سورة الأعراف / الآية رقم 17 / تفسير في ظلال القرآن / أحمد بن علي العجمي / القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
القرآن الكريم
طريقة عرض الآيات
صور
نصوص

قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المُسْتَقِيمَ ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُوماً مَّدْحُوراً لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الخَالِدِينَ وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ

الأعرافالأعرافالأعرافالأعرافالأعرافالأعرافالأعرافالأعرافالأعرافالأعرافالأعرافالأعرافالأعرافالأعرافالأعراف




تلاوة آية تلاوة سورة الشرح الصوتي

التفسير


من هنا تبدأ الرحلة الكبرى.. تبدأ بتمهيد عن تمكين الله للجنس البشري في الأرض، كحقيقة مطلقة، وذلك قبل أن تبدأ قصة البشرية تفصيلاً.
{ولقد مكناكم في الأرض، وجعلنا لكم فيها معايش، قليلاً ما تشكرون}:
إن خالق الأرض وخالق الناس، هو الذي مكن لهذا الجنس البشري في الأرض. هو الذي أودع الأرض هذه الخصائص والموافقات الكثيرة التي تسمح بحياة هذا الجنس وتقوته وتعوله، بما فيها من أسباب الرزق والمعايش..
هو الذي جعلها مقراً صالحاً لنشأته بجوها وتركيبها وحجمها وبعدها عن الشمس والقمر، ودورتها حول الشمس، وميلها على محورها، وسرعة دورتها.. إلى آخر هذه الموافقات التي تسمح بحياة هذا الجنس عليها، وهو الذي أودع هذه الأرض من الأقوات والأرزاق ومن القوى والطاقات ما يسمح بنشأة هذا الجنس وحياته، وبنمو هذه الحياة ورقيها معاً.. وهو الذي جعل هذا الجنس سيد مخلوقات هذه الأرض، قادراً على تطويعها واستخدامها؛ بما أودعه الله من خصائص واستعدادات للتعرف إلى بعض نواميس هذا الكون وتسخيرها في حاجته.
ولولا تمكين الله للإنسان في الأرض بهذا وذلك، ما استطاع هذا المخلوق الضعيف القوة أن يقهر الطبيعة كما يعبر أهل الجاهلية قديماً وحديثاً! ولا كان بقوته الذاتية قادراً على مواجهة القوى الكونية الهائلة الساحقة!
إن التصورات الجاهلية الإغريقية والرومانية هي التي تطبع تصورات الجاهلية الحديثة.. هي التي تصور الكون عدواً للإنسان وتصور القوى الكونية مضادة لوجوده وحركته؛ وتصور الإنسان في معركة مع هذه القوى- بجهده وحده- وتصور كل تعرف إلى النواميس الكونية، وكل تسخير لها قهراً للطبيعة في المعركة بينها وبين الجنس الإنساني!
إنها تصورات سخيفة، فوق أنها تصورات خبيثة!
لو كانت النواميس الكونية مضادة للإنسان، عدوة له، تتربص به، وتعاكس اتجاهه، وليس وراءها إرادة مدبرة- كما يزعمون- ما نشأ هذا الإنسان أصلاً! وإلا فكيف كان ينشأ؟ كيف ينشأ في كون معاد بلا إرادة وراءه؟ ولما استطاع المضي في الحياة على فرض أنه وجد! وإلا فكيف يمضي والقوى الكونية الهائلة تعاكس اتجاهه؟ وهي- بزعمهم- التي تصرف نفسها ولا سلطان وراء سلطانها؟
إن التصور الإسلامي وحده هو الذي يمضي وراء هذه الجزئيات ليربطها كلها بأصل شامل متناسق.. إن الله هو الذي خلق الكون، وهو الذي خلق الإنسان. وقد اقتضت مشيئته وحكمته أن يجعل طبيعة هذا الكون بحيث تسمح بنشأة هذا الإنسان، وأودع الإنسان من الاستعدادات ما يسمح له بالتعرف إلى بعض نواميس الكون واستخدامها في حاجته... وهذا التناسق الملحوظ هو الجدير بصنعة الله الذي أحسن كل شيء خلقه. ولم يجعل خلائقه متعاكسة متعادية متدابرة!
وفي ظل هذا التصور يعيش الإنسان في كون مأنوس صديق؛ وفي رعاية قوة حكيمة مدبرة.
يعيش مطمئن القلب، مستروح النفس، ثابت الخطو، ينهض بالخلافة عن الله في الأرض في اطمئنان الواثق بأنه معانٌ على الخلافة؛ ويتعامل مع الكون بروح المودة والصداقة؛ ويشكر الله كلما اهتدى إلى سر من أسرار الوجود؛ وكلما تعرف إلى قانون من قوانينه التي تعينه في خلافته؛ وتيسر له قدراً جديداً من الرقي والراحة والمتاع.
إن هذا التصور لا يكفه عن الحركة لاستطلاع أسرار الوجود والتعرف إلى نواميسه.. على العكس، هو يشجعه ويملأ قلبه ثقة وطمأنينة.. إنه يتحرك في مواجهة كون صديق لا يبخل عليه بأسراره، ولا يمنع عنه مدده وعونه.. وليس في مواجهة كون عدو يتربص به ويعاكس اتجاهاته ويسحق أحلامه وآماله!
إن مأساة الوجودية الكبرى هي هذا التصور النكد الخبيث.. تصور الوجود الكوني- بل الوجود الجماعي للبشرية ذاتها- معاكساً في طبيعته للوجود الفردي الإنساني، متجهاً بثقله الساحق إلى سحق هذا الوجود الإنساني! إنه تصور بائس لا بد أن ينشئ حالة من الانزواء والانكماش والعدمية! أو ينشئ حالة من الاستهتار والتمرد والفردية! وفي كلتا الحالتين لا يكون إلا القلق المضني! والبؤس النفسي والعقلي، والشرود في التيه: تيه التمرد، أو تيه العدم.. وهما سواء..
وهي ليست مأساة الوجودية وحدها من مذاهب الفكر الأوربي. إنها مأساة الفكر الأوربي كله- بكل مذاهبه واتجاهاته- بل مأساة الجاهلية كلها في جميع أزمانها وبيئاتها، المأساة التي يضع الإسلام حداً لها بعقيدته الشاملة، التي تنشئ في الإدراك البشري تصوراً صحيحاً لهذا الوجود، وما وراءه من قوة مدبرة.
إن الإنسان هو ابن هذه الأرض؛ وهو ابن هذا الكون. لقد أنشأه الله من هذه الأرض، ومكنه فيها، وجعل له فيها أرزاقاً ومعايش، ويسر له المعرفة التي تسلمه مفاتيحها؛ وجعل نواميسها موافقة لوجود هذا الإنسان، تساعده- حين يتعرف إليها على بصيرة- وتيسر حياته..
ولكن الناس قليلاً ما يشكرون.. ذلك أنهم في جاهليتهم لا يعلمون.. وحتى الذين يعلمون لا يملكون أن يوفوا نعمة الله عليهم حقها من الشكر، وأنى لهم الوفاء؟ لولا أن الله يقبل منهم ما يطيقون: وهؤلاء وهؤلاء ينطبق عليهم بهذين الاعتبارين قوله تعالى:
{قليلاً ما تشكرون}.
بعد ذلك تبدأ قصة البشرية بأحداثها المثيرة.. تبدأ بإعلان ميلاد الإنسان في احتفال مهيب، في رحاب الملأ الأعلى.. يعلنه الملك العزيز الجليل العظيم؛ زيادة في الحفاوة والتكريم. وتحتشد له الملائكة- وفي زمرتهم وإن لم يكن منهم إبليس- وتشهده السماوات والأرض؛ وما خلق الله من شيء.. إنه أمر هائل وحدث عظيم في تاريخ هذا الوجود:
{ولقد خلقناكم، ثم صورناكم، ثم قلنا للملائكة: اسجدوا لآدم. فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين.
قال: ما منعك أَلا تسجد إذ أمرتك؟ قال: أنا خير منه، خلقتني من نار وخلقته من طين. قال: فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها، فاخرج إنك من الصاغرين. قال: أنظرني إلى يوم يبعثون. قال: إنك من المنظرين. قال: فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم. ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم، وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين. قال اخرج منها مذؤوماً مدحوراً، لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين}..
هذا هو المشهد الأول.. وهو مشهد مثير.. ومشهد خطير.. ونحن نؤثر استعراض مشاهد هذه القصة ابتداء؛ ونرجئ التعليق عليها، واستلهام إيحاءاتها إلى أن نفرغ من استعراضها..
{ولقد خلقناكم، ثم صورناكم، ثم قلنا للملائكة: اسجدوا لآدم. فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين}
إن الخلق قد يكون معناه: الإنشاء. والتصوير قد يكون معناه: إعطاء الصورة والخصائص.. وهما مرتبتان في النشأة لا مرحلتان.. فإن {ثم} قد لا تكون للترتيب الزمني، ولكن للترقي المعنوي. والتصوير أرقى مرتبة من مجرد الوجود. فالوجود يكون للمادة الخامة؛ ولكن التصوير- بمعنى إعطاء الصورة الإنسانية والخصائص- يكون درجة أرقى من درجات الوجود. فكأنه قال: إننا لم نمنحكم مجرد الوجود ولكن جعلناه وجوداً ذا خصائص راقية. وذلك كقوله تعالى: {الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى} فإن كل شيء أعطي خصائصه ووظائفه وهُدِي إلى أدائها عند خلقه. ولم تكن هناك فترة زمنية بين الخلق وإعطاء الخصائص والوظائف والهداية إلى أدائها. والمعنى لا يختلف إذا كان معنى هَدى: هداه إلى ربه. فإنه هُدي إلى ربه عند خلقه. وكذلك آدم صور وأعطي خصائصه الإنسانية عند خلقه.. وثم.. للترقي في الرتبة، لا للتراخي في الزمن. كما نرجح.
وعلى أية حال فإن مجموع النصوص القرآنية في خلق آدم عليه السلام، وفي نشأة الجنس البشري، ترجح أَن إعطاء هذا الكائن خصائصه الإنسانية ووظائفه المستقلة، كان مصاحباً لخلقه. وأن الترقي في تاريخ الإنسان كان ترقياً في بروز هذه الخصائص ونموها وتدريبها واكتسابها الخبرة العالية. ولم يكن ترقياً في وجود الإنسان. من تطورالأنواع حتى انتهت إلى الإنسان- كما تقول الداروينية.
ووجود أطوار مترقية من الحيوان تتبع ترتيباً زمنياً- بدلالة الحفريات التي تعتمد عليها نظرية النشوء والارتقاء- هو مجرد نظرية ظنية وليست يقينية لأن تقدير أعمار الصخور ذاته في طبقات الأرض ليس إلا ظناً! مجرد فرض كتقدير أعمار النجوم من إشعاعها. وليس ما يمنع من ظهور فروض أخرى تعدلها أو تغيرها!
على أنه- على فرض العلم اليقيني بأعمار الصخور- ليس هناك ما يمنع من وجود أنواع من الحيوان في أزمان متوالية بعضها أرقى من بعض؛ بفعل الظروف السائدة في الأرض، ومدى ما تسمح به من وجود أنواع تلائم هذه الظروف السائدة حياتها، ثم انقراض بعضها حين تتغير الظروف السائدة بحيث لا تسمح لها بالحياة.
ولكن هذا لا يحتم أن يكون بعضها متطوراً من بعض.. وحفريات دارون وما بعدها لا تستطيع أن تثبت أكثر من هذا.. لا تستطيع أن تثبت- في يقين مقطوع به- أن هذا النوع تطور تطوراً عضوياً من النوع الذي قبله من الناحية الزمنية- وفق شهادة الطبقة الصخرية التي يوجد فيها- ولكنها فقط تثبت أن هناك نوعاً أرقى من النوع الذي قبله زمنياً.. وهذا يمكن تعليله كما قلنا.. بأن الظروف السائدة في الأرض كانت تسمح بوجود هذا النوع. فلما تغيرت صارت صالحة لنشأة نوع آخر فنشأ. ومساعدة على انقراض النوع الذي كان عائشاً من قبل في الظروف الأخرى فانقرض.
وعندئذ تكون نشأة النوع الإنساني نشأة مستقلة، في الزمن الذي علم الله أن ظروف الأرض تسمح بالحياة والنمو والترقي لهذا النوع، وهذا ما ترجحه مجموعة النصوص القرآنية في نشأة البشرية.
وتفرد الإنسان من الناحية البيولوجية والفسيولوجية والعقلية والروحية. هذا التفرد الذي اضطر الداروينيون المحدثون- وفيهم الملحدون بالله كلية- للاعتراف به، دليل مرجح على تفرد النشأة الإنسانية، وعدم تداخلها مع الأنواع الأخرى في تطور عضوي!
على أية حال لقد أعلن الله بذاته العلية الجليلة ميلاد هذا الكائن الإنساني؛ في حفل حافل من الملأ الأعلى:
{ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم. فسجدوا. إلا إبليس لم يكن من الساجدين}..
والملائكة خلق آخر من خلق الله لهم خصائصهم ووظائفهم؛ لا نعلم عنهم إلا ما أنبأنا الله من أمرهم- وقد أجملنا ما علمنا الله من أمرهم في موضع سابق من هذه الظلال- وكذلك إبليس فهو خلق غير الملائكة. لقوله تعالى: {إن إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه} والجن خلق غير الملائكة، لا نعلم عنه كذلك إلا ما نبأنا الله من أمره- وقد أجملنا ما أنبأنا الله به من أمرهم في موضع من هذا الجزء أيضاً- وسيأتي في هذه السورة أن إبليس خلق من نار. فهو من غير الملائكة قطعاً. وإن كان قد أمر بالسجود لآدم في زمرة الملائكة. في ذلك الحفل العظيم الذي أعلن فيه الملك الجليل، ميلاد هذا الكائن الفريد..
فأما الملائكة- وهم الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون- فقد سجدوا مطيعين منفذين لأمر الله، لا يترددون ولا يستكبرون ولا يفكرون في معصية لأي سبب ولأي تصور ولأي تفكير.. هذه طبيعتهم، وهذه خصائصهم: وهذه وظيفتهم.. وإلى هنا تتمثل كرامة هذا الكائن الإنساني على الله، كما تتمثل الطاعة المطلقة في ذلك الخلق المسمى بالملائكة من عباد الله.
وأما إبليس فقد امتنع عن تنفيذ أمر الله- سبحانه- وعصاه. وسنعلم: ما الذي حاك في صدره، وما التصور الذي سيطر عليه فمنعه من طاعة ربه. وهو يعرف أنه ربه وخالقه، ومالك أمره وأمر الوجود كله؛ لا يشك في شيء من هذا كله!
وكذلك نجد في المشهد ثلاثة نماذج من خلق الله: نموذج الطاعة المطلقة والتسليم العميق. ونموذج العصيان المطلق والاستكبار المقيت.. وطبيعة ثالثة هي الطبيعة البشرية. وسنعلم خصائصها وصفاتها المزدوجة فيما سيجيء. فأما الطبيعة الأولى فهي خالصة لله، وقد انتهى دورها في هذا الموقف بهذا التسليم المطلق. وأما الطبيعتان الأخريان، فسنعرف كيف تتجهان.
{قال: ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك؟ قال: أنا خير منه، خلقتني من نار، وخلقته من طين}.
لقد جعل إبليس له رأياً مع النص. وجعل لنفسه حقاً في أن يحكم نفسه وفق ما يرى هو من سبب وعلة مع وجود الأمر.. وحين يوجد النص القاطع والأمر الجازم ينقطع النظر، ويبطل التفكر؛ وتتعين الطاعة، ويتحتم التنفيذ.. وهذا إبليس- لعنه الله- لم يكن ينقصه أن يعلم أن الله هو الخالق المالك الرازق المدبر الذي لا يقع في هذا الوجود شيء إلا بإذنه وقدره.. ولكنه لم يطع الأمر كما صدر إليه ولم ينفذه.. بمنطق من عند نفسه:
{قال: أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين}..
فكان الجزاء العاجل الذي تلقاه لتوه:
{قال: فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها، فاخرج إنك من الصاغرين}..
إن علمه بالله لم ينفعه، واعتقاده بوجوده وصفاته لم ينفعه.. وكذلك كل من يتلقى أمر الله؛ ثم يجعل لنفسه نظراً في هذا الأمر يترتب عليه قبوله أو رفضه؛ وحاكمية في قضية قضى الله فيها من قبل؛ يرد بها قضاء الله في هذه القضية.. إنه الكفر إذن مع العلم ومع الاعتقاد. فإبليس لم يكن ينقصه العلم، ولم يكن ينقصه الاعتقاد!
لقد طرد من الجنة، وطرد من رحمة الله، وحقت عليه اللعنة، وكتب عليه الصغار.
ولكن الشرير العنيد لا ينسى أن آدم هو سبب الطرد والغضب، ولا يستسلم لمصيره البائس دون أن ينتقم. ثم ليؤدي وظيفته وفق طبيعة الشر التي تمحضت فيه:
{قال: أنظرني إلى يوم يبعثون. قال: إنك من المنظرين. قال: فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم. ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم، وعن أيمانهم وعن شمائلهم، ولا تجد أكثرهم شاكرين}..
فهو الإصرار المطلق على الشر، والتصميم المطلق على الغواية.. وبذلك تتكشف هذه الطبيعة عن خصائصها الأولى.. شر ليس عارضاً ولا وقتياً. إنما هو الشر الأصيل العامد القاصد العنيد..
ثم هو التصوير المشخص للمعاني العقلية والحركات النفسية، في مشاهد شاخصة حية:
لقد سأل إبليس ربه أن ينظره إلى يوم البعث.
وهو يعلم أن هذا الذي يطلبه لا يقع إلاّ بإرادة الله وقدره. ولقد أجابه الله إلى طلبه في الإنظار، ولكن إلى {يوم الوقت المعلوم} كما جاء في السورة الأخرى. وقد وردت الروايات: أنه يوم النفخة الأولى التي يصعق فيها من في السماوات والأرض- إلا من شاء الله- لا يوم يبعثون..
وهنا يعلن إبليس في تبجح خبيث- وقد حصل على قضاء بالبقاء الطويل- أنه سيرد على تقدير الله له الغواية وإنزالها به، بسبب معصيته وتبجحه؛ بأن يغوي ذلك المخلوق الذي كرمه الله، والذي بسببه كانت مأساة إبليس ولعنه وطرده! ويجسم هذا الإغواء بقوله الذي حكاه القرآن عنه:
{... لأقعدن لهم صراطك المستقيم. ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم، وعن أيمانهم وعن شمائلهم}..
إنه سيقعد لآدم وذريته على صراط الله المستقيم، يصد عنه كل من يهم منهم باجتيازه- والطريق إلى الله لا يمكن أن يكون حساً، فالله سبحانه جل عن التحيز، فهو إذن طريق الإيمان والطاعات المؤدي إلى رضى الله- وإنه سيأتي البشر من كل جهة: {من بين أيديهم ومن خلفهم، وعن أيمانهم وعن شمائلهم} للحيلولة بينهم وبين الإيمان والطاعة.. وهو مشهد حي شاخص متحرك لإطباق إبليس على البشر في محاولته الدائبة لإغوائهم، فلا يعرفون الله ولا يشكرونه، اللهم إلا القليل الذي يفلت ويستجيب:
{ولا تجد أكثرهم شاكرين}..
ويجيء ذكر الشكر، تنسيقاً مع ما سبق في مطلع السورة: {قليلاً ما تشكرون}.. لبيان السبب في قلة الشكر، وكشف الدافع الحقيقي الخفي، من حيلولة إبليس دونه، وقعوده على الطريق إليه! ليستيقظ البشر للعدو الكامن الذي يدفعهم عن الهدى؛ وليأخذوا حذرهم حين يعرفون من أين هذه الآفة التي لا تجعل أكثرهم شاكرين!
لقد أجيب إبليس إلى ملتمسه. لأن مشيئة الله- سبحانه- اقتضت أن يترك الكائن البشري يشق طريقه؛ بما ركب في فطرته من استعداد للخير والشر؛ وبما وهبه من عقل مرجح؛ وبما أمده من التذكير والتحذير على أيدي الرسل؛ ومن الضبط والتقويم بهذا الدين. كما اقتضت أن يتلقى الهداية والغواية؛ وأن يصطرع في كيانه الخير والشر؛ وأن ينتهي إلى إحدى النهايتين، فتحق عليه سنة الله وتتحقق مشيئته بالابتلاء، سواء اهتدى أو ضل، فعلى سنة الله الجارية وفق مشيئته الطليقة، تحقق الهدى أو الضلال.
ولكن السياق هنا لا يصرح بترخيص الله- سبحانه- لإبليس- عليه اللعنة- في إيعاده هذا الأخير، كما صرح بإجابته في إنظاره. إنما يسكت عنه، ويعلن طرد إبليس طرداً لا معقب عليه. طرده مذموماً مقهوراً، وإبعاده بملء جهنم منه وممن يتبعه من البشر ويضل معه:
{قال: اخرج منها مذؤوماً مدحوراً.
لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين}..
ومن يتبعه من البشر قد يتبعه في معرفته بالله واعتقاده بألوهيته، ثم في رفض حاكمية الله وقضائه، وادعاء أن له الحق في إعادة النظر في أوامر الله، وفي تحكيم منطقه هو في تنفيذها أو عدم تنفيذها.. كما أنه قد يتبعه ليضله عن الاهتداء إلى الله أصلاً.. وهذا وذلك كلاهما اتباع للشيطان؛ جزاؤه جهنم مع الشيطان!
لقد جعل الله- سبحانه- لإبليس وقبيله فرصة الإغواء. وجعل لآدم وذريته فرصة الاختيار تحقيقاً للابتلاء، الذي قضت مشيئته أن تأخذ به هذا الكائن؛ وتجعله به خلقاً متفرداً في خصائصه، لا هو ملك ولا هو شيطان. لأن له دوراً آخر في هذا الكون، ليس هو دور الملك ولا هو دور الشيطان.
وينتهي هذا المشهد، ليتلوه مشهد آخر في السياق:
ينظر الله- سبحانه- بعد طرد إبليس من الجنة هذه الطردة- إلى آدم وزوجه.. وهنا فقط نعرف أن له زوجاً من جنسه، لا ندري كيف جاءت. فالنص الذي معنا وأمثاله في القرآن الكريم لا تتحدث عن هذا الغيب بشيء. وكل الروايات التي جاءت عن خلقها من ضلعه مشوبة بالإسرائيليات لا نملك أن نعتمد عليها، والذي يمكن الجزم به هو فحسب أن الله خلق له زوجاً من جنسه، فصارا زوجين اثنين؛ والسنة التي نعلمها عن كل خلق الله هي الزوجية: {ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون} فهي سنة جارية وهي قاعدة في كل خلق الله أصيلة. وإذا سرنا مع هذه السنة فإن لنا أن نرجح أن خلق حواء يمكث طويلاً بعد خلق آدم، وأنه تم على نفس الطريقة التي تم بها خلق آدم..
على أية حال يتجه الخطاب إلى آدم وزوجه، ليعهد إليهما ربهما بأمره في حياتهما؛ ولتبدأ تربيته لهما وإعدادهما لدورهما الأساسي، الذي خلق الله له هذا الكائن. وهو دور الخلافة في الأرض- كما صرح بذلك في آية البقرة: {وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة} {ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة، فكلا من حيث شئتما، ولا تقربا هذه الشجرة، فتكونا من الظالمين}..
ويسكت القرآن عن تحديد {هذه الشجرة}. لأن تحديد جنسها لا يريد شيئاً في حكمة حظرها. مما يرجح أن الحظر في ذاته هو المقصود.. لقد أذن الله لهما بالمتاع الحلال، ووصاهما بالامتناع عن المحظور. ولا بد من محظور يتعلم منه هذا الجنس أن يقف عند حد؛ وأن يدرب المركوز في طبعه من الإرادة التي يضبط بها رغباته وشهواته؛ ويستعلي بها على هذه الرغبات والشهوات، فيظل حاكماً لها لا محكوماً بها كالحيوان، فهذه هي خاصية الإنسان التي يفترق بها عن الحيوان، ويتحقق بها فيه معنى الإنسان.
والآن يبدأ إبليس يؤدي دوره الذي تمحض له..
إن هذا الكائن المتفرد؛ الذي كرمه الله كل هذا التكريم؛ والذي أعلن ميلاده في الملأ الأعلى في ذلك الحفل المهيب؛ والذي أسجد له الملائكة فسجدوا؛ والذي أخرج بسببه إبليس من الجنة وطرده من الملأ الأعلى.. إن هذا الكائن مزدوج الطبيعة؛ مستعد للاتجاهين على السواء. وفيه نقط ضعف معينة يقاد منها- ما لم يلتزم بأمر الله فيها- ومن هذه النقطة تمكن إصابته، ويمكن الدخول إليه.. إن له شهوات معينة.. ومن شهواته يمكن أن يقاد!
وراح إبليس يداعب هذه الشهوات:
{فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما؛ وقال: ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين، أو تكونا من الخالدين، وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين}..
ووسوسة الشيطان لا ندري نحن كيف تتم؛ لأننا لا ندري كنه الشيطان حتى ندرك كيفيات أفعاله، وكذا اتصاله بالإنسان وكيفية إغوائه. ولكننا نعلم- بالخبر الصادق وهو وحده المصدر المعتمد عندنا عن هذا الغيب- أن إغواء على الشر يقع في صورة من الصور؛ وإيحاء بارتكاب المحظور يتم في هيئة من الهيئات. وأن هذا الإيحاء وذلك الإغواء يعتمدان على نقط الضعف الفطرية في الإنسان. وأن هذا الضعف يمكن اتقاؤه بالإيمان والذكر؛ حتى ما يكون للشيطان سلطان على المؤمن الذاكر؛ وما يكون لكيده الضعيف حينئذ من تأثير..
وهكذا وسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما.. فهذا كان هدفه.. لقد كانت لهما سوآت، ولكنها كانت مواراة عنهما لا يريانها- وسنعلم من السياق أنها سوآت حسية جسدية تحتاج إلى تغطية مادية، فكأنها عوراتهما- ولكنه لم يكشف لهما هدفه بطبيعة الحال! إنما جاءهما من ناحية رغائبهما العميقة:
{وقال: ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين}..
بذلك داعب رغائب الإنسان الكامنة.. إنه يحب أن يكون خالداً لا يموت أو معمراً أجلاً طويلاً. كالخلود! ويحب أن يكون له ملك غير محدد بالعمر القصير المحدد..
وفي قراءة: {ملكين} بكسر اللام. وهذه القراءة يعضدها النص الآخر في سورة طه: {هل أدلكما على شجرة الخلد وملك لا يبلى} وعلى هذه القراءة يكون الإغراء بالملك الخالد والعمر الخالد وهما أقوى شهوتين في الإنسان بحيث يمكن أن يقال: إن الشهوة الجنسية ذاتها إن هي إلا وسيلة لتحقيق شهوة الخلود بالامتداد في النسل جيلاً بعد جيل- وعلى قراءة {ملكين} بفتح اللام يكون الإغراء بالخلاص من قيود الجسد كالملائكة مع الخلود.. ولكن القراءة الأولى- وإن لم تكن هي المشهورة- أكثر اتفاقاً مع النص القرآني الآخر، ومع اتجاه الكيد الشيطاني وفق شهوات الإنسان الأصيلة.
ولما كان اللعين يعلم أن الله قد نهاهما عن هذه الشجرة؛ وأن هذا النهي له ثقله في نفوسهما وقوته؛ فقد استعان على زعزعته- إلى جانب مداعبة شهواتهما- بتأمينهما من هذه الناحية؛ فحلف لهما بالله إنه لهما ناصح، وفي نصحه صادق:
{وقاسمهما: إني لكما لمن الناصحين}.
!
ونسي آدم وزوجه- تحت تأثير الشهوة الدافعة والقسم المخدر- أنه عدوهما الذي لا يمكن أن يدلهما على خير! وأن الله أمرهما أمراً عليهما طاعته سواء عرفا علته أم لم يعرفاها! وأنه لا يكون شيء إلا بقدر من الله، فإذا كان لم يقدر لهما الخلود والملك الذي لا يبلى فلن ينالاه!
نسيا هذا كله، واندفعا يستجيبان للإغراء!
{فدلاهما بغرور. فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما، وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة؛ وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة، وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين؟}..
لقد تمت الخدعة وآتت ثمرتها المرة. لقد أنزلهما الشيطان بهذا الغرور من طاعة الله إلى معصيته، فأنزلهما إلى مرتبة دنيا:
{فدلاهما بغرور}!
ولقد شعرا الآن أن لهما سوآت، تكشفت لهما بعد أن كانت مواراة عنهما. فراحا يجمعان من ورق الجنة ويشبكانه بعضه في بعض {يخصفان} ويضعان هذا الورق المشبك على سوآتهما- مما يوحي بأنها العورات الجسدية التي يخجل الإنسان فطرة من تعريها، ولا يتعرى ويتكشف إلا بفساد في هذه الفطرة من صنع الجاهلية!
{وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة، وأقل لكما: إن الشيطان لكما عدو مبين؟}..
وسمعا هذا العتاب والتأنيب من ربهما على المعصية وعلى إغفال النصيحة.. أما كيف كان النداء وكيف سمعاه، فهو كما خاطبهما أول مرة. وكما خاطب الملائكة. وكما خاطب إبليس. كلها غيب لا ندري عنه إلا أنه وقع. وأن الله يفعل ما يشاء.
وأمام النداء العلوي يتكشف الجانب الآخر في طبيعة هذا الكائن المتفرد.. إنه ينسى ويخطئ. إن فيه ضعفاً يدخل منه الشيطان. إنه لا يلتزم دائماً ولا يستقيم دائماً.. ولكنه يدرك خطأه؛ ويعرف زلته؛ ويندم ويطلب العون من ربه والمغفرة.. إنه يثوب ويتوب؛ ولا يلح كالشيطان في المعصية، ولا يكون طلبه من ربه هو العون على المعصية!
{قالا: ربنا ظلمنا أنفسنا، وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين}..
إنها خصيصة الإنسان التي تصله بربه، وتفتح له الأبواب إليه.. الاعتراف، والندم، والاستغفار، والشعور بالضعف، والاستعانة به، وطلب رحمته. مع اليقين بأنه لا حول له ولا قوة إلا بعون الله ورحمته.. وإلا كان من الخاسرين..
وهنا تكون التجربة الأولى قد تمت. وتكشفت خصائص الإنسان الكبرى. وعرفها هو وذاقها. واستعد- بهذا التنبيه لخصائصه الكامنة- لمزاولة اختصاصه في الخلافة؛ وللدخول في المعركة التي لا تهدأ أبداً مع عدوه..
{قال: اهبطوا بعضكم لبعض عدو، ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين.
قال: فيها تحيون، وفيها تموتون، ومنها تخرجون}..
وهبطوا جميعاً.. هبطوا إلى هذه الأرض.. ولكن أين كانوا؟ أين هي الجنة؟.. هذا من الغيب الذي ليس عندنا من نبأ عنه إلا ما أخبرنا به من عنده مفاتح الغيب وحده.. وكل محاولة لمعرفة هذا الغيب بعد انقطاع الوحي هي محاولة فاشلة. وكل تكذيب كذلك يعتمد على مألوفات البشر اليوم وعلمهم الظني هو تبجح، فهذا العلم يتجاوز مجاله حين يحاول الخوض في هذا الغيب بغير أداة عنده ولا وسيلة. ويتبجح حين ينفي الغيب كله، والغيب محيط به في كل جانب، والمجهول في المادة التي هي مجاله أكثر كثيراً من المعلومات!
لقد هبطوا جميعاً إلى الأرض.. آدم وزوجه، وإبليس وقبيله. هبطوا ليصارع بعضهم بعضاً. وليعادي بعضهم بعضاً؛ ولتدور المعركة بين طبيعتين وخليقتين: إحداهما ممحضة للشر، والأخرى مزدوجة الاستعداد للخير والشر؛ وليتم الابتلاء، ويجري قدر الله بما شاء.
وكتب على آدم وذريته أن يستقروا في الأرض؛ ويمكنوا فيها، ويستمتعوا بما فيها إلى حين. وكتب عليهم أن يحيوا فيها ويموتوا؛ ثم يخرجوا منها فيبعثوا.. ليعودوا إلى ربهم فيدخلهم جنته أو ناره، في نهاية الرحلة الكبرى..
وانتهت الجولة الأولى لتتبعها جولات وجولات، ينتصر فيها الإنسان ما عاذ بربه. وينهزم فيها ما تولى عدوه.
وبعد فإنها ليست قصة! إنما هو عرض لحقيقة الإنسان لتعريفه بحقيقة طبيعته ونشأته، والعوالم المحيطة به، والقدر الذي يصرف حياته، والمنهج الذي يرضاه الله له، والابتلاء الذي يصادفه، والمصير الذي ينتظره.. وكلها حقائق تشارك في تقرير مقومات التصور الإسلامي..
وسنحاول أن نلم بها بقدر ما يسمح منهج الظلال، ونبقي تفصيلاتها للبحث المتخصص عن خصائص التصور الإسلامي ومقوماته..
* إن الحقيقة الأولى التي نستلهمها من قصة النشأة الإنسانية، هي- كما قلنا من قبل- التوافق بين طبيعة الكون ونشأة الكائن الإنساني. والتقدير الإلهي المحيط بالكون والإنسان؛ والذي يجعل هذه النشأة قدراً مرسوماً لا فلتة عارضة، كما يجعل التوافق بينهما هو القاعدة.
والذين لا يعرفون الله سبحانه، ولا يقدرونه حق قدره، يقيسون أقداره وأفعاله بمقاييسهم البشرية الصغيرة. فإذا نظروا فوجدوا الكائن الإنساني مخلوقاً من مخلوقات هذه الأرض. ووجدوا هذه الأرض ذرة صغيرة كالهباءة في خضم الكون. قالوا: إنه ليس من المعقول! أن يكون وراء نشأة هذا الإنسان قصد؛ فوق أن يكون لهذا الإنسان شأن في نظام الكون! وزعم بعضهم أن وجوده كان فلتة، وأن الكون من حوله معادٍ لنشأته ونشأة الحياة جملة!.. وإن هي إلا تخرصات منشؤها قياس أقدار الله وأفعاله بمقاييس البشر الصغيرة!
وحقاً لو كان الإنسان هو الذي له هذا الملك الهائل ما عني بهذه الأرض، ولا بمثل هذا الكائن يدب عليها! لأن اهتمام الإنسان لا يتسع للعناية بكل شيء في مثل هذا الملك الهائل؛ ولا بتقدير كل شيء فيه وتدبيره، والتنسيق بين جميع الأشياء فيه.
غير أن الله- سبحانه- هو الله! هو الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض. هو صاحب هذا الملك الكبير الذي لا يقوم شيء منه إلا برعايته؛ كما أنه لم يوجد منه شيء إلا بمشيئته.. إنما آفة هذا الإنسان، حين ينحرف عن هدى الله ويستقل بهواه- ولو كان يسميه علماً!- أن ينسى أنه الله. ويتصوره- سبحانه- على هواه! ويقيس أقداره وأفعاله بمقاييس الإنسان الصغيرة! ثم يتبجح فيملي هواه هذا على الحقيقة!
يقول سير جيمس جينز- كمثل على التصورات البشرية الضالة الكثيرة- في كتاب: الكون الغامض: ونحن إذ نقف على أرضنا- تلك الحبيبة الرملية المتناهية في الصغر- نحاول أن نكشف عن طبيعة الكون الذي يحيط بموطننا في الفضاء والزمن، وعن الغرض من وجوده، نحس في أول الأمر بما يشبه الذعر والهلع. وكيف لا يكون الكون مخيفاً مرعباً، وهذه أبعاده هائلة لا تستطيع عقولنا إدراك مداها؟ وقد مرت عليه أحقاب طويلة لا يمكن تصورها؟ ويتضاءل إلى جانبها تاريخ الإنسان حتى يبدو وكأنه لمح البصر؟.. وهو مخيف مرعب لما نشعر به من وحدة مرهوبة، وما نعلمه من ضآلة موطننا في الفضاء. ذلك الموطن الذي لا يزيد على جزء من مليون جزء من إحدى حبيبات الرمال التي في بحار العالم؟.. ولكن أخوف ما يُخاف العالم من أجله: أنه لا يُعنى- كما يلوح- بحياة مثل حياتنا. وكأن عواطفنا ومطامعنا وأعمالنا وفنوننا وأدياننا كلها غريبة عن نظامه وخطته. وقد يكون من الحق أن نقول: إن بينه وبين حياة كحياتنا عداء قوياً. ذلك بأن الفضاء في أكثر أجزائه بارد إلى حد تتجمد فيه كل أنواع الحياة.. كما أن أكثر المادة التي في الفضاء تبلغ من الحرارة حداً يجعل الحياة فيه مستحيلة؛ وأن الفضاء تذرعه إشعاعات مختلفة الأنواع، لا تنفك تصدم ما فيه من أجرام فلكية؛ وقد يكون كثير من هذه الإشعاعات معادياً للحياة أو مبيداً لها.
هذا هو الكون الذي ألقت بنا فيه الظروف. وإذا لم يكن حقاً أن ظهورنا حدث بسبب غلطة وقعت فيه. فلا أقل من أن يكون نتيجة لما يصح أن يوصف بحق أنه مصادفة!.
وقد بينا من قبل أن افتراض عداء الكون لنشأة الحياة مع افتراض عدم وجود تقدير وتدبير من قوة مهيمنة.. ثم وجود الحياة بعد ذلك فعلاً.. أمور لا يتصورها عقل عاقل! فضلاً على أن يكون عقل عالم! وإلا فكيف أمكن ظهور الحياة في الكون المعادي لها مع افتراض عدم وجود قوة مهيمنة مقدِّرة! هل الحياة أقوى من الكون بحيث تظهر رغم أنفه؟! ورغم عدائه لها بطبيعة تكوينه؟! هل هذا الكائن الإنساني مثلاً- قبل أن ينشأ- أقوى من هذا الكون الموجود فعلاً، ومن ثم طلع هكذا في الكون، وأنف الكون راغم؟!
إنها تصورات لا تستحق عناء النظر! ولو أن هؤلاء العلماء يكتفون بأن يقولوا لنا فقط ما تصل إليه وسائلهم من وصف الموجودات، دون أن يدخلوا في أمثال هذه التخرصات الميتافيزيقية التي لا تستند على أساس، لأدوا دورهم- ولو ناقصاً- في تعريف الناس بالكون من حولهم! ولكنهم يتجاوزون دائرة المعرفة المأمونة إلى تيه الفروض والظنون، بلا دليل إلا الهوى الإنساني الصغير!
ونحن- بحمد الله وبهداه- ننظرإلى هذا الكون الهائل فلا نشعر بالذعر والهلع الذي يقول عنه سير جيمس جينز! إنما نشعر بالرهبة والإجلال لبارئ هذا الكون؛ ونشعر بالعظمة والجمال المتجليين في خلقه؛ ونشعر بالطمأنينة والأنس، لهذا الكون الصديق، الذي أنشأه الله وأنشأنا فيه عن توافق وتنسيق.
وتروعنا ضخامته كما تروعنا دقته؛ ولكننا لا نفزع ولا نجزع، ولا نشعر بالضياع، ولا نتوقع الهلاك.. فإن ربنا وربه الله.. ونتعامل معه في يسر ومودة وأنس وثقة؛ ونتوقع أن نجد فيه أرزاقنا وأقواتنا ومعايشنا ومتاعنا.. ونرجو أن نكون من الشاكرين:
{ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش. قليلاً ما تشكرون}..
* والحقيقة الثانية المستلهمة من قصة النشأة الإنسانية: هي كرامة هذا الكائن الفريد في العوالم الحية؛ وضخامة دوره المنوط به؛ وسعة الآفاق والمجالات التي يتحرك فيها؛ وتنوع العوالم التي يتعامل معها- في حدود عبوديته لله وحده- مما يتناقض تماماً مع المذاهب الحسية الوضعية المادية التي تهدر قيمته كعامل أساسي مؤثر في الكون، حيث تسند الأهمية كلها للمادة وتأثيراتها الحتمية. ومع مذهب النشوء والارتقاء الذي يلحقه بعالم الحيوان ولا يكاد يحفل خصائصه الإنسانية المتميزة؛ أو مذهب التحليل النفسي الفرويدي الذي يصوره غارقاً في وحل الجنس حتى ما يتسامى إلا عن طريق هذا الوحل نفسه!.. إلا أن هذه الكرامة لهذا الكائن الفريد، لا تجعل من الإنسان إلهاً كما تحاول فلسفات عهد التنوير أن تقول. إنما هو الحق والاعتدال في التصور الإسلامي السليم.
لقد أُعلن ميلاد هذا الكائن المتفرد، الذي نرجح من مجموعة النصوص القرآنية- ولا نجزم- أن نشأته كانت مستقلة- أعلن هذا الميلاد في حفل كوني كان شهوده الملأ الأعلى. وأعلن ميلاده الجليل العظيم في هذا الملأ وفي الوجود كله.. وفي الآية الأخرى في سورة البقرة أنه أعلن كذلك خلافته في الأرض منذ خلقه؛ وكان الابتلاء الأول له في الجنة تمهيداً وإعداداً لهذه الخلافة.
كما تعلن الآيات القرآنية في سور متعددة، أن الله جعل هذا الكون- لا الأرض وحدها- عوناً له في هذه الخلافة. وسخر له ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه..
وكذلك تظهر ضخامة الدور الذي أعطاه بارئه له. فإن عمارة كوكب وسيادته بخلافة الله فيه- أياً كان حجم هذا الكوكب- إنها لأمر عظيم!
والذي يتضح من القصة ومن مجموعة النصوص القرآنية أنه كذلك خلق متفرد لا في الأرض وحدها، ولكن في الكون كله. فالعوالم الأخرى من ملائكة وجن وما لا يعلمه إلا الله من الخلق؛ لها وظائف أخرى، كما أنها خلقت من طبائع أخرى تناسب هذه الوظائف. وتفرد الإنسان وحده بخصائصه هذه ووظائفه. يدل على ذلك قول الله تعالى: {إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها، وحملها الإنسان، إنه كان ظلوماً جهولاً} وإذن فهو متفرد في الكون كله بخصائص.. ومنها الظلم والجهل! إلى جانب الاختيار النسبي والاستعداد للمعرفة المترقية، والإرادة الذاتية. والمقدرة على العدل والعلم، بقدر المقدرة على الظلم والجهل!.. فهذا الازدواج ذاته هو ميزته التي تفرده.
كل أولئك يلغي تلك النظرة للإنسان القائمة على صغر حجم الكوكب الذي يعيش عليه؛ بالقياس إلى أحجام الكون الهائلة. فالحجم ليس هو كل شيء. وخصيصة العقل القابل للمعرفة، والإرادة القابلة للاستقلال- في حدود العبودية لله- والاختيار والترجيح الذاتي.. كل أولئك يفوق في قيمته، الحجم الذي يقيم عليه سير جيمس جينز وأمثاله نظرتهم إلى قيمة الإنسان ودوره.
هذه الأهمية التي تخلعها القصة ومجموع النصوص القرآنية على هذا الكائن الإنساني لا تقتصر على دوره في خلافة الأرض، بهذه الخصائص المتفردة؛ ولكن صورتها تكمل بتأمل الآفاق والمجالات التي يتحرك فيها، والعوالم التي يتعامل معها.
إنه يتعامل تعاملاً مباشراً مع ربه الجليل سبحانه! هو الذي أنشأه بيده، وأعلن ميلاده في الملأ الأعلى وفي الوجود كله بنطقه، وخوله الجنة يأكل منها حيث يشاء- إلا الشجرة المحظورة- ثم خوله خلافة الأرض بعد ذلك بأمره؛ وعلمه أساس المعرفة- كما في آية البقرة {وعلم آدم الأسماء كلها} وهو ما نرجح أنه القدرة على الرمز باللفظ والاسم للمدلول والمسمى، وهو القاعدة التي يقوم عليها إمكان تبادل المعرفة وتعميمها في الجنس كله- كما قلنا في سورة البقرة- وأوصاه وصيته في الجنة وبعدها، وأودعه الاستعدادات الخاصة التي تفرد جنسه بخصائصه، وأرسل له الرسل- منه- بهداه؛ وكتب على نفسه الرحمة أن يقيل عثرته ويقبل توبته.. إلى آخر نعمة الله على هذا الكائن المتفرد في الكون كله.
ثم هو يتعامل مع الملأ الأعلى.. أسجد الله له الملائكة، وجعل منهم حفظة عليه، كما جعل منهم من يبلغ الرسل وحيه، وأنزلهم على الذين قالوا: ربنا الله ثم استقاموا يثبتونهم ويبشرونهم، وعلى المجاهدين في سبيل الله ينصرونهم ويبشرونهم كذلك، وسلطهم على الذين كفروا يقتلونهم ويستلون أرواحهم منهم في تأنيب وتعذيب.
إلى آخر ما بين الملائكة والإنسان من تعامل. في الدنيا وفي الآخرة كذلك.
ويتعامل مع الجن: صالحيهم وشياطينهم.. وقد شهدنا منذ لحظات تشخيص المعركة الأولى بينه وبين الشيطان. وهي معركة ممتدة إلى يوم الوقت المعلوم. كما أن تعامله مع صالحي الجن مذكور في نصوص قرآنية أخرى. وتسخير الجن أحياناً له ثابت كما في قصة سليمان عليه السلام.
كذلك هو يتعامل مع هذا الكون المادي- وبخاصة الأرض والكواكب والنجوم القريبة منها- وهو الخليفة في هذه الأرض عن الله؛ المسخرة له قواها وطاقاتها وأرزاقها ومدخراتها، وعنده الاستعداد اللدني لفتح بعض مغاليق أسرارها، والتعرف إلى بعض نواميسها التي تعينه معرفتها على أداء دوره العظيم.. ومن ثم يتعامل كذلك مع جميع الأحياء فيها.. وأخيراً فإنه بازدواج طبيعته واستعداداته يتحرك في مجال بعيد الآماد من نفسه ذاتها! إنه يعرج إلى السماوات العلى ويتجاوز مراتب الملائكة، حين يخلص عبوديته لله ويترقى فيها إلى منتهاها. كما أنه يهبط إلى ما دون مستوى البهيمة حين يتخذ إلهه هواه ويتخلى عن خصائص إنسانيته ويتمرغ في الوحل الحيواني.. وبين هذين المجالين أبعاد أضخم مما بين السماوات والأرض في عالم الحس وأبعد مدى!
وليس هذا كله لغير الإنسان كما تلهمه هذه القصة وبقية النصوص الأخرى..
* والحقيقة الثالثة: أن هذا الكائن- على كل تفرده هذا أو بسبب تفرده هذا- ضعيف في بعض جوانب تكوينه، حتى ليمكن قيادته إلى الشر والارتكاس إلى الدرك الأسفل، من خطام شهواته.. وفي أولها ضعفه تجاه حبِّ البقاء، وضعفه تجاه حب الملك.. وهو يكون في أشد حالات ضعفه وأدناها حين يبعد عن هدى الله، ويستسلم لهواه، أو يستسلم لعدوه العنيد الذي أخذ على عاتقه إغواءه، في جهد ناصب، لا يكل ولا يدع وسيلة من الوسائل!
وقد اقتضت رحمة الله به- من ثم- ألا يتركه لفطرته وحدها، ولا لعقله وحده، وأن يرسل إليه الرسل للإنذار والتذكير- كما سيجيء في آية تالية في معرض التعقيب على القصة- وهذه هي صخرة النجاة بالنسبة له... النجاة من شهواته بالتخلص من هواه والفرار إلى الله. والنجاة من عدوه الذي يخنس ويتوارى عند ذكره لربه، وتذكر رحمته وغضبه، وثوابه وعقابه..
وهذه كلها مقويات لإرادته، حتى يستعلي على ضعفه وشهواته.. وقد كان أول تدريب له في الجنة هو فرض المحظور عليه؛ لتقوية هذه الإرادة، وإبرازها في مواجهة الإغراء والضعف. وإذا كان قد فشل في التجربة الأولى، فقد كانت هذه التجربة رصيداً له فيما سيأتي!
ومن رحمة الله به كذلك أن جعل باب التوبة مفتوحاً له في كل لحظة.
فإذا نسي ثم تذكر؛ وإذا عثر ثم نهض؛ وإذا غوى ثم تاب.. وجد الباب مفتوحاً له، وقبل الله توبته، وأقال عثرته. فإذا استقام على طريقه بدل الله سيئاته حسنات، وضاعف له ما شاء. ولم يجعل خطيئته الأولى لعنة مكتوبة عليه وعلى ذريته. فليست هنالك خطيئة أبدية. وليست هنالك خطيئة موروثة- ولا تزر وازرة وزر أخرى.
وهذه الحقيقة في التصور الإسلامي تنقذ كاهل البشرية من أسطورة الخطيئة الموروثة التي تقوم عليها التصورات الكنسية في المسيحية؛ والتي يقوم عليها ركام هائل من الطقوس والتشكيلات فوق ما يقوم فوقها من الأساطير والخرافات.. خطيئة آدم التي تلازم البشرية كاللعنة المصلتة على الرقاب! حتى يتمثل الإله في صورة ابن الإنسان (المسيح) ويصلب ويحتمل العذاب للتكفير عن هذه الخطيئة الموروثة؛ ومن ثم يكتب (الغفران) لمن يتحد بالمسيح الذي كفر بدمه عن خطيئة آدم التي ورثتها البشرية!
إن الأمر في التصور الإسلامي أيسر من هذا بكثير. لقد نسي آدم وأخطأ.. ولقد تاب واستغفر.. ولقد قبل الله توبته وغفر له.. وانتهى أمر تلك الخطيئة الأولى. ولم يبق منها إلا رصيد التجربة الذي يعين الجنس البشري في صراعه الطويل المدى..
أية بساطة! وأي وضوح! وأي يسر في هذه العقيدة!
* والحقيقة الرابعة: هي جدية المعركة مع الشيطان وأصالتها، واستمرارها وضراوتها..
لقد بدا من سياق القصة إصرار هذا العدو العنيد على ملاحقة الإنسان في كل حالة، وعلى إتيانه من كل صوب وجهة، على اتباعه في كل ساعة ولحظة:
{قال: فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم. ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم، ولا تجد أكثرهم شاكرين}..
لقد اختار اللعين أن يزاول هذا الكيد، وأن يُنظر لمزاولته على المدى الطويل.. اختار هذا على أن يضرع إلى الله أن يغفر له خطيئته في معصيته عيانا وقد سمع أمره مواجهة! ثم بين أنه سيقعد لهم على طريق الله لا يمكنهم من سلوكه؛ وأنه سيأتيهم من كل جهة يصرفهم عن هداه.
وهو إنما يأيتهم من ناحية نقط الضعف فيهم ومداخل الشهوة. ولا عاصم لهم منه إلا بالتقوِّي بالإيمان والذكر والتقوِّي على إغوائه ووسوسته، والاستعلاء على الشهوات وإخضاع الهوى لهدى الله.
والمعركة مع الشيطان هي المعركة الرئيسية. إنها المعركة مع الهوى باتباع الهدى. والمعركة مع الشهوات باستعلاء الإرادة. والمعركة مع الشر والفساد في الأرض الذي يقود الشيطان أولياءه إليه باتباع شريعة الله المصلحة للأرض.. والمعركة في الضمير والمعركة في الحياة الواقعية متصلتان لا منفصلتان. فالشيطان وراءهما جميعاً!
والطواغيت التي تقوم في الأرض لتخضع الناس لحاكميتها وشرعها وقيمها وموازينها، وتستبعد حاكمية الله وشرعه والقيم والموازين المنبثقة من دينه.
إنما هي شياطين الإنس التي توحي لها شياطين الجن. والمعركة معها هي المعركة مع الشيطان نفسه. وليست بعيدة عنها.
وهكذا تتركز المعركة الكبرى الطويلة الضارية في المعركة مع الشيطان ذاته. ومع أوليائه. ويشعر المسلم وهو يخوض المعركة مع هواه وشهواته؛ وهو يخوضها كذلك مع أولياء الشيطان من الطواغيت في الأرض وأتباعهم وأذنابهم؛ وهو يخوضها مع الشر والفساد والانحلال الذي ينشئونه في الأرض من حولهم.. يشعر المسلم وهو يخوض هذه المعارك كلها، أنه إنما يخوض معركة واحدة جدية صارمة ضارية، لأن عدوه فيها مصرٌّ ماض في طريقه.. وأن الجهاد- من ثم- ماض إلى يوم القيامة. في كل صوره ومجالاته.
* وأخيراً فإن القصة والتعقيبات عليها- كما سيجيء- تشير إلى شيء مركوز في طبع الإنسان وفطرته. وهو الحياء من التعري وانكشاف سوأته:
{فوسوس لهما الشيطان، ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما}..
{فدلاهما بغرور، فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة}..
{يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سوآتكم، وريشاً، ولباس التقوى ذلك خير. ذلك من آيات الله}.. {يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما} وكلها توحي بأهمية هذه المسألة، وعمقها في الفطرة البشرية. فاللباس، وستر العورة، زينة للإنسان وستر لعوراته الجسدية. كما أن التقوى لباس وستر لعوراته النفسية.
والفطرة السليمة تنفر من انكشاف سوآتها الجسدية والنفسية، وتحرص على سترها ومواراتها.. والذين يحاولون تعرية الجسم من اللباس، وتعرية النفس من التقوى، ومن الحياء من الله ومن الناس، والذين يطلقون ألسنتهم وأقلامهم وأجهزة التوجيه والإعلام كلها لتأصيل هذه المحاولة- في شتى الصور والأساليب الشيطانية الخبيثة- هم الذين يريدون سلب الإنسان خصائص فطرته، وخصائص إنسانيته التي بها صار إنساناً. وهم الذين يريدون إسلام الإنسان لعدوه الشيطان وما يريده به من نزع لباسه وكشف سوآته! وهم الذين ينفذون المخططات الصهيونية الرهيبة لتدمير الإنسانية وإشاعة الانحلال فيها لتخضع لملك صهيون بلا مقاومة. وقد فقدت مقوماتها الإنسانية!
إن العري فطرة حيوانية. ولا يميل الإنسان إليه إلا وهو يرتكس إلى مرتبة أدنى من مرتبة الإنسان. وإن رؤية العري جمالاً هو انتكاس في الذوق البشري قطعاً. والمتخلفون في أواسط إفريقية عراة. والإسلام حين يدخل بحضارته إلى هذه المناطق يكون أول مظاهر الحاضرة اكتساء العراة! فأما في الجاهلية الحديثة التقدمية فهم يرتكسون إلى الوهدة التي ينتشل الإسلام المتخلفين منها، وينقلهم إلى مستوى الحضارة بمفهومها الإسلامي الذي يستهدف استنقاذ خصائص الإنسان وإبرازها وتقويتها.
والعري النفسي من الحياء والتقوى- وهو ما تجتهد فيه الأصوات والأقلام وجميع أجهزة التوجيه والإعلام- هو النكسة والردة إلى الجاهلية. وليس هو التقدم والتحضر كما تريد هذه الأجهزة الشيطانية المدربة الموجهة أن توسوس!
وقصة النشأة الإنسانية في القرآن توحي بهذه القيم والموازين الأصيلة وتبينها خير بيان.
والحمد لله الذي هدانا إليه وأنقذنا من وسوسة الشيطان ووحل الجاهلية!!!




البحث


كلمات متتالية كلمات متفرقة




موضوعات القرآن
  • الإيمان
  • العلم
  • العبادات
  • أحكام الأسرة
  • المعاملات
  • الحدود والجنايات
  • الجهاد
  • الأطعمة والأشربة
  • أحكام الجنائز
  • الأخلاق
  • تكريم الله للإنسان
  • القصص والتاريخ
  • الأمثال