سورة الأنعام / الآية رقم 134 / تفسير في ظلال القرآن / أحمد بن علي العجمي / القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
القرآن الكريم
طريقة عرض الآيات
صور
نصوص

وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ وَرَبُّكَ الغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُم مَّا يَشَاءُ كَمَا أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ المُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوَهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ

الأنعامالأنعامالأنعامالأنعامالأنعامالأنعامالأنعامالأنعامالأنعامالأنعامالأنعامالأنعامالأنعامالأنعامالأنعام




تلاوة آية تلاوة سورة الشرح الصوتي

التفسير


هذا المقطع بجملته ليس منفصلا عن الدرس السابق. إنما هو امتداد له. من جنس الموجات المتعاقبة التي يتضمنها.. فهو من ناحية استطراد في بيان مصائر شياطين الإنس والجن- بعد ما بين مصير الذين يستقيمون على صراط الله- وهو من ناحية استطراد في قضية الإيمان والكفر التي تذكر في هذا الموضع من السورة بمناسبة قضية الحاكمية والتشريع. وربط لهذه القضية الأخيرة بالحقائق الأساسية في العقيدة الإسلامية؛ ومنها حقيقة الجزاء في الآخرة على الكسب في الدنيا- بعد النذارة والبشارة- وحقيقة سلطان الله القادر على الذهاب بالشياطين وأوليائهم وبالناس جميعا واستبدال غيرهم بهم، وحقيقة ضعف البشر جملة أمام بأس الله. وكلها حقائق عقيدية تذكر في معرض الحديث عن التحليل والتحريم في الذبائح- قبلها- ثم يجيء بعدها الحديث في الحلقة التالية عن النذور من الثمار والأنعام والأولاد؛ وعن تقاليد الجاهلية وتصوراتها في هذه الشؤون؛ فيلتحم الحديث عن هذه القضايا جميعاً؛ وتبدو في وضعها الطبيعي الذي يضعها فيه هذا الدين. وهي أنها كلها مسائل اعتقادية على السواء. لا فرق بينها في ميزان الله، كما يقيمه في كتابه الكريم.
لقد مضى في الحلقة السابقة حديث عن الذين يشرح الله صدورهم للإسلام؛ فتبقى قلوبهم ذاكرة لا تغفل؛ وأنهم ماضون إلى دار السلام، منتهون إلى ولاية ربهم وكفالته.. فالآن يعرض الصفحة المقابلة في المشهد- على طريقة القرآن الغالبة في عرض مشاهد القيامة- يعرض شياطين الإنس والجن، الذين قضوا الحياة يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً وخداعاً وإضلالا؛ ويقف بعضهم بمساندة بعض عدوا لكل نبي؛ ويوحي بعضهم إلى بعض ليجادلوا المؤمنين في ما شرعه الله لهم من الحلال والحرام.. يعرضهم في مشهد شاخص حي، حافل بالحوار والاعتراف والتأنيب والحكم والتعقيب، فائض بالحياة التي تزخر بها مشاهد القيامة في القرآن.
{ويوم يحشرهم جميعا: يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس! وقال أولياؤهم من الإنس: ربنا استمتع بعضنا ببعض، وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا! قال: النار مثواكم خالدين فيها- إلا ما شاء الله- إن ربك حكيم عليم.. وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون.. يا معشر الجن والإنس، ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي، وينذرونكم لقاء يومكم هذا؟ قالوا: شهدنا على أنفسنا! وغرتهم الحياة الدنيا، وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين}..
إن المشهد يبدأ معروضاً في المستقبل، يوم يحشرهم جميعا.. ولكنه يستحيل واقعا للسامع يتراءى له مواجهة. وذلك بحذف لفظة واحدة في العبارة. فتقدير الكلام، {ويوم يحشرهم جميعا}- فيقول- {يا معشر الجن والإنس...} ولكن حذف كلمة- يقول- ينتقل بالتعبير المصور نقلة بعيدة؛ ويحيل السياق من مستقبل ينتظر، إلى واقع ينظر! وذلك من خصائص التصوير القرآني العجيب.
..
فلنتابع المشهد الشاخص المعروض:
{يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس!}..
استكثرتم من التابعين لكم من الإنس، المستمعين لإيحائكم، المطيعين لوسوستكم، المتبعين لخطواتكم.. وهو إخبار لا يقصد به الإخبار فالجن يعلمون أنهم قد استكثروا من الإنس! إنما يقصد به تسجيل الجريمة- جريمة إغواء هذا الحشد الكبير الذي نكاد نلمحه في المشهد المعروض!- ويقصد به التأنيب على هذه الجريمة التي تتجمع قرائنها الحية في هذا الحشد المحشود! لذلك لا يجيب الجن على هذا القول بشيء.. ولكن الأغرار الأغمار من الإنس المستخفين بوسوسة الشياطين يجيبون:
{وقال أولياؤهم من الإنس: ربنا استمتع بعضنا ببعض، وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا!}..
وهو جواب يكشف عن طبيعة الغفلة والخفة في هؤلاء الأتباع؛ كما يكشف عن مدخل الشيطان إلى نفوسهم في دار الخداع.. لقد كانوا يستمتعون بإغواء الجن لهم وتزيينه ما كان يزين لهم من التصورات والأفكار، ومن المكابرة والاستهتار، ومن الإثم ظاهره وباطنه! فمن منفذ الاستمتاع دخل إليهم الشيطان! وكانت الشياطين تستمتع بهؤلاء الأغرار الأغفال.. كانت تستهويهم وتعبث بهم؛ وتسخرهم لتحقيق هدف إبليس في عالم الإنس! وهؤلاء الأغرار المستخفون يحسبون أنه كان استمتاعا متبادلا، وأنهم كانوا يمتعون فيه ويتمتعون! ومن ثم يقولون:
{ربنا استمتع بعضنا ببعض!}..
ودام هذا المتاع طوال فترة الحياة، حتى حان الأجل، الذي يعلمون اليوم فقط أن الله هو الذي أمهلهم إليه؛ وأنهم كانوا في قبضته في أثناء ذلك المتاع:
{وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا}!
عند ذلك يجيء الحكم الفاصل، بالجزاء العادل:
{قال: النار مثواكم خالدين فيها- إلا ما شاء الله-}
فالنار مثابة ومأوى. والمثوى للإقامة. وهي إقامة الدوام.. {إلا ما شاء الله} لتبقى صورة المشيئة الطليقة هي المسيطرة على التصور الاعتقادي. فطلاقة المشيئة الإلهية قاعدة من قواعد هذا التصور. والمشيئة لا تنحبس ولا تتقيد. ولا في مقرراتها هي.
{إن ربك حكيم عليم}.
يمضي قدره بالناس عن حكمة وعن علم؛ ينفرد بهما الحكيم العليم..
وقبل استئناف الحوار لإتمام المشهد، يتحول السياق للتعقيب على شطر المشهد المنتهي:
{وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون}..
بمثل هذا الذي قام بين الجن والإنس من ولاء؛ وبمثل ما انتهى إليه هذا الولاء من مصير.. بمثل ذلك، وعلى قاعدته، نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون. نجعل بعضهم أولياء بعض؛ بحكم ما بينهم من تشابه في الطبع والحقيقة؛ وبحكم ما بينهم من اتفاق في الوجهة والهدف. وبحكم ما ينتظرهم من وحدة في المصير.
وهو تقرير عام أبعد مدى من حدود المناسبة التي كانت حاضرة، إنه يتناول طبيعة الولاء بين الشياطين من الإنس والجن عامة.
فإن الظالمين- وهم الذين يشركون بالله في صورة من الصور- يتجمع بعضهم إلى بعض في مواجهة الحق والهدى؛ ويعين بعضهم بعضا في عداء كل نبي والمؤمنين به. إنهم فضلا على أنهم من طينة واحدة- مهما اختلفت الأشكال- هم كذلك أصحاب مصلحة واحدة، تقوم على اغتصاب حق الربوبية على الناس، كما تقوم على الانطلاق مع الهوى بلا قيد من حاكمية الله.
ونحن نراهم في كل زمان كتلة واحدة يساند بعضهم بعضا- على ما بينهم من خلافات وصراع على المصالح- إذا كانت المعركة مع دين الله ومع أولياء الله.. فبحكم ما بينهم من اتفاق في الطينة، واتفاق في الهدف يقوم ذلك الولاء.. وبحكم ما يكسبون من الشر والإثم تتفق مصائرهم في الآخرة على نحو ما رأينا في المشهد المعروض!
وإننا لنشهد في هذه الفترة- ومنذ قرون كثيرة- تجمعا ضخما لشياطين الإنس من الصليبيين والصهيونيين والوثنيين والشيوعيين- على اختلاف هذه المعسكرات فيما بينها- ولكنه تجمع موجه إلى الإسلام، وإلى سحق طلائع حركات البعث الإسلامي في الأرض كلها.
وهو تجمع رهيب فعلا، تجتمع له خبرة عشرات القرون في حرب الإسلام، مع القوى المادية والثقافية، مع الأجهزة المسخرة في المنطقة ذاتها للعمل وفق أهداف ذلك التجمع وخططه الشيطانية الماكرة.. وهو تجمع يتجلى فيه قول الله سبحانه: {وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون}.. كما ينطبق عليه تطمين الله لنبيه- صلى الله عليه وسلم: {ولو شاء الله ما فعلوه فذرهم وما يفترون} ولكن هذا التطمين يقتضي أن تكون هناك العصبة المؤمنة التي تسير على قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعلم أنها تقوم مقامه في هذه المعركة المشبوبة على هذا الدين، وعلى المؤمنين..
ثم نعود مع السياق إلى شطر المشهد الأخير:
{يا معشر الجن والإنس، ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي، وينذرونكم لقاء يومكم هذا؟ قالوا شهدنا على أنفسنا، وغرتهم الحياة الدنيا، وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين}..
وهو سؤال للتقرير والتسجيل. فالله- سبحانه- يعلم ما كان من أمرهم في الحياة الدنيا. والجواب عليه إقرار منهم باستحقاقهم هذا الجزاء في الآخرة..
والخطاب موجه إلى الجن كما هو موجه إلى الإنس.. فهل أرسل الله إلى الجن رسلا منهم كما أرسل إلى الإنس؟ الله وحده يعلم شأن هذا الخلق المغيب عن البشر. ولكن النص يمكن تأويله بأن الجن كانوا يسمعون ما أنزل على الرسل، وينطلقون إلى قومهم منذرين به. كالذي رواه القرآن الكريم من أمر الجن في سورة الأحقاف: {وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن. فلما حضروه قالوا: أنصتوا. فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين. قالوا: يا قومنا إنا سمعنا كتاباً أنزل من بعد موسى مصدقاً لما بين يديه، يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم. يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به، يغفر لكم من ذنوبكم، ويجركم من عذاب أليم. ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض، وليس له من دونه أولياء. أولئك في ضلال مبين}
فجائز أن يكون السؤال والجواب للجن مع الإنس قائمين على هذه القاعدة.. والأمر كله مما اختص الله سبحانه بعلمه؛ والبحث فيما وراء هذا القدر لا طائل وراءه!
وعلى أية حال فقد أدرك المسؤولون من الجن والإنس، أن السؤال ليس على وجهه. إنما هو سؤال للتقرير والتسجيل؛ كما أنه للتأنيب والتوبيخ؛ فأخذوا في الاعتراف الكامل؛ وسجلوا على أنفسهم استحقاقهم لما هم فيه:
{قالوا: شهدنا على أنفسنا}:
وهنا يتدخل المعقب على المشهد ليقول:
{وغرتهم الحياة الدنيا؛ وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين}؛
وهو تعقيب لتقرير حقيقة حالهم في الدنيا. فقد غرتهم هذه الحياة؛ وقادهم الغرور إلى الكفر. ثم ها هم أولاء يشهدون على أنفسهم به؛ حيث لا تجدي المكابرة والإنكار.. فأي مصير أبأس من أن يجد الإنسان نفسه في هذا المأزق، الذي لا يملك أن يدفع عن نفسه فيه، ولا بكلمة الإنكار! ولا بكلمة الدفاع!
ونقف لحظة أمام الأسلوب القرآني العجيب في رسم المشاهد حاضرة؛ ورد المستقبل المنظور واقعاً مشهوداً؛ وجعل الحاضر القائم ماضياً بعيداً!
إن هذا القرآن يتلى على الناس في هذه الدنيا الحاضرة؛ وفي هذه الأرض المعهودة. ولكنه يعرض مشهد الآخرة كأنه حاضر قريب؛ ومشهد الدنيا كأنها ماض بعيد! فننسى أن ذلك مشهد سيكون يوم القيامة؛ ونستشعر أنه أمامنا اللحظة ماثل! وأنه يتحدث عن الدنيا التي كانت كما يتحدث عن التاريخ البعيد!
{وغرتهم الحياة الدنيا، وشهدوا على أنفسهم أنهم- كانوا- كافرين}..
وذلك من عجائب التخييل!
وعلى ختام المشهد يلتفت السياق بالخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن وراءه من المؤمنين؛ وإلى الناس أجمعين، ليعقب على هذا الحكم الصادر بجزاء الشياطين من الإنس والجن؛ وبإحالة هذا الحشد الحاشد إلى النار؛ وعلى إقرارهم بأن الرسل قد جاءت إليهم، تقص عليهم آيات الله، وتنذرهم لقاء يومهم هذا.. ليعقب على هذا المشهد وما كان فيه، بأن عذاب الله لا ينال أحدا إلا بعد الإنذار؛ وأن الله لا يأخذ العباد بظلمهم (أي بشركهم) إلا بعد أن ينبهوا من غفلتهم؛ وتقص عليهم الآيات، وينذرهم المنذرون:
{ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى- بظلم- وأهلها غافلون}..
لقد اقتضت رحمة الله بالناس ألا يؤاخذهم على الشرك والكفر حتى يرسل إليهم الرسل، على الرغم مما أودعه فطرتهم من الاتجاه إلى ربها- فقد تضل هذه الفطر- وعلى الرغم مما أعطاهم من قوة العقل والإدراك- فالعقل قد يضل تحت ضغط الشهوات- وعلى الرغم مما في كتاب الكون المفتوح من آيات- فقد تتعطل أجهزة الاستقبال كلها في الكيان البشري.
لقد ناط بالرسل والرسالات مهمة استنقاذ الفطرة من الركام، واستنقاذ العقل من الانحراف، واستنقاذ البصائر والحواس من الانطماس. وجعل العذاب مرهونا بالتكذيب والكفر بعد البلاغ والإنذار.
وهذه الحقيقة كما أنها تصور رحمة الله بهذا الإنسان وفضله، كذلك تصور قيمة المدارك البشرية من فطرة وعقل؛ وتقرر أنها- وحدها- لا تعصم من الضلال، ولا تهدي إلى يقين، ولا تصبر على ضغط الشهوات.. ما لم تساندها العقيدة وما لم يضبطها الدين..
ثم يقرر السياق حقيقة أخرى في شأن الجزاء.. للمؤمنين وللشياطين سواء:
{ولكل درجات مما عملوا. وما ربك بغافل عما يعملون}..
فللمؤمنين درجات: درجة فوق درجة. وللشياطين درجات: درجة تحت درجة! وفق الأعمال. والأعمال مرصودة لا يغيب منها شيء:
{وما ربك بغافل عما يعملون}.
على أن الله- سبحانه- إنما يرسل رسله رحمة بالعباد، فهو غني عنهم؛ وعن إيمانهم به وعبادتهم له. وإذا أحسنوا فإنما يحسنون لأنفسهم في الدنيا والآخرة. كذلك تتجلى رحمته في الإبقاء على الجيل العاصي الظالم المشرك، وهو القادر على أن يهلكه، وينشئ جيلا آخر يستخلفه:
{وربك الغني ذو الرحمة. إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء. كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين}.
فلا ينس الناس أنهم باقون برحمة الله؛ وأن بقاءهم معلق بمشيئة الله؛ وأن ما في أيديهم من سلطان إنما خولهم الله إياه. فليس هو سلطاناً أصيلا؛ ولا وجودا مختارا. فما لأحد في نشأته ووجوده من يد؛ وما لأحد فيما أعطيه من السلطان من قدرة. وذهابهم واستخلاف غيرهم هين على الله. كما أنه أنشأهم من ذرية جيل غبر. واستخلفوا هم من بعده بقدر من الله.
إنها طرقات قوية وإيقاعات عنيفة على قلوب الظالمين من شياطين الإنس والجن الذين يمكرون ويتطاولون، ويحرمون ويحللون، ويجادلون في شرع الله بما يشرعون.. وهم هكذا في قبضة الله يبقيهم كيف شاء، ويذهب بهم أنى شاء، ويستخلف من بعدهم ما يشاء.. كما أنها إيقاعات من التثبيت والطمأنينة والثقة في قلوب العصبة المسلمة، التي تلقى العنت من كيد الشياطين ومكرهم؛ ومن أذى المجرمين وعدائهم... فهؤلاء هم في قبضة الله ضعافا حتى وهم يتجبرون في الأرض ويمكرون!
ثم إيقاع تهديدي آخر:
{إن ما توعدون لآت، وما أنتم بمعجزين}.
إنكم في يد الله وقبضته، ورهن مشيئته وقدره. فلستم بمفلتين أو مستعصين.. ويوم الحشر الذي شاهدتم منه مشهدا منذ لحظة ينتظركم؛ وأنه لآت لا ريب فيه، ولن تفلتوا يومها، ولن تعجزوا الله القوي المتين. وتنتهي التعقيبات بتهديد آخر ملفوف، عميق الإيحاء والتأثير في القلوب:
{قل: يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل، فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار، إنه لا يفلح الظالمون}.
إنه تهديد الواثق من الحق الذي معه، والحق الذي وراءه؛ ومن القوة التي في الحق، والقوة التي وراء الحق.. التهديد من الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه نافض يديه من أمرهم، واثق مما هو عليه من الحق، واثق من منهجه وطريقه، واثق كذلك مما هم عليه من الضلال، وواثق من مصيرهم الذي هم إليه منتهون:
{إنه لا يفلح الظالمون}..
فهذه هي القاعدة التي لا تتخلف.. إنه لا يفلح المشركون، الذين يتخذون من دون الله أولياء. وليس من دون الله ولي ولا نصير. والذين لا يتبعون هدى الله. وليس وراءه إلا الضلال البعيد وإلا الخسران المبين..
وقبل أن نمضي مع سياق السورة حلقة جديدة، نقف وقفة سريعة مع هذه الحلقة الوسيطة بين حديث عن تشريع الذبائح- ما ذكر اسم الله عليه وما لم يذكر اسم الله عليه- وحديث عن النذور من الثمار والأنعام والأولاد.. هذه الحلقة التي تضمنت تلك الحقائق الأساسية من حقائق العقيدة البحتة؛ كما تضمنت مشاهد وصوراً وتقريرات عن طبيعة الإيمان وطبيعة الكفر؛ وعن المعركة بين الشياطين من الإنس والجن وبين أنبياء الله والمؤمنين بهم؛ كما تضمنت ذلك الحشد من المؤثرات الموحية التي سبقت نظائرها في سياق السورة وهو يواجه ويعرض حقائق العقيدة الكبرى في محيطها الشامل..
نقف هذه الوقفة السريعة مع هذه الحلقة الوسيطة؛ لنرى كم يحفل المنهج القرآن بهذه الواقعيات العملية، وهذه الجزيئات التطبيقية في الحياة البشرية؛ وكم يحفل بانطباقها على شريعة الله؛ وعلى تقرير الأصل الذي يجب أن تستند إليه؛ وهو حاكمية الله.. أو بتعبير آخر ربوبية الله.
فلماذا يحفل المنهج القرآني هكذا بهذه القضية؟
يحفل بها لأنها من ناحية المبدأ تلخص قضية العقيدة في الإسلام؛ كما تلخص قضية الدين. فالعقيدة في الإسلام تقوم على أساس شهادة: إن لا إله إلا الله. وبهذه الشهادة يخلع المسلم من قلبه ألوهية كل أحد من العباد ويجعل الألوهية لله. ومن ثم يخلع الحاكمية عن كل أحد ويجعل الحاكمية كلها لله.. والتشريع للصغيرة هو مزاولة لحق الحاكمية كالتشريع للكبيرة. فهو من ثَمَّ مزاولة لحق الألوهية. يأباه المسلم إلا لله.. والدين في الإسلام هو دينونة العباد في واقعهم العملي- كما هو الأمر في العقيدة القلبية- لألوهية واحدة هي ألوهية الله، ونفض كل دينونة في هذا الواقع لغير الله من العباد المتألهين! والتشريع هو مزاولة للألوهية، والخضوع للتشريع هو الدينونة لهذه الألوهية.. ومن ثم يجعل المسلم دينونته في هذا لله وحده؛ ويخلع ويرفض الدينونة لغير الله من العباد المتألهين!
من هنا ذلك الاحتفال كله في القرآن كله بتقرير هذه الأصول الاعتقادية، والاتكاء عليها على هذا النحو الذي نرى صورة منه في سياق هذه السورة المكية.. والقرآن المكي- كما أسلفنا في التقديم لهذه السورة في الجزء السابع- لم يكن يواجه قضية النظام والشرائع في حياة الجماعة المسلمة؛ ولكنه كان يواجه قضية العقيدة والتصور. ومع هذا فإن السورة تحفل هذا الاحتفال بتقرير هذا الأصل الاعتقادي في موضوع الحاكمية.. ولهذا دلالته العميقة الكبيرة..




البحث


كلمات متتالية كلمات متفرقة




موضوعات القرآن
  • الإيمان
  • العلم
  • العبادات
  • أحكام الأسرة
  • المعاملات
  • الحدود والجنايات
  • الجهاد
  • الأطعمة والأشربة
  • أحكام الجنائز
  • الأخلاق
  • تكريم الله للإنسان
  • القصص والتاريخ
  • الأمثال