذلك فيما يلي- ولكننا سنحاول أن نقف قليلاً أمام هذا النص القرآني العجيب:
{كتب على نفسه الرحمة}.
وقد تكرر وروده في السورة في موضع آخر سيأتي: {كتب ربكم على نفسه الرحمة}..
إن الذي يستوقف النظر في هذا النص هو ذلك التفضل الذي أشرنا من قبل إليه.. تفضل الخالق المالك ذي السلطان القاهر فوق عباده.. تفضله- سبحانه- بأن يجعل رحمته بعباده في هذه الصورة.. مكتوبة عليه.. كتبها هو على نفسه؛ وجعلها عهداً منه لعباده.. بمحض إرادته ومطلق مشيئته.. وهي حقيقة هائلة لا يثبت الكيان البشري لتمليها وتأملها وتذوق وقعها؛ حين يقف لتدبرها في هذه الصورة العجيبة..
كذلك يستوقف النظر مرة أخرى ذلك التفضل الآخر الذي يتجلى في إخباره لعباده بما كتبه- سبحانه- على نفسه من رحمته. فإن العناية بإبلاغهم هذه الحقيقة هي تفضل آخر، لا يقل عن ذلك التفضل الأول! فمن هم العباد حتى تبلغ العناية بهم أن يبلغوا ما جرت به إرادة الله في الملأ الأعلى؟ وأن يبلغوا بكلمات منه سبحانه يحملها إليهم رسوله؟ من هم؟ إلا أنه الفضل العميم، الفائض من خلق الله الكريم؟!
إن تدبر هذه الحقيقة على هذا النحو ليدع القلب في عجب وفي دهش؛ كما يدعه في أنس وفي روْح لا تبلغ الكلمات أن تصور جوانبه وحواشيه!
ومثل هذه الحقائق، وما تثيره في القلب من مشاعر؛ ليس موكولاً إلى التعبير البشري ليبلغ شيئاً في تصويره؛ وإن كان القلب البشري مهيأ لتذوقه، لا لتعريفه!
وتمثل هذه الحقيقة في التصور الإسلامي يكوّن جانباً أساسياً من تصور حقيقة الألوهية، وعلاقة العباد بها.. وهو تصوّر جميل مطمئن ودود لطيف. يعجب الإنسان معه لمناكيد الخلق الذين يتقولون على التصور الإسلامي في هذا الجانب، لأنه لا يقول ببنوة أحد من عباد الله لله!- على نحو ما تقول التصورات الكنسية المحرفة- فالتصور الإسلامي إذ يرتفع على هذه التصورات الصبيانية الطفولية، يبلغ في الوقت ذاته من تصوير العلاقة الرحيمة بين الله وعباده هذا المستوى الذي يعجز التعبير البشري عن وصفه. والذي يترع القلب بحلاوة مذاقه، كما يروعه بجلال إيقاعه..
ورحمة الله تفيض على عباده جميعاً؛ وتسعهم جميعاً؛ وبها يقوم وجودهم، وتقوم حياتهم.
وهي تتجلى في كل لحظة من لحظات الوجود أو لحظات الحياة للكائنات. فأما في حياة البشر خاصة فلا نملك أن نتابعها في كل مواضعها ومظاهرها؛ ولكننا نذكر منها لمحات في مجاليها الكبيرة:
إنها تتجلى ابتداء في وجود البشر ذاته. في نشأتهم من حيث لا يعلمون. وفي إعطائهم هذا الوجود الإنساني الكريم؛ بكل ما فيه من خصائص يتفضل بها الإنسان على كثير من العالمين.
وتتجلى في تسخير ما قدر الله أن يسخره للإنسان، من قوى الكون وطاقاته. وهذا هو الرزق في مضمونه الواسع الشامل. الذي يتقلب الإنسان في بحبوحة منه في كل لحظة من لحظات حياته.
وتتجلى في تعليم الله للإنسان، بإعطائه ابتداء الاستعداد للمعرفة؛ وتقدير التوافق بين استعدادته هذه وإيحاءات الكون ومعطياته.. هذا العلم الذي يتطاول به بعض المناكيد على الله، وهو الذي علمهم إياه! وهو من رزق الله بمعناه الواسع الشامل كذلك.
وتتجلى في رعاية الله لهذا الخلق بعد استخلافه في الأرض، بموالاة إرسال الرسل إليه بالهدى، كلما نسي وضل؛ وأخذه بالحلم كلما لج في الضلال؛ ولم يسمع صوت النذير، ولم يصغ للتحذير. وهو على الله هين. ولكن رحمة الله وحدها هي التي تمهله، وحلم الله وحده هو الذي يسعه.
وتتجلى في تجاوز الله- سبحانه- عن سيئاته إذا عمل السوء بجهالة ثم تاب، وبكتابة الرحمة على نفسه ممثلة في المغفرة لمن أذنب ثم أناب.
وتتجلى في مجازاته عن السيئة بمثلها، ومجازاته على الحسنة بعشر أمثالها. والمضاعفة بعد ذلك لمن يشاء. ومحو السيئة بالحسنة.. وكله من فضل الله. فلا يبلغ أحد أن يدخل الجنة بعمله إلا أن يتغمده الله برحمته. حتى رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال عن نفسه، في معرفة كاملة بعجز البشر وفضل الله.
والإقصار منا عن متابعة رحمة الله في مظاهرها، وإعلان القصور والعيّ عنها، هو أجدر وأولى. وإلا فما نحن ببالغين من ذلك شيئاً! وإن لحظة واحدة يفتح الله فيها أبواب رحمته لقلب العبد المؤمن؛ فيتصل به؛ ويعرفه؛ ويطمئن إليه- سبحانه- ويأمن في كنفه؛ ويستروح في ظله.. إن لحظة واحدة من هذه اللحظات لتعجز الطاقة البشرية عن تمليها واستجلائها، فضلاً على وصفها والتعبير عنها.
فلننظر كيف مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذه الرحمة بما يقّربها للقلوب شيئاً ما:
أخرج الشيخان- بإسناده عن أبى هريرة رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لما قضى الله الخلق- وعند مسلم: لما خلق الله الخلق- كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي سبقت غضبي.. وعند البخاري في رواية أخرى: إن رحمتي غلبت غضبي».
«وأخرج الشيخان بإسناده عنه رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: جعل الله الرحمة مائة جزء. فأمسك عنده تسعة وتسعين، وأنزل في الأرض جزءاً واحداً. فمن ذلك الجزء تتراحم الخلائق، حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه».
وأخرج مسلم- بإسناده عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم-: «إن لله مائة رحمة. فمنها رحمة يتراحم بها الخلق بينهم، وتسعة وتسعون ليوم القيامة».
وله في أخرى: «إن الله تعالى خلق يوم خلق السماوات والأرض مائة رحمة، كل رحمة طباق ما بين السماء والأرض. فجعل منها في الأرض رحمة واحدة، فيها تعطف الوالدة على ولدها، والوحش والطير بعضها على بعض. فإذا كان يوم القيامة أكملها الله تعالى بهذه الرحمة».
وهذا التمثيل النبوي الموحي، يقرب للإدراك البشري تصور رحمة الله تعالى.. ذلك إذ ينظر إلى رحمة الأمهات بأطفالها في الخلائق الحية ويتملاها ويعجب لها، وإلى رحمة القلوب البشرية بالطفولة والشيخوخة، والضعف والمرض؛ وبالأقرباء والأوداء والأصحاب؛ وبرحمة الطير والوحش بعضها على بعض- ومنها ما يدعو إلى الدهش والعجب- ثم يرى أن هذا كله من فيض رحمة واحدة من رحمات الله سبحانه.. فهذا مما يقرب إلى إدراكه تصور هذه الرحمة الكبرى شيئاً ما!
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يني يعلم أصحابه ويذكرهم بهذه الرحمة الكبرى:
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبي. فإذا امرأة من السبي تسعى قد تحلب ثديها، إذ وجدت صبياً في السبي، فأخذته، فألزقته ببطنها فأرضعته. فقال صلى الله عليه وسلم: «أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار؟ قلنا: لا والله وهي تقدر على ألا تطرحه. قال: فالله تعالى أرحم بعباده من هذه بولدها». أخرجه الشيخان.
وكيف لا. وهذه المرأة إنما ترحم ولدها، من فيض رحمة واحدة من رحمات الله الواسعة؟
ومن تعليم رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه هذه الحقيقة القرآنية، بهذا الأسلوب الموحي، كان ينتقل بهم خطوة أخرى؛ ليتخلقوا بخلق الله هذا في رحمته، ليتراحموا فيما بينهم وليرحموا الأحياء جميعاً؛ ولتتذوق قلوبهم مذاق الرحمة وهم يتعاملون بها، كما تذوقتها في معاملة الله لهم بها من قبل.
عن ابن عمرو بن العاص- رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الراحمون يرحمهم الله تعالى. ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء».
أخرجه أبو داود والترمذي.
وعن جرير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يرحم الله من لا يرحم الناس».. أخرجه الشيخان والترمذي.
وفي رواية لأبي داود والترمذي عن أبي هريرة- رضي الله عنه-: قال صلى الله عليه وسلم: «لا تنزع الرحمة إلا من شقي».
وعن أبي هريرة كذلك. قال: «قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي- رضي الله عنهما- وعنده الأقرع بن حابس. فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحداً! فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: من لا يرحم لا يُرحم». أخرجه الشيخان.
ولم يكن صلى الله عليه وسلم يقف في تعليمه لأصحابه- رضوان الله عليهم- عند حد الرحمة بالناس. وقد علم أن رحمة ربه وسعت كل شيء. وأن المؤمنين مأمورن أن يتخلقوا بأخلاق الله؛ وأن الإنسان لا يبلغ تمام إنسانيته إلا حين يرحم كل حي تخلقاً بخلق الله سبحانه، وكان تعليمه لهم بالطريقة الموحية التي عهدناها:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش، فوجد بئراً، فنزل فيها فشرب، ثم خرج، وإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش. فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ مني، فنزل البئر، فملأ خفه ماء، ثم أمسكه بفيه حتى رقي، فسقى الكلب. فشكر الله تعالى له فغفر له. قالوا: يا رسول الله وإن لنا في البهائم لأجراً؟ قال: في كل كبد رطبة أجر». أخرجه مالك والشيخان.
وفي أخرى: «إن امرأة بغياً رأت كلباً في يوم حار يطيف ببئر، قد أدلع (أي أخرج) لسانه من العطش فنزعت له موقها (أي خفها) فغفر لها به».
وعن عبد الرحمن بن عبدالله عن أبيه رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر. فرأينا حمرة (طائر) معها فرخان لها فأخذناهما. فجاءت الحمرة تعرّش (أو تفرش)- (أي ترخي جناحيها وتدنو من الأرض) فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من فجع هذه بولدها؟ ردوا ولدها إليها. ورأى قرية نمل قد أحرقناها فقال: من أحرق هذه؟ قلنا: نحن. قال: إنه لا ينبغي أن يعذب بالنار إلا رب النار».. أخرجه أبو داود..
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قرصت نملة نبياً من الأنبياء. فأمر بقرية النمل فحرقت. فأوحى الله تعالى إليه: أن قرصتك نملة أحرقت أمة من الأمم تسبح؟».. أخرجه الشيخان.
وهكذا علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه هدى القرآن. ليتذوقوا رحمة الله من خلال مزاولتهم للرحمة.. أليس أنهم إنما يتراحمون برحمة واحدة من رحمات الله الكثيرة؟!
وبعد فإن استقرار هذه الحقيقة في تصور المسلم لينشئ في حسه وفي حياته وفي خلقه آثاراً عميقة؛ يصعب كذلك تقصيها؛ ولا بد من الاكتفاء بالإشارة السريعة إليها، كي لا نخرج من نطاق الظلال القرآنية، إلى قضية مستقلة!
إن الشعور بهذه الحقيقة على هذا النحو ليسكب في قلب المؤمن الطمأنينة إلى ربه- حتى وهو يمر بفترات الابتلاء بالضراء، التي تزيغ فيها القلوب والأبصار- فهو يستيقن أن الرحمة وراء كل لمحة، وكل حالة، وكل وضع؛ وأن ربه لا يعرضه للابتلاء لأنه تخلى عنه، أو طرده من رحمته. فإن الله لا يطرد من رحمته أحداً يرجوها. إنما يطرد الناس أنفسهم من هذه الرحمة حين يكفرون بالله ويرفضون رحمته ويبعدون عنها!
وهذه الطمأنينة إلى رحمة الله تملأ القلب بالثبات والصبر، وبالرجاء والأمل، وبالهدوء والراحة.. فهو في كنف ودود، يستروح ظلاله، ما دام لا يُبعد عنه في الشرود!
والشعور بهذه الحقيقة على هذا النحو يستجيش في حس المؤمن الحياء من الله. فإن الطمع في المغفرة والرحمة لا يجرّئ على المعصية- كما يتوهم البعض- إنما يستجيش الحياء من الله الغفور الرحيم. والقلب الذي تجرئه الرحمة على المعصية هو قلب لم يتذوق حلاوة الإيمان الحقيقية! لذلك لا أستطيع أن أفهم أو أسلم ما يجري على ألسنة بعض المتصوفة من أنهم يلجون في الذنب ليتذوقوا حلاوة الحلم، أو المغفرة، أو الرحمة.. إن هذا ليس منطق الفطرة السوية في مقابلة الرحمة الإلهية!
كذلك فإن الشعور بهذه الحقيقة على هذا النحو يؤثر تأثيراً قوياً في خلق المؤمن، وهو يعلم أنه مأمور أن يتخلق بأخلاق الله- سبحانه- وهو يرى نفسه مغموراً برحمة الله مع تقصيره وذنبه وخطئه- فيعلمه ذلك كله كيف يرحم، وكيف يعفو، وكيف يغفر.. كما رأينا في تعليم الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه؛ مستمداً تعليمه لهم من هذه الحقيقة الكبيرة..
ومن مواضع رحمة الله التي تقررها الآية الكريمة: أن الله كتب ليجمعنهم إلى يوم القيامة:
{قل لمن ما في السماوات والأرض؟ قل: لله. كتب على نفسه الرحمة. ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه..}..
فمن هذه الرحمة المكتوبة، ذلك الجمع الذي لا ريب فيه.. ذلك الجمع الذي يشي بما وراءه من عناية الله- سبحانه- بعباده من الناس؛ فقد خلقهم لأمر؛ واستخلفهم في هذه الأرض لغاية، ولم يخلقهم عبثاً، ولم يتركهم سدى.
ولكن يجمعهم إلى يوم القيامة- فهذا اليوم هو نهاية المطاف الذي يفيئون إليه كما يفيء الراحل إلى وجهته- فيعطيهم جزاء كدحهم إليه، وينقدهم أجر عملهم في دار الدنيا. فلا يضيع عليهم كدح ولا أجر؛ إنما يوفون أجورهم يوم القيامة.. وفي هذه العناية تتجلى الرحمة في مظهر من مظاهرها.. كما أن ما يتجلى من فضل الله في جزاء السيئة بمثلها، والحسنة بعشرة أمثالها، والإضعاف لمن يشاء، والتجاوز عما يشاء لمن يشاء.. كل أولئك من مظاهر الرحمة التي تتجلى في هذا الجمع أيضاً.
ولقد كان العرب في جاهليتهم- قبل أن يمن الله عليهم بهذا الدين ويرفعهم إلى مستواه الكريم- يكذبون بيوم القيامة- شأنهم في هذا شأن أهل الجاهلية العلمية الحديثة!!! لذلك جاء التعبير في هذه الصيغة المؤكدة بشتى التوكيدات، لمواجهة ذلك التكذيب:
{ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه}..
ولن يخسر في هذا اليوم إلا الذين لم يؤمنوا في الدنيا.. وهؤلاء لن يخسروا شيئاً ويكسبوا شيئاً.. هؤلاء خسروا كل شيء.. فقد خسروا أنفسهم كلها، فلم يعودوا يملكون أن يكسبوا شيئاً. أليس أن الإنسان إنما يكسب لنفسه؟ فإذا خسر نفسه ذاتها فماذا يكسب؟ ولمن يكسب؟!
{الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون}..
لقد خسروا أنفسهم وفقدوها؛ فلم تعد لهم نفس تؤمن!.. هو تعبير دقيق عن حالة واقعة.. إن الذين لا يؤمنون بهذا الدين- مع عمق ندائه وإيحائه للفطرة بموحيات الإيمان ودلائله- هؤلاء لا بد أن يكونوا قد فقدوا قبل ذلك فطرتهم! لا بد أن تكون أجهزة الاستقبال والاستجابة الفطرية في كيانهم معطلة مخربة؛ أو محجوبة مغلفة. فهم في هذه الحالة قد خسروا أنفسهم ذاتها، بفقدانهم أجهزة الاستقبال والاستجابة الفطرية الحية في كيانها، ومن ثم فهم لا يؤمنون.. إذ أنهم لم يعودوا يملكون أنفسهم التي بها يؤمنون.. وهذا هو التفسير العميق لعدم إيمانهم مع توافر دلائل الإيمان وموحياته من حولهم.. وهذا هو الذي يحدد مصيرهم في ذلك اليوم. وهو الخسارة الكبرى المترتبة على خسارتهم من قبل لنفوسهم!
بعد ذلك يمضي السياق يستقصي الخلائق في الزمان- كما استقصاها في الآية السابقة في المكان- ليقرر تفرد الله- سبحانه- بملكيتها؛ وعلمه- سبحانه- وسمعه المحيطين بها:
{وله ما سكن في الليل والنهار، وهو السميع العليم}..
وأقرب تأويل لقوله: {ما سكن} أنه من السكنى- كما ذكر الزمخشري في الكشاف- وهو بهذا يعني كل ما اتخذ الليل والنهار سكناً؛ فهو يعني جميع الخلائق؛ ويقرر ملكيتها لله وحده. كما قرر من قبل ملكية الخلائق كلها له سبحانه.
غير أنه في الآية الأولى: {قل: لمن ما في السماوات والأرض؟ قل: لله} قد استقصى الخلائق من ناحية المكان. وفي هذه الآية الثانية: {وله ما سكن في الليل والنهار}.. قد استقصى الخلائق من ناحية الزمان.. ومثله معروف في التعبير القرآني حين يتجه إلى الاستقصاء.. وهذا هو التأويل الذي نطمئن إليه في الآيتين من بين شتى التأويلات.
والتعقيب بصفتي السمع والعلم يفيد الإحاطة بهذه الخلائق، وبكل ما يقال عنها كذلك من مقولات المشركين الذي يواجههم هذا النص.. ولقد كانوا مع إقرارهم بوحدانية الخالق المالك، يجعلون لأربابهم المزعومة جزءاً من الثمار ومن الأنعام ومن الأولاد- كما سيجيء في نهاية السورة- فهو يأخذ عليهم الإقرار هنا بملكية كل شيء؛ ليواجههم بها فيما يجعلونه للشركاء بغير إذن من الله. كما أنه يمهد بتقرير هذه الملكية الخالصة لما سيلي في هذه الفقرة من ولاية لله وحده، بما أنه هو المالك المتفرد بملكية كل شيء. في كل مكان وفي كل زمان، الذي يحيط سمعه وعلمه بكل شيء، وبكل ما يقال عن كل شيء كذلك!
والآن، وقد تقرر أن الله وحده هو الخالق، وأن الله وحده هو المالك.. يجيء الاستنكار العنيف للاستنصار بغير الله، والعبودية لغير الله، والولاء لغير الله. ويتقرر أن هذا مناقض لحقيقة الإسلام لله، وأنه هو الشرك الذي لا يجتمع مع الإسلام. وتذكر من صفات الله سبحانه: أنه فاطر السماوات والأرض، وأنه الرازق المطعم، وأنه الضار النافع، وأنه القادر القاهر. كما يذكر العذاب المخوف المرهوب.. فتجلل الموقف كله ظلال الجلال والرهبة، في إيقاع مدوٍّ عميق:
{قل: أغير الله أتخذ ولياً، فاطر السماوات والأرض، وهو يطعم ولا يطعم؟ قل: إني أمرت أن أكون أول من أسلم، ولا تكونن من المشركين. قل: إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم. من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه، وذلك الفوز المبين. وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو، وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير. وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير}..
إن هذه القضية.. قضية اتخاذ الله وحده ولياً. بكل معاني كلمة (الولي). أي اتخاذه وحده رباً ومولى معبوداً يدين له العبد بالعبودية ممثلة في الخضوع لحاكميته وحده؛ ويدين له بالعبادة فيقدم له شعائرها وحده. واتخاذه وحده ناصراً يستنصر به ويعتمد عليه، ويتوجه إليه في الملمات.. إن هذه القضية هي قضية العقيدة في صميمها. فإما إخلاص الولاء لله- بهذه المعاني كلها- فهو الإسلام. وإما إشراك غيره معه في أي منها، فهو الشرك الذي لا يجتمع في قلب واحد هو والإسلام!
وفي هذه الآيات تقرر هذه الحقيقة بأقوى عبارة وأعمق إيقاع:
{قل: أغير الله أتخذ ولياً، فاطر السماوات والأرض، وهو يطعم ولا يطعم؟ قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم، ولا تكونن من المشركين}.
إنه منطق الفطرة القوي العميق.. لمن يكون الولاء ولمن يتمحض؟ لمن إن لم يكن لفاطر السماوات والأرض الذي خلقهما وأنشأهما؟ لمن إن لم يكن لرازق من في السماوات والأرض الذي يطعم ولا يطلب طعاماً؟
{قل: أغير الله أتخذ ولياً}.. وهذه صفاته سبحانه.. أي منطق يسمح بأن يتخذ غير الله ولياً؟ إن كان يتولاه لينصره ويعينه، فالله هو فاطر السماوات والأرض، فله السلطان في السماوات والأرض. وإن كان يتولاه ليرزقه ويطعمه، فالله هو الرازق المطعم لمن في السماوات ومن في الأرض. ففيم الولاء لغير صاحب السلطان الرزاق؟
ثم.. {قل: إني أمرت أن أكون أول من أسلم ولا تكونن من المشركين}.. والإسلام وعدم الشرك معناهما المتعين ألا أتخذ غير الله ولياً. فاتخاذ غير الله ولياً- بأي معنى- هو الشرك. ولن يكون الشرك إسلاماً..
قضية واحدة محددة، لا تقبل ليناً ولا تميعاً.. إما إفراد الله سبحانه بالتوجه والتلقي والطاعة والخضوع والعبادة والاستعانة؛ والإقرار له وحده بالحاكمية في كل أمر من هذه الأمور ورفض إشراك غيره معه فيها؛ وولاء القلب والعمل، في الشعيرة والشريعة له وحده بلا شريك.. إما هذا كله فهو الإسلام.. وإما إشراك أحد من عباده معه في شيء من هذا كله فهو الشرك. الذي لا يجتمع في قلب واحد مع الإسلام.
لقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعلن هذا الاستنكار في وجه المشركين الذين كانوا يدعونه إلى الملاينة والمداهنة؛ ليجعل لآلهتهم مكاناً في دينه، مقابل أن يدخلوا معه في هذا الدين. وليترك لهم بعض خصائص الألوهية يزاولونها إبقاء على مكانتهم وكبريائهم ومصالحهم،.. وأولها تقاليد التحريم والتحليل.. في مقابل أن يكفوا عن معارضته، وأن يجعلوه رئيساً فيهم؛ ويجمعوا له من مالهم، ويزوجوه أجمل بناتهم!
لقد كانوا يرفعون يداً للإيذاء والحرب والتنكيل، ويمدون يداً بالإغراء والمصالحة واللين..
وفي وجه هذه المحاولة المزدوجة أُمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقذف بهذا الاستنكار العنيف، وبهذا الحسم الصريح، وبهذا التقرير الذي لا يدع مجالاً للتمييع.
وأمر كذلك أن يقذف في قلوبهم بالرعب والترويع؛ في الوقت الذي يعلن فيه تصوره لجدية الأمر والتكليف ولخوفه هو من عذاب ربه، إن عصاه فيما أمر به من الإسلام والتوحيد:
{قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم. من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه، وذلك الفوز المبين}..
إنه تصوير لحقيقة مشاعر الرسول صلى الله عليه وسلم تجاه أمر ربه له؛ وتجسيم لخوفه من عذابه. العذاب الذي يعتبر مجرد صرفه عن العبد رحمة من الله وفوزاً مبيناً. ولكنه في الوقت ذاته حملة مزلزلة على قلوب المشركين في ذلك الزمان، وقلوب المشركين بالله في كل زمان.
حملة مزلزلة تصور العذاب في ذلك اليوم العظيم؛ يطلب الفريسة، ويحلق عليها، ويهجم ليأخذها. فلا تصرفه عنها إلا القدرة القادرة التي تأخذ بخطامه فتلويه عنها! وإن أنفاس القاريء لهذا التصوير لتحتبس- وهو يتمثل المشهد- في انتظار هذه اللقطة الأخيرة!
ثم إنه لماذا يتخذ غير الله ولياً ويعرض نفسه للشرك الذي نهى عنه وللمخالفة عن الإسلام الذي أمر به، ولما يعقب المعصية من هذا العذاب الهائل الرعيب؟.. ألعل ذلك رجاء جلب نفع أو دفع ضر في هذه الحياة الدنيا؟ رجاء نصرة الناس له في الضراء؛ ورجاء نفع الناس له بالسراء؟.. إن هذا كله بيد الله؛ وله القدرة المطلقة في عالم الأسباب؛ وله القهر كذلك على العباد؛ وعنده الحكمة والخبرة في المنع والعطاء:
{وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو، وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير. وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير}..
إنه تتبع هواجس النفس ووساوس الصدر؛ وتتبع مكامن الرغائب والمخافات، ومطارح الظنون والشبهات وتجلية هذا كله بنور العقيدة، وفرقان الإيمان، ووضوح التصور، وصدق المعرفة بحقيقة الألوهية. ذلك لخطورة القضية التي يعالجها السياق القرآني في هذا الموضع، وفي جملة هذا القرآن:
وأخيراً تجيء قمة المد في هذه الموجة؛ ويجيء الإيقاع المدوي العميق؛ في موقف الإشهاد والإنذار والمفاصلة والتبرؤ من المشاركة في الشرك.. كل ذلك في رنة عالية، وفي حسم رهيب:
{قل: أي شيء أكبر شهادة؟ قل الله. شهيد بيني وبينكم، وأوحي إليَّ هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ، أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى؟ قل: لا أشهد، قل: إنما هو إله واحد، وإنني بريء مما تشركون}..
إن تتابع المقاطع والإيقاعات في الآية الواحدة عجيب؛ وإن هذا التتابع ليرسم الموقف لحظة لحظة، ومشهداً مشهداً، ويكاد ينطق بملامح الوجوه فيه وخلجات الصدور..
فها هو ذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤمر من ربه هذا الأمر.. ثم ها هو ذا يواجه المشركين الذين يتخذون من دون الله أولياء؛ يجعلون لهم بعض خصائص الألوهية مع الله؛ ويدعون رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقرهم على هذا الذي هم فيه ليدخلوا هم فيما جاءهم به! كأن ذلك يمكن أن يكون! وكأنه يمكن أن يجتمع الإسلام والشرك في قلب واحد على هذا النحو الذي كانوا يتصورونه؛ والذي لا يزال يتصوره ناس في هذا الزمان، من أنه يمكن أن يكون الإنسان مسلماً لله؛ بينما هو يتلقى من غير الله في شؤون الحياة؛ وبينما هو يخضع لغير الله ويستنصر بغير الله، ويتولى غير الله!
ها هو ذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يواجه هؤلاء المشركين، ليبين لهم مفرق الطريق بين دينه ودينهم، وبين توحيده وشركهم، وبين إسلامه وجاهليتهم.
وليقرر لهم: أنه لا موضع للقاء بينه وبينهم، إلا أن يتخلصوا هم من دينهم ويدخلوا في دينه. وأنه لا وجه للمصالحة في هذا الأمر؛ لأنه يفترق معهم في أول الطريق!
وها هو ذا يبدأ معهم مشهد الإشهاد العلني المفتوح المكشوف:
{قل: أي شيء أكبر شهادة؟}..
أيّ شاهد في هذا الوجود كله هو أكبر شهادة؟ أي شاهد تعلو شهادته كل شهادة؟ أي شاهد تحسم شهادته في القضية فلا يبقى بعد شهادته شهادة؟
وللتعميم المطلق، حتى لا يبقى في الوجود كله شيء لا يستقصى وزنه في مقام الشهادة: يكون السؤال: {أي شيء أكبر شهادة؟}.
وكما يؤمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسؤال، فهو يؤمر كذلك بالجواب. ذلك أنه لا جواب غيره باعتراف المخاطبين أنفسهم. ولا جواب غيره في حقيقة الأمر والواقع:
{قل: الله}..
نعم! فالله- سبحانه وتعالى- هو أكبر شهادة.. هو الذي يقص الحق وهو خير الفاصلين.. هو الذي لا شهادة بعد شهادته، ولا قول بعد قوله. فإذا قال فقد انتهى القول، وقد قضي الأمر.
فإذا أعلن هذه الحقيقة: حقيقة أن الله سبحانه هو أكبر شهادة، أعلن لهم أنه- سبحانه- هو الشهيد بينه وبينهم في القضية:
{شهيد بيني وبينكم}..
على تقدير: هو شهيد بيني وبينكم، فهذا التقطيع في العبارة هو الأنسب في جو المشهد: وهو أولى من الوصل على تقدير: {قل الله شهيد بيني وبينكم}.
فإذا تقرر المبدأ: مبدأ تحكيم الله سبحانه في القضية، أعلن إليهم أن شهادة الله سبحانه، تضمنها هذا القرآن، الذي أوحاه إليه لينذرهم به؛ وينذر به كل من يبلغه في حياته صلى الله عليه وسلم- أو من بعد. فهو حجة عليهم وعلى من يبلغه غيرهم؛ لأنه يتضمن شهادة الله في هذه القضية الأساسية؛ التي تقوم عليها الدنيا والآخرة، ويقوم عليها الوجود كله والوجود الإنساني ضمناً:
{وأوحي إليَّ هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ}..
فكل من بلغه هذا القرآن من الناس، بلغة يفهمها، ويحصل منها محتواه، فقد قامت عليه الحجة به، وبلغه الإنذار، وحق عليه العذاب، إن كذب بعد البلاغ.. (فأما من يحول عدم فهمه للغة القرآن دون فهمه لفحواه، فلا تقوم عليه الحجة به؛ ويبقى إثمه على أهل هذا الدين الذين لم يبلغوه بلغته التي يفهم بها مضمون هذا الشهادة.. هذا إذا كان مضمون القرآن لم يترجم إلى لغته)..
فإذا أعلن إليهم أن شهادة الله- سبحانه- متضمنة في هذا القرآن، أعلن إليهم مضمون هذه الشهادة في صورة التحدي والاستنكار لشهادتهم هم، المختلفة في أساسها عن شهادة الله سبحانه.
وعالنهم بأنه ينكر شهادتهم هذه ويرفضها؛ وأنه يعلن غيرها ويقرر عكسها ويشهد لربه بالوحدانية المطلقة والألوهية المتفردة؛ وأنه يفاصلهم على هذا عند مفرق الطريق؛ وأنه يتبرأ من شركهم في صيغة التشديد والتوكيد:
{أئنكم لتشهدون أن مع الله ألهة أخرى؟ قل: لا أشهد قل إنما هو إله واحد، وإنني بريء مما تشركون}..
والنصوص القرآنية بمقاطعها هذه، وبإيقاعاتها هذه، تهز القلوب بما لا يملك البيان البشري أن يفعل. فلا أريد أن أوقف تدفقها وانسكابها في القلب بأي تعليق.
ولكني أريد أن أتحدث عن القضية التي تضمنها هذا المقطع، وجرت بها هذه الموجة.. إن هذه القضية التي عرضها السياق القرآني في هذه الآيات.. قضية الولاء والتوحيد والمفاصلة.. هي قضية هذه العقيدة؛ وهي الحقيقية الكبرى فيها. وإن العصبة المؤمنة اليوم لخليقة بأن تقف أمام هذا الدرس الرباني فيها وقفة طويلة..
إن هذه العصبة تواجه اليوم من الجاهلية الشاملة في الأرض، نفس ما كانت تواجهه العصبة التي تنزلت عليها هذه الآيات، لتحدد على ضوئها موقفها، ولتسير على هذا الضوء في طريقها؛ وتحتاج- من ثم- أن تقف وقفة طويلة أمام هذه الآيات، لترسم طريقها على هداها.
لقد استدار الزمان كهيئته يوم جاء هذا الدين إلى البشرية؛ وعادت البشرية إلى مثل الموقف الذي كانت فيه يوم تنزل هذا القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويوم جاءها الإسلام مبنياً على قاعدته الكبرى: شهادة أن لا إله إلا الله.. شهادة أن لا إله إلا الله بمعناها الذي عبر عنه ربعي بن عامر رسول قائد المسلمين إلى رستم قائد الفرس، وهو يسأله: ما الذي جاء بكم؟ فيقول: الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.. وهو يعلم أن رستم وقومه لا يعبدون كسرى بوصفه إلهاً خالقاً للكون؛ ولا يقدمون له شعائر العبادة المعروفة؛ ولكنهم إنما يتلقون منه الشرائع، فيعبدونه بهذا المعنى الذي يناقض الإسلام وينفيه؛ فأخبره أن الله ابتعثهم ليخرجوا الناس من الأنظمة والأوضاع التي يعبد العباد فيها العباد، ويقرون لهم بخصائص الألوهية- وهي الحاكمية والتشريع والخضوع لهذه الحاكمية والطاعة لهذا التشريع- (وهي الأديان).. إلى عبادة الله وحده وإلى عدل الإسلام.
لقد استدار الزمان كهيئته يوم جاء هذا الدين إلى البشرية بلا إله إلا الله. فقد ارتدت البشرية إلى عبادة العباد، وإلى جور الأديان؛ ونكصت عن لا إله إلا الله، وإن ظل فريق منها يردد على المآذن: لا إله إلا الله؛ دون أن يدرك مدلولها، ودون أن يعني هذا المدلول وهو يرددها، ودون أن يرفض شرعية الحاكمية التي يدعيها العباد لأنفسهم- وهي مرادف الألوهية- سواء ادعوها كأفراد، أو كتشكيلات تشريعية، أو كشعوب.
فالأفراد، كالتشكيلات، كالشعوب، ليست آلهة، فليس لها إذن حق الحاكمية.. إلا أن البشرية عادت إلى الجاهلية، وارتدت عن لا إله إلا الله. فأعطت لهؤلاء العباد خصائص الألوهية. ولم تعد توحد الله، وتخلص له الولاء..
البشرية بجملتها، بما فيها أولئك الذين يرددون على المآذن في مشارق الأرض ومغاربها كلمات: لا إله إلا الله بلا مدلول ولا واقع.. وهؤلاء أثقل إثماً وأشد عذاباً يوم القيامة، لأنهم ارتدوا إلى عبادة العباد- من بعدما تبين لهم الهدى- ومن بعد أن كانوا في دين الله!
فما أحوج العصبة المسلمة اليوم أن تقف طويلاً أمام هذه الآيات البينات!
ما أحوجها أن تقف أمام آية الولاء:
{قل: أغير الله أتخذ ولياً فاطر السماوات والأرض، وهو يطعم ولا يطعم؟ قل: إني أمرت أن أكون أول من أسلم، ولا تكونن من المشركين}..
ذلك لتعلم أن اتخاذ غير الله ولياً- بكل معاني الولي.. وهي الخضوع والطاعة، والاستنصار والاستعانة.. يتعارض مع الإسلام، لأنه هو الشرك الذي جاء الإسلام ليخرج منه الناس.. ولتعلم أن أول ما يتمثل فيه الولاء لغير الله هو تقبل حاكمية غير الله في الضمير أو في الحياة.. الأمر الذي تزاوله البشرية كلها بدون استثناء. ولتعمل أنها تستهدف اليوم إخراج الناس جميعاً من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده؛ وأنها تواجه جاهلية كالتي واجهها رسول الله صلى الله عليه وسلم والجماعة المسلمة حين تلقي هذه الآيات..
وما أحوجها أن تستصحب في مواجهتها للجاهلية تلك الحقائق والمشاعر التي تسكبها في القلب المؤمن الآيات التالية:
{قل: إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم. من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه، وذلك الفوز المبين. وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو، وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير. وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير}..
فما أحوج من يواجه الجاهلية بطاغوتها وجبروتها، وبإعراضها وعنادها، وبالتوائها وكيدها، وبفسادها وانحلالها.. ما أحوج من يواجه هذا الشر كله، أن يستصحب في قلبه هذه الحقائق وهذا المشاعر.. مخافة المعصية والولاء لغير الله. ومخافة العذاب الرعيب الذي يترقب العصاة.. واليقين بأن الضار والنافع هو الله. وأن الله هو القاهر فوق عباده فلا معقب على حكمه ولا راد لما قضاه. إن قلباً لا يستصحب هذه الحقائق وهذه المشاعر لن يقوى على تكاليف إنشاء الإسلام من جديد في وجه الجاهلية الطاغية.. وهي تكاليف هائلة تنوء بها الجبال!
ثم ما أحوج العصبة المؤمنة- بعد أن تستيقن حقيقة مهمتها في الأرض اليوم؛ وبعد أن تستوضح حقيقة العقيدة التي تدعو إليها ومقتضياتها من إفراد الله سبحانه بالولاء بكل مدلولاته؛ وبعد أن تستصحب معها في مهمتها الشاقة تلك الحقائق والمشاعر.
ما أحوجها بعد ذلك كله إلى موقف الإشهاد والقطع والمفاصلة والتبرؤ من الشرك الذي تزاوله الجاهلية البشرية اليوم كما كانت تزاوله جاهلية البشرية الأولى. وأن تقول ما أُمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقوله؛ وأن تقذف في وجه الجاهلية، بما قذف به في وجهها الرسول الكريم، تنفيذاً لأمر ربه العظيم:
{قل: أي شيء أكبر شهادة؟ قل: الله، شهيد بيني وبينكم، وأوحي إليَّ هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ. أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى؟ قل: لا أشهد. قل: إنما هو إله واحد، وإنني بريء مما تشركون}..
إنه لا بد أن تقف العصبة المسلمة في الأرض، من الجاهلية التي تغمر الأرض، هذا الموقف. لا بد أن تقذف في وجهها بكلمة الحق هذه عالية مدوية، قاطعة فاصلة، مزلزلة رهيبة.. ثم تتجه إلى الله تعلم أنه على كل شيء قدير، وأنه هو القاهر فوق عباده. وأن هؤلاء العباد- بما فيهم الطواغيت المتجبرون- أضعف من الذباب، وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه! وأنهم ليسوا بضارين من أحد إلا بإذن الله؛ وليسوا بنافعين أحداً إلا بإذن الله، وأن الله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
ولا بد أن تستيقن العصبة المسلمة كذلك أنها لن تنصر ولن يتحقق لها وعد الله بالتمكين في الأرض، قبل أن تفاصل الجاهلية على الحق عند مفترق الطريق. وقبل أن تعلن كلمة الحق في وجه الطاغوت، وقبل أن تشهد على الجاهلية هذا الإشهاد، وتنذرها هذه النذارة، وتعلنها هذا الإعلان، وتفاصلها هذه المفاصلة، وتتبرأ منها هذه البراءة..
إن هذا القرآن لم يأت لمواجهة موقف تاريخي؛ إنما جاء منهجاً مطلقاً خارجاً عن قيود الزمان والمكان. منهجاً تتخذه الجماعة المسلمة حيثما كانت في مثل الموقف الذي تنزل فيه هذا القرآن. وهي اليوم في مثل هذا الموقف تماماً؛ وقد استدار الزمان كهيئته يوم جاء هذا القرآن لينشئ الإسلام في الأرض إنشاء.. فليكن اليقين الجازم بحقيقة هذا الدين. والشعور الواضح بحقيقة قدرة الله وقهره. والمفاصلة الحاسمة مع الباطل وأهله.. لتكن هذه عدة الجماعة المسلمة.. والله خير حافظاً وهو أرحم الراحمين..




البحث


كلمات متتالية كلمات متفرقة




موضوعات القرآن
  • الإيمان
  • العلم
  • العبادات
  • أحكام الأسرة
  • المعاملات
  • الحدود والجنايات
  • الجهاد
  • الأطعمة والأشربة
  • أحكام الجنائز
  • الأخلاق
  • تكريم الله للإنسان
  • القصص والتاريخ
  • الأمثال