فصل: سنة سبع وأربعين وأربعمائة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: اتعاظ الحنفاء بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفاء **


 سنة سبع وأربعين وأربعمائة

فيها سير المستنصر إلى كنيسة قمامة فأحتاط بجميع ما فيها‏.‏

وذلك أن القاضي أبا عبد الله القضاعي كان قد توجه من عند الخليفة برسالة إلى متملك الروم فقدم وهو بالقسطنطينية رسول السلطان طغرلبك بن سلجوق يلتمس من الملكة تيودورا أن تمكن رسوله من الصلاة في جامع قسطنطينية فأذنت له في ذلك فدخل إليه وصلى به وخطب للخليفة القائم بأمر الله العباسي‏.‏

فبعث القضاعي بذلك إلى المستنصر فأحاط بما في قمامة وأخذه وأخرج البطرك منها إلى دار مفردة وأغلق أبواب كنائس مصر والشام وطالب الرهبان بالجزية لأربع سنين وزاد على النصارى في الجزية‏.‏

وكان هذا ابتداء فساد ما بين الروم والمصريين‏.‏

وفيها تجمع كثير من التركمان بحلب وغيرها وأفسدوا في أعمال الشام‏.‏

وفيها تزايد الغلاء وكثر الوباء وعم الموتان بديار مصر‏.‏

وفيها سار مكين الدولة الحسن بن علي بن ملهم من القاهرة بالعساكر ونودي في بلاد الشام بالغزو والجهاد‏.‏

واستدعى راشد بن عليان بن سنان إلى القاهرة وقرر معه أن يسير في قومه الكلبيين مع ابن ملهم ثم قبض عليه‏.‏

وعقدت إمارة الكلبيين لنبهان وقيل لسنان فنزل ابن ملهم أفامية ثم سار إلى حسن قسطول فحصره عشرين يوما حتى أخذه بالأمان في ثامن ربيع الأول سنة سبع وأربعين‏.‏

وعاد إلى أفامية فحصرها ورماها بالمجانيق فطلبوا الأمان على أن يرحل عنهم فلما رحل أحرقوا القلعة وانهزموا فلحقهم وقتلهم وأطفأ النار من القلعة وأغار على البلاد فلم يكن بأنطاكية من يذب عنها وجمع كل طامع في النهب بحجة ابن ملهم‏.‏

وتوسط ثمال بن صالح للصلح فلم يتم‏.‏

وسيرت الملكة تيودورا أسطولا إلى أنطاكية فوصل اللاذقية ثمانون قطعة وخرج دوقس أنطاكية وبطركها في جماعة فظفروا بشينيين للمسلمين معهما الغنائم فسار ابن مهلم نحوهم وكشف الروم إلى طرف أنطاكية واستنقذ الأسرى منهم وقتل منهم خلقا كثيرا‏.‏

فدار الأسطول إلى طرابلس وقاتلوا أهلها فقتل من الفريقين خلائق‏.‏

وعاد الأسطول الرومي إلى اللاذقية فماتت الملكة تيودورا بعد سبع سنين من ملكها وتسعة أشهر واثنتي عشرة ليلة وملك بعدها ميخائيل‏.‏

 سنة ثمان وأربعين وأربعمائة

فيها جهزت الأموال لأبي الحارث البساسيري فخرج بها المؤيد في الله عبد الله بن موسى وجملتها ألفا ألف وثلثمائة ألف دينار العين ألف ألف وتسعمائة ألف دينار والعروض أربعمائة ألف دينار‏.‏

وكان من خبره أنه كان من جملة المماليك الأتراك فصار إلى بهاء الدولة بن عضد الدولة بن بويه رجل من أهل فسا إحدى مدائن فارس فلذلك قيل له البساسيري وتنقل في الخدم حتى صار مقدم الأتراك ببغداد في أيام الخليفة القائم بأمر الله أبي جعفر عبد الله بن أحمد القادر وتلقب بالمظفر‏.‏

وكان القائم لا يقطع أمراً دونه‏.‏

فطار اسمه وتهيبته أمراء العرب والعجم ودعى له على منابر العراق والأهواز وتجبر‏.‏

وأراد في سنة ست وأربعين من الخليفة أن يسلم إليه أبا الغنائم وأبا سعد ابني المحلبنا صاحبي قريش ابن بدران صاحب الموصل فلم يمكنه من ذلك‏.‏

فسار إلى الأنبار ونصب عليها المجانيق وهدم سورها وأخذها قهرا وأسر أبا الغنائم ابن المحلبان ومائة رجل من بني خفاجة وكثيراً من أهل الأنبار‏.‏

ورجع إلى بغداد وأبو الغنائم بين يديه على جمل في رجليه قيد فصلب كثيراً من الأسرى‏.‏

واتفق في شهر ربيع الآخر من سنة سبع وصول زورق فيه ثمر للبساسيري فخرج إليه ابن سكرة الهاشمي في جماعة فأراقوه ونهبوا دوره وأخذوا دوابه وكان هو إذ ذاك في نواحي واسط‏.‏

فلما بلغه ذلك نسبه إلى الوزير رئيس الرؤساء أبي القاسم بن المسلمة فعظمت الوحشة بين وبين الوزير‏.‏

وسار إلى دبيس بن بدران وهو مستوحش فوافت رسل طغرلبك بن ميكال بن سلجوق إلى الخليفة القائم بإظهار الطاعة فتقرر الأمر مع الملك الرحيم خسرو فيروز بن أبي كاليجار المرزبان ابن سلطان الدولة أبي شجاع على أن يخطب لطغرلبك ببغداد فخطب له لثمان بقين من شهر رمضان منها‏.‏

ثم إنه قدم إلى بغداد وقبض على الملك الرحيم وعلى جماعة ثم بعث به إلى قلعة السيروان وفر منه قريش ثم إنه خلع عليه ورده إلى أهله وأخذ أموال الاجناد البغداديين وأمرهم بالسعي في طلب الرزق فسار أكثرهم إلى البساسيري‏.‏

وبعث طغرلبك إلى الأمير نور الدين دبيس بن بدران أن يحضر إليه البساسيري فالتزم له بذلك‏.‏

وبلغ البساسيري الخبر فسار إلى رحبة مالك بن طوق وكاتب المستنصر يطلب منه الإذن له في الدخول إلى حضرته فأشير على المستنصر بألا يمكنه من الحضور وأن يعده بما يرضيه وسير إليه الخلع‏.‏

فبعث يسأل في النجدة ويلتزم بأخذ بغداد وإقامة الخطبة بها للمستنصر وإزالة دولة بني العباس وأنه يكفي في رد طغرلبك عن قصده البلاد الشامية‏.‏

فجهزت إليه خزائن الأموال العظيمة على يد المؤيد في الدين أبي نصر هبة الله بن موسى في سنة ثمان وأربعين حيث لم يترك في خزائن أموال القصر شيء ألبتة‏.‏

وخرج خطير الملك محمد بن الوزير من القاهرة في تجمل عظيم ومعه من كل ما يريد حتى أخذ أحواض الخشب وفيها الطين المزروع فيه سائر البقول برسم مائدته‏.‏

ومعه من خزائن الأموال والأسلحة والآلات والأمتعة ما يجل وصفه‏.‏

فسار إلى القدس ورحل منها إلى اللاذقية يريد فتحها‏.‏

فلما كان في شوال منها واقع البساسيري ودبيس قريش ابن بدران العقيلي صاحب الموصل وقتلمش ابن عم طغرلبك وكان طغرلبك قد سيره إلى سنجار في ألفين وخمسمائة فارس‏.‏

فكانت الوقعة المشهورة التي لم يفلت منها إلا مائتا فارس أو دونها‏.‏

وانهزم قريش وقتلمش واستولى البساسيري ودبيس على الموصل وأقاما بها الدعوة للمستنصر وكتبا إليه بذلك فسيرت إليهما الخلع ولجماعة أمراء العرب‏.‏

وعمل الشعر في هذه الواقعة‏.‏

فمن مليح ما قيل لابن حيوس‏:‏ عجبت لمدّعى الآفاق ملكا وغايته ببغداد الرّكود ومن مستخلفٍ بالهون يرضى يذاد عن الحياض ولا يذود وأعجب منهما شعبٌ بمصر تقام له بسنجار الحدود وبلغ ذلك طغرلبك فسار يريد الموصل حتى بلغ نصيبين فأوقع بالعرب وألقاهم بين يدي الفيلة فقتلهم شر قتلة‏.‏

وبعث إليه دبيس وقريش بالطاعة فقبل منهما‏.‏

وسار إلى دياربكر وجهز أخاه داود إلى الموصل فتسلمها وعاد إلى بغداد‏.‏

 سنة تسع وأربعين وأربعمائة

فيها تسلم مكين الدولة ابن ملهم من ثمال بن صالح مدينة حلب في آخر ذي القعدة وانكفت أيدي التركمان عنها وأقيمت خطبة المستنصر فيها وقطعت خطبة القائم وذلك بعد حروب عظيمة‏.‏

وكان دخول ابن ملهم حلب يوم الخميس لثلاث بقين من ذي القعدة فبقي على ملكها أربع سنين‏.‏

وفيها قدم كتاب من بخارى أنه وقع بها وباء عظيم حتى هلك من ذلك الإقليم ألف ألف وستمائة ألف وخمسون ألف إنسان وخلت الأسواق وأغلقت الأبواب‏.‏

وتعدى الوباء إلى آذربيجان فالأهواز والبصرة وواسط وعامة تلك الأعمال فكانت الحفيرة تحفر ويلقى فيها العشرون والثلاثون من الأموات‏.‏

وكان سببه قلة القوت والجوع فنبشت الأموات وأكلهم الناس‏.‏

وكان الموت إذا وقع في دار مات جميع من فيها وكان المريض ينشق قلبه عن دم المهجة فيخرج من فمه قطرة فيموت أو يخرج من في دود فيموت‏.‏

وكل دار كان فيها خمر مات أهلها كلهم في ليلة واحدة ومن كانت امرأته حراماً ماتا معاً ومات قيم مسجد وله خمسون ألف درهم فلم يقبلها أحد ووضعت في المسجد تسعة أيام فدخل أربعة من الشلوح إليها ليلا ليأخذوها فمات الأربعة عليها‏.‏

وكان يموت الوصي قبل الموصى وكل مسلمين كان بينهما تفاخر ولم يصطلحا ماتا‏.‏

وابتدأ هذا الوباء من تركستان ودب منها إلى كاشغر والشاش وفرغانة وعم النساء والصبيان فمات الصبيان والكهول والفتيان من سائر الناس إلا الملوك والعساكر فإنه لم يمت منهم ولا من الشيوخ والعجائز إلا القليل‏!‏‏!‏ في أول المحرم قبض المستنصر على وزيره الناصر للدين غياث المسلمين أبي محمد اليازوري وكان قد جمع له ما لم يجتمع لغيره من تقليد الوزارة وقضاء القضاء وداعي الدعاة‏.‏

وكان للقبض عليه أسباب منها أن طغرلبك لما ملك بغداد كان بها لليازوري عيون كثيرة يطالعونه بدفين الأمور وجليلها فوصلت كتبهم بوصوله وأنهم سمعوه يذكر إزماعه على التوجه نحو الشام ليملكه‏.‏

فقل لذلك ورأى أن الحيلة أبلغ من الاستعداد له فكتب إليه يهنئه بوصوله إلى العراق ويبذل له من الخدمة ما يوفى على أمله وأن مصر وأعمالها بحكمه وأنه وإن كان مستخدماً لدولة ويدعو إليها فإنه يعلم كثرة الاختلاف فمن تجاوزها في نسبها واتفاق الكلمة ووقوع الإجماع على الرضا بالخليفة الصحيح النسب الصريح الحسب الهاشمي العباسي وأنه لا يمتنع عن الإقرار له بذلك‏.‏

وأعطاه صفقة يده على مبايعته وتسليم الدولة له‏.‏

وأنه قد اتصل به إزماع حضرته على التوجه إلى الشام وأنه أشفق من تسليمها إليه فتطأها عساكره مع كثرتها وتجمعها فيخربها ويعفى آثارها ولا يقع بملكها انتفاع ولا يرجى لها ارتفاع فإن رأى أعفاها من وطء العساكر لها ووصول ركابها إليها على وجه الفرجة والنظر إلى دمشق وحصنها فلها عالي رأيها‏.‏

فلما وقف طغرلبك على كتابه قال هذا كتاب رجل عاقل ويجب أن يعتمد ما أشار به بالإذن للعسكر في عودتهم إلى بلادهم فمضى كل منهم لوجهه‏.‏

ثم أمر فضرب فساطيطه في الجانب الغربي من بغداد فكتب بذلك عيون اليازوري إليه فقلق ثم كتب إليه‏:‏ لا تغرنك الأماني والخدع بأن أسلم إليك أعمال الدولة وأخون أمانتي لمن غذاني فضله وغمرني إحسانه وتتعين علي طاعته وموالاته‏.‏

فإن كنت تسلم إلي ما في يدك لصاحبك من العراق وأعماله سلمت إليك ما في يدي لصاحبي بل الواجب أن تكون كلمة الإسلام مجموعة لابن بنت النبي الذي هو أولى بمكانه من غيره‏.‏

وإن رغبت في المهادنة والموادعة انتظمت الحال بين الدولتين وأمن الناس بينهما‏.‏

فإن أبيت إلا الخلاف ونزع الهوى بك إلى الظنون الفاسدة والأطماع الكاذبة فليس لك عندي إلا السيف‏.‏

فإن شئت فأقم وإن شئت فسر‏.‏

فغاظ ذلك طغرلبك وقال‏:‏ خدعني هذا الفلاح وسخر مني‏.‏

وكتب إلى إبراهيم بن ينال أخي طغرلبك لأمه برد العسكر مسرعا فلم يتأت له اجتماعهم‏.‏

وكان اليازوري قد بث عيونه وجواشيه في عسكر طغرلبك واستفسد أعيانهم بكثرة الأماني والمواعيد مثل خاتون زوج طغرلبك والكندري وزيره وابراهيم ينال أخيه وصاحب جيشه فمالوا إليه وقعدوا عن صاحبهم‏.‏

وحمل خاتون على قتله فامتنعت من ذلك وواعدته أنها تتحيز بغلمانها وهم نحو اثني عشر ألفا عنه فاعتزلت بهم‏.‏

وكان ذلك ظفر البساسيري بعسكر طغرلبك وظفر كثير منهم ورجوع طغرلبك من بغداد طالباً لجمع عسكره الذي تفرق عنه‏.‏

وهو أنه سار في هذه السنة ملك البساسيري وقريش الموصل بعد حصار شديد نحو أربعة أشهر حتى هدم قلعتها‏.‏

فخرج طغرلبك يريدهما فسارا عن الموصل وهو يتبعهما إلى نصيبين ففارقه إبراهيم ينال وقصد همذان ولحقه الأتراك الذين كانوا ببغداد‏.‏

ففت ذلك في عضد طغرلبك وترك ما هو فيه ورجع ليضم إليه من تفرق عنه وترك بغداد‏.‏

فقوى أبو الحارث البساسيري وكثف جمعه وقصد أعمال العراق ففتح بلداً بلداً وتملك الأعمال والرساتيق طوعاً وكرهاً والدولة المصرية تمده بما يستعين به على ذلك وهو لا ينفذ في أمر من الأمور إلا بما يقرره اليازوري‏.‏

فكثرت حساده على ما يتوالى من سعادته في كل يوم وما يتجدد له من رئاسة يقتضيها حسن آثاره في الدولة وتأثيراته في جميع الأطراف والممالك بلطف السياسة ومحكم التدبير الذي يبلغ به غاية آماله بحيث لا يبلغ غيره بعضها إلا بإنفاق الجمل العظيمة وتفريغ بيوت الأموال ثم لا يكاد يظفر ببلوغ أمل في جهة من الجهات إلا دوخها وثبتت آثاره فيها الدهر الطويل‏.‏

وصار أعداؤه يتعجبون مما يتأتى له من السعادة وتعينه عليه الأقدار‏.‏

واستطالوا مدته فابتغوا له الغوائل ونصبوا له الحبائل وركبوا عليه المناصب حتى كان هلاكه بأقل الناس وأحقرهم وأدناهم منزلة وأضعفهم قدرة وهم من أطراف الخدام‏.‏

فأقاموا رجلين أحدهما خادم يعرف بمفرج المغربي كان في حاشيته والآخر خازن يتولى خزانة الفرش يعرف بتنا‏.‏

وحكوا أنه نقل الأموال إلى الشام في التوابيت وفي شمع سبكه وأعده إلى القدس وإلى الخليل وأنه قد عول على الهرب إلى بغداد واستظهروا بكتابه الذي ذكر إلى طغرلبك مع ما في طبيعة الملك من الحسد والملل والأنفة من الاستبداد عليهم ومحبة الانفراد بالمجد‏.‏

وكان من أسباب الخذلان أن المستنصر التمس من صفي الملك ولد اليازوري عمل دعوة يدعوه إليها فدافعه عن ذلك استعظاماً لحضوره عنده فأقام مدة حتى بعثه والده الوزير على تكلف عملها له فتهمم لذلك واصطنع ما يجب إعداده وتقرر الحال على يوم يحضر فيه‏.‏

فلما كان قبل ذلك بيوم حضر صفي الملك عند الوزير وأعلمه بإنجاز ما يحتاج إليه فصار معه إلى الدار واستصحب خواصه فرأى ما يقصر عنه الوصف‏.‏

وفرش مجلسين بديباج بياض كله وفيه جامات كبار وحمر منقوش كل مجلس بثلاث مراتب وبساط ملء المجلس وسراديق وحجلين للصدر والباب كله جديد كما حمل من الأعدال فقدر ذلك بخمسة آلاف دينار‏.‏

فأقبل كل من حضر يبالغ في صفته ويدعو وشخص منهم ساكت‏.‏

فلحظ الوزير وأمسك حتى فرغ من تطواف المجالس وعرض كل ما أعده وعدل إلى بيت الطهارة وقد أعد في دهليزه من الفرش والآلات والطيب وداخله من الفواكه والمشمومات كل مستحسن‏.‏

ودعا الوزير الرجل الذي سكت عند مبالغة من حضر في الوصف وقال‏:‏ يا عمدة الملك مالي لم أسمعك تؤمن على ما قال الجماعة فقال له بد ما سأله الإعفاء عنه وتركه من القول فأبى إلا أن يقول‏:‏ سيدنا فيما أعده من هذا الجمال بين أحد رأيين إما أن يأمر بإزالته ونصب غيره مما قد استعمل وإما يحمل إلى الخليفة إذا انقضى جلوسه عليه‏.‏

فقال‏:‏ وما هو هذا أليس هو مما أنعم به وصار إلي من فضله وما قدره حتى تمتد عينه إليه أو تتطلع له نفسه‏!‏ واما إزالته ونصب غيره فما كنت أكسر في نفس هذا الصب شهوةً فإني متى أمرت بإزالته حزن لذلك وافترقا‏.‏

فلما كان الغد جاء المستنصر وأقام يومه ذلك في الدار وأحضر إليه الطعام مما حوله من الطرف ثم عاد آخر النهار‏.‏

وحضر عند الوزير أصدقاؤه فانفرد بذلك الرجل وقال‏:‏ يا عمدة الدولة والله ما أخطأ حزرك فيما قلته بالأمس منذ دخل الخليفة إلى الدار إلى أن خرج لم يطرف طرفةً عن تأمل الفرش فإذا وجهت طرفي نحوه أطرق وتشاغل‏.‏

فقال له‏:‏ يا سيدنا أما إذ فات الأمر الأول فلا يفوت الثاني‏.‏

فقال‏:‏ والله لا فعلت ولا غممت صفي الملك‏.‏

واتفق أنه خرج يوما وعليه ثوب بديع فلما عاد قال لصديقه‏:‏ يا عمدة الدولة لحظتك اليوم تنظر الثوب الذي كان علي فعجبت من ذلك فلما مثلت بحضرة مولانا أقبل يتأمل الثوب ولم يزل يزحف من الدست حتى مد يده إلى الثوب وتلمسه فزال عجبي منك إذ كان الخليفة يتأمله وكان راتب مائدته في كل يوم كوائد الملوك في الأعياد والولائم‏.‏

وكان لا يبتاع لمطبخه من الطير ما هو معرق ولا مصدر وكان سعر المعرق ستة بدينار والمصدر أربعة بدينار والمسمن ثلاثة بدينار والفائق اثنان بدينار وكان يعمل لداره ومن فيها المسمن وأما مائدته فلا يقدم عليها إلا الفائق‏.‏

فلما كان في سنة سبع وأربعين وقصر النيل نزع السعر وغلا حتى بلغ التليس ثمانية دنانير وصار الخبز طرفة‏.‏

وكان المستنصر يحضر دار اليازوري كل يوم ثلاثاء على عادته فتقدم إليه المائدة فإذا هي على ما يعهد لم يخل منها بشيء حتى الدجاج الفائق فقال لصاحب مطبخه‏:‏ ويلك يكون راتب مائدة الوزير الدجاج الفائق ومائدتي دون ذلك‏!‏ فقال‏:‏ يا مولانا ما ذنبي إذا قصر بك أصحاب دواوينك ولم يطلقوا لمائدتك ما ألتمسه منهم والوزير فلا تتجاسر وكلاؤه أن يقصروا في شيء مما جرت العادة به في راتب مائدته وغيرها مع تقدمه إليهم في كل يوم بالزيادة فيها وفي راتب داره‏.‏

فلما تظافر عداه عليه لم يشعر إلا في ساعة القبض فكتب إلى أبي الفرج البابلي وكان قد قدمه وأحسن إليه ورفعه على جميع أصحاب الدواوين واستخلصه دونهم كما يأتي إن شاء الله عند ذكر وفاته بعد البسملة‏:‏ عرفنا يا أبا الفرج أطال الله بقاءك وأدام عزك تغير الرأي فينا وسوء النية والطوية فإن يكن هذا الأمر صائراً إليك فاحفظ الصحبة وارع واجب الحرمة وإن يكن صائراً إلى غيرك فابتغ لنفسك نفقا في الأرض‏.‏

على أنا نشير عليك‏:‏ إن دعيت إليه فأبى عنه فإنه أصلح لك وأعود علينا والسلام‏.‏

ودعى البابلي للأمر ووزر لأنه لم يكن في الدولة من يتقدمه لما وطأة اليازوري وأمله من تقديمه وتمييزه‏.‏

وكان اعتزاله يغطي على عيوبه فلما ولي الوزارة بان للناس من رقاعته وحدته وكثرة شره ما افتضح به وتجرد لمقابلة إحسان اليازوري بكل قبيح وذكره بما لا يستحق من الغض‏.‏

وكانت الرقعة التي كتبها إليه من أعظم ذنوبه عنده فكان يقول يخاطبني وهو على شفير القبر بنون العظمة‏!‏ ولا يذكره إلا بالسفاهة واللغو فسقط قدره من أعين الكافة وحذره كل أحد‏.‏

ثم لم يقنعه كون اليازري في الاعتقال بمصر حتى نفاه إلى تنيس في صفر ومعه نساؤه وأولاده وحاشيته فاعتقلوا بها‏.‏

ثم شرع البابلي في التدبير على قتله‏.‏

قال الشريف فخر الدولة ومجدها نقيب نقباء الطالبيين‏:‏ قال لي مولانا يعني المستنصر يا فخر الدولة ما رأيت أوقع من البابلي وذلك أن اليازوري لم ينته إلى ما صار إليه من عظيم المنزلة إلا بعد أن تقدم له من المآثر والآثار في الدولة وما فتح على يديه ما هو معلوم مشهور وكان يرتقي بذلك درجة بعد درجة إلى أن انتهى إلى ما انتهى إليه والبابلي فمن أول يوم استخدمناه استدعى المنزلة التي لم يصر ذلك إليها إلا بعد عدة سنين فأجبته إليها وقلت ترى تساعده الأقدار بأن يكون مثل ما كان ذلك الرجل‏.‏

ومنها أنه كان إذا حضر بين يدي يكثر التثريب على اليازوري ويذكره بالقبيح ظناً منه تطلعنا إلى عوده إلى الأمر وليثبت في نفوسنا سوء الرأي فيه‏.‏

ولم نعلم أن غرضه قتله إلى أن كان اليوم الذي سقت عليه الأتراك ووطئوا دراعته فإنه لما دخل إلي قال‏:‏ يا أمير المؤمنين إنه لا ينفذ لك أمر ولا يتم لي نظر وهذا الكليب في قيد الحياة‏.‏

فقلت‏:‏ ومن هو ذلك الكليب فقال‏:‏ علي ابن عبد الرحمن اليازوري‏.‏

فقلت‏:‏ أيها الوزير اعلم أني لم أصرف الوزير عن خدمتنا ولنا في إعادته رغبة فطب نفساً ودع ذكره فأنت آمن مما تخافه من جهته‏.‏

فقال‏:‏ والله إن هذا لعجب من حسن مقامك يا أمير المؤمنين عنه مع قبيح فعله وما هم به من قتلك حتى إن السقية أقامت تدور في قصرك أسبوعاً كاملاً‏.‏

فقلت‏:‏ أيها الوزير أقامت السقية تدور علي في قصري أسبوعا كاملا فقال‏:‏ نعم‏.‏

فأطرقت متعجباً وبقيت متفكراً في ذلك أصرف الظن بين تصديقه وتكذيبه ثم أقول لو لم يطلع على ذلك لم يذكره‏.‏

فأمسكت فظن بإمساكي أنني راض بما يفعله معه وخرج فاستدعى طاهراً كاتب السر وسيره لقتله‏.‏

ونمى الخبر إلى مولاتنا الوالدة فأنكرت ذلك ودخلت إلي فقالت‏:‏ أنت يا مولانا أمرت البابلي بقتل اليازوري‏!‏ فقلت‏:‏ لا‏.‏

فقالت‏:‏ قد سير طاهر ابن غلام لقتله‏.‏

فاستدعيت سعيد السعداء وأنفذته إليه وقلت له‏:‏ قل له لم يأمرك بقتله فأنفذ من يعيد طاهراً ويمنعه من النفوذ‏.‏

فألفاه صاحب الرسالة في الحمام فاعتذر إليه فقال‏:‏ لا بد من الدخول ودخل وأدى الرسالة إليه فقال‏:‏ أخرج وأسير من يعيده‏.‏

وطول في الحمام ثم خرج فإلى أن كتب الكتاب وسير به النجاب سبقه ذلك إلى تنيس فلم يصل حتى نفذ الحكم فيه‏.‏

ولما وصل طاهر إلى تنيس أوصل كتاب البابلي إلى جمال الدين صبح يذكر فيه‏:‏ إنا قد سيرنا طاهراً فيما أنت تقف عليه من جهته فتثبت منه وتحضر معه لإنجازه وتحذر من تأخيره من اليوم إلى الغد‏.‏

فقال‏:‏ وما الذي وصلت فيه فأخرج تذكرة بخط البابلي فيها‏:‏ إذا وصلت يا طاهر أعزك الله إلى تنيس وقد سغبت ولهثت من العطش فلا تبل ريقك بقطرة دون أن يحضر علي بن حسن بن عبد الرحمن اليازوري إلى دار الخدمة وتمضى حكم السيف فيه فد كتبنا إلى الأمير جمال الدولة بمعونتك على ما يستدعيه ذلك فقدمه ولا تؤخره إن شاء أحد‏.‏

فقال له‏:‏ أنت خليفة صاحب الستر ومرسل من جهة السلطان والأمر الذي وصلت فيه ممتثل فأمض الحكم فيه‏.‏

وأنفذ من يحضر اليازوري من معتقله والصقالبة والسعدية خدام الستر وقوف والسياف قائم‏.‏

فقال له طاهر‏:‏ يا حسن يقول لك مولانا أين أموالي فلم يجبه ولم يرفع طرفه إليه‏.‏

فقال له‏:‏ إياك أخاطب يا حسن بن علي بن عبد الرحمن يقول لك أمير المؤمنين أين أموالي فلم تجبه‏.‏

فرفع طرفه ونظر إليه وإلى الجماعة وفيهم حيدرة السياف وقال لطاهر‏:‏ يا كلب تجيء وهذا معك وأشار بيده إلى السياف وتسألني بعد ذلك ولكن قل له يا مولانا قبض علي وأنا آمن على نفسي فإن يكن عندي مال فقد وجدته في داري وكنت داعيك وثقتك المؤيد في الدين‏.‏

في القمطرة الفلانية ما يشهد بذكر مالك أين هو‏.‏

فأشار طاهر إلى أولئك فأخذوه وضربت عنقه في ليلة الثاني والعشرين من صفر وحملت رأسه مع طاهر إلى القاهرة وطرحت جثته على مزبلة ثلاثة أيام‏.‏

ثم ورد الأمر بتكفينه فكفن بعد أن غسل وحنط بحنوط كثير وحمل ليلاً ودفن وقد وضع رأسه مع جثته‏.‏

وكان له من المآثر المرضية والخلال الحميدة والأفعال الجميلة والخلائق الرضية ما يتجمل الملوك بذكره‏.‏

منها أنه كنت له مائدة يحضرها كل قاض فقيه وأديب جليل القدر فإذا قدمت فكأنها الرياض من حسنها وسعة نفسه‏.‏

وكان الملازمون لمائدته نحو العشرين نسمة فيكون عليها كأحدهم‏.‏

وقال عميد الدولة‏:‏ أقمت معه خمس عشرة سنة قبل وزارته ملازماً له في المبيت والصباح فكنت أراعيه في حالاته كلها ليلاً ونهاراً فلا أرى يتغير علي منها شيء ولا يتبين لي منه غضب من رضا فأقبلت أدقق التأمل له في حالتي غضبه ورضاه شهورا حتى تبين لي فكان إذ رضى توردت وجنتاه بحمرة وإذا غضب اصفرت محاجر عينيه فعرفت أبي بذلك فقال‏:‏ يا بني هذا غاية في سكون النفس وصحة الطباع واعتدال المزاج‏.‏

وكانت طبائعه الأربعة على السواء فإذا أخل عمل طبيعة منها عهده أخذ بإصلاحها حتى يعود إلى ما يعهده من استقامتها‏.‏

وكان لا يعطل شرب الدواء يوماً واحداً فيشرب السكنجيين والورد أسبوعا ثم يريح نفسه ثلاثة أيام ثم يشرب النقوع المغلى في الشتاء والمنجم منه في الصيف أسبوعا لكل منهما ويشرب ماء البذور أسبوعا ويشرب ماء الجين ثمانية أيام ويشرب ماء البقل أسبوعا ثم يشرب الراوند المنقوع كذلك ويريح نفسه بين كل دوائين ثلاثة أيام لا يخل بذلك في صيف ولا في شتاء‏.‏

وكان ندي الوجه كثير الحياء لا يكاد يرفع طرفاً إلا لضرورة ولم يسمع منه قط في سؤال لفظة لا‏.‏

بل كان إذا سئل فما يرى إجابة سؤاله إليه يقول نعم بانخفاض من طرفه وخفوت من صوته فإذا سئل فما يرى الإجابة إليه يطرف ولا يرفع طرفه وعرف هذا منه فلا يراجع فيه إلا بعد مدة‏.‏

وكان كل من يحضر مائدته يستدعى منه الحضور بين يديه لئلا يستمروا عنده وكان فيهم من يشرب السكر فإذا حضروا عرفوا مجالسهم وما قرره لهم فكان من لا يشرب النبيذ يجلس عن يمينهن ومن يستعمله يجلس عن يساره وبين يدي كل منهم الفواكه الرطبة واليابسة والحلاوة وستارة الغناء مضروبة فيجلسون وهو مشغول يوقع وهم يتحدثون همساً وإشارةً وإيماءً إلى أن ينقضي أربه من التواقيع فيستند وينشطهم بالحديث ويقول‏:‏ قد تجدد اليوم كذا وكذا فما عندكم فيه‏.‏

فيقول كل أحد ما يراه وهو يسمع لهم حتى يستكمل الجماعة الذين عن يمينه ثم يعطف على شماله فيقول‏:‏ من هناك قولوا فيقولون وهو يسمع ولا يرد على أحد شيئا فلا يصوب المصوب ولا يخطىء المخطىء ويبيت يضرب الآراء بعضها ببعض حتى يمحض له الصواب ويصبح يرمي فلا يخطىء‏.‏

فكانت أفعاله هكذا طول مدته لا يستبد قط برأيه ولا يأنف من المشورة بل يقول‏:‏ المستبد برأيه واقف على مداحض الزلل وفي الاستشارة كل عقول الرجال‏.‏

وبهذا تم له ما كان يدبره حتى ترك فيما رامه من الطرز الآثار الباقي ذكرها‏.‏

وجاء ارتفاع الدولة في أيامه ألفي ألف دينار يقف منها ويسكن وينصرف للرجال وللقصور وللعمائر وغيرها ويبقى بعد ذلك مائتا ألف دينار حاصلة يحملها كل سنة إلى بيت المال‏.‏

فحظى بذلك عند سلطانه وتمكن منه وارتفع قدره حتى سأل أن يكتب على سكة نقش عليها‏:‏ ضربت في دولة آل الهدى من آل طه وياسين مستنصر بالله جل اسمه وعبده الناصر للدين سنة كذا وطبعت عليها الدنانير مدة شهر ثم أمر المستنصر بمنعها ونهى أن تسطر في السير‏.‏

وكانت أيام نظره حوامل لتوالي الفتوحات وعمارة الأعمال‏.‏

وكان شريف الأخلاق عالي الهمة كريم الطباع وطىء الأكناف مستحكم الحلم واسع الصدر ندي الوجه يستقل الكثير ويستصغر كل كبير‏.‏

وكان إذا أعطى أهنأ وإذا أنعم على إنسان أسبغ وإذا اصطنع أحداً رفعه إلى ما تقصر الآمال والأماني عنه مع عظيم الصدقة وجزيل البر الذي عم به أهل البيوتات مما جعله لهم من المشاهرات على مقاديرهم‏.‏

وكذلك الأشراف والفقراء وأهل الستر بالقرافة فكان يجري عليهم البر والكساء على يد بعض اليهود ويعرف بابن عصفورة وكيل السيدة أم المستنصر فكانوا يظنون أنه من إنعامها فلما زالت أيامه انقطع عنهم ما كان يصل إليهم من البر فخاطبوا ابن عصفورة وقالوا‏:‏ قد جفينا من مولانا ومولاتنا فلو أدركتهما بنا فقال لهم‏:‏ ما ترون ما كان يجيئكم حتى يتولى الله ناصر الدين أخي‏.‏

فقالوا‏:‏ نحن التمسنا من مولانا المستنصر ومولاتنا السيدة الوالدة ولم نلتمس من ناصر الدين‏.‏

فقال‏:‏ ما كان يجيئكم ذاك إلا من الوزير‏.‏

فعجبوا من ذاك وأكثروا من الترحم عليه‏.‏

ومما يذكر عنه أنه كتب‏:‏ العالي بالله إدريس بن المعتلى بالله يحيى بن الناصر لدين الله علي بن حمود من خالقه إلى مصر مكاتبة يقول فيها‏:‏ من أمير المؤمنين العالي بالله إلى أمير المؤمنين المستنصر بالله‏.‏

فعيب عليه بمصر قلة تصوره ومعرفته بأنه لا يجوز أن يكون أمير المؤمنين في زمان واحد اثنان‏.‏

ثم ألجأت الضرورة إلى مكاتبته بنحو مما كتب وكان اليازوري إذ ذاك وزيرا فقال أنا أخلص هذه القضية وأعلقها بمعنى دقيق لا يبين للمكاتب وكان صاحب حيل يكتب إليه‏:‏ من أمير المؤمنين المستنصر بالله معد إلى العالي بالله أمير المؤمنين خالقه وهذا من طريف التخلصات التي تميز بها‏.‏

وحكى عظيم الدولة متولى السر قال‏:‏ كنت في جملة الموكلين على الناصر ثم على البابلي بعده فكنت أرى من رئاسة الوزير الأول يعني اليازوري على شبيبته ورجاحته وسكون حاشيته ومن طيش البابلي وخفته ونقصه ما أعجب منه وهو أني لما كنت موكلا باليازوري كنت أراه ملازماً لعتبة باب المجلس في القاعة لا يتغير مكانه منها‏.‏

وكان البابلي يراسله بما يمضى ويوصينا إذا مضينا إليه بالإزعاج عند فتح الباب وإكثار قلقلته لنزعجه ونروعه بذلك فوالله ما كان يكترث ولا ينزعج‏.‏

وإذا دخل متولى الستر يكون جلوسه منه في الاعتقال كجلوسه منه في حال نظره ويخاطب بما يرضى فيجيب بسكون وهدوء وكأنه في الدست جالس‏.‏

فدخل إليه في أكثر من ثلاثين صقلبيا وبلغهما أوصاه البابلي فأجابه ثم نهض وقال‏:‏ يا سيدي صرفتني من الستر بغير ذنب ثم أعدتني إليه بغير مسألة فما كان سبب ذلك فرفع طرفه إليه كأنه يخاطبه من دست الوزارة وقال له‏:‏ كان صرفك في الأول برأيي واختياري ثم أعدتك لما عرفت من ميل مولانا إلى استخدامك‏.‏

فخرج متولي الستر وهو يعجب من سكون حاله وقلة احتفاله في الجواب مع حاجته إليه في مثل ذلك الوقت الذي يقدر فيه على الإحسان إليه وعلى الإساءة وكان يظن أنه يعتذر إليه فلم يكن منه غير ما تقدم ذكره‏.‏

وكان أكثر وقته صائماً وهو يتلو القرآن ولا يسأل عن طعام ولا شراب‏.‏

وكان في حال وزارته كثير الصمت مواصل الإطراق ساكن النفس هادئ الطباع فكان يظن أن ذلك من تيه وصلف وإعجاب وقلة احتفال بالناس فلما صار في الاعتقال بعد القبض عليه كان حاله على ما كان مما ذكر‏.‏

ومن عجيب ما وقع أن خطير الملك محمد بن الوزير اليازوري كان ينوب عن أبيه في قضاء القضاة فلما سار إلى الشام بالعساكر الكثيرة معه كان في حال من البذخ والتجمل في حال لا يمكن شرحها فلما نكب أبوه آل حاله إلى أن يرى في مسجد بمدينة فوة يخيط للناس بالأجرة وقد نزل به من الفقر والبلاء شدائد وهو يبالغ في مطالبة شخص بأجرة ما خاطه له والرجل يماطله‏.‏

فلما ألح في المطالبة قال له‏:‏ يا سيدنا اجعل هذا القدر اليسير من جملة ما ذهب منك في السفرة الشامية‏.‏

فقال‏:‏ دع ذكر ما مضى‏.‏

فسأله رجل عن ذلك فلم يجبه فسأل عبده فقال الذي ذهب منه في تلك السفرة على نفقات سماطه مقدار ستة عشر ألف دينار‏.‏

فسبحان من لا يزول ملكه‏.‏

وفيها ولي الوزارة بع اليازوري أبو الفرج عبد الله بن محمد البابلي وكان أولا من جملة أصحاب الدواوين فقبض عليه الوزير أبو البركات ابن الجرجرائي وصادره على عشرة آلاف دينار أخذ خطه بها فباع موجوده بستة آلاف دينار وبقي عليه أربعة آلاف دينار فانطرح على اليازوري وسأله الشفاعة له وكان يومئذ ينظر لأم الخليفة فسأل الخليفة له في ذلك فوقع بمسامحته منها بألفي دينار فلما صرف الوزير أبو البركات وتولى اليازوري الوزارة وقع بمسامحة البابلي بالألفين الباقية واستخدمه في التوقيع ورد إليه ديوان تنيس ودمياط وديوان الخاص وغيره من الدواوين حتى كان في يده ستة دواوين‏.‏

وكان رسم لأصحاب الدواوين أن يحضروا كل يوم بين يدي الوزير فرفع منزلة البابلي عن ذلك وميزه عن أصحاب الدواوين فكان لا يحضر عنده إلا في كل ثلاثة من الجمعة فإذا حضر حجب كل أحد من الرؤساء فلا يدخل إلى الوزير أحد ما دام عنده‏.‏

فمهما قرره مع الوزير لا ينتقض‏.‏

وإذا عرض له في باقي الجمعة أمر كتب رقعةً إلى الوزير فيجيبه في تضاعيف سطوره فعل الأكفاء بالأكفاء‏.‏

وبلغ جاريه على ما بيده من الدواوين والتوقيع في كل سنة عشرة آلاف دينار‏.‏

وكتب مرة إلى الوزير اليازوري رقعة يذكر فيها أنه ليس له دار يسكنها وأن بجوار داره حماماً سلطانيا من جملة المقبوض عن تركة أمير الأمراء رفق بذل فيها خمسمائة دينار وسأل التوقيع بمبايعته منه على أن يقتطع ثمنه من جاريه مائة دينار في الشهر فوقع له بذلك ثم تقدم إلى متولي بيت المال بأن يكتب له منه رصدا بخمسمائة دينار ووهبها له‏.‏

فكتب رقعة ثانية أنه لما شرع في بناء الدار احتاج إلى ما يكمل به عمارتها وأن في المقبوض من أمير الأمراء أيضاً من الأخشاب والرخام ما يسأل الإنعام عليه منه بما يعمرها به فوقع بتسليم جميع ذلك إليه‏.‏

فعمر الدار وخدمه فيها جميع من في الدولة فجاءت تضاهي القصور‏.‏

واتفق أنه مرض في بعض السنين مرضةً أشفى فيها على التلف فكتب إلى الوزير اليازوري رقعةً يذكر فيها ما انتهت حاله إليه وأنه على آخر رمق وأن عليه من الدين ثلاثة آلاف دينار ويخاف إن حدث به حادث الموت أن يعنت الغرماء ولديه ويسأل تمام الاصطناع بالمنع منهما وأن يقرر حالهما في القيام للعرفاء بما تصل قدرتهما إليه وينجم الباقي عليهما‏.‏

فلما وقف الوزير عليها استرجع وتغمم له وقال‏:‏ ما ظننا إلا أنا قد أغنينا أبا الفرج وأن حاله لم تصل إلى هذا الحد‏!‏ ثم رفع رأسه إلى أبي العلاء عبد الغني بن الضيف وكان يحمل دواة الوزير ولقبه بالصادق المأمون وقال‏:‏ أسرع إلى أبي العباس الشاشي وكان يتولى ديوانه فلما حضر قال‏:‏ ما في حاصلك من إقطاعنا فقال‏:‏ ثلاثة آلاف دينار وكسر فأحضرها وقال لأبي العلاء‏:‏ خذ هذه الثلاثة آلاف دينار وامض بها إلى البابلي وخصه بسلامنا وقل له‏:‏ قد سوأتنا بما ذكرته من مرضك وما انتهت إليه حالك والله تعالى يهب عافيتك ولا يغمنا بك‏.‏

فأما ما سألت من مراعاتك في ولديك والمنع منهما فلو لم تسأل في ذلك حفظناك فيهما وراعيناهما لك‏.‏

وأما ما ذكرته من دينك فقد أنفذنا إليك ما تقضيه به‏.‏

فلما أخذ المال وخرج من القبة قال ارجع يا عبد الغني فعاد إليه فأخذ درجاً ووقع إلى ديوان الخاص بثلاثة آلاف دينار وكان له فيه إقطاع وقال امض إلى الجهبذ بهذا التوقيع فإن كان في حاصله هذا القدر وإلا قل له يقترض من بيت المال إلى أن يستخرج شيئاً فيحمله إليه به عوضاً عنها واحمل الجميع إلى البابلي‏.‏

فلم يحتمل أبو العلاء الصبر عن الكلام وقال‏:‏ يا سيدنا ما يقنعك تحمل إليه ثلاثة آلاف دينار حتى تضيف إليها مثلها فتصير ستة‏!‏ فقال‏:‏ يا وحش إذا قضى دينه بهذه الثلاثة الآلاف ما يحتاج أن يستدين بعدها فينفق من هذه الأخرى ولا يستدين‏.‏

فقال له‏:‏ والله يا سيدنا إنك لأكرم نفساً من البرامكة لأن أولئك كانوا يجودون من سعة وأنت تجود من ضيق ولا نسبة بين ما تنظر فيه وما كانوا ينظرون فيه‏.‏

وخرج فأوصلها إليه‏.‏

فلما قبض على اليازوري كان أعدى العالم له وكفر نعمته وإحسانه وتجرد له حتى قتله‏.‏

وحكى فخر الدولة قال‏:‏ استدعاني مولانا المستنصر وقال لي يا فخر الدولة هل يكون في اختيار الإنسان إلى من تطمح إليه الأبصار أو تتطلع إليه النفوس أوفى من شخص البابلي مع شيبته وظاهر سمته وهيبته فقلت‏:‏ لا يا أمير المؤمنين‏.‏

فقال‏:‏ والله لقد ظننت أن الدولة تتضاعف قدرتها بنظره وينضاف إليها مثلها بحسن تدبيره وأن من وراء هذا الشخص ما وفى عليه فإذا ثيابه لا تسع رقاعته وغمته والحية قد نشفت قرعته‏.‏

وذلك أن اليازوري أقام في خدمتنا عشر سنين عددنا عليه ثمانية عشر ذنبا وأقام البابلي اثنين وسبعين يوماً نقمنا عليه تسعة عشر ذنباً مع ظاهر كذبه وقلة احتشامه عندي وذلك أنه ذكر لي من حال السقية ما كثر تعجبي منه وأنا بين تصديق الحكاية وتكذيبها واحتشمت أن أرد عليه فيتحقق تكذيبي له‏.‏

وكان من إقدامه على قتل اليازوري ما كان وساء لنا ذلك إذ لم نكن نريد قتله‏.‏

فلما كان بعد ذلك بأيام يسيرة أمرته بشيء فعارضني وضرب الأمثال بما يصدني عن ذلك الأمر فقلت له أيها الوزير اعلم أن اليازوري لم تطل مدته معنا وتثبت قدمه إلا أنا كنا إذا أمرناه بشيء انتهى إليه ولم يتجاوزه‏.‏

فقال لي مجيبا‏:‏ يا مولانا وكأن اليازوري كان ينقط نقطة إلا ما أمثله له وأوقفه عليه ‏!‏ يريد أنه كان يدبر اليازوري ويعلمه ويفهمه فلم يتأمل ما عليه فيه ولا ذكر ما كان قاله من حال السقية وأذكرني قوله هذا حال السقية فقلت له وقد اغتظت منه‏:‏ يخرس الله الوزير فإذاً كانت السقية برأيه‏!‏ فلما سمع ذلك مني دهش وقال‏:‏ أعوذ بالله يا مولانا ولكنني كنت أبصره صواب الرأي وأشير عيه بما فيه حميد العاقبة‏.‏

فعند ذلك تحققت من كذبه على الرجل ما كنت شاكاً فيه‏.‏

ووجه كذبه فيما حكاه من ذلك أن الرئيس الجليل القدر إذا أراد أن يهم بمثل هذا الأمر في سائسه أو من يجري مجراه لم يكد يعلم ولده بما يريده منه فكيف إذا عزم على فعل ذلك مع مثلى هل يسوغ أن يطلع أحداً عليه ومع هذا فما الذي يدعوه أن يخرج بذلك إلى غيره وربما نم عليه وتقرب إلي بإطلاعي عليه وإلا تولى بنفسه مع إكثاري كان من زيارته وسكوني إليه وأني لم أتهمه بذلك فط فآخذ حذري منه وكان بهذا الحكم يتمكن من بلوغ غرضه مني بحيث لا يعلم به أحد‏.‏

فتحقق لي كذبه فيما حكاه وهذا أقوى الأسباب في صرفه لأن من ليس له عقل يميز به ما يخرج من فمه لا سيما في مثل هذا الأمر الخطر الكبير لم يجز أن يوثق به في تدبير مزبلة والخوف من جنايته على الدولة برقاعته ونقص عقله أكثر من الطمع في الانتفاع بنظره‏.‏

وكان صرف البابلي على الوزارة في شهر ربيع الأول وله في الوزارة اثنان وسبعون يوماً فلما صرف قبض عليه واعتقل‏.‏

وكان النهار لا يكاد يرتفع ويتأخر ما يحمل إليه من الطعام إلا ويتسغيث ويقول‏:‏ ما يتم حبس وجوع‏.‏

وكان يبدو منه في محبسه من القول ما يعرب به عن مستحكم الرقاعة والجهل فكان الموكلون به يتعجبون من فرق ما بينه وبين اليازوري فإن ذاك كان ساكن الطباع كثير الصمت شريف النفس مع حداثة سنه وهذا شيخ يظهر منه من الخفة فيها تولى الوزارة بعد البابلي أبو الفرج محمد بن جعفر بن محمد بن الحسين بن المغربي‏.‏

وفيها تولى قضاء القضاة عوضاً عن اليازوري أبو علي أحمد بن عبد الحكم بن سعيد إلى ذي القعدة وصرف بأبي القاسم عبد الحاكم بن وهب بن عبد الرحمن المليجي‏.‏

وتولى المؤيد في الدين أبو نصر هبة الله بن موسى داعي الدعاة‏.‏

فيها قصد الأمير أبو الحارث أرسلان البساسيري الموصل ومعه قريش بن بدران بن المقلد بن المسيب العقيلي أمير الغرب فملكها‏.‏

وخرج إليه السلطان ركن الدين أبو طالب طغرلبك بن ميكائيل بن سلجوق ففارقها واتجه طغرلبك إلى نصيبين فخالف عليه أخوه لأمه إبراهيم بن ينال وسار إلى همذان فرجع في إثره وتلاحقت الأتراك فاستدعى الخليفة القائم دبيس من مزيد فوصل إليه وقد أرجف بمسير البساسيري إلى بغداد فعظم الخوف منه فرجع دبيس إلى بلاده‏.‏

فلما كان يوم الأحد الثامن من ذي القعدة من هذه السنة وصل البساسيري إلى بغداد ومعه قريش بن بدران وخطب في جامع المنصور للمستنصر بالله الفاطمي وقطع الخطبة لبني العباس وعقد الجسر وعبر عسكره‏.‏

فلما كانت الجمعة الثانية خطب بجامع الرصافة للمستنصر‏.‏

وكانت بينه وبين أهل بغداد حروب آلت إلى هزيمة رئيس الرؤساء وزير القائم والعسكر وقتل جماعة من الأعيان‏.‏

ووقع النهب في البلد ودخل أصحاب البساسيري إلى البلد ووصلوا إلى باب النوبي الشريف فركب القائم بسواده وعلى كتفه البردة وبيده السيف وعلى رأسه اللواء وحوله جماعة بني العباس والخدم بالسيوف المسللة فرأى الأمر شديداً فعاد وأبعد المنظرة ونادى رئيس الرؤساء‏:‏ يا علم الدين قريش أمير المؤمنين يستدنيك‏.‏

فدنا منه فقال رئيس الرؤساء له‏:‏ قد آتاك الله منزلة لم ينلها أمثالك وطلب منه الأمان للخليفة القائم فأمنه‏.‏

ونزل إليه الخليفة والوزير رئيس الرؤساء وصاروا معه‏.‏

فبعث إليه البساسيري‏:‏ تخالف ما استقر بيننا‏!‏ فقال قريش‏:‏ لا‏.‏

وكانا قد تعاهدا على المشاركة في جميع ما يحصل لهما فاستقر الأمر على أن البساسيري يتسلم الوزير رئيس الرؤساء وأن قريش ابن بدران يتسلم الخليفة القائم فيكون عنده‏.‏

فبعث حينئذ قريش بالوزير إلى البساسيري فلما مثل بين يديه قال له‏:‏ العفو عند المقدرة‏.‏

فقال البساسيري‏:‏ أنت صاحب الطيلسان ما عفوت عن داري وحرمى وأطفالي فكيف أعفو وأنا صاحب سيف‏.‏

ثم إن قريش بن بدران سار في خدمة الخليفة وهو راكب بالصفة التي تقدم ذكرها إلى معسكره فأنزله في خيمة وهيأ له ما يقوم به ووقع النهب في دار الخلافة مدة أيام وأخذ منها ما لا يحصى كثرة وبعث منها إلى مصر منديل القائم الذي عممه بيده قد جعل في قالب رخام لكيلا ينحل مع ردائه والشباك الذي كان يتوكأ عليه فعمل في دار الوزارة بالقاهرة‏.‏

وأما العمامة والرداء فبعثهما السلطان صلاح الدين يوسف لما استولى على القصر إلى الخليفة المستضيء ببغداد مع الكتاب الذي كتبه على نفسه القائم وأشهد على نفسه العدول فيه أنه لا حق لبني العباس في الخلافة مع وجود فاطمة الزهراء‏.‏

وحمل أيضاً إلى القاهرة الذخائر والكتب والقضيب والبردة‏.‏

وسلم قريش الخليفة إلى ابن عمه مهارس بن المجلى وكان رجلاً متديناً فحمله في هودج إلى مدينة عانة وأنزله بها وفر أصحاب الخليفة القائم إلى طغرلبك فصاروا في جملته فلما كان يوم عيد النحر ركب البساسيري إلى المصلى وعلى رأسه ألوية المستنصر وقد استمال الناس بكثرة الإحسان وإجراء الأرزاق وكسر منبر المسجد الجامع ببغداد وقال‏:‏ هذا منبر نحس أعلن عله بغض آل محمد عليهم السلام وأنشأ منبرا آخر وخطب عليه باسم المستنصر‏.‏

ثم أخرج الوزير رئيس الرؤساء أبا القاسم علي بن المسلمة وهو مقيد وعليه جبة صوف وطرطور أحمر من لبد وفي عنقه مخنقة فشهره ثم أعاده إلى المعسكر وقد نصبت له خشبة فألبس جلد ثور طري وجعل في فكيه كلابين من حديد وعلقه بهما فبقي يضطرب إلى آخر النهار حتى مات وعمره نحو من ثلاث وخمسين سنة وكان حسن التلاوة للقرآن جيد المعرفة بالأدب‏.‏

ولما ورد الخبر بذلك إلى المستنصر سر سرورا كثيرا وزينت القاهرة ومصر وجاءت نسب الطبالة فغنت بالطبل في القصر بين يدي المستنصر‏:‏ يا بني العباس ردّوا ملك الأمر معدّ ملككم ملكٌ معار والعوارى تستردّ فقال لها المستنصر‏:‏ تمنى فلك حكمك فسألت الأرض المجاورة للمقس فأقطعها إياها فعرفت بها وقيل لها إلى اليوم أرض الطبالة‏.‏

وأمر المستنصر في أن يحمل إلى مهارش عشرة آلاف دينار ليسير إليه الخليفة القائم على حال جميلة وعزم على أنه إذا وصل تلقاه أحسن لقاء وبالغ في إكرامه‏.‏

ويقال إنه بنى القصر الغربي لينزله فيه ويحمل إليه ما ينسيه به ما كان فيه من إقامة الرواتب السنية وأن يقرر له في كل يوم مائة دينار وأنه إذا ركب المستنصر في أوقات ركوبه قدمه بين يديه يحجبه‏.‏

فإذا أقام على ذلك مدة وبات وانتشر في الأقطار خبر ذلك خلع عليه وعقد له ألوية الولاية للعراق وكتب عهده بتقليده إياه وسيره إليه وأعاده إلى مملكته وخلافته من قبله‏.‏

فمنعه حادث القدر قبل إدراك ذلك‏.‏

وكان من جملة أسباب فوات هذا أن البساسيري لما بعث الكتب إلى المستنصر يعرفه بإقامة الخطبة له ببغداد كان الوزير حينئذ أبو الفرج محمد بن المغربي وهو ممن فر من البساسيري وصار إلى القاهرة فحذر المستنصر من البساسيري وخوفه عاقبته فتركت أجوبته مدة ثم عادت الأجوبة بخلاف ما أمله البساسيري ثم قدم طغرلبك فانتصر عليه‏.‏

وفيها بنيت القبة التي بصحن جامع دمشق شرقي الجامع على باب مشهد علي وكتب عليها اسم المستنصر‏.‏

وفيها ولى المستنصر ناصر الدولة الحسن بن عبد الله بن حمدان دمشق في شهر رجب سنة إحدى وخمسين وأربعمائة‏:‏ فيها سار الأمير أبو الحارث البساسيري من بغداد فملك البصرة وواسط وأقام بهما الدعوة للمستنصر وخطب له في عامة تلك الأعمال‏.‏

وبلغ طغرلبك ما كان من أخذ بغداد وقطع الخطبة العباسية منها فكاتب ألب أرسلان بن داود أخيه فقدم عليه في إخوته بعسكر كبير واجتمعوا على محاربة إبراهيم بن ينال فكانت الغلبة لطغرلبك فأخذه أسيراً وقتله في تاسع جمادى الآخرة‏.‏

وتوجه يريد بغداد وبعث إلى البساسيري وإلى قريش بن بدران يأمرهما برد الخليفة القائم إلى بغداد وإقامة الخطبة له على عادته ورده إلى تخت خلافته ويعدهما أنهما إن فعلا ذلك رجع عن العراق ولم يدخل بغداد وأنه يقنع بأن يخطب له فيها وتضرب السكة باسمه‏.‏

فامتنع البساسيري أولاده وحرمه من بغداد إلى واسط ونوى العود‏.‏

وعند ما قارب طغرلبك بغداد بعث إلى قريش يشكر ما كان من صنيعه مع الخليفة القائم وجهز إلى بكر بن فورك لإحضار الخليفة فوافى حلة بدر بن مهلهل وقد وصل الخليفة وابن مهارش في تلك الساعة فركب هو وابن فورك وأركبا الخليفة وخدماه وأتته هدايا بدر‏.‏

وبعث طغرلبك بوزيره عميد الملك أبي نصر منصور الكندري والأمراء والحجاب بالخيام الكثيرة والسرادقات العظيمة والخيول العدة بالمراكب الذهب إلى الخليفة القائم فرحل وهم في خدمته وقد خرج طغرلبك إلى لقائه فعندما شاهده وقع إلى الأرض يقبلها ثم قام وهنأه بالسلامة وأظهر السرور الزائد والابتهاج الكبير واعتذر عن تأخره بما كان من عصيان إبراهيم ينال‏.‏

فقال الخليفة بسيف كان قد تأخر عنه وسار معه طغرلبك إلى بغداد وجلس على باب النوبى الشريف مكان حاجب الباب حتى وصل الخليفة فعندما شاهده مثل قائما وأخذ بلجام بغلته حتى انتهى إلى باب الحجرة الشريفة وذلك في يوم الاثنين لخمس بقين من ذي الحجة‏.‏

ثم عاد طغرلبك إلى معسكره وسير العساكر لمحاربة البساسيري وخرج في إثره فوافت العساكر البساسيري ودبيس بن مزيد فكانت بينهم حروب آلت إلى انهزام دبيس ووقوع ضربة في وجه البساسيري سقط منها عن فرسه فأخذ وقتل وحملت رأسه إلى طغرلبك فبعث بها إلى الخليفة القائم فطيف بها على قناة في بغداد للنصف من ذي الحجة وعلقت على باب النوبى‏.‏

وأحيط بأموال البساسيري ونسائه وأمواله وجميع حواشيه وأسبابه وقتل في هذه الوقائع من الخلائق ما لا يحصى لهم عدد وفر دبيس إلى البطيحة‏.‏

وقطعت الخطبة من بلاد العراق للمستنصر بعد أن خطب له ببغداد أربعين جمعة وعادت للقائم كما كانت‏.‏

وهذه الحادثة كانت آخر سعادة الدولة الفاطمية فإن الشام خرج من أيديهم بعدها بقليل لاستيلاء الترك عليه ولم يبق بيدهم غير ملك مصر خاصة ويقال إن الخليفة القائم بأمر الله كتب لما نكب كتاباً يشكو فيه ما يلقاه من البساسيري ونسخته بعد البسملة‏:‏ إلى الله العظيم من عبده المسكين‏.‏

اللهم إنك عالم بالسرائر مطلع على مكنونات الضمائر اللهم إنك غني بعلمك واطلاعك على أمور خلقك عن إعلامي لك وهذا عبد من عبيدك قد كفر نعمتك وما شكرها وألغى العواقب وما ذكرها أطغاه حلمك وسخر بأناتك حتى تعدى علينا بغياً وأساء إلينا عتوا وعدواً‏.‏

اللهم قل الناصر واغتر الظالم وأنت المطلع العالم والمنصف الحاكم بك نستعين عليه وإليك نهرب من بين يديه وقد تعزر بالمخلوقين ونحن نستعين بالله رب العالمين‏.‏

اللهم إنا حاكمناه إليك وتوكلنا في إنصافنا منه عليك ورفعنا ظلامتنا إلى حكمك ووثقنا في كشفها بكرمك فاحكم بيننا بالحق وأنت خير الحاكمين وأظهر قدرتك فيه قدر ما نرتجيه فقد أخذته العزة بالإثم‏.‏

اللهم فاستلبه عزته وملكنا بقدرتك ناصيته يا أرحم الراحمين‏.‏

وصلى الله على محمد خاتم النبين وعلى آله الطيبين وسلم تسليما‏.‏

وبعث به إلى باب الكعبة وعلق بباب الكعبة ودعي بما فيه فقتل البساسيري في ذلك اليوم‏.‏