فصل: الْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ قِسْمَيِ الْإِيجَاز: إِيجَازُ الْحَذْفِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الإتقان في علوم القرآن (نسخة منقحة)



.الْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ قِسْمَيِ الْإِيجَاز: إِيجَازُ الْحَذْفِ:

وَفِيهِ فَوَائِدُ، ذِكْرُ أَسْبَابِه:
مِنْهَا: مُجَرَّدُ الِاخْتِصَارِ وَالِاحْتِرَازِ عَنِ الْعَبَثِ لِظُهُورِهِ مِنْ أَسْبَابِ إِيجَازِ الْحَذْفِ.
وَمِنْهَا: التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ الزَّمَانَ يَتَقَاصَرُ عَنِ الْإِتْيَانِ بِالْمَحْذُوفِ، وَأَنَّ الِاشْتِغَالَ بِذِكْرِهِ يُفْضِي إِلَى تَفْوِيتِ الْمُهِمِّ، وَهَذِهِ هِيَ فَائِدَةُ بَابِ التَّحْذِيرِ وَالْإِغْرَاءِ، وَقَدِ اجْتَمَعَتَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {ناقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا} [الشَّمْس: 13]، فَـ: (نَاقَةَ اللَّهِ) تَحْذِيرٌ بِتَقْدِير: (ذَرُوا)، وَ(سُقْيَاهَا) إِغْرَاءٌ بِتَقْدِير: (الْزَمُوا).
وَمِنْهَا: التَّفْخِيمُ وَالْإِعْظَامُ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِبْهَامِ مِنْ أَسْبَابِ إِيجَازِ الْحَذْفِ.
قَالَ حَازِمٌ فِي مِنْهَاجِ الْبُلَغَاء: إِنَّمَا يَحْسُنُ الْحَذْفُ لِقُوَّةِ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ، أَوْ يُقْصَدُ بِهِ تَعْدِيدُ أَشْيَاءَ، فَيَكُونُ فِي تَعْدَادِهَا طُولٌ وَسَآمَةٌ، فَيُحْذَفُ، وَيُكْتَفَى بِدَلَالَةِ الْحَالِ، وَتُتْرَكُ النَّفْسُ تَجُولُ فِي الْأَشْيَاءِ الْمُكْتَفَى بِالْحَالِ عَنْ ذِكْرِهَا.
قَالَ: وَلِهَذَا الْقَصْدِ يُؤْثَرُ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي يُرَادُ بِهَا التَّعَجُّبُ وَالتَّهْوِيلُ عَلَى النُّفُوسِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ فِي وَصْفِ أَهْلِ الْجَنَّة: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزُّمَر: 73]، فَحُذِفَ الْجَوَابُ؛ إِذْ كَانَ وَصْفُ مَا يَجِدُونَهُ وَيَلْقَوْنَهُ عِنْدَ ذَلِكَ لَا يَتَنَاهَى، فَجُعِلَ الْحَذْفُ دَلِيلًا عَلَى صِدْقِ الْكَلَامِ عَنْ وَصْفِ مَا يُشَاهِدُونَهُ، وَتُرِكَتِ النُّفُوسُ تُقَدِّرُ مَا شَاءَتْهُ، وَلَا تَبْلُغُ مَعَ ذَلِكَ كُنْهَ مَا هُنَالِكَ.
وَكَذَا قَوْلُهُ: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ} [الْأَنْعَام: 27]؛ أَيْ: لَرَأَيْتَ أَمْرًا فَظِيعًا لَا تَكَادُ تُحِيطُ بِهِ الْعِبَارَةُ.
وَمِنْهَا: التَّخْفِيفُ لِكَثْرَةِ دَوَرَانِهِ فِي الْكَلَامِ مِنْ أَسْبَابِ إِيجَازِ الْحَذْفِ كَمَا فِي حَذْفِ حَرْفِ النِّدَاءِ، نَحْو: {يُوسُفُ أَعْرِضْ} [يُوسُفَ: 39]، وَنُونِ {لَمْ يَكُ} [الْأَنْفَال: 53]، وَالْجَمْعُ السَّالِمُ، وَمِنْهُ قِرَاءَةُ {وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ} [الْحَجّ: 35]، وَيَاءُ {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} [الْفَجْر: 4]، وَسَأَلَ الْمُؤَرَّجُ السَّدُوسِيُّ الْأَخْفَشَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: عَادَةُ الْعَرَبِ أَنَّهَا إِذَا عَدَلَتْ بِالشَّيْءِ عَنْ مَعْنَاهُ نَقَصَتْ حُرُوفُهُ، وَاللَّيْلُ لَمَّا كَانَ لَا يَسْرِي، وَإِنَّمَا يُسْرَى فِيهِ نَقَصَ مِنْهُ حَرْفٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} [مَرْيَمَ: 28]، الْأَصْلُ (بَغِيَّةً)، فَلَمَّا حُوِّلَ عَنْ فَاعِلٍ نَقَصَ مِنْهُ حَرْفٌ.
وَمِنْهَا: كَوْنُهُ لَا يَصْلُحُ إِلَّا لَهُ مِنْ أَسْبَابِ إِيجَازِ الْحَذْفِ، نَحْو: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [الْأَنْعَام: 73]، {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ}.
وَمِنْهَا: شُهْرَتُهُ حَتَّى يَكُونَ ذِكْرُهُ وَعَدَمُهُ سَوَاءً.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُوَ نَوْعٌ مِنْ دَلَالَةِ الْحَالِ الَّتِي لِسَانُهَا أَنْطَقُ مِنْ لِسَانِ الْمَقَالِ، وَحُمِلَ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ حَمْزَةَ: {تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} [النِّسَاء: 1]؛ لِأَنَّ هَذَا مَكَانٌ شُهِرَ بِتَكَرُّرِ الْجَارِّ، فَقَامَتِ الشُّهْرَةُ مَقَامَ الذِّكْرِ.
وَمِنْهَا: صِيَانَتُهُ عَنْ ذِكْرِهِ تَشْرِيفًا مِنْ أَسْبَابِ إِيجَازِ الْحَذْفِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ} الْآيَاتِ، حُذِفَ فِيهَا الْمُبْتَدَأُ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ: قَبْلَ ذِكْرِ الرَّبِّ؛ أَيْ: (هُوَ رَبٌّ)، (اللَّهُ رَبُّكُمْ)، (اللَّهُ رَبُّ الْمَشْرِقِ)؛ لِأَنَّ مُوسَى اسْتَعْظَمَ حَالَ فِرْعَوْنَ وَإِقْدَامَهُ عَلَى السُّؤَالِ، فَأَضْمَرَ اسْمَ اللَّهِ تَعْظِيمًا وَتَفْخِيمًا، وَمِثْلُهُ فِي عَرُوسِ الْأَفْرَاحِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} [الْأَعْرَاف: 143]؛ أَيْ: ذَاتِكَ.
وَمِنْهَا: صِيَانَةُ اللِّسَانِ عَنْهُ تَحْقِيرًا لَهُ مِنْ أَسْبَابِ إِيجَازِ الْحَذْفِ، نَحْو: {صُمٌّ بُكْمٌ} [الْبَقَرَة: 18]؛ أَيْ: هُمْ أَوِ الْمُنَافِقُونَ.
وَمِنْهَا: قَصْدُ الْعُمُومِ مِنْ أَسْبَابِ إِيجَازِ الْحَذْفِ، نَحْو: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الْفَاتِحَة: 5]؛ أَيْ: عَلَى الْعِبَادَةِ وَعَلَى أُمُورِنَا كُلِّهَا. {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ} [يُونُسَ: 25]؛ أَيْ: كَلَّ وَاحِدٍ.
وَمِنْهَا: رِعَايَةُ الْفَاصِلَةِ مِنْ أَسْبَابِ إِيجَازِ الْحَذْفِ، نَحْو: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضُّحَى: 3]؛ أَيْ: وَمَا قَلَاكَ.
وَمِنْهَا: قَصْدُ الْبَيَانِ بَعْدَ الْإِبْهَامِ كَمَا فِي فِعْلِ الْمَشِيئَةِ مِنْ أَسْبَابِ إِيجَازِ الْحَذْفِ، نَحْو: {فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ} [النَّحْل: 9]؛ أَيْ: فَلَوْ شَاءَ هِدَايَتَكُمْ فَإِنَّهُ إِذَا سَمِعَ السَّامِعُ {وَلَوْ شَاءَ} تَعَلَّقَتْ نَفْسُهُ بِمُشَاءٍ انْبَهَمَ عَلَيْهِ لَا يَدْرِي مَا هُوَ، فَلَمَّا ذُكِرَ الْجَوَابُ اسْتَبَانَ بَعْدَ ذَلِكَ. وَأَكْثَرُ مَا يَقَعُ ذَلِكَ بَعْدَ أَدَاةِ شَرْطٍ؛ لِأَنَّ مَفْعُولَ الْمَشِيئَةِ مَذْكُورٌ فِي جَوَابِهَا.
وَقَدْ يَكُونُ مَعَ غَيْرِهَا اسْتِدْلَالًا بِغَيْرِ الْجَوَابِ، نَحْو: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [الْبَقَرَة: 255].
وَقَدْ ذَكَرَ أَهْلُ الْبَيَانِ أَنَّ مَفْعُولَ الْمَشِيئَةِ وَالْإِرَادَةِ لَا يُذْكَرُ إِلَّا إِذَا كَانَ غَرِيبًا أَوْ عَظِيمًا، نَحْو: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} [التَّكْوِير: 28]، {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا} [الْأَنْبِيَاء: 17]، وَإِنَّمَا اطَّرَدَ أَوْ كَثُرَ حَذْفُ مَفْعُولِ الْمَشِيئَةِ دُونَ سَائِرِ الْأَفْعَالِ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِ الْمَشِيئَةِ وُجُودُ الْمُشَاءِ، فَالْمَشِيئَةُ الْمُسْتَلْزِمَةُ لِمَضْمُونِ الْجَوَابِ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ إِلَّا مَشِيئَةَ الْجَوَابِ؛ وَلِذَلِكَ كَانَتِ الْإِرَادَةُ مِثْلَهَا فِي اطِّرَادِ مَفْعُولِهَا، ذَكَرَهُ الزَّمْلَكَانِيُّ وَالتَّنُوخِيُّ فِي الْأَقْصَى الْقَرِيبِ. قَالُوا: وَإِذَا حُذِفَ بَعْدَ (لَوْ) فَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي جَوَابِهَا أَبَدًا.
وَأَوْرَدَ فِي عَرُوسِ الْأَفْرَاحِ {قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً} [فُصِّلَتْ: 14]، فَإِنَّ الْمَعْنَى: لَوْ شَاءَ رَبُّنَا إِرْسَالَ الرُّسُلِ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً؛ لَأَنَّ الْمَعْنَى مُعِينٌ عَلَى ذَلِكَ.
فَائِدَةٌ:
قَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَاهِر: مَا مِنِ اسْمٍ حُذِفَ فِي الْحَالَةِ الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ يُحْذَفَ فِيهَا إِلَّا وَحَذْفُهُ أَحْسَنُ مِنْ ذِكْرِهِ، وَسَمَّى ابْنُ جِنِّي الْحَذْفَ شَجَاعَةَ الْعَرَبِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ يُشَجِّعُ عَلَى الْكَلَامِ.

.قَاعِدَةٌ فِي حَذْفِ الْمَفْعُولِ اخْتِصَارًا وَاقْتِصَارًا:

قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: جَرَتْ عَادَةُ النَّحْوِيِّينَ أَنْ يَقُولُوا بِحَذْفِ الْمَفْعُولِ اخْتِصَارًا وَاقْتِصَارًا، وَيُرِيدُونَ بِالِاخْتِصَارِ الْحَذْفَ لِدَلِيلٍ، وَيُرِيدُونَ بِالِاقْتِصَارِ الْحَذْفَ لِغَيْرِ دَلِيلٍ، وَيُمَثِّلُونَهُ بِنَحْو: {كُلُوا وَاشْرَبُوا} [الطُّور: 19]؛ أَيْ: أَوْقِعُوا هَذَيْنِ الْفِعْلَيْنِ، وَالتَّحْقِيقُ أَنْ يُقَالَ- يَعْنِي كَمَا قَالَ أَهْلُ الْبَيَانِ-:
تَارَةً يَتَعَلَّقُ الْغَرَضُ بِالْإِعْلَامِ بِمُجَرَّدِ وُقُوعِ الْفِعْلِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ مَنْ أَوْقَعَهُ، وَمَنْ أُوقِعُ عَلَيْهِ، فَيُجَاءُ بِمَصْدَرِهِ مُسْنَدًا إِلَى فِعْلِ كَوْنٍ عَامٍّ، فَيُقَالُ: حَصَلَ حَرِيقٌ أَوْ نَهْبٌ، وَتَارَةً يَتَعَلَّقُ بِالْإِعْلَامِ بِمُجَرَّدِ إِيقَاعِ الْفِعْلِ لِلْفَاعِلِ، فَيُقْتَصَرُ عَلَيْهِمَا، وَلَا يُذَكَرُ الْمَفْعُولُ وَلَا يُنْوَى؛ إِذِ الْمَنْوِيُّ كَالثَّابِتِ، وَلَا يُسَمَّى مَحْذُوفًا؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ يُنَزَّلُ لِهَذَا الْقَصْدِ مَنْزِلَةَ مَا لَا مَفْعُولَ لَهُ.
وَمِنْهُ: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} [الْبَقَرَة: 258]، {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزُّمَر: 9]، {كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} [الْأَعْرَاف: 31]، {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ} [الْإِنْسَان: 20]؛ إِذِ الْمَعْنَى: رَبِّيَ الَّذِي يَفْعَلُ الْإِحْيَاءَ وَالْإِمَاتَةَ، وَهَلْ يَسْتَوِي مَنْ يَتَّصِفُ بِالْعِلْمِ وَمَنْ يَنْتَفِي عَنْهُ الْعِلْمُ، وَأَوْقِعُوا الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ وَذَرُوا الْإِسْرَافَ، وَإِذَا حَصَلَتْ مِنْكَ رُؤْيَةٌ.
وَمِنْهُ: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ} الْآيَةَ [الْقَصَص: 23]، أَلَا تَرَى أَنَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَحِمَهُمَا؛ إِذْ كَانَتَا عَلَى صِفَةِ الذِّيَادِ، وَقَوْمُهُمَا عَلَى السَّقْيِ، لَا لِكَوْنِ مَذُودِهِمَا غَنَمًا وَسَقْيِهِمْ إِبِلًا، وَكَذَلِكَ الْمَقْصُودُ مِنْ: {لَا نَسْقِي} السَّقْيُ لَا الْمَسْقِيُّ. وَمَنْ لَمْ يَتَأَمَّلْ قَدَّرَ (يَسْقُونَ إِبِلَهُمْ)، وَ(تَذُودَانِ غَنَمَهُمَا)، وَ(لَا نَسْقِي غَنَمًا).
وَتَارَةً يُقْصَدُ إِسْنَادُ الْفِعْلِ إِلَى فَاعِلِهِ وَتَعْلِيقُهُ بِمَفْعُولِهِ فَيُذْكَرَانِ، نَحْو: {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا} [آلِ عِمْرَانَ: 130]، {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَى} [الْإِسْرَاء: 32]، وَهَذَا النَّوْعُ الَّذِي إِذَا لَمْ يُذْكَرْ مَحْذُوفُهُ قِيلَ مَحْذُوفٌ.
وَقَدْ يَكُونُ اللَّفْظُ مَا يَسْتَدْعِيهِ فَيَحْصُلُ الْجَزْمُ بِوُجُوبِ تَقْدِيرِهِ، نَحْو: {أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا} [الْفُرْقَان: 41]، {وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [النِّسَاء: 95]، وَقَدْ يَشْتَبِهُ الْحَالُ فِي الْحَذْفِ وَعَدَمِهِ، نَحْو: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} [الْإِسْرَاء: 110]. قَدْ يُتَوَهَّمُ أَنَّ مَعْنَاهُ (نَادُوا)، فَلَا حَذْفَ، أَوْ (سَمُّوا) فَالْحَذْفُ وَاقِعٌ.
ذِكْرُ شُرُوطِه: هِيَ ثَمَانِيَةٌ:
أَحَدُهَا: وُجُودُ دَلِيلٍ إِمَّا حَالِيٌّ، نَحْو: {قَالُوا سَلَامًا} [هُودٍ: 69]؛ أَيْ: سَلَّمْنَا سَلَامًا.
أَوْ مَقَالِيٌّ مِنْ شُرُوطِ حَذْفِ الْمَفْعُولِ، نَحْو: {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا} [النَّحْل: 30]؛ أَيْ: أَنْزَلَ خَيْرًا.
{قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} [الذَّارِيَات: 25]؛ أَيْ: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ، أَنْتُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ.
وَمِنَ الْأَدِلَّة: الْعَقْلُ: حَيْثُ يَسْتَحِيلُ صِحَّةُ الْكَلَامِ عَقْلًا إِلَّا بِتَقْدِيرِ مَحْذُوفٍ.
ثُمَّ تَارَةً يَدُلُّ عَلَى أَصْلِ الْحَذْفِ مِنْ غَيْرِ دَلَالَةٍ عَلَى تَعْيِينِهِ، بَلْ يُسْتَفَادُ التَّعْيِينُ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ، نَحْو: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [الْمَائِدَة: 3]، فَإِنَّ الْعَقْلَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتِ الْمُحَرَّمَةَ؛ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ لَا يُضَافُ إِلَى الْأَجْرَامِ، وَإِنَّمَا هُوَ وَالْحِلُّ يُضَافَانِ إِلَى الْأَفْعَالِ، فَعُلِمَ بِالْعَقْلَ حَذْفُ شَيْءٍ.
وَأَمَّا تَعْيِينُهُ- وَهُوَ التَّنَاوُلُ- فَمُسْتَفَادٌ مِنَ الشَّرْعِ، وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا حَرُمَ أَكْلُهَا»؛ لِأَنَّ الْعَقْلَ لَا يُدْرِكُ مَحَلَّ الْحِلِّ وَلَا الْحُرْمَةِ.
وَأَمَّا قَوْلُ صَاحِبِ التَّلْخِيصِ أَنَّهُ مِنْ بَابِ دَلَالَةِ الْعَقْلِ أَيْضًا، فَتَابَعَ بِهِ السَّكَّاكِيَّ مِنْ غَيْرِ تَأَمُّلِ أَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أُصُولِ الْمُعْتَزِلَةِ.
وَتَارَةً يَدُلُّ الْعَقْلُ أَيْضًا عَلَى التَّعْيِينِ، نَحْو: {وَجَاءَ رَبُّكَ} [الْفَجْر: 22]؛ أَيْ: أَمْرُهُ بِمَعْنَى عَذَابِهِ؛ لِأَنَّ الْعَقْلَ دَلَّ عَلَى اسْتِحَالَةِ مَجِيءِ الْبَارِئِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ سِمَاتِ الْحَادِثِ، وَعَلَى أَنَّ الْجَائِيَ أَمَرُهُ.
{أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [الْمَائِدَة: 1]، {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ} [النَّحْل: 91]؛ أَيْ: بِمُقْتَضَى الْعُقُودِ، وَبِمُقْتَضَى عَهْدِ اللَّهِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ وَالْعَهْدَ قَوْلَانِ قَدْ دَخَلَا فِي الْوُجُودِ وَانْقَضَيَا، فَلَا يُتَصَوَّرُ فِيهِمَا وَفَاءٌ وَلَا نَقْضٌ، وَإِنَّمَا الْوَفَاءُ وَالنَّقْضُ بِمُقْتَضَاهُمَا وَمَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِمَا مِنْ أَحْكَامِهِمَا.
وَتَارَةً يَدُلُّ عَلَى التَّعْيِينِ الْعَادَةُ، نَحْو: {فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} [يُوسُفَ: 32]، دَلَّ الْعَقْلُ عَلَى الْحَذْفِ؛ لِأَنَّ يُوسُفَ لَا يَصِحُّ ظَرْفًا لِلَّوْمِ، ثُمَّ يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَدَّرُ: (لُمْتُنَّنِي فِي حُبِّهِ) لِقَوْلِه: {قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا} [يُوسُفَ: 30]، وَفِي مُرَاوَدَتِهِمَا لِقَوْلِه: {تُرَاوِدُ فَتَاهَا} [يُوسُفَ: 30]، وَالْعَادَةُ دَلَّتْ عَلَى الثَّانِي؛ لِأَنَّ الْحُبَّ الْمُفْرِطَ لَا يُلَامُ صَاحِبُهُ عَلَيْهِ عَادَةً؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ اخْتِيَارِيًّا بِخِلَافِ الْمُرَاوَدَةِ لِلْقُدْرَةِ عَلَى دَفْعِهَا.
وَتَارَةً يَدُلُّ عَلَى التَّصْرِيحِ بِهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَهُوَ أَقْوَاهَا، نَحْو: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ} [الْبَقَرَة: 210]؛ أَيْ: أَمْرُهُ، بِدَلِيل: {أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ} [النَّحْل: 33]، {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ} [آلِ عِمْرَانَ: 133]؛ أَيْ: كَعَرْضِ، بِدَلِيلِ التَّصْرِيحِ بِهِ فِي آيَةِ الْحَدِيدِ. {رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ} [الْبَيِّنَة: 2]؛ أَيْ: مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، بِدَلِيل: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُ} [الْبَقَرَة: 101]
وَمِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَصْلِ الْحَذْفِ الْعَادَةُ بِأَنْ يَكُونَ الْعَقْلُ غَيْرَ مَانِعٍ مِنْ إِجْرَاءِ اللَّفْظِ عَلَى ظَاهِرِهِ مِنْ غَيْرِ حَذْفٍ، نَحْو: {لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ} [آلِ عِمْرَانَ: 167]؛ أَيْ: مَكَانَ قَتَّالٍ، وَالْمُرَادُ مَكَانًا صَالِحًا لِلْقِتَالِ؛ وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَخْبَرَ النَّاسِ بِالْقِتَالِ، وَيَتَعَيَّرُونَ بِأَنْ يَتَفَوَّهُوا بِأَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَهُ، فَالْعَادَةُ تَمْنَعُ أَنْ يُرِيدُوا: لَوْ نَعْلَمُ حَقِيقَةَ الْقِتَال: فَلِذَلِكَ قَدَّرَهُ مُجَاهِدٌ (مَكَانَ قِتَالٍ)، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُمْ أَشَارُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَا يَخْرُجَ مِنَ الْمَدِينَةِ.
وَمِنْهَا: الشُّرُوعُ فِي الْفِعْلِ، نَحْوُ: (بِسْمِ اللَّهِ)، فَيُقَدَّرُ مَا جُعِلَتِ التَّسْمِيَةُ مَبْدَأً لَهُ، فَإِنَّ كَانَتْ عِنْدَ الشُّرُوعِ فِي الْقِرَاءَةِ قُدِّرَتْ (أَقْرَأُ)، أَوِ الْأَكْلِ قُدِّرَتْ (آكُلُ)، وَعَلَى هَذَا أَهْلُ الْبَيَانِ قَاطِبَةً خِلَافًا لِقَوْلِ النُّحَاة: إِنَّهُ يُقَدَّرُ: ابْتَدَأْتُ أَوِ ابْتِدَائِي كَائِنٌ (بِسْمِ اللَّهِ)، وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْأَوَّلِ التَّصْرِيحُ بِهِ فِي قَوْلِه: {وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} [هُودٍ: 41]، وَفِي حَدِيث: «بِاسْمِكَ رَبِّي وَضَعْتُ جَنْبِي».
وَمِنْهَا: الصِّنَاعَةُ النَّحْوِيَّةُ كَقَوْلِهِمْ فِي: {لَا أُقْسِمُ} [الْقِيَامَة: 1]، التَّقْدِيرُ: (لَأَنَا أُقْسِمُ)؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْحَالِ لَا يُقَسَمُ عَلَيْهِ، وَفِي: {تَاللَّهِ تَفْتَأُ} [يُوسُفَ: 85]، التَّقْدِيرُ: لَا تَفْتَأُ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْجَوَابُ مُثَبَّتًا دَخَلْتِ اللَّامُ وَالنُّونُ كَقَوْلِه: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ} [الْأَنْبِيَاء: 57]، وَقَدْ تُوجِبُ الصِّنَاعَةُ التَّقْدِيرَ، وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى غَيْرَ مُتَوَقِّفٍ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِمْ فِي: {لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [مُحَمَّدٍ: 19]: إِنَّ الْخَبَرَ مَحْذُوفٌ؛ أَيْ: مَوْجُودٌ.
وَقَدْ أَنْكَرُهُ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ وَقَالَ: هَذَا الْكَلَامُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرٍ، وَتَقْدِيرُ النُّحَاةِ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ نَفْيَ الْحَقِيقَةِ مُطْلَقَةً أَعَمُّ مِنْ نَفْيِهَا مُقَيَّدَةً، فَإِنَّهَا إِذَا انْتَفَتْ مُطْلَقَةً كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى سَلْبِ الْمَاهِيَّةِ مَعَ الْقَيْدِ، وَإِذَا انْتَفَتْ مُقَيَّدَةً بِقَيْدٍ مَخْصُوصٍ لَمْ يَلْزَمْ نَفْيُهَا مَعَ قَيْدٍ آخَرَ.
وَرُدَّ بِأَنَّ تَقْدِيرَهُمْ (مَوْجُودٌ) يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ كُلِّ إِلَهٍ غَيْرَ اللَّهِ قَطْعًا، فَإِنَّ الْعَدَمَ لَا كَلَامَ فِيهِ، فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ نَفْيٌ لِلْحَقِيقَةِ مُطْلَقَةً لَا مُقَيَّدَةً، ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ خَبَرٍ، لِاسْتِحَالَةِ مُبْتَدَأٍ بِلَا خَبَرٍ ظَاهِرٍ أَوْ مُقَدَّرٍ، وَإِنَّمَا يُقَدِّرُ النَّحْوِيُّ لِيُعْطِيَ الْقَوَاعِدَ حَقَّهَا، وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى مَفْهُوُمًا.
تَنْبِيهٌ:
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: إِنَّمَا يُشْتَرَطُ الدَّلِيلُ فِيمَا إِذَا كَانَ الْمَحْذُوفُ الْجُمْلَةَ بِأَسْرِهَا أَوْ أَحَدَ رُكْنَيْهَا، أَوْ يُفِيدُ مَعْنًى فِيهَا هِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَيْهِ، نَحْو: {تَاللَّهِ تَفْتَأُ} [يُوسُفَ: 85]، أَمَّا الْفَضْلَةُ فَلَا يُشْتَرَطُ لِحَذْفِهَا وُجْدَانُ دَلِيلٍ، بَلْ يُشْتَرِطُ أَنْ لَا يَكُونَ فِي حَذْفِهَا ضَرَرٌ مَعْنَوِيٌّ أَوْ صِنَاعِيٌّ.
قَالَ: وَيُشْتَرَطُ فِي الدَّلِيلِ اللَّفْظِيِّ أَنْ يَكُونَ طِبْقَ الْمَحْذُوفِ. وَرُدَّ قَوْلُ الْفَرَّاءِ فِي: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ بَلَى قَادِرِينَ} [الْقِيَامَة: 3- 4]: إِنَّ التَّقْدِيرَ: (بَلْ لَيَحْسَبُنَا قَادِرِينَ)؛ لِأَنَّ الْحُسْبَانَ الْمَذْكُورَ بِمَعْنَى الظَّنِّ، وَالْمُقَدَّرَ بِمَعْنَى الْعِلْمِ؛ لِأَنَّ التَّرَدُّدَ فِي الْإِعَادَةِ كُفْرٌ، فَلَا يَكُونُ مَأْمُورًا بِهِ.
قَالَ: وَالصَّوَابُ فِيهَا قَوْلُ سِيبَوَيْه: إِنَّ: {قَادِرِينَ} حَالٌ؛ أَيْ: بَلْ نَجْمَعُهَا قَادِرِينَ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْجَمْعِ أَقْرَبُ مِنْ فِعْلِ الْحُسْبَانِ، وَلِأَنَّ (بَلَى) لِإِيجَابِ الْمَنْفِيِّ، وَهُوَ فِيهَا فِعْلُ الْجَمْعِ.
الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ الْمَحْذُوفُ كَالْجُزْءِ مِنْ شُرُوطِ حَذْفِ الْمَفْعُولِ، وَمِنْ ثَمَّ لَمْ يُحْذَفِ الْفَاعِلُ وَلَا نَائِبُهُ، وَلَا اسْمُ كَانَ وَأَخَوَاتُهَا.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ عَطِيَّةَ فِي: {بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ} [الْجُمْعَة: 5]: إِنَّ تَقْدِيرَ (بِئْسَ الْمَثَلُ مَثَلُ الْقَوْمِ)، فَإِنْ أَرَادَ تَفْسِيرَ الْإِعْرَابِ، وَأَنَّ الْفَاعِلَ لَفْظُ الْمَثَلِ مَحْذُوفًا فَمَرْدُودٌ، وَإِنْ أَرَادَ تَفْسِيرَ الْمَعْنَى، وَأَنَّ فِي بِئْسَ ضَمِيرُ الْمَثَلِ مُسْتَتِرًا فَسَهْلٌ.
الشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ لَا يَكُونَ مُؤَكَّدًا؛ لِأَنَّ الْحَذْفَ مُنَافٍ لِلتَّأْكِيدِ مِنْ شُرُوطِ حَذْفِ الْمَفْعُولِ إِذِ الْحَذْفُ مَبْنِيٌّ عَلَى الِاخْتِصَارِ، وَالتَّأْكِيدُ مَبْنِيٌّ عَلَى الطُّولِ، وَمِنْ ثَمَّ رَدَّ الْفَارِسِيُّ عَلَى الزَّجَاجِ فِي قَوْلِهِ فِي: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} [طَه: 63]: إِنَّ التَّقْدِيرَ: (إِنْ هَذَانَ لَهُمَا سَاحِرَانِ)، فَقَالَ: الْحَذْفُ وَالتَّوْكِيدُ بِاللَّامِ مُتَنَافِيَانِ، وَأَمَّا حَذْفُ الشَّيْءِ لِدَلِيلٍ وَتَوْكِيدُهُ فَلَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ الْمَحْذُوفَ لِدَلِيلٍ كَالثَّابِتِ.
الرَّابِعُ: أَنْ لَا يُؤَدِّي حَذْفُهُ إِلَى اخْتِصَارِ الْمُخْتَصَرِ مِنْ شُرُوطِ حَذْفِ الْمَفْعُولِ وَمِنْ ثَمَّ لَمْ يُحْذَفُ اسْمُ الْفِعْلِ لِأَنَّهُ اخْتِصَارٌ لِلْفِعْلِ.
الْخَامِسُ: أَنْ لَا يَكُونَ عَامِلًا ضَعِيفًا، فَلَا يُحْذَفُ الْجَارُّ، وَالنَّاصِبُ لِلْفِعْلِ وَالْجَازِمُ إِلَّا فِي مَوَاضِعَ قَوِيَتْ فِيهَا الدَّلَالَةُ، وَكَثُرَ فِيهَا اسْتِعْمَالُ تِلْكَ الْعَوَامِلِ.
السَّادِسُ: أَنْ لَا يَكُونَ الْمَحْذُوفُ عِوَضًا عَنْ شَيْءٍ، مِنْ شُرُوطِ حَذْفِ الْمَفْعُولِ وَمِنْ ثَمَّ قَالَ ابْنُ مَالِكٍ: إِنَّ حَرْفَ النِّدَاءِ لَيْسَ عِوَضًا عَنْ (أَدْعُو) لِإِجَازَةِ الْعَرَبِ حَذْفَهُ؛ وَلِذَا أَيْضًا لَمْ تُحْذَفِ التَّاءُ مِنْ إِقَامَةٍ وَاسْتِقَامَةٍ. وَأَمَّا: {وَإِقَامَ الصَّلَاةِ} [الْأَنْبِيَاء: 73]، فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ، وَلَا خَبَرَ كَانَ لِأَنَّهُ عِوَضٌ أَوْ كَالْعِوَضِ مِنْ مَصْدَرِهَا.
السَّابِعُ: أَنْ لَا يُؤَدِّي حَذْفُهُ إِلَى تَهْيِئَةِ الْعَامِلِ الْقَوِيِّ مِنْ شُرُوطِ حَذْفِ الْمَفْعُولِ وَمِنْ ثَمَّ لَمْ يُقَسْ عَلَى قِرَاءَة: {وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الْحَدِيد: 10].
فَائِدَةٌ: اعْتَبَرَ الْأَخْفَشُ فِي الْحَذْفِ التَّدْرِيجَ حَيْثُ أَمْكَنَ، وَلِهَذَا قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} [الْبَقَرَة: 48]: إِنَّ الْأَصْلَ (لَا تَجْزِي فِيهِ)، فَحُذِفَ حَرْفُ الْجَرِّ فَصَارَ (تَجْزِيهِ)، ثُمَّ حُذِفَ الضَّمِيرُ فَصَارَ (تَجْزِي)، وَهَذِهِ مُلَاطَفَةٌ فِي الصِّنَاعَةِ، وَمَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ أَنَّهُمَا حُذِفَا مَعًا، قَالَ ابْنُ جِنِّي: وَقَوْلُ الْأَخْفَشِ أَوْفَقُ فِي النَّفْسِ، وَآنَسُ مِنْ أَنْ يُحْذَفَ الْحَرْفَانِ مَعًا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ.