سورة الأنعام / الآية رقم 51 / تفسير في ظلال القرآن / أحمد بن علي العجمي / القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
القرآن الكريم
طريقة عرض الآيات
صور
نصوص

فَقُطِعَ دَابِرُ القَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُم مَّنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِهِ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ القَوْمُ الظَّالِمُونَ وَمَا نُرْسِلُ المُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ العَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مَنَ الظَّالِمِينَ

الأنعامالأنعامالأنعامالأنعامالأنعامالأنعامالأنعامالأنعامالأنعامالأنعامالأنعامالأنعامالأنعامالأنعامالأنعام




تلاوة آية تلاوة سورة الشرح الصوتي

التفسير


هذه الموجة بقية في مواجهة المشركين بحقيقة الرسالة، وطبيعة الرسول؛ بمناسبة طلبهم للخوارق- التي ذكرنا نماذج منها في الفقرة السابقة في هذا السياق- وبقية في تصحيح التصورات الجاهلية- والبشرية بصفة عامة- عن الرسالات والرسل؛ بعدما عبثت بهذه التصورات جاهليات العرب وغيرهم من الأمم حولهم؛ فابتعدت بها عن حقيقة الرسالة وحقيقة النبوة، وحقيقة الوحي، وحقيقة الرسول؛ ودخلت بها في خرافات وأساطير وأوهام وأضاليل؛ حتى اختلطت النبوة بالسحر والكهانة، واختلط الوحي بالجن والجنون أيضاً! وأصبح يطلب من النبي أن يتنبأ بالغيب؛ وأن يأتي بالخوارق؛ وأن يصنع ما عهد الناس أن يصنعه صاحب الجن والساحر!.. ثم جاءت العقيدة الإسلامية لتقذف بالحق على الباطل فتدمغه فإذا هو زاهق، ولترد إلى التصور الإيماني وضوحه وبساطته وصدقه وواقعيته، ولتخلص صورة النبوة وصورة النبي من تلك الخرافات والأساطير والأوهام والأضاليل، التي شاعت في الجاهليات كلها. وكان أقربها إلى مشركي العرب جاهليات أهل الكتاب من اليهود والنصارى على اختلاف الملل والنحل بينهم، وكلها تشترك في تشويه صورة النبوة وصورة النبي أقبح تشويه!
وبعد بيان حقيقة الرسالة وحقيقة الرسول، وتقديمها للناس مبرأة من كل ما علق بصورة النبوة وصورة النبي من أوهام وأضاليل. يقدم القرآن عقيدته للناس مجردة من كل إغراء خارج عن طبيعتها، ومن كل زينة زائدة عن حقيقتها.. فالرسول الذي يقدمها للناس بشر، لا يملك خزائن الله، ولا يعلم الغيب، ولا يقول لهم: إني ملك.. وهو لا يتلقى إلا من ربه، ولا يتبع إلا ما يوحى إليه منه. والذين يقبلون دعوته هم أكرم البشر عند الله، وعليه أن يلزمهم، وأن يهش لهم، وأن يبلغهم ما كتبه الله لهم على نفسه من الرحمة والمغفرة. كما أن عليه إنذار الذين تتحرك ضمائرهم من خشية الآخرة؛ ليصلوا إلى مرتبة التقوى، وفي هذا وذلك تنحصر وظيفته، كما أنه في البشرية وفي تلقي الوحي تنحصر حقيقته. فتصح في التصورات حقيقته ووظيفته جميعاً.. ثم إنه بهذا التصحيح، وبهذا الإنذار، تستبين سبيل المجرمين، عند مفرق الطريق، ويتضح الحق والباطل، وينكشف الغموض والوهم حول طبيعة الرسول وحول حقيقة الرسالة، كما ينكشف الغموض حول حقيقة الهدى وحقيقة الضلال، وتتم المفاصلة بين المؤمنين وغير المؤمنين في نور وفي يقين.
وفي ثنايا الإفصاح عن هذه الحقائق يعرض السياق جوانب من حقيقة الألوهية، وعلاقة الرسول بها، وعلاقة الناس جميعاً- الطائعين منهم والعصاة- ويتحدث عن طبيعة الهدى وطبيعة الضلال عن هذه الحقيقة. فالهدى إليها بصر والضلال عنها عمى. والله كتب على نفسه الرحمة متمثلة في التوبة على عباده والمغفرة لما يرتكبونه من المعاصي في جهالة متى تأبوا منها وأصلحوا بعدها.
وهو يريد أن تستبين سبيل المجرمين، فيؤمن من يؤمن عن بينة، ويضل من يضل عن بينة، ويتخذ الناس مواقفهم في وضوح لا تغشيه الأوهام والظنون..
{قل: لا أقول لكم: عندي خزائن الله، ولا أعلم الغيب، ولا أقول لكم: إني ملك. إن أتبع إلا ما يوحى إليّ قل: هل يستوي الأعمى والبصير؟ أفلا تتفكرون}..
لقد كان المعاندون من قريش يطلبون أن يأتيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بآية من الخوارق يصدقونه بها- وهم كانوا كما أسلفنا يعلمون صدقه ولا يشكون فيه- وتارة كانوا يطلبون أن تكون هذه الآية تحويل الصفا والمروة ذهباً! وتارة تكون إبعادهما عن مكة ليصبح مكانهما خصباً مخضراً بالزروع والثمار! وتارة تكون إنباءهم بما سيقع لهم من أحداث مغيبة! وتارة تكون طلب إنزال ملك عليه! وتارة تكون طلب كتاب مكتوب في قرطاس يرونه يتنزل عليه من السماء.. إلى آخر هذه المطالب التي يوارون وراءها تعنتهم وعنادهم!
ولكن هذه المطالب كلها إنما كانوا يصوغون فكرتها من تلك الأوهام والأساطير التي أحاطت بصورة النبوة وصورة النبي في الجاهليات من حولهم، وأقربها إليهم أوهام أهل الكتاب وأساطيرهم حول النبوة، بعدما انحرفوا عما جاءتهم به رسلهم من الحق الواضح في هذه الأمور..
ولقد شاعت في الجاهليات المتنوعة صور من النبوءات الزائفة، يدعيها متنبئون ويصدقها مخدوعون.. ومن بينها نبوءات السحر والكهانة والتنجيم والجنون! حيث يدعي المتنبئون قدرتهم على العلم بالغيب، والاتصال بالجن والأرواح، وتسخير نواميس الطبيعة بالرقى والتعاويذ، أو بالدعوات والصلوات، أو بغيرها من الوسائل والأساليب. وتتفق كلها في الوهم والضلالة، وتختلف بعد ذلك في النوع والشكل والمراسم والأساليب.
فنبوءة السحر يغلب عليها أنها موكلة بالأرواح الخبيثة تسخرها للاطلاع على المجهول أو السيطرة على الحوادث والأشياء. ونبوءة الكهانة يغلب عليها أنها موكلة بالأرباب! لا تطيع الكاهن، ولكنها تلبي دعواته وصلواته وتفتح لها مغالق المجهول في يقظته أو منامه، وترشده بالعلامات والأحلام، ولا تلبي سائر الدعوات والصلوات! ولكنهما- نبوءة السحر ونبوءة الكهانة- تخالفان نبوة الجذب والجنون المقدس. لأن الساحر والكاهن يدريان بما يطلبان، ويريدان قصداً ما يطلبانه بالعزائم والصلوات، ولكن المصاب بالجذب أو الجنون المقدس مغلوب على أمره، ينطلق لسانه بالعبارات المبهمة وهو لا يعنيها، ولعله لايعيها. ويكثر بين الأمم التي تشيع فيها نبوة الجذب أن يكون مع المجذوب مفسر يدعي العلم بمغزى كلامه، ولحن رموزه وإشاراته. وقد كانوا في اليونان يسمون المجذوب مانتي Manti ويسمون المفسر: بروفيت Prophet أى المتكلم بالنيابة عن غيره. ومن هذه الكلمة نقل الأوربيون كلمة النبوة بجميع معانيها. وقلما يتفق الكهنة والمجذوبون، إلا أن يكون الكاهن متولياً للتفسير والتعبير عن مقاصد المجذوب، ومضامين رموزه وإشاراته.
ويحدث في أكثر الأحيان أن يختلفا ويتنازعا لأنهما مختلفان بوظيفتهما الاجتماعية مختلفان بطبيعة النشأة والبيئة. فالمجذوب ثائر لا يتقيد بالمراسم والأوضاع المصطلح عليها، والكاهن محافظ يتلقى علمه الموروث في أكثر الأحيان من آبائه وأجداده. وتتوقف الكهانة على البيئة التي تنشأ فيها الهياكل والصوامع المقصودة في الأرجاء القريبة والبعيدة؛ ولا يتوقف الجذب على هذه البيئة، لأنه قد يعتري صاحبه في البرية، كما يعتريه في الحاضر المقصود من أطراف البلاد.
وقد كثر عدد الأنبياء في قبائل بني إسرائيل كثرة يفهم منها أنهم كانوا في أزمنتهم المتعاقبة يشبهون في العصور الحديثة أصحاب الأذكار، ودراويش الطرق الصوفية، لأنهم جاوزوا المئات في بعض العهود، واصطنعوا من الرياضة في جماعاتهم ما يصطنعه هؤلاء الدراويش من التوسل إلى حالة الجذب تارة بتعذيب الجسد، وتارة بالاستماع إلى آلات الطرب.
جاء في كتاب صموئيل الأول:
أن شاول أرسل لأخذ داود رسلاً.. فرأوا جماعة الأنبياء يتنبأون، وشاول واقف بينهم رئيساً عليهم. فهبط روح الله على رسل شاول، فتنبأوا هم أيضاً. وأرسل غيرهم فتنبأ هؤلاء... فخلع هو أيضاً ثيابه، وتنبأ هو أيضاً أمام صموئيل، وانتزع عارياً ذلك النهار كله وكل الليل.
وجاء في كتاب صموئيل كذلك:... أنك تصادف زمرة من الأنبياء نازلين من الأكمة، وأمامهم رباب ودف وناي وعود، وهم يتنبأون، فيحل عليهم روح الرب، فتتنبأ معهم، وتتحول إلى رجل آخر.
وكانت النبوة صناعة وراثية يتلقاها الأبناء من الآباء كما جاء في سفر الملوك الثاني: إذ قال بنو الأنبياء يا ليشع: هو ذا الموضع الذي نحن مقيمون فيه أمامك قد ضاق علينا، فلنذهب إلى الأردن.
وكانت لهم خدمة تلحق بالجيش في بعض المواضع، كما جاء في سفر الأيام الأول. حيث قيل: إن داود ورؤساء الجيش أفرزوا للخدمة بني أساف وغيرهم من المتنبئين بالعيدان والرباب والصنوج...
وهكذا حفلت الجاهليات- ومنها الجاهليات التي انحرفت عن التصور الصحيح الذي جاءت به الرسالات السماوية- بمثل هذه التصورات الباطلة عن طبيعة النبوة وطبيعة النبي. وكان الناس ينتظرون ممن يدعي النبوة مثل هذه الأمور؛ ويطالبونه بالتنبؤ بالغيب تارة؛ وبالتأثير في النواميس الكونية عن طريق الكهانة أو طريق السحر تارة.. ومن هذا المعين كانت اقتراحات المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولتصحيح هذه الأوهام كلها جاءت التقريرات المكررة في القرآن الكريم عن طبيعة الرسالة وطبيعة الرسول.. ومنها هذا التقرير:
{قل: لا أقول لكم عندي خزائن الله، ولا أعلم الغيب، ولا أقول لكم: إني ملك. إن أتبع إلا ما يوحى إليِّ.
قل: هل يستوي الأعمى والبصير؟ أفلا تتفكرون؟}..
إنه صلى الله عليه وسلم يؤمر من ربه أن يقدم لهم نفسه بشراً مجرداً من كل الأوهام التي سادت الجاهليات عن طبيعة النبي والنبوة. وأن يقدم لهم كذلك هذه العقيدة بذاتها مجردة من كل إغراء.. لا ثراء. ولا ادعاء.. إنها عقيدة يحملها رسول، لا يملك إلا هداية الله، تنير له الطريق!
ولا يتبع إلا وحي الله يعلمه ما لم يكن يعلم.. إنه لا يقعد على خزائن الله، ليغدق منها على من يتبعه، ولا يملك مفاتح الغيب ليدل أتباعه على ما هو كائن؛ ولا هو ملك كما يطلبون أن ينزل الله ملكاً.. إنما هو بشر رسول؛ وإنما هي هذه العقيدة وحدها، في صورتها الناصعة الواضحة البسيطة..
إنها العقيدة هتاف هذه الفطرة، وقوام هذه الحياة ودليل الطريق إلى الآخرة، وإلى الله. فهي مستغنية بذاتها عن كل زخرف.. من أرادها لذاتها فهو بها حقيق، وهي عنده قيمة أكبر من كل قيمة. ومن أرادها سلعة في سوق المنافع، فهو لا يدرك طبيعتها، ولا يعرف قيمتها، وهي لا تمنحه زاداً، ولا غناء..
لذلك كله يؤمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقدمها للناس هكذا، عاطلة من كل زخرف، لأنها غنية عن كل زخرف؛ وليعرف من يفيئون إلى ظلها أنهم لا يفيئون إلى خزائن مال، ولا إلى وجاهة دنيا، ولا إلى تميز على الناس بغير التقوى. إنما يفيئون إلى هداية الله وهي أكرم وأغنى.
{قل: لا أقول لكم عندي خزائن الله، ولا أعلم الغيب، ولا أقول لكم: إني ملك إنْ أتبع إلا ما يوحى إليّ}..
ثم ليعلموا أنهم حينئذ إنما يفيئون إلى النور والبصيرة، ويخرجون من الظلام والعماء:
{قل: هل يستوي الأعمى والبصير؟ أفلا تتفكرون؟}..
ثم.. إن اتباع الوحي وحده هداية وبصر، والمتروك بغير هذا الهادي متروك أعمى.. هذا ما تقرره هذه الآية في وضوح وصرامة.. فما شأن العقل البشري في هذا المجال؟
سؤال جوابه في التصور الإسلامي واضح بسيط.. إن هذا العقل الذي وهبه الله للإنسان قادر على تلقي ذلك الوحي، وإدراك مدلولاته.. وهذه وظيفته.. ثم هذه هي فرصته في النور والهداية؛ وفي الانضباط بهذا الضابط الصحيح الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
فأما حين يستقل هذا العقل البشري بنفسه بعيداً عن الوحي، فإنه يتعرض حينئذ للضلال والانحراف، وسوء الرؤية، ونقص الرؤية، وسوء التقدير، وسوء التدبير.
يتعرض لهذا كله بسبب طبيعة تركيبه ذاتها في رؤية الوجود أجزاء لا كلا واحداً. تجربة بعد تجربة، وحادثة بعد حادثة، وصورة بعد صورة.. حيث يتعذر عليه أن يرى الوجود جملة، ليقيم على أساس هذه الرؤية الكاملة أحكاماً، ويضع على أساسها نظاماً، ملحوظاً فيه الشمول والتوازن.
ومن ثم يظل- حين ينعزل عن منهج الله وهداه- يرتاد التجارب، ويغير الأحكام، ويبدل النظام، ويضطرب بين الفعل وردود الفعل، ويتخبط من أقصى اليمين إلى أقصى الشمال.. وهو في ذلك كله يحطم كائنات بشرية عزيزة، وأجهزة إنسانية كريمة.. ولو اتبع الوحي لكفى البشر هذا الشر كله؛ وجعل التجارب والتقلبات في الأشياء وفي المادة وفي الأجهزة وفي الآلات.. وهي مجاله الطبيعي الذي يمكن أن يستقل فيه. والخسارة في النهاية مواد وأشياء. لا أنفس وأرواح!
ويتعرض لهذا كله- بعد طبيعة تركيبه- بسبب ما ركب في الكيان البشري من شهوات وأهواء ونزعات، لا بد لها من ضابط، يضمن أن تؤدي وظائفها في استمرار حياة البشرية وارتقائها، ولا تتعدى هذا الحد المأمون فتؤدي إلى تدمير الحياة أو انتكاسها! وهذا الضابط لا يمكن أن يكون هو العقل البشري وحده؛ فلا بد لهذا العقل الذي يضطرب تحت ضغط الأهواء والشهوات والنزعات- وهي شتى- من ضابط آخر يضبطه هو ذاته؛ ويحرسه بعد أن يضبطه من الخلل أيضاً، ويرجع إليه هذا العقل بكل تجربة، وكل حكم- في مجال الحياة البشرية- ليقّوم به تجربته وحكمه، وليضبط به اتجاهه وحركته.
والذين يزعمون للعقل البشري درجة من الأصالة في الصواب كدرجة الوحي، باعتبار أن كليهما- العقل والوحي- من صنع الله فلا بد أن يتطابقا.. هؤلاء إنما يستندون إلى تقريرات عن قيمة العقل قال بها بعض الفلاسفة من البشر، ولم يقل بها الله سبحانه!
والذين يرون أن هذا العقل يغني عن الوحي- حتى عند فرد واحد من البشر مهما بلغ عقله من الكبر- إنما يقولون في هذه القضية غير ما يقول الله.. فالله قد جعل حجته على الناس هي الوحي والرسالة، ولم يجعل هذه الحجة هي عقلهم البشري، ولا حتى فطرتهم التي فطرهم الله عليها من معرفة ربها الواحد والإيمان به. لأن الله سبحانه يعلم أن العقل وحده يضل، وأن الفطرة وحدها تنحرف. وأنه لا عاصم لعقل ولا لفطرة، إلا أن يكون الوحي هو الرائد الهادي، وهو النور والبصيرة.
والذين يزعمون أن الفلسفة تغني العقل عن الدين؛ أو أن العلم- وهو من منتجات العقل- يغني البشرية عن هدى الله؛ إنما يقولون قولاً لا سند له من الحقيقة ولا من الواقع كذلك.. فالواقع يشهد أن الحياة البشرية التي قامت أنظمتها على المذاهب الفلسفية أو على العلم، هي أبأس حياة يشقى فيها الإنسان مهما فتحت عليه أبواب كل شيء؛ ومهما تضاعف الإنتاج والإيراد؛ ومهما تيسرت أسباب الحياة ووسائل الراحة فيها على أوسع نطاق.. وليس مقابل هذا أن تقوم الحياة على الجهل والتلقائية! فالذين يضعون المسألة هكذا مغرضون! فإن الإسلام منهج حياة يكفل للعقل البشري الضمانات التي تقيه عيوب تركيبه الذاتي، وعيوب الضغوط التي تقع عليه من الأهواء والشهوات والنزعات.
ثم يقيم له الأسس، ويضع له القواعد، التي تكفل استقامته في انطلاقه للعلم والمعرفة والتجربة؛ كما تكفل له استقامة الحياة الواقعية التي يعيش في ظلها- وفق شريعة الله- فلا يضغط عليه الواقع لينحرف بتصوراته ومناهجه كذلك!
والعقل بمصاحبة وحي الله وهداه بصير، وبترك وحي الله وهداه أعمى، واقتران الحديث عن تلقي الرسول صلى الله عليه وسلم من الوحي وحده، بالإشارة إلى العمى والبصر، بالسؤال التحضيضي على التفكير:
{إن أتبع إلا ما يوحى إليّ قل: هل يستوي الأعمى والبصير: أفلا تتفكرون؟}..
اقتران الإشارات وتتابعها على هذا النحو في السياق، أمر ذو دلالة في التعبير القرآني.. فالتفكر مطلوب، والحض عليه منهج قرآني؛ ولكنه التفكر المضبوط بضابط الوحي، الذي يمضي معه مبصراً في النور؛ لا مطلق التفكر الذي يخبط في الظلام أعمى، بلا دليل ولا هدى ولا كتاب منير..
والعقل البشري حين يتحرك في إطار الوحي لا يتحرك في مجال ضيق، إنما يتحرك في مجال واسع جداً.. يتحرك في مجال هو هذا الوجود كله، الذي يحتوي عالم الشهادة وعالم الغيب أيضاً؛ كما يحتوي أغوار النفس ومجالي الأحداث، ومجالات الحياة جميعاً.. فالوحي لا يكف العقل عن شيء إلا عن انحراف المنهج، وسوء الرؤية والتواء الأهواء والشهوات! وبعد ذلك يدفعه إلى الحركة والنشاط دفعاً. فهذه الأداة العظيمة التي وهبها الله للإنسان.. العقل.. إنما وهبها له لتعمل وتنشط في حراسة الوحي والهدى الرباني.. فلا تضل إذن ولا تطغى..
{وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون. ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه، ما عليك من حسابهم من شيء، وما من حسابك عليهم من شيء. فتطردهم فتكون من الظالمين. وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا: أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا؟ أليس الله بأعلم بالشاكرين؟ وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل: سلام عليكم، كتب ربكم على نفسه الرحمة: أنه من عمل منكم سوءاً بجهالة، ثم تاب من بعده وأصلح، فأنه غفور رحيم}..
إنها عزة هذه العقيدة، واستعلاؤها على قيم الأرض الزائفة، وتخلصها من الاعتبارات البشرية الصغيرة..
لقد أُمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقدمها للناس دون زخرف ولا طلاء؛ ودون إطماع في شيء من قيم الأرض ولا إغراء.. كذلك أمر أن يوجه عنايته إلى من يرجى منهم الانتفاع بالدعوة، وأن يؤوي إليه الذين يتلقونها مخلصين؛ ويتجهون بقلوبهم إلى الله وحده يريدون وجهه؛ وألا يقيم وزناً بعد ذلك لشيء من قيم المجتمع الجاهلي الزائفة؛ ولا لشيء من اعتبارات البشر الصغيرة:
{وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع، لعلهم يتقون}.
أنذر به هؤلاء الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم، حالة أن ليس من دونه ولي ينصرهم ولا شفيع يخلصهم. ذلك أنه ما من شفيع يشفع عند الله إلا بإذنه، وهو لا يشفع يومئذ- بعد الإذن- إلا لمن ارتضى الله أن يتشفع عند الله فيهم.. فهؤلاء الذين تستشعر قلوبهم خوف ذلك اليوم الذي ليس فيه- من دون الله- ولي ولا شفيع، أحق بالإنذار، وأسمعُ له، وأكثر انتفاعاً به.. لعلهم أن يتوقوا في حياتهم الدنيا وما يعرضهم لعذاب الله في الآخرة. فالإنذار بيان كاشف كما أنه مؤثر موحٍ. بيان يكشف لهم ما يتقونه ويحذرونه، ومؤثر يدفع قلوبهم للتوقي والحذر؛ فلا يقعون فيما نهوا عنه بعدما تبين لهم:
{ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه}..
لا تطرد هؤلاء الذين أخلصوا نفوسهم لله؛ فاتجهوا لعبادته ودعائه في الصباح والمساء؛ يريدون وجهه سبحانه! ولا يبتغون إلا وجهه ورضاه.. وهي صورة للتجرد، والحب، والأدب.. فإن الواحد منهم لا يتوجه إلا إلى الله وحده بالعبادة والدعاء. وهو لا يبغي وجه الله، إلا إذا تجرد. وهو لا يبغي وجه الله وحده حتى يكون قلبه قد أحب. وهو لا يفرد الله- سبحانه- بالدعاء والعبادة ابتغاء وجهه إلا ويكون قد تعلم الأدب، وصار ربانياً يعيش لله وبالله..
ولقد كان أصل القصة أن جماعة من أشراف العرب، أنفوا أن يستجيبوا إلى دعوة الإسلام؛ لأن محمداً صلى الله عليه وسلم يؤوي إليه الفقراء الضعاف، من أمثال صهيب وبلال وعمار وخباب وسلمان وابن مسعود.. ومن إليهم.. وعليهم جباب تفوح منها رائحة العرق لفقرهم؛ ومكانتهم الاجتماعية لا تؤهلهم لأن يجلس معهم سادات قريش في مجلس واحد! فطلب هؤلاء الكبراء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطردهم عنه.. فأبى.. فاقترحوا أن يخصص لهم مجلساً ويخصص للأشراف مجلساً آخر، لا يكون فيه هؤلاء الفقراء الضعاف، كي يظل للسادة امتيازهم واختصاصهم ومهابتهم في المجتمع الجاهلي! فهمّ صلى الله عليه وسلم رغبة في إسلامهم أن يستجيب لهم في هذه. فجاءه أمر ربه:
{ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه}..
روى مسلم عن سعد بن أبي وقاص، قال كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ستة نفر. فقال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم: اطرد هؤلاء عنك لا يجترئون علينا! قال: وكنت أنا وابن مسعود، ورجل من هذيل، وبلال، ورجلان لست أسميهما.. فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقع.
فحدث نفسه. فأنزل الله عز وجل: {ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه}..
ولقد تقوّل أولئك الكبراء على هؤلاء الضعاف، الذين يخصهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بمجلسه وبعنايته؛ وطعنوا فيهم وعابوا ما هم فيه من فقر وضعف وما يسببه وجودهم في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم من نفور السادة وعدم إقبالهم على الإسلام.. فقضى الله سبحانه في هذه الدعوى بقضائه الفصل؛ ورد دعواهم من أساسها ودحضها دحضاً:
{ما عليك من حسابهم من شيء، وما من حسابك عليهم من شيء، فتطردهم فتكون من الظالمين}..
فإن حسابهم على أنفسهم، وحسابك على نفسك. وكونهم فقراء مقدر عليهم في الرزق هذا حسابهم عند الله، لا شأن لك به. كذلك غناك وفقرك هو حسابك عند الله لا شأن لهم به. ولا دخل لهذه القيم في قضية الإيمان والمنزلة فيه. فإن أنت طردتهم من مجلسك بحساب الفقر والغنى كنت لا تزن بميزان الله، ولا تقوّم بقيمه.. فكنت من الظالمين.. وحاشا لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون من الظالمين!
وبقي فقراء الجيوب أغنياء القلوب في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وبقي ضعاف الجاه الأقوياء بالله في مكانهم الذي يؤهلهم له إيمانهم؛ والذي يستحقونه بدعائهم لله لا يبتغون إلا وجهه. واستقرت موازين الإسلام وقيمه على المنهج الذي قرره الله..
عندئذ نفر المستكبرون المستنكفون يقولون: كيف يمكن أن يختص الله من بيننا بالخير هؤلاء الضعاف الفقراء؟ إنه لو كان ما جاء به محمد خيراً ما سبقونا إليه؛ ولهدانا الله به قبل أن يهديهم! فليس من المعقول أن يكون هؤلاء الضعاف الفقراء هم الذين يمنُّ الله عليهم من بيننا ويتركنا ونحن أصحاب المقام والجاه!
وكانت هذه هي الفتنة التي قدرها الله لهؤلاء المتعالين بالمال والنسب؛ والذين لم يدركوا طبيعة هذا الدين؛ وطبيعة الدنيا الجديدة التي يطلع بها على البشرية، مشرقة الآفاق، مصعدة بهذه البشرية إلى تلك القمة السامقة؛ التي كانت يومذاك غريبة على العرب وعلى الدنيا كلها؛ وما تزال غريبة في ما يسمونه الديمقراطيات على اختلاف أشكالها وأسمائها!
{وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا: أهؤلاء مَنَّ الله عليهم من بيننا؟}..
ويرد السياق القرآني على هذا الاستفهام الاستنكاري الذي يطلقه الكبراء:
{أليس الله بأعلم بالشاكرين}؟
هذا الرد الحافل بالإيحاءات والإيماءات:
إذ يقرر ابتداء أن الهدى جزاء يجزي به الله من يعلم من أمرهم أنهم إذا هدوا سيشكرون هذه النعمة، التي لا كفاء لها من شكر العبد، ولكن الله يقبل منه جهده ويجزيه عليه هذا الجزاء الهائل الذي لا يعدله جزاء.
وإذ يقرر أن نعمة الإيمان لا تتعلق بقيمة من قيم الأرض الصغيرة التي تسود في الجاهليات البشرية.
إنما يختص الله بها من يعلم أنهم شاكرون عليها. لا يهم أن يكونوا من الموالي والضعاف والفقراء. فميزان الله لا مكان فيه لقيم الأرض الصغيرة التي تتعاظم الناس في الجاهليات!
وإذ يقرر أن اعتراض المعترضين على فضل الله إنما ينشأ من الجهالة بحقائق الأشياء. وأن توزيع هذا الفضل على العباد قائم على علم الله الكامل بمن يستحقه من هؤلاء العباد. وما اعتراض المعترضين إلا جهل وسوء أدب في حق الله..
ويمضي السياق يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو رسول الله أن يبدأ أولئك الذين أسبغ عليهم فضل السبق بالإسلام؛ والذين يسخر منهم أولئك الكبراء الأشراف!.. أن يبدأهم بالسلام.. وأن يبشرهم بما كتبه الله على نفسه من الرحمة؛ متمثلاً في مغفرته لمن عمل منهم سوءاً بجهالة، ثم تاب من بعده وأصلح:
{وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل: سلام عليكم، كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءاً بجهالة، ثم تاب من بعده وأصلح، فأنه غفور رحيم}..
وهو التكريم- بعد نعمة الإيمان واليسر في الحساب، والرحمة في الجزاء، حتى ليجعل الله- سبحانه- الرحمة كتاباً على نفسه للذين آمنوا بآياته؛ ويأمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يبلغهم ما كتبه ربهم على نفسه. وحتى لتبلغ الرحمة أن يشمل العفو والمغفرة الذنب كله، متى تابوا من بعده وأصلحوا- إذ يفسر بعضهم الجهالة بأنها ملازمة لارتكاب الذنب؛ فما يذنب الإنسان إلا من جهالة؛ وعلى ذلك يكون النص شاملاً لكل سوء يعمله صاحبه؛ متى تاب من بعده وأصلح. ويؤيد هذا الفهم النصوص الأخرى التي تجعل التوبة من الذنب- أياً كان- والإصلاح بعده، مستوجبة للمغفرة بما كتب الله على نفسه من الرحمة...
ونعود- قبل الانتهاء من استعراض هذه الفقرة من السورة- إلى بعض الآثار التي وردت عن ملابسات نزول هذه الآيات؛ وعن دلالة هذه الآثار مع النصوص القرآنية على حقيقة النقلة الهائلة التي كان هذا الدين ينقل إليها البشرية يومذاك؛ والتي ما تزال البشرية حتى اليوم دون القمة التي بلغتها يومها ثم تراجعت عنها جداً..
قال أبو جعفر الطبري: حدثنا هناد بن السري، حدثنا أبو زبيد، عن أشعث، عن كردوس الثعلبي، عن ابن مسعود، قال: مر الملأ من قريش بالنبي صلى الله عليه وسلم وعنده صهيب وعمار وبلال وخباب، ونحوهم من ضعفاء المسلمين. فقالوا: يا محمد، رضيت بهؤلاء من قومك؟ أهؤلاء الذين منَّ الله عليهم من بيننا؟ أنحن نكون تبعاً لهؤلاء؟ اطردهم عنك! فلعلك إن طردتهم أن نتبعك! فنزلت هذه الآية: {ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه}.
{وكذلك فتنا بعضهم ببعض} إلى آخر الآية.
وقال: حدثني الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي، قال: حدثنا أبي، حدثنا أسباط، عن السدي، عن أبي سعيد الأزدي- وكان قارئ الأزد- عن أبي الكنود، عن خباب في قول الله تعالى ذكره: {ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه}.. إلى قوله: {فتكون من الظالمين}.. قال: جاء الأقرع ابن حابس التميمي، وعيينة بن حصن الفزاري، فوجد النبي صلى الله عليه وسلم قاعداً مع بلال وصهيب وعمار وخباب، في أناس من الضعفاء من المؤمنين. فلما رأوهم حقروهم. فأتوه فقالوا: إنا نحب أن تجعل لنا منك مجلساً تعرف لنا العرب به فضلنا، فإن وفود العرب تأتيك، فنستحيي أن ترانا العرب مع هؤلاء الأعبد؛ فإذا نحن جئناك فأقمهم عنا؛ فإذا نحن فرغنا فاقعد معهم إن شئت! قال: نعم! قالوا: فاكتب لنا عليك بذلك كتاباً. قال: فدعا بالصحيفة، ودعا علياً ليكتب. قال: ونحن قعود في ناحية، إذ نزل جبريل بهذه الآية: {ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء، وما من حسابك عليهم من شيء، فتطردهم، فتكون من الظالمين}.. ثم قال: {وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا: أهؤلاء منَّ الله عليهم من بيننا؟ أليس الله بأعلم بالشاكرين؟}.. ثم قال: {وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل: سلام عليكم، كتب ربكم على نفسه الرحمة}.. فألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيفة من يده؛ ثم دعانا فأتيناه وهو يقول: «سلام عليكم، كتب ربكم على نفسه الرحمة».. فكنا نقعد معه، فإذا أراد أن يقوم قام وتركنا. فأنزل الله تعالى: {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه، ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا}.. [سورة الكهف: 28] قال: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقعد معنا بعد، فإذا بلغ الساعة التي يقوم فيها قمنا وتركناه حتى يقوم!
وكان صلى الله عليه وسلم بعدها إذا رآهم بدأهم بالسلام، وقال: «الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرني ربي أن أبدأهم بالسلام».
وفي صحيح مسلم: عن عائذ بن عمرو، أن أبا سفيان أتى على سلمان وصهيب وبلال، ونفر. فقالوا: والله ما أخذت سيوف الله من عدو الله مأخذها! قال: فقال أبو بكر: أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم؟ فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره. فقال: «يا أبا بكر، لعلك أغضبتهم. لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك. فأتاهم أبو بكر فقال: يا إخوتاه، أغضبتكم؟ قالوا: لا. يغفر الله لك يا أخي».
نحن في حاجة إلى وقفة طويلة أمام هذه النصوص.
والبشرية بجملتها في حاجة إلى هذه الوقفة كذلك.. إن هذه النصوص لا تمثل مجرد مبادئ وقيم ونظريات في حقوق الإنسان!.. إنها أكبر من ذلك بكثير.. إنها تمثل شيئاً هائلاً تحقق في حياة البشرية فعلاً.. تمثل نقلة واسعة نقلها هذا الدين للبشرية بجملتها.. تمثل خطاً وضيئاً على الأفق بلغته هذه البشرية ذات يوم في حياتها الحقيقية.. ومهما يكن من تراجع البشرية عن هذا الخط الوضيء الذي صعدت إليه في خطو ثابت على حداء هذا الدين، فإن هذا لا يقلل من عظمة تلك النقلة؛ ومن ضخامة هذا الشيء الذي تحقق يوماً؛ ومن أهمية هذا الخط الذي ارتسم بالفعل في حياة البشر الواقعية.. إن قيمة ارتسام هذا الخط وبلوغه ذات يوم. أن تحاول البشرية مرة ومرة ومرة الارتفاع إليه؛ ما دام أنها قد بلغته؛ فهو في طوقها إذن وفي وسعها.. والخط هناك على الأفق، والبشرية هي البشرية؛ وهذا الدين هو هذا الدين.. فلا يبقى إلا العزم والثقة واليقين..
وقيمة هذه النصوص أنها ترسم للبشرية اليوم ذلك الخط الصاعد بكل نقطه ومراحله.. من سفح الجاهلية الذي التقط الإسلام منه العرب، إلى القمة السامقة التي بلغ بهم إليها، وأطلعتهم في الأرض يأخذون بيد البشرية من ذلك السفح نفسه إلى تلك القمة التي بلغوها!
فأما ذلك السفح الهابط الذي كان فيه العرب في جاهليتهم- وكانت في البشرية كلها- فهو يتمثل واضحاً في قوله: الملأ من قريش: يا محمد، رضيت بهؤلاء من قومك؟ أهؤلاء الذين منّ الله عليهم من بيننا؟ أنحن نكون تبعاً لهؤلاء؟ اطردهم عنك! فلعلك إن طردتهم أن نتبعك!.. أو في احتقار الأقرع بن حابس التميمي، وعيينة بن حصن الفزاري، للسابقين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بلال، وصهيب، وعمار، وخباب، وأمثالهم من الضعفاء؛ وقولهما للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا نحب أن تجعل لنا منك مجلساً تعرف لنا العرب به فضلنا؛ فإن وفود العرب تأتيك، فنستحيي أن ترانا العرب مع هؤلاء الأعبد!.
.. هنا تتبدى الجاهلية بوجهها الكالح! وقيمها الهزيلة، واعتباراتها الصغيرة.. عصبية النسب والجنس واعتبارات المال والطبقة.. وما إلى ذلك من اعتبارات. هؤلاء بعضهم ليسوا من العرب! وبعضهم ليسوا من طبقة الأشراف! وبعضهم ليسوا من ذوي الثراء!.. ذات القيم التي تروج في كل جاهلية! والتي لا ترتفع عليها جاهليات الأرض اليوم في نعراتها القومية والجنسية والطبقية!
هذا هو سفح الجاهلية.. وعلى القمة السامقة الإسلام! الذي لا يقيم وزناً لهذه القيم الهزيلة ولهذه الاعتبارات الصغيرة، ولهذه النعرات السخيفة!.. الإسلام الذي نزل من السماء ولم ينبت من الأرض. فالأرض كانت هي هذا السفح.. هذا السفح الذي لا يمكن أن ينبت هذه النبتة الغريبة الجديدة الكريمة.
الإسلام الذي يأتمر به- أول من يأتمر- محمد صلى الله عليه وسلم محمد رسول الله الذي يأتيه الوحي من السماء؛ والذي هو من قبل في الذؤابة من بني هاشم في الذروة من قريش.. والذي يأتمر به أبو بكر صاحب رسول الله- صلى الله عليه وسلم؛ في شأن هؤلاء الأعبد.. نعم هؤلاء الأعبد الذين خلعوا عبودية كل أحد؛ وصاروا أعبداً لله وحده؛ فكان من أمرهم ما كان!
وكما أن سفح الجاهلية الهابط يرتسم في كلمات الملأ من قريش، وفي مشاعر الأقرع وعيينة.. فإن قمة الإسلام السامقة ترتسم في أمر الله العلي الكبير، لرسوله صلى الله عليه وسلم:
{ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه. ما عليك من حسابهم من شيء، وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين. وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا: أهؤلاء منَّ الله عليهم من بيننا؟ أليس الله بأعلم بالشاكرين؟ وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل: سلام عليكم، كتب ربكم على نفسه الرحمة: أنه من عمل منكم سوءاً بجهالة، ثم تاب من بعده وأصلح، فأنه غفور رحيم}..
ويتمثل في سلوك رسول الله صلى الله عليه وسلم مع هؤلاء الأعبد.. الذين أمره ربهم أن يبدأهم بالسلام وأن يصبر معهم فلا يقوم حتى يقوموا وهو محمد بن عبدالله بن عبد المطلب بن هاشم- وهو بعد ذلك- رسول الله وخير خلق الله، وأعظم من شرفت بهم الحياة!
ثم يتمثل في نظرة هؤلاء الأعبد لمكانهم عند الله؛ ونظرتهم لسيوفهم واعتبارها سيوف الله ونظرتهم لأبي سفيان شيخ قريش وسيدهم بعد أن أخره في الصف المسلم كونه من الطلقاء الذين أسلموا عام الفتح وذهبوا طلقاء عفو رسول الله صلى الله عليه وسلم وقدّمهم هم في الصف كونهم من السابقين إلى الإسلام، وهو في شدة الابتلاء.. فلما أن عاتبهم أبو بكر رضي الله عنه في أمر أبي سفيان، حذره صاحبه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون قد أغضب هؤلاء الأعبد! فيكون قد أغضب الله- يا الله! فما يملك أي تعليق أن يبلغ هذا المدى وما نملك إلا أن نتملاه!- ويذهب أبو بكر رضي الله عنه يترضى الأعبد ليرضى الله: يا إخوتاه. أغضبتكم؟ فيقولون: لا يا أخي. يغفر الله لك!
أي شيء هائل هذا الذي تحقق في حياة البشرية؟ أية نقلة واسعة هذه التي قد تمت في واقع الناس؟ أي تبدل في القيم والأوضاع، وفي المشاعر والتصورات، في آن؟ والأرض هي الأرض والبيئة هي البيئة، والناس هم الناس، والاقتصاد هو الاقتصاد.
وكل شيء على ما كان، إلا أن وحياً نزل من السماء، على رجل من البشر، فيه من الله سلطان.. يخاطب فطرة البشر من وراء الركام، ويحدو للهابطين هنالك عند السفح، فيستجيشهم الحداء- على طول الطريق- إلى القمة السامقة.. فوق.. فوق.. هنالك عند الإسلام!
ثم تتراجع البشرية عن القمة السامقة؛ وتنحدر مرة أخرى إلى السفح. وتقوم- مرة أخرى- في نيويورك، وواشنطن، وشيكاغو.. وفي جوهانسبرج.. وفي غيرها من أرض الحضارة! تلك العصبيات النتنة. عصبيات الجنس واللون، وتقوم هنا وهناك عصبيات وطنية وقومية وطبقية لا تقل نتناً عن تلك العصبيات..
ويبقى الإسلام هناك على القمة.. حيث ارتسم الخط الوضيء الذي بلغته البشرية.. يبقى الإسلام هناك- رحمة من الله بالبشرية- لعلها أن ترفع أقدامها من الوحل، وترفع عينيها عن الحمأة.. وتتطلع مرة أخرى إلى الخط الوضيء؛ وتسمع مرة أخرى حداء هذا الدين؛ وتعرج مرة أخرى إلى القمة السامقة على حداء الإسلام..
ونحن لا نملك- في حدود منهجنا في هذه الظلال- أن نستطرد إلى أبعد من هذه الإشارة.. لا نملك أن نقف هنا تلك الوقفة الطويلة التي ندعو البشرية كلها أن تقفها أمام هذه النصوص ودلالتها. لتحاول أن تستشرف المدى الهائل الذي يرتسم من خلالها في تاريخ البشرية؛ وهي تصعد على حداء الإسلام من سفح الجاهلية الهابط، إلى تلك القمة السامقة البعيدة.. ثم تهبط مرة أخرى على عواء الحضارة المادية الخاوية من الروح والعقيدة!.. ولتحاول كذلك أن تدرك إلى أين يملك الإسلام اليوم أن يقود خطاها مرة أخرى؛ بعد أن فشلت جميع التجارب، وجميع المذاهب، وجميع الأوضاع، وجميع الأنظمة، وجميع الأفكار؛ وجميع التصورات، التي ابتدعها البشر لأنفسهم بعيداً عن منهج الله وهداه.. فشلت في أن ترتفع بالبشرية مرة أخرى إلى تلك القمة؛ وأن تضمن للإنسان حقوقه الكريمة في هذه الصورة الوضيئة؛ وأن تفيض على القلوب الطمأنينة- مع هذه النقلة الهائلة- وهي تنقل البشرية إليها بلا مذابح؛ وبلا اضطهادات؛ وبلا إجراءات استثنائية تقضي على الحريات الأساسية؛ وبلا رعب، وبلا فزع، وبلا تعذيب، وبلا جوع، وبلا فقر، وبلا عرض واحد من أعراض النقلات التي يحاولها البشر في ظل الأنظمة البائسة التي يضعها البشر؛ ويتعبد فيها بعضهم بعضاً من دون الله..
فحسبنا هذا القدر هنا.. وحسبنا الإيحاءات القوية العميقة التي تفيض بها النصوص ذاتها، وتسكبها في القلوب المستنيرة.
{وكذلك نفصل الآيات، ولتستبين سبيل المجرمين}..
ختام هذه الفقرة التي قدمت طبيعة الرسالة وطبيعة الرسول في هذه النصاعة الواضحة.
كما قدمت هذه العقيدة عارية من كل زخرف؛ وفصلت الاعتبارات والقيم التي جاءت هذه العقيدة لتلغيها من حياة البشرية؛ والاعتبارات والقيم التي جاءت لتقررها..
{وكذلك نفصل الآيات}..
بمثل هذا المنهج، وبمثل هذه الطريقة، وبمثل هذا البيان والتفصيل.. نفصل الآيات، التي لا تدع في هذا الحق ريبة؛ ولا تدع في هذا الأمر غموضاً؛ ولا تبقى معها حاجة لطلب الخوارق؛ فالحق واضح، والأمر بين، بمثل ذلك المنهج الذي عرض السياق القرآني منه ذلك النموذج..
على أن كل ما سبق في السورة من تفصيل لدلائل الهدى وموحيات الإيمان؛ ومن بيان للحقائق وتقرير للوقائع، يعتبر داخلاً في مدلول قوله تعالى:
{وكذلك نفصل الآيات}..
أما ختام هذه الآية القصيرة:
{ولتستبين سبيلُ المجرمين}..
فهو شأن عجيب!.. إنه يكشف عن خطة المنهج القرآني في العقيدة والحركة بهذه العقيدة! إن هذا المنهج لا يُعنى ببيان الحق وإظهاره حتى تستبين سبيل المؤمنين الصالحين فحسب. إنما يعنى كذلك ببيان الباطل وكشفه حتى تستبين سبيل الضالين المجرمين أيضاً.. إن استبانة سبيل المجرمين ضرورية لاستبانة سبيل المؤمنين. وذلك كالخط الفاصل يرسم عند مفرق الطريق!
إن هذا المنهج هو المنهج الذي قرره الله- سبحانه- ليتعامل مع النفوس البشرية.. ذلك أن الله سبحانه يعلم أن إنشاء اليقين الاعتقادي بالحق والخير يقتضي رؤية الجانب المضاد من الباطل والشر؛ والتأكيد من أن هذا باطل محض وشر خالص؛ وأن ذلك حق ممحض وخير خالص.. كما أن قوة الاندفاع بالحق لا تنشأ فقط من شعور صاحب الحق أنه على الحق؛ ولكن كذلك من شعوره بأن الذي يحاده ويحاربه إنما هو على الباطل.. وأنه يسلك سبيل المجرمين؛ الذين يذكر الله في آية أخرى أنه جعل لكل نبي عدواً منهم {وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين}. ليستقر في نفس النبي ونفوس المؤمنين، أن الذين يعادونهم إنما هم المجرمون؛ عن ثقة، وفي وضوح، وعن يقين.
إن سفور الكفر والشر والإجرام ضروري لوضوح الإيمان والخير والصلاح. واستبانة سبيل المجرمين هدف من أهداف التفصيل الرباني للآيات. ذلك أن أي غبش أو شبهة في موقف المجرمين وفي سبيلهم ترتد غبشاً وشبهة في موقف المؤمنين وفي سبيلهم. فهما صفحتان، متقابلتان وطريقان مفترقتان.. ولا بد من وضوح الألوان والخطوط..
ومن هنا يجب أن تبدأ كل حركة إسلامية بتحديد سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين. يجب إن تبدأ من تعريف سبيل المؤمنين وتعريف سبيل المجرمين؛ ووضع العنوان المميز للمؤمنين. والعنوان المميز للمجرمين، في عالم الواقع لا في عالم النظريات. فيعرف أصحاب الدعوة الإسلامية والحركة الإسلامية من هم المؤمنون ممن حولهم ومن هم المجرمون. بعد تحديد سبيل المؤمنين ومنهجهم وعلامتهم، وتحديد سبيل المجرمين ومنهجهم وعلامتهم. بحيث لا يختلط السبيلان ولا يتشابه العنوانان، ولا تلتبس الملامح والسمات بين المؤمنين والمجرمين.
وهذا التحديد كان قائماً، وهذا الوضوح كان كاملاً، يوم كان الإسلام يواجه المشركين في الجزيرة العربية. فكانت سبيل المسلمين الصالحين هي سبيل الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه. وكانت سبيل المشركين المجرمين هي سبيل من لم يدخل معهم في هذا الدين.. ومع هذا التحديد وهذا الوضوح كان القرآن يتنزل وكان الله- سبحانه- يفصل الآيات على ذلك النحو الذي سبقت منه نماذج في السورة- ومنها ذلك النموذج الأخير- لتستبين سبيل المجرمين!
وحيثما واجه الإسلام الشرك والوثنية والإلحاد والديانات المنحرفة المتخلفة من الديانات ذات الأصل السماوي بعد ما بدّلتها وأفسدتها التحريفات البشرية.. حيثما واجه الإسلام هذه الطوائف والملل كانت سبيل المؤمنين الصالحين واضحة، وسبيل المشركين الكافرين المجرمين واضحة كذلك.. لا يجدي معها التلبيس!
ولكن المشقة الكبرى التي تواجه حركات الإسلام الحقيقية اليوم ليست في شيء من هذا.. إنها تتمثل في وجود أقوام من الناس من سلالات المسلمين، في أوطان كانت في يوم من الأيام داراً للاسلام، يسيطر عليها دين الله، وتحكم بشريعته.. ثم إذا هذه الأرض، وإذا هذه الأقوام، تهجر الإسلام حقيقة، وتعلنه اسماً. وإذا هي تتنكر لمقومات الإسلام اعتقاداً وواقعاً. وإن ظنت أنها تدين بالإسلام اعتقاداً! فالإسلام شهادة أن لا إله إلا الله.. وشهادة أن لا إله إلا الله تتمثل في الاعتقاد بأن الله- وحده- هو خالق هذا الكون المتصرف فيه. وأن الله- وحده- هو الذي يتقدم إليه العباد بالشعائر التعبدية ونشاط الحياة كله. وأن الله- وحده- هو الذي يتلقى منه العباد الشرائع ويخضعون لحكمه في شأن حياتهم كله.. وأيما فرد لم يشهد أن لا إله إلا الله- بهذا المدلول- فإنه لم يشهد ولم يدخل في الإسلام بعد. كائناً ما كان اسمه ولقبه ونسبه. وأيما أرض لم تتحقق فيها شهادة أن لا إله إلا الله- بهذا المدلول- فهي أرض لم تدن بدين الله، ولم تدخل في الإسلام بعد..
وفي الأرض اليوم أقوام من الناس أسماؤهم أسماء المسلمين؛ وهم من سلالات المسلمين. وفيها أوطان كانت في يوم من الأيام داراً للإسلام.. ولكن لا الأقوام اليوم تشهد أن لا إله إلا الله- بذلك المدلول- ولا الأوطان اليوم تدين لله بمقتضى هذا المدلول..
وهذا أشق ما تواجهه حركات الإسلام الحقيقية في هذه الأوطان مع هؤلاء الأقوام!
أشق ما تعانيه هذه الحركات هو الغبش والغموض واللبس الذي أحاط بمدلول لا إله إلا الله، ومدلول الإسلام في جانب؛ وبمدلول الشرك وبمدلول الجاهلية في الجانب الآخر..
أشق ما تعانيه هذه الحركات هو عدم استبانة طريق المسلمين الصالحين، وطريق المشركين المجرمين؛ واختلاط الشارات والعناوين؛ والتباس الأسماء والصفات؛ والتيه الذي لا تتحدد فيه مفارق الطريق!
ويعرف أعداء الحركات الإسلامية هذه الثغرة.
فيعكفون عليها توسيعاً وتمييعاً وتلبيساً وتخليطاً. حتى يصبح الجهر بكلمة الفصل تهمة يؤخذ عليها بالنواصي والأقدام!.. تهمة تكفير المسلمين!!! ويصبح الحكم في أمر الإسلام والكفر مسألة المرجع فيها لعرف الناس واصطلاحهم، لا إلى قول الله ولا إلى قول رسول الله!
هذه هي المشقة الكبرى.. وهذه كذلك هي العقبة الأولى التي لا بد أن يجتازها أصحاب الدعوة إلى الله في كل جيل!
يجب أن تبدأ الدعوة إلى الله باستبانة سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين.. ويجب ألا تأخذ أصحاب الدعوة إلى الله في كلمة الحق والفصل هوادة ولا مداهنة. وألا تأخذهم فيها خشية ولا خوف؛ وألا تقعدهم عنها لومة لائم، ولا صيحة صائح: انظروا! إنهم يكفرون المسلمين!
إن الإسلام ليس بهذا التميع الذي يظنه المخدوعون! إن الإسلام بيّن والكفر بين.. الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله- بذلك المدلول- فمن لم يشهدها على هذا النحو؛ ومن لم يقمها في الحياة على هذا النحو، فحكم الله ورسوله فيه أنه من الكافرين الظالمين الفاسقين.. المجرمين..
{وكذلك نفصّل الآيات، ولتستبين سبيل المجرمين}..
أجل يجب أن يجتاز أصحاب الدعوة إلى الله هذه العقبة؛ وأن تتم في نفوسهم هذه الاستبانة؛ كي تنطلق طاقاتهم كلها في سبيل الله لا تصدها شبهة، ولا يعوّقها غبش، ولا يميعها لبس. فإن طاقاتهم لا تنطلق إلا إذا اعتقدوا في يقين أنهم هم المسلمون وأن الذين يقفون في طريقهم ويصدونهم ويصدون الناس عن سبيل الله هم المجرمون.. كذلك فإنهم لن يحتملوا متاعب الطريق إلا إذا استيقنوا أنها قضية كفر وإيمان. وأنهم وقومهم على مفرق الطريق، وأنهم على ملة وقومهم على ملة. وأنهم في دين وقومهم في دين:
{وكذلك نفصّل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين}..
.. وصدق الله العظيم..




البحث


كلمات متتالية كلمات متفرقة




موضوعات القرآن
  • الإيمان
  • العلم
  • العبادات
  • أحكام الأسرة
  • المعاملات
  • الحدود والجنايات
  • الجهاد
  • الأطعمة والأشربة
  • أحكام الجنائز
  • الأخلاق
  • تكريم الله للإنسان
  • القصص والتاريخ
  • الأمثال