فصل: فصل كفالة عبد المطلب للنبي عليه الصلاة والسلام‏.‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البداية والنهاية **


 صفة مولده الشريف عليه الصلاة والسلام

قد تقدم أن عبد المطلب لما ذبح تلك الإبل المائة عن ولده عبد الله حين كان نذر ذبحه، فسلمه الله تعالى لما كان قدر في الأزل من ظهور النبي الأمي صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل، وسيد ولد آدم من صلبه، فذهب كما تقدم فزوجه أشرف عقيلة في قريش آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة الزهرية‏.‏ فحين دخل بها وأفضى إليها حملت برسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقد كانت أم قتال رقيقة بنت نوفل أخت ورقة بن نوفل توسمت ما كان بين عيني عبد الله قبل أن يجامع آمنة من النور، فودت أن يكون ذلك متصلاً بها لما كانت تسمع من أخيها من البشارات بوجود محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه قد أزف زمانه فعرضت نفسها عليه قال بعضهم ليتزوجها وهو أظهر والله أعلم‏.‏

فامتنع عليها، فلما انتقل ذلك النور الباهر إلى آمنة بمواقعته إياها كأنه تندم على ما كانت عرضت عليه، فتعرض لها لتعاوده فقالت‏:‏ لا حاجة لي فيك، وتأسفت على ما فاتها من ذلك، وأنشدت في ذلك ما قدمناه من الشعر الفصيح البليغ‏.‏

وهذه الصيانة لعبد الله ليست له، وإنما هي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ‏}‏‏.‏

وقد تقدم الحديث المروي من طريق جيد أنه قال عليه الصلاة والسلام‏:‏

‏(‏‏(‏ولدت من نكاح لا من سفاح‏)‏‏)‏‏.‏

والمقصود أن أمه حين حملت به توفي أبوه عبد الله، وهو حمل في بطن أمه على المشهور‏.‏

قال محمد بن سعد‏:‏ حدثنا محمد بن عمر - هو الواقدي - حدثنا موسى بن عبيدة اليزيدي، وحدثنا سعيد بن أبي زيد، عن أيوب بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة قال‏:‏ خرج عبد الله بن عبد المطلب إلى الشام إلى غزة في عير من عيران قريش يحملونه تجارات، ففرغوا من تجارتهم ثم انصرفوا، فمروا بالمدينة وعبد الله بن عبد المطلب يومئذ مريض‏.‏

فقال‏:‏ أتخلف عند أخوالي بني عدي بن النجار، فأقام عندهم مريضاً شهراً‏.‏ ومضى أصحابه فقدموا مكة فسألهم عبد المطلب عن ابنه عبد الله، فقالوا‏:‏ خلفناه عند أخواله بني عدي بن النجار وهو مريض، فبعث إليه عبد المطلب أكبر ولده الحارث فوجده قد توفي ودفن في دار النابغة، فرجع إلى أبيه فأخبره، فوجد عليه عبد المطلب وإخوته وأخواته وجداً شديداً، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ حمل، ولعبد الله بن عبد المطلب يوم توفي خمس وعشرون سنة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 323‏)‏

قال الواقدي‏:‏ هذا هو أثبت الأقاويل في وفاة عبد الله وسنه عندنا‏.‏

قال الواقدي‏:‏ وحدثني معمر عن الزهري أن عبد المطلب بعث عبد الله إلى المدينة يمتار لهم تمراُ فمات، قال محمد بن سعد‏:‏ وقد أنبأنا هشام بن محمد بن السائب الكلبي عن أبيه، وعن عوانة بن الحكم قالا‏:‏ توفي عبد الله بن عبد المطلب بعد ما أتى على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية وعشرين شهراً‏.‏ وقيل‏:‏ سبعة أشهر‏.‏

وقال محمد بن سعد‏:‏ والأول أثبت، أنه توفي ورسول الله صلى الله عليه وسلم حمل‏.‏

وقال الزبير بن بكار‏:‏ حدثني محمد بن حسن، عن عبد السلام، عن ابن خربوذ قال‏:‏ توفي عبد الله بالمدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم ابن شهرين، وماتت أمه وهو ابن أربع سنين، ومات جده وهو ابن ثمان سنين، فأوصى به إلى عمه أبي طالب‏.‏

والذي رجحه الواقدي وكاتبه الحافظ محمد بن سعد أنه عليه الصلاة والسلام توفي أبوه وهو جنين في بطن أمه، وهذا أبلغ اليتم وأعلى مراتبه‏.‏

وقد تقدم في الحديث‏:‏ ‏(‏‏(‏ورؤيا أمي الذي رأت حين حمل بي كأنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام‏)‏‏)‏‏.‏

وقال محمد بن إسحاق‏:‏ فكانت آمنة بنت وهب أم رسول الله صلى الله عليه وسلم، تحدث أنها أتيت حين حملت برسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل لها‏:‏ إنك قد حملت بسيد هذه الأمة، فإذا وقع إلى الأرض فقولي‏:‏

أعيذه بالواحد من شر كل حاسد

من كل بر عاهد وكل عبد رائد

يذود عني ذائد فإنه عند الحميد الماجد

حتى أراه قد أتى المشاهد

وآية ذلك أنه يخرج معه نور يملأ قصور بصرى من أرض الشام، فإذا وقع فسميه محمداً، فإن اسمه في التوراة أحمد، يحمده أهل السماء وأهل الأرض، واسمه في الإنجيل أحمد، يحمده أهل السماء وأهل الأرض، واسمه في القرآن محمد، وهذا وذاك يقتضي أنها رأت حين حملت به عليه السلام كأنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام، ثم لما وضعته رأت عياناً تأويل ذلك كما رأته قبل ذلك هاهنا، والله أعلم‏.‏

وقال محمد بن سعد‏:‏ أنبأنا محمد بن عمر - هو الواقدي - حدثنا محمد بن عبد الله بن مسلم، عن الزهري‏.‏

وقال الواقدي‏:‏ حدثنا موسى بن عبدة، عن أخيه ومحمد بن كعب القرظي، وحدثني عبد الله بن جعفر الزهري، عن عمته أم بكر بنت المسود، عن أبيها‏.‏ وحدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم المزني، وزياد بن حشرج، عن أبي وجزة‏.‏ وحدثنا معمر، عن أبي نجيح، عن مجاهد‏.‏ وحدثنا طلحة بن عمرو، عن عطاء عن ابن عباس‏:‏

دخل حديث بعضهم في حديث بعض أن آمنة بنت وهب قالت‏:‏ لقد علقت به - تعني رسول الله صلى الله عليه وسلم - فما وجدت له مشقة حتى وضعته، فلما فصل مني خرج معه نور أضاء له ما بين المشرق إلى المغرب، ثم وقع إلى الأرض معتمداً على يديه، ثم أخذ قبضة من التراب فقبضها ورفع رأسه إلى السماء‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ وقع جاثياً على ركبتيه، وخرج معه نور أضاءت له قصور الشام وأسواقها، حتى رؤيت أعناق الإبل ببصرى، رافعاً رأسه إلى السماء‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 324‏)‏

وقال الحافظ أبو بكر البيهقي‏:‏ أنبأنا محمد بن عبد الله الحافظ، أنبأنا محمد بن إسماعيل قال‏:‏ أنبأنا محمد بن إسحاق، حدثنا يونس بن مبشر بن الحسن قال‏:‏ حدثنا يعقوب بن محمد الزهري قال‏:‏ حدثنا عبد العزيز بن عمران، حدثنا عبد الله بن عثمان بن أبي سليمان بن جبير بن مطعم، عن أبيه، عن ابن أبي سويد الثقفي، عن عثمان بن أبي العاص قال‏:‏

حدثتني أمي أنها شهدت ولادة آمنة بنت وهب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة ولدته، قالت‏:‏ فما شيء أنظره في البيت إلا نور، وإني أنظر إلى النجوم تدنو حتى إني لأقول ليقعن علي‏.‏

وذكر القاضي عياض عن الشفاء أم عبد الرحمن بن عوف، أنها كانت قابلته، وأنها أخبرت به حين سقط على يديها واستهل، سمعت قائلاً يقول‏:‏ يرحمك الله، وإنه سطع منه نور رؤيت منه قصور الروم‏.‏

قال محمد بن إسحاق‏:‏ فلما وضعته بعثت إلى عبد المطلب جاريتها - وقد هلك أبوه وهي حبلى، ويقال‏:‏ إن عبد الله هلك والنبي صلى الله عليه وسلم ابن ثمانية وعشرين شهراً، فالله أعلم أي ذلك كان - فقالت‏:‏ قد ولد لك غلام فانظر إليه، فلما جاءها أخبرته وحدثته بما كانت رأت حين حملت به، وما قيل لها فيه، وما أمرت أن تسميه، فأخذه عبد المطلب فأدخله على هبل في جوف الكعبة، فقام عبد المطلب يدعو ويشكر الله عز وجل ويقول‏:‏

الحمد لله الذي أعطاني * هذا الغلام الطيب الأردان

قد ساد في المهد على الغلمان * أعيذه بالبيت ذي الأركان

حتى يكون بلغة الفتيان * حتى أراه بالغ البنيان

أعيذه من كل ذي شنآن * من حاسد مضطرب العنان

ذي همة ليس له عينان * حتى أراه رافع اللسان

أنت الذي سميت في القرآن * في كتب ثابتة المثاني

أحمد مكتوب على اللسان

وقال البيهقي‏:‏ أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، أنا أبو بكر محمد بن أحمد بن حاتم الدرابودي - بمرو- قال‏:‏ حدثنا أبو عبد الله البوشنجي، حدثنا أبو أيوب سليمان بن سلمة الخبائري، حدثنا يونس بن عطاء بن عثمان بن ربيعة بن زياد بن الحارث الصدائي - بمصر - حدثنا الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن أبيه العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال‏:‏

ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم مختوناً مسروراً، قال‏:‏ فأعجب به جده عبد المطلب، وحظي عنده، وقال‏:‏ ليكونن لابني هذا شأن فكان له شأن‏.‏ وهذا الحديث في صحته نظر‏.‏

وقد رواه الحافظ ابن عساكر من حديث سفيان بن محمد المصيصي، عن هشيم، عن يونس بن عبيد، عن الحسن، عن أنس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏من كرامتي على الله أني ولدت مختوناً، ولم ير سوأتي أحد‏)‏‏)‏‏.‏

ثم أورده من طريق الحسن بن عرفة عن هشيم به‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 325‏)‏

ثم أورده من طريق محمد بن محمد بن سليمان - هو الباغندي - حدثنا عبد الرحمن بن أيوب الحمصي، حدثنا موسى بن أبي موسى المقدسي، حدثني خالد بن سلمة، عن نافع، عن ابن عمر قال‏:‏ ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم مسروراً مختوناً‏.‏

وقال أبو نعيم‏:‏ حدثنا أبو أحمد محمد بن أحمد الغطريفي، حدثنا الحسين بن أحمد بن عبد الله المالكي، حدثنا سليمان بن سلمة الخبائري، حدثنا يونس بن عطاء، حدثنا الحكم بن أبان، حدثنا عكرمة، عن ابن عباس، عن أبيه العباس قال‏:‏ ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم مختوناً مسروراً، فأعجب ذلك جده عبد المطلب وحظي عنده، وقال‏:‏ ليكونن لابني هذا شأن، فكان له شأن‏.‏

وقد ادعى بعضهم صحته، لما ورد له من الطرق، حتى زعم بعضهم أنه متواتر، وفي هذا كله نظر‏.‏ ومعنى مختوناً‏:‏ أي مقطوع الختان، ومسروراً‏:‏ أي مقطوع السرة من بطن أمه‏.‏

وقد روى الحافظ ابن عساكر من طريق عبد الرحمن بن عيينة البصري، حدثنا علي بن محمد المدائني السلمي، حدثنا سلمة بن محارب بن مسلم بن زياد، عن أبيه، عن أبي بكرة أن جبريل ختن النبي صلى الله عليه وسلم حين طهر قلبه‏.‏ وهذا غريب جداً‏.‏

وقد روي أن جده عبد المطلب ختنه، وعمل له دعوة جمع قريشاً عليها، والله أعلم‏.‏

وقال البيهقي‏:‏ أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأني محمد بن كامل القاضي - شفاها - أن محمد بن إسماعيل حدثه - يعني السلمي - حدثنا أبو صالح عبد الله بن صالح، حدثني معاوية بن صالح، عن أبي الحكم التنوخي قال‏:‏

كان المولود إذا ولد في قريش دفعوه إلى نسوة من قريش إلى الصبح، يكفأن عليه برمة، فلما ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم دفعه عبد المطلب إلى نسوة، فكفأن عليه برمة فلما أصبحن أتين فوجدن البرمة قد انفلقت عنه باثنتين، ووجدنه مفتوح العينين، شاخصاً ببصره إلى السماء، فأتاهن عبد المطلب فقلن له ما رأينا مولوداً مثله، وجدناه قد انفلقت عنه البرمة، ووجدناه مفتوحاً عينيه، شاخصاً ببصره إلى السماء‏.‏

فقال‏:‏ احفظنه، فإني أرجو أن يكون له شأن أو أن يصيب خيراً، فلما كان اليوم السابع ذبح عنه، ودعا له قريشاً، فلما أكلوا قالوا يا عبد المطلب‏:‏ أرأيت ابنك هذا الذي أكرمتنا على وجهه، ما سميته‏؟‏ قال‏:‏ سميته محمداً‏.‏ قالوا‏:‏ فما رغبت به عن أسماء أهل بيته‏؟‏ قال‏:‏ أردت أن يحمده الله تعالى في السماء، وخلقه في الأرض‏.‏

قال أهل اللغة‏:‏ كل جامع لصفات الخير يسمى محمداً، كما قال بعضهم‏:‏

إليك أبيت اللعن أعملت نافتي * إلى الماجد القرم الكريم المحمد

وقال بعض العلماء‏:‏ ألهمهم الله عز وجل أن سموه محمداً لما فيه من الصفات الحميدة، ليلتقي الاسم والفعل، ويتطابق الاسم والمسمى في الصورة والمعنى، كما قال عمه أبو طالب، ويروى لحسان‏:‏

وشق له من اسمه ليجله * فذو العرش محمود وهذا محمد

‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 326‏)‏

وسنذكر أسماءه عليه الصلاة والسلام وشمائله، وهي صفاته الظاهرة، وأخلاقه الطاهرة، ودلائل نبوته، وفضائل منزلته في آخر السيرة إن شاء الله‏.‏

قال الحافظ أبو بكر البيهقي‏:‏ أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا أحمد بن شيبان الرملي، حدثنا أحمد بن إبراهيم الحبلى، حدثنا الهيثم بن جميل، حدثنا زهير، عن محارب بن دثار، عن عمرو بن يثربي، عن العباس بن عبد المطلب قال‏:‏ قلت يا رسول الله دعاني إلى الدخول في دينك أمارة لنبوتك، رأيتك في المهد تناغي القمر، وتشير إليه بإصبعك، فحيث أشرت إليه مال‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إني كنت أحدثه ويحدثني، ويلهيني عن البكاء، واسمع وجبته حين يسجد تحت العرش‏)‏‏)‏‏.‏

ثم قال‏:‏ تفرد به الليثي، وهو مجهول‏.‏

 فصل فيما وقع من الآيات ليلة مولده عليه الصلاة والسلام

قد ذكرنا في باب هواتف الجان ما تقدم من خرور كثير من الأصنام ليلتئذ لوجوهها وسقوطها عن أماكنها، وما رآه النجاشي ملك الحبشة، وظهور النور معه حتى أضاءت له قصور الشام حين ولد، وما كان من سقوطه جاثياً رافعاً رأسه إلى السماء، وانفلاق تلك البرمة عن وجهه الكريم، وما شوهد من النور في المنزل الذي ولد فيه ودنو النجوم منهم وغير ذلك‏.‏

حكى السهيلي عن تفسير بقي بن مخلد الحافظ، أن إبليس رن أربع رنات‏:‏ حين لعن، وحين أهبط، وحين ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحين أنزلت الفاتحة‏.‏

قال محمد بن إسحاق‏:‏ وكان هشام بن عروة يحدث عن أبيه، عن عائشة قالت‏:‏ كان يهودي قد سكن مكة يتجر بها، فلما كانت الليلة التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في مجلس من قريش‏:‏ يا معشر قريش هل ولد فيكم الليلة مولود‏؟‏

فقال القوم‏:‏ والله ما نعلمه‏.‏ فقال‏:‏ الله أكبر أما إذا أخطأكم فلا بأس، انظروا واحفظوا ما أقول لكم‏:‏ ولد هذه الليلة نبي هذه الأمة الأخيرة، بين كتفيه علامة فيها شعرات متواترات كأنهن عرف فرس، لا يرضع ليلتين، وذلك أن عفريتاً من الجن أدخل أصبعه في فمه فمنعه الرضاع، فتصدع القوم من مجلسهم وهم يتعجبون من قوله وحديثه‏.‏

فلما صاروا إلى منازلهم أخبر كل إنسان منهم أهله، فقالوا‏:‏ قد والله ولد لعبد الله بن عبد المطلب غلام سموه محمداً‏.‏ فالتقى القوم، فقالوا‏:‏ هل سمعتم حديث اليهودي، وهل بلغكم مولد هذا الغلام‏؟‏

فانطلقوا حتى جاءوا اليهودي فأخبروه الخبر، قال‏:‏ فاذهبوا معي حتى أنظر إليه، فخرجوا به حتى أدخلوه على آمنة فقالوا‏:‏ أخرجي إلينا ابنك فأخرجته، وكشفوا له عن ظهره، فرأى تلك الشامة فوقع اليهودي مغشياً عليه، فلما أفاق قالوا له‏:‏ مالك ويلك‏؟‏

قال‏:‏ قد ذهبت والله النبوة من بني إسرائيل، فرحتم بها يا معشر قريش، والله ليسطون بكم سطوة يخرج خبرها من المشرق والمغرب‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 327‏)‏

وقال محمد بن إسحاق‏:‏ حدثني صالح بن إبراهيم، عن يحيى بن عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة قال‏:‏ حدثني من شئت من رجال قومي ممن لا أتهم، عن حسان بن ثابت قال‏:‏ إني لغلام يفعة ابن سبع سنين - أو ثمان سنين - أعقل ما رأيت وسمعت، إذا بيهودي في يثرب يصرخ ذات غداة‏:‏ يا معشر يهود، فاجتمعوا إليه - وأنا أسمع - فقالوا‏:‏ ويلك ما لك‏؟‏ قال‏:‏ قد طلع نجم أحمد الذي يولد به في هذه الليلة‏.‏

وروى الحافظ أبو نعيم في كتاب ‏(‏دلائل النبوة‏)‏ من حديث أبي بكر بن عبد الله العامري، عن سليمان بن سحيم، وذريح بن عبد الرحمن كلاهما، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد، عن أبيه قال‏:‏ سمعت أبي مالك بن سنان يقول‏:‏ جئت بني عبد الأشهل يوماً لأتحدث فيهم، ونحن يومئذ في هدنة من الحرب فسمعت يوشع اليهودي يقول‏:‏ أظل خروج نبي يقال له أحمد يخرج من الحرم‏.‏

فقال له خليفة بن ثعلبة الأشهلي كالمستهزئ به‏:‏ ما صفته‏؟‏ فقال‏:‏ رجل ليس بالقصير ولا بالطويل، في عينيه حمرة، يلبس الشملة ويركب الحمار، سيفه على عاتقه، وهذا البلد مهاجره‏.‏

قال‏:‏ فرجعت إلى قومي بني خدرة، وأنا يومئذ أتعجب مما يقول يوشع، فأسمع رجلاً منا يقول، ويوشع يقول هذا وحده‏؟‏‏!‏ كل يهود يثرب يقولون هذا‏.‏

قال أبي مالك بن سنان‏:‏ فخرجت حتى جئت بني قريظة، فأجد جمعاً، فتذاكروا النبي صلى الله عليه وسلم، فقال الزبير بن باطا‏:‏ قد طلع الكوكب الأحمر الذي لم يطلع إلى لخروج نبي أو ظهوره، ولم يبق أحد إلا أحمد، وهذا مهاجره‏.‏

قال أبو سعيد‏:‏ فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم أخبره أبي هذا الخبر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏لو أسلم الزبير لأسلم ذووه من رؤساء اليهود إنما هم له تبع‏)‏‏)‏‏.‏

وقال أبو نعيم‏:‏ حدثنا عمر بن محمد، حدثنا إبراهيم بن السندي، حدثنا النضر بن سلمة، حدثنا إسماعيل بن قيس بن سليمان بن زيد بن ثابت، عن أم سعد بنت سعد بن الربيع سمعت زيد بن ثابت يقول‏:‏ كان أحبار يهود بني قريظة والنضير يذكرون صفة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما طلع الكوكب الأحمر أخبروا أنه نبي وأنه لا نبي بعده، واسمه أحمد، ومهاجره إلى يثرب، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أنكروا، وحسدوا، وكفروا‏.‏

وقد أورد هذه القصة الحافظ أبو نعيم في كتابه من طرق أخرى ولله الحمد‏.‏

وقال أبو نعيم ومحمد بن حبان‏:‏ حدثنا أبو بكر بن أبي عاصم، حدثنا وهب بن بقية، حدثنا خالد، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، ويحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، عن أسامة بن زيد قال‏:‏ قال زيد بن عمرو بن نفيل‏:‏ قال لي حبر من أحبار الشام‏:‏ قد خرج في بلدك نبي - أو هو خارج - قد خرج نجمه، فارجع فصدقه واتبعه‏.‏

 ذكر ارتجاس إيوان كسرى، وسقوط الشرفات، وخمود النيران، ورؤيا الموبذان، وغير ذلك من الدلالات

قال الحافظ أبو بكر محمد بن جعفر بن سهل الخرائطي في كتاب ‏(‏هواتف الجان‏)‏‏:‏ حدثنا علي بن حرب، حدثنا أبو أيوب يعلى بن عمران - من آل جرير بن عبد الله البجلي - حدثني مخزوم بن هاني المخزومي، عن أبيه - وأتت عليه خمسون ومائة سنة - قال‏:‏ لما كانت الليلة التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتجس إيوان كسرى، وسقطت منه أربع عشرة شرفة، وخمدت نار فارس، ولم تخمد قبل ذلك بألف عام‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 328‏)‏

وغاضت بحيرة ساوة، ورأى الموبذان إبلاً صعاباً تقود خيلاً عراباً قد قطعت دجلة وانتشرت في بلادهم، فلما أصبح كسرى أفزعه ذلك، فتصبر عليه تشجعاً، ثم رأى أنه لا يدخر ذلك عن مرازبته، فجمعهم ولبس تاجه وجلس على سريره، ثم بعث إليهم، فلما اجتمعوا عنده قال‏:‏ أتدرون فيم بعثت إليكم‏؟‏ قالوا‏:‏ لا، إلا أن يخبرنا الملك ذلك‏.‏

فبينما هم كذلك إذ ورد عليهم كتاب خمود النيران، فازداد غماً إلى غمه، ثم أخبرهم بما رأى وما هاله، فقال الموبذان - وأنا أصلح الله الملك - قد رأيت في هذه الليلة رؤيا، ثم قصَّ عليه رؤياه في الإبل‏.‏ فقال‏:‏ أي شيء يكون هذا يا موبذان‏؟‏

قال‏:‏ حدث يكون في ناحية العرب - وكان أعلمهم من أنفسهم - فكتب عند ذلك‏:‏ من كسرى ملك الملوك إلى النعمان بن المنذر أما بعد‏:‏ فوجه إلي برجل عالم بما أريد أن أسأله عنه، فوجه إليه بعبد المسيح بن عمرو بن حيان بن نفيلة الغساني‏.‏

فلما ورد عليه قال له‏:‏ ألك علم بما أريد أن أسألك عنه‏؟‏ فقال‏:‏ لتخبرني، أو ليسألني الملك عما أحب، فإن كان عندي منه علم وإلا أخبرته بمن يعلم‏.‏ فأخبره بالذي وجه به إليه فيه‏.‏

قال‏:‏ علم ذلك عند خال لي يسكن مشارف الشام، يقال له‏:‏ سطيح، قال فاسأله عما سألتك عنه ثم ائتني بتفسيره‏.‏

فخرج عبد المسيح حتى انتهى إلى سطيح، وقد أشفى على الضريح، فسلم عليه وكلمه فلم يرد إليه سطيح جواباً، فأنشأ يقول‏:‏

أصم أم يسمع غطريف اليمن * أم فاد فاز لم به شأو العنن

يا فاصل الخطة أعيت من ومن * أتاك شيخ الحي من آل سنن

وأمه من آل ذئب بن حجن * أزرق نهم الناب صرار الأذن

أبيض فضفاض الرداء والبدن * رسول قيل العجم يسري للوسن

يجوب بي الأرض علنداة شزن * لا يرهب الرعد ولا ريب الزمن

ترفعني وجناً وتهوي بي وجن * حتى أتى عاري الجآجي والقطن

تلفه في الريح بوغاء الدمن * كأنما حثحث من حضني ثكن

قال‏:‏ فلما سمع سطيح شعره، رفع رأسه يقول‏:‏ عبد المسيح على جمل مشيح، أتى سطيح، وقد أوفى على الضريح، بعثك ملك بني ساسان، لارتجاس الإيوان، وخمود النيران، ورؤيا الموبذان، رأى إبلاً صعاباً، تقود خيلاً عراباً قد قطعت دجلة، وانتشرت في بلادها‏.‏

يا عبد المسيح إذا كثرت التلاوة، وظهر صاحب الهراوة، وفاض وادي السماوة، وغاضت بحيرة ساوة، وخمدت نار فارس، فليس الشام لسطيح شاما، يملك منهم ملوك وملكات على عدد الشرفات، وكلما هو آت آت، ثم قضى سطيح مكانه، فنهض عبد المسيح إلى راحلته وهو يقول‏:‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 329‏)‏

شمر فإنك ماضي العزم شمير * لا يفزعنك تفريق وتغيير

إن يمس ملك بني ساسان أفرطهم * فإن ذا الدهر أطوار دهارير

فربما ربما أضحوا بمنزلة * يخاف صولهم الأسد المهاصير

منهم أخو الصرح بهرام وإخوته * والهرمزان وشابور وسابور

والناس أولاد علات فمن علموا * أن قد أقل فمحقور ومهجور

ورب قوم لهم صحبان ذي أذن * بدت تلهيهم فيه المزامير

وهم بنو الأم إما إن رأوا نشباً * فذاك بالغيب محفوظ ومنصور

والخير والشر مقرونان في قرن * فالخير متبع والشر محذور

قال‏:‏ فلما قدم عبد المسيح على كسرى أخبره بما قال له سطيح، فقال كسرى‏:‏ إلى أن يملك منا أربعة عشر ملكاً، كانت أمور وأمور، فملك منهم عشرة في أربع سنين، وملك الباقون إلى خلافة عثمان رضي الله عنه‏.‏

ورواه البيهقي من حديث عبد الرحمن بن محمد بن إدريس، عن علي بن حرب الموصلي بنحوه‏.‏

قلت‏:‏ كان آخر ملوكهم الذي سلب منه الملك يزدجرد بن شهريار بن أبرويز بن هرمز بن أنوشروان، وهو الذي انشق الإيوان في زمانه، وكان لأسلافه في الملك ثلاثة آلاف سنة ومائة وأربعة وستون سنة، وكان أول ملوكهم خيومرت بن أميم بن لاوذ بن سام بن نوح‏.‏

أما سطيح هذا فقال الحافظ ابن عساكر في تاريخه‏:‏ هو الربيع بن ربيعة بن مسعود بن مازن بن ذئب ابن عدي بن مازن بن الأزد‏.‏ ويقال‏:‏ الربيع بن مسعود، وأمه ردعا بنت سعد بن الحارث الحجوري‏.‏ وذكر غير ذلك في نسبه‏.‏ قال‏:‏ وكان يسكن الجابية‏.‏

ثم روي عن أبي حاتم السجستاني قال‏:‏ سمعت المشيخة منهم أبو عبيدة وغيره قالوا‏:‏ وكان من بعد لقمان بن عاد‏.‏ ولد في زمن سيل العرم وعاش إلى ملك ذي نواس، وذلك نحو من ثلاثين قرناً، وكان مسكنه البحرين، وزعمت عبد القيس أنه منهم، وتزعم الأزد أنه منهم، وأكثر المحدثين يقولون هو من الأزد‏.‏ ولا ندري ممن هو، غير أن ولده يقولون إنه من الأزد‏.‏

وروي عن ابن عباس أنه قال‏:‏ لم يكن شيء من بني آدم يشبه سطيحاً، إنما كان لحماً على وضم، ليس فيه عظم ولا عصب إلا في رأسه وعينيه وكفيه، وكان يطوى كما يطوى الثوب من رجليه إلى عنقه، ولم يكن فيه شيء يتحرك إلا لسانه‏.‏

وقال غيره‏:‏ إنه كان إذا غضب انتفخ وجلس‏.‏

ثم ذكر ابن عباس أنه قدم مكة فتلقاه جماعة من رؤسائهم منهم عبد شمس، وعبد مناف أبناء قصي، فامتحنوه في أشياء، فأجابهم فيها بالصدق، فسألوه عما يكون في آخر الزمان فقال‏:‏ خذوا مني ومن إلهام الله إياي‏:‏ أنتم الآن يا معشر العرب في زمان الهرم، سواء بصائركم وبصائر العجم، لا علم عندكم ولا فهم، وينشو من عقبكم ذوو فهم، يطلبون أنواع العلم فيكسرون الصنم، ويتبعون الردم، ويقتلون العجم، يطلبون الغنم‏.‏

ثم قال‏:‏ والباقي الأبد، والبالغ الأمد، ليخرجن من ذا البلد نبي مهتد، يهدي إلى الرشد، يرفض يغوث والفند، يبرأ عن عبادة الضدد، يعبد رباً انفرد، ثم يتوفاه الله بخير دار محموداً من الأرض مفقوداً، وفي السماء مشهوداً‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 330‏)‏

ثم يلي أمره الصديق، إذا قضى صدق، وفي رد الحقوق لا خرق ولا نزق، ثم يلي أمره الحنيف، مجرب غطريف، قد أضاف المضيف، وأحكم التحنيف، ثم ذكر عثمان ومقتله، وما يكون بعد ذلك من أيام بني أمية ثم بني العباس، وما بعد ذلك من الفتن والملاحم، ساقه ابن عساكر بسنده عن ابن عباس بطوله‏.‏

وقد قدمنا قوله لربيعة بن نصر ملك اليمن حين أخبره برؤياه قبل أن يخبره بها، ثم ما يكون في بلاد اليمن من الفتن وتغيير الدول، حتى يعود إلى سيف بن ذي يزن، فقال له‏:‏ أفيدوم ذلك من سلطانه أم ينقطع‏؟‏ قال‏:‏ بل ينقطع‏.‏ قال‏:‏ ومن يقطعه‏؟‏

قال‏:‏ نبي زكي يأتيه الوحي من قبل العلي‏.‏ قال‏:‏ وممن هذا النبي‏؟‏ قال‏:‏ من ولد غالب بن فهر بن مالك بن النضر، يكون الملك في قومه إلى آخر الدهر‏.‏ قال‏:‏ وهل للدهر من آخر‏؟‏ قال‏:‏ نعم، يوم يجمع فيه الأولون والآخرون يسعد فيه المحسنون، ويشقى فيه المسيئون‏.‏ قال‏:‏ أحق ما تخبرني‏؟‏

قال‏:‏ نعم، والشفق والغسق والقمر إذا اتسق، إن ما أنبأتك عليه لحق، ووافقه على ذلك شق سواء بسواء بعبارة أخرى كما تقدم‏.‏

ومن شعر سطيح قوله‏:‏

عليكم بتقوى الله في السر والجهر * ولا تلبسوا صدق الأمانة بالغدر

وكونوا لجار الجنب حصناً وجنة * إذا ما عرته النائبات من الدهر

وروى ذلك الحافظ ابن عساكر‏.‏

ثم أورد ذلك المعافي بن زكريا الجريري فقال‏:‏ وأخبار سطيح كثيرة، وقد جمعها غير واحد من أهل العلم‏.‏ والمشهور أنه كان كاهناً، وقد أخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن نعته، ومبعثه‏.‏

وروي لنا بإسناد الله به أعلم، أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن سطيح فقال‏:‏ نبي ضيعه قومه‏.‏

قلت‏:‏ أما هذا الحديث فلا أصل له في شيء من كتب الإسلام المعهودة، ولم أره بإسناد أصلاً‏.‏

ويروي مثله في خبر خالد بن سنان العبسي، ولا يصح أيضاً، وظاهر هذه العبارات تدل على علم جيد لسطيح، وفيها روائح التصديق، لكنه لم يدرك الإسلام كما قال الجريري، فإنه قد ذكرنا في هذا الأثر أنه قال لابن أخته‏:‏ يا عبد المسيح إذا كثرت التلاوة، وظهر صاحب الهراوة، وفاض وادي السماوة، وغاضت بحيرة ساوة، وخمدت نار فارس، فليس الشام لسطيح شاما، يملك منهم ملوك وملكات على عدد الشرفات، وكل ما هو آت آت‏.‏

ثم قضى سطيح مكانه، وكان ذلك بعد مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم بشهر- أو شية - أي أقل منه، وكانت وفاته بأطراف الشام مما يلي أرض العراق، فالله أعلم بأمره وما صار إليه‏.‏

وذكر ابن طرار الحريري أنه عاش سبعمائة سنة‏.‏ وقال غيره‏:‏ خمسمائة سنة، وقيل‏:‏ ثلاثمائة سنة، فالله أعلم‏.‏

وقد روى ابن عساكر أن ملكاً سأل سطيحاً عن نسب غلام اختلف فيه، فأخبره على الجلية في كلام طويل مليح فصيح، فقال له الملك‏:‏ يا سطيح ألا تخبرني عن علمك هذا‏؟‏ فقال‏:‏ إن علمي هذا ليس مني ولا بجزم ولا بظن، ولكن أخذته عن أخ لي قد سمع الوحي بطور سيناء‏.‏

فقال له‏:‏ أرأيت أخاك هذا الجني أهو معك لا يفارقك‏؟‏ فقال إنه ليزول حيث أزول، ولا أنطق إلا بما يقول‏.‏ وتقدم أنه ولد هو وشق بن مصعب بن يشكر بن رهم بن بسر بن عقبة الكاهن الآخر، ولدا في يوم واحد‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 331‏)‏

فحملا إلى الكاهنة طريفة بنت الحسين الحميدية، فتفلت في أفواههما فورثا منها الكهانة وماتت من يومها‏.‏ وكان نصف إنسان‏.‏ ويقال إن خالد بن عبد الله القسري من سلالته، وقد مات شق قبل سطيح بدهر‏.‏

وأما عبد المسيح بن عمرو بن قيس بن حيان بن نفيلة الغساني النصراني فكان من المعمرين‏.‏ وقد ترجمه الحافظ ابن عساكر في تاريخه، وقال‏:‏ هو الذي صالح خالد بن الوليد على ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ وذكر له معه قصة طويلة، وأنه أكل من يده سم ساعة فلم يصبه سوء، لأنه لما أخذه قال‏:‏ بسم الله وبالله، رب الأرض والسماء الذي لا يضر مع اسمه أذى‏.‏ ثم أكله فعلته غشية فضرب بيديه على صدره ثم عرق وأفاق رضي الله عنه‏.‏

وذكر لعبد المسيح أشعاراً غير ما تقدم‏.‏

وقال أبو نعيم‏:‏ حدثنا محمد بن أحمد بن الحسن، حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة، حدثنا عقبة بن مكرم، حدثنا المسيب بن شريك، حدثنا محمد بن شريك، عن شعيب بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال‏:‏ كان بمر الظهران راهب من الرهبان يدعى‏:‏ عيصاً من أهل الشام، وكان متخفراً بالعاص بن وائل‏.‏

وكان الله قد آتاه علماً كثيراً، وجعل فيه منافع كثيرة لأهل مكة من طيب ورفق وعلم، وكان يلزم صومعة له، ويدخل مكة في كل سنة، فيلقى الناس ويقول‏:‏ إنه يوشك أن يولد فيكم مولود يا أهل مكة، يدين له العرب، ويملك العجم، هذا زمانه ومن أدركه واتبعه أصاب حاجته، ومن أدركه فخالفه أخطأ حاجته، وبالله ما تركت أرض الخمر والخمير والأمن، ولا حللت بأرض الجوع والبؤس والخوف، إلا في طلبه‏.‏

وكان لا يولد بمكة مولود إلا يسأل عنه فيقول‏:‏ ما جاء بعد‏.‏ فيقال له‏:‏ فصفه‏.‏ فيقول‏:‏ لا‏.‏ ويكتم ذلك للذي قد علم أنه لاق من قومه مخافة على نفسه أن يكون ذلك داعية إلى أدنى ما يكون إليه من الأذى يوماً‏.‏

ولما كان صبيحة اليوم الذي ولد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عبد الله بن عبد المطلب حتى أتي عيصاً، فوقف في أصل صومعته ثم نادى‏:‏ يا عيصاه، فناداه من هذا‏؟‏ فقال‏:‏ أنا عبد الله فأشرف عليه فقال‏:‏ كن أباه، فقد ولد المولود الذي كنت أحدثكم عنه يوم الاثنين، ويبعث يوم الاثنين، ويموت يوم الاثنين‏.‏

قال‏:‏ فإنه قد ولد لي مع الصبح مولود‏؟‏ قال‏:‏ فما سميته‏؟‏ قال‏:‏ محمداً‏.‏ قال‏:‏ والله لقد كنت أشتهي أن يكون هذا المولود فيكم أهل البيت لثلاث خصال نعرفه بها منها‏:‏ أن نجمه طلع البارحة، وأنه ولد اليوم، وأن اسمه محمد‏.‏ انطلق إليه فإن الذي كنت أخبركم عنه ابنك‏.‏ قال‏:‏ فما يدريك أنه ابني ولعله أن يولد في هذا اليوم مولود غيره‏؟‏

قال‏:‏ قد وافق ابنك الاسم، ولم يكن الله ليشبه علمه على العلماء فإنه حجة، وآية ذلك أنه الآن وجع، فيشتكي أياماً ثلاثة، فيظهر به الجوع ثلاثاً ثم يعافى، فاحفظ لسانك فإنه لم يحسد أحد حسده قط، ولم يبغ على أحد كما يبغي عليه، إن تعش حتى يبدو مقاله، ثم يدعو لظهر لك من قومك ما لا تحتمله إلا على صبر، وعلى ذلك فاحفظ لسانك ودار عنه‏.‏

قال‏:‏ فما عمره‏؟‏ قال‏:‏ إن طال عمره وإن قصر لم يبلغ السبعين، يموت في وتر دونها من الستين في إحدى وستين، أو ثلاث وستين، في أعمار جل أمته‏.‏

قال‏:‏ وحمل برسول الله صلى الله عليه وسلم في عاشر المحرم، وولد يوم الاثنين لثنتي عشرة خلت من رمضان سنة ثلاث وعشرين من غزوة أصحاب الفيل‏.‏ هكذا رواه أبو نعيم، وفيه غرابة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 332‏)‏

 حواضنه ومراضعه عليه الصلاة والسلام

كانت أم أيمن واسمها‏:‏ بركة، تحضنه، وكان قد ورثها عليه الصلاة والسلام من أبيه، فلما كبر أعتقها وزوجها مولاه زيد بن حارثة، فولدت له أسامة بن زيد رضي الله عنهم وأرضعته مع أمه عليه الصلاة والسلام مولاة عمه أبي لهب ثويبة قبل حليمة السعدية‏.‏

أخرج البخاري ومسلم في صحيحهما من حديث الزهري، عن عروة بن الزبير، عن زينب بنت أم سلمة، عن أم حبيبة بنت أبي سفيان قالت‏:‏ يا رسول الله أنكح أختي بنت أبي سفيان - ولمسلم عزة بنت أبي سفيان - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏أو تحبين ذلك‏)‏‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ نعم، لست لك بمخلية، وأحب من شاركني في خير أختي‏.‏

فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏فإن ذلك لا يحل لي‏)‏‏)‏‏.‏

قالت‏:‏ فإنا نحدث أنك تريد أن تنكح بنت أبي سلمة - وفي رواية درة بنت أبي سلمة -‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏بنت أم سلمة‏)‏‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إنها لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي، إنها لابنة أخي من الرضاعة أرضعتني وأبا سلمة ثويبة، فلا تعرضن عليَّ بناتكن ولا أخواتكن‏)‏‏)‏‏.‏

زاد البخاري‏:‏ قال عروة‏.‏

وثويبة مولاة لأبي لهب، أعتقها فأرضعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما مات أبو لهب أريه بعض أهله بشر خيبة، فقال له‏:‏ ماذا لقيت‏؟‏

فقال أبو لهب‏:‏ لم ألقَ بعدكم خيراً، غير أني سقيت في هذه بعتاقتي ثويبة - وأشار إلى النقرة التي بين الإبهام والتي تليها من الأصابع -‏.‏

وذكر السهيلي وغيره‏:‏ أن الرائي له هو أخوه العباس، وكان ذلك بعد سنة من وفاة أبي لهب بعد وقعة بدر، وفيه‏:‏ أن أبا لهب قال للعباس‏:‏ إنه ليخفف عليَّ في مثل يوم الاثنين‏.‏

قالوا‏:‏ لأنه لما بشرته ثويبة بميلاد ابن أخيه محمد بن عبد الله أعتقها من ساعته، فجوزي بذلك لذلك‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 333‏)‏

 رضاعه عليه الصلاة والسلام من حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية وما ظهر عليه من البركة وآيات النبوة

قال محمد بن إسحاق‏:‏ فاسترضع له عليه الصلاة والسلام من حليمة بنت أبي ذؤيب، واسمه عبد الله بن الحارث بن شجنة بن جابر بن رزام بن ناصرة بن سعد بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن حفصة بن قيس بن عيلان بن مضر‏.‏

قال‏:‏ واسم أبي رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أرضعه - يعني زوج حليمة - الحارث بن عبد العزى بن رفاعة بن ملان بن ناصرة بن سعد بن بكر بن هوازن‏.‏ وأخوته عليه الصلاة والسلام - يعني من الرضاعة - عبد الله بن الحارث، وأنيسة بنت الحارث، وحذافة بنت الحارث وهي الشيماء، وذكروا أنها كانت تحضن رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أمه إذ كان عندهم‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ حدثني جهم بن أبي جهم مولى لامرأة من بني تميم كانت عند الحارث بن حاطب، ويقال له‏:‏ مولى الحارث بن حاطب‏.‏ قال‏:‏ حدثني من سمع عبد الله بن جعفر بن أبي طالب قال‏:‏ حدثت عن حليمة بنت الحارث أنها قالت‏:‏

قدمت مكة في نسوة، وذكر الواقدي بإسناده أنهن كن عشرة نسوة من بني سعد بن بكر يلتمسن بها الرضعاء من بني سعد، نلتمس بها الرضعاء في سنة شهباء، فقدمت على أتان لي قمراء، كانت أذّمت بالركب ومعي صبي لنا، وشارف لنا والله ما تبض بقطرة‏.‏

وما ننام ليلتنا ذلك أجمع مع صبينا ذاك، ما نجد في ثديي ما يغنيه، ولا في شارفنا ما يغذيه، ولكنا كنا نرجو الغيث والفرج‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 334‏)‏ فخرجت على أتاني تلك، فلقد أذمت بالركب حتى شق ذلك عليهم ضعفاً وعجفاً، فقدمنا مكة فوالله ما علمت منا امرأة إلا وقد عرض عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فتأباه إذا قيل إنه يتيم تركناه، قلنا ماذا عسى أن تصنع إلينا أمه، إنما نرجو المعروف من أبي الولد، فأما أمه فماذا عسى أن تصنع إلينا‏؟‏ فوالله ما بقي من صواحبي امرأة إلا أخذت رضيعاً غيري، فلما لم نجد غيره وأجمعنا الانطلاق، قلت لزوجي الحارث بن عبد العزى‏:‏ والله إني لأكره أن أرجع من بين صواحبي ليس معي رضيع، لأنطلقن إلى ذلك اليتيم فلآخذنه‏.‏

فقال‏:‏ لا عليك أن تفعلي فعسى أن يجعل الله لنا فيه بركة‏.‏ فذهبت فأخذته فوالله ما أخذته إلا أني لم أجد غيره، فما هو إلا أن أخذته، فجئت به رحلي فأقبل عليه ثدياي بما شاء من لبن، فشرب حتى روي، وشرب أخوه حتى روي، وقام صاحبي إلى شارفنا تلك فإذا إنها لحافل، فحلب ما شرب وشربت حتى روينا، فبتنا بخير ليلة‏.‏

فقال صاحبي حين أصبحنا‏:‏ يا حليمة والله إني لأراك قد أخذت نسمة مباركة، ألم تري ما بتنا به الليلة من الخير والبركة حين أخذناه‏؟‏ فلم يزل الله عز وجل يزيدنا خيراً، ثم خرجنا راجعين إلى بلادنا، فوالله لقطعت أتاني بالركب حتى ما يتعلق بها حمار، حتى أن صواحبي ليقلن‏:‏ ويلك يا بنت أبي ذؤيب هذه أتانك التي خرجت عليها معنا‏؟‏

فأقول‏:‏ نعم والله إنها لهي، فقلن‏:‏ والله إن لها لشأناً، حتى قدمنا أرض بني سعد، وما أعلم أرضاً من أرض الله أجدب منها، فإن كانت غنمي لتسرح ثم تروح شباعاً لبناً فتحلب ما شئنا، وما حوالينا أو حولنا أحد تبض له شاة بقطرة لبن، وإن أغنامهم لتروح جياعاً، حتى إنهم ليقولون لرعاتهم أو لرعيانهم‏:‏ ويحكم انظروا حيث تسرح غنم بنت أبي ذؤيب فاسرحوا معهم، فيسرحون مع غنمي حيث تسرح، فتروح أغنامهم جياعاً ما فيها قطرة لبن، وتروح أغنامي شباعاً لبناً نحلب ما شئنا‏.‏

فلم يزل الله يرينا البركة نتعرفها حتى بلغ سنتين، فكان يشب شباباً لا تشبه الغلمان، فوالله ما بلغ السنتين حتى كان غلاماً جفراً، فقدمنا به على أمه ونحن أضن شيء به مما رأينا فيه من البركة، فلما رأته أمه قلت لها‏:‏ دعينا نرجع بابننا هذه السنة الأخرى، فإنا نخشى عليه وباء مكة، فوالله ما زلنا بها حتى قالت نعم، فسرحته معنا فأقمنا به شهرين أو ثلاثة‏.‏

فبينما هو خلف بيوتنا مع أخ له من الرضاعة في بهم لنا، جاء أخوه ذلك يشتد فقال‏:‏ ذاك أخي القرشي جاءه رجلان عليهما ثياب بيض فأضجعاه فشقا بطنه، فخرجت أنا وأبوه نشتد نحوه، فنجده قائماً منتقعاً لونه، فأعتنقه أبوه وقال‏:‏ يا بني ما شأنك‏؟‏

قال‏:‏ جاءني رجلان عليهما ثياب بيض أضجعاني وشقا بطني، ثم استخرجا منه شيئاً فطرحاه، ثم رداه كما كان، فرجعنا به معنا، فقال أبوه‏:‏ يا حليمة لقد خشيت أن يكون ابني قد أصيب، فانطلقي بنا نرده إلى أهله قبل أن يظهر به ما نتخوف‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 335‏)‏

قالت حليمة‏:‏ فاحتملناه فلم ترع أمه إلا به، فقدمنا به عليها فقالت‏:‏ ما ردكما به يا ظئر، فقد كنتما عليه حريصين‏؟‏ فقالا‏:‏ لا والله إلا أن الله قد أدى عنا وقضينا الذي علينا، وقلنا نحشى الإتلاف والأحداث نرده إلى أهله، فقالت‏:‏ ما ذاك بكما فأصدقاني شأنكما‏؟‏ فلم تدعنا حتى أخبرناها خبره‏.‏

فقالت‏:‏ أخشيتما عليه الشيطان، كلا والله ما للشيطان عليه من سبيل، والله إنه لكائن لابني هذا شأن، ألا أخبركما خبره، قلنا‏:‏ بلى‏.‏

قالت‏:‏ حملت به، فما حملت حملاً قط أخف علي منه، فأريت في النوم حين حملت به كأنه خرج مني نور أضاءت له قصور الشام، ثم وقع حين ولدته وقوعاً ما يقعه المولود، معتمداً على يديه، رافعاً رأسه إلى السماء، فدعاه عنكما‏.‏

وهذا الحديث قد روي من طرق أخر، وهو من الأحاديث المشهورة المتداولة بين أهل السير والمغازي‏.‏

وقال الواقدي‏:‏ حدثني معاذ بن محمد بن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس قال‏:‏ خرجت حليمة تطلب النبي صلى الله عليه وسلم وقد وجدت البهم تقيل، فوجدته مع أخته فقالت‏:‏ في هذا الحر‏؟‏ فقالت أخته‏:‏ يا أمه ما وجد أخي حراً، رأيت غمامة تظلل عليه إذا وقف وقفت، وإذا سار سارت، حتى انتهى إلى هذا الموضع‏.‏

وقال ابن إسحاق‏:‏ حدثني ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم قالوا له‏:‏ أخبرنا عن نفسك‏.‏ قال‏:‏ نعم، أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشرى أخي عيسى عليهما السلام، ورأت أمي حين حملت بي أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام‏.‏

واسترضعت في بني سعد بن بكر، فبينما أنا مع أخ لي في بهم لنا أتاني رجلان عليهما ثياب بيض، معهما طست من ذهب مملوء ثلجاً، فأضجعاني فشقا بطني، ثم استخرجا قلبي فشقاه، فأخرجا منه علقة سوداء فألقياها، ثم غسلا قلبي وبطني بذلك الثلج، حتى إذا ألقياه رداه كما كان‏.‏

ثم قال أحدهما لصاحبه‏:‏ زنه بعشرة من أمته، فوزنني بعشرة فوزنتهم، ثم قال زنه بمائة من أمته، فوزنني بمائة فوزنتهم، ثم قال زنه بألف من أمته، فوزنني بألف فوزنتهم، فقال دعه عنك فلو وزنته بأمته لوزنهم‏.‏ وهذا إسناد جيد قوي‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 336‏)‏

وقد روى أبو نعيم الحافظ في ‏(‏الدلائل‏)‏ من طريق عمر بن الصبح - وهو أبو نعيم - عن ثور بن يزيد، عن مكحول، عن شداد بن أوس هذه القصة مطولة جداً، ولكن عمر بن صبح هذا متروك كذاب، متهم بالوضع، فلهذا لم نذكر لفظ الحديث إذ لا يفرح به‏.‏

ثم قال‏:‏ وحدثنا أبو عمر بن حمدان، حدثنا الحسن بن نفير، حدثنا عمرو بن عثمان، حدثنا بقية بن الوليد، عن بحير بن سعيد، عن خالد بن معدان، عن عبد الرحمن بن عمرو السلمي، عن عتبة بن عبد الله أنه حدثه أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ كيف كان أول شأنك يا رسول الله‏؟‏

قال‏:‏ كانت حاضنتي من بني سعد بن بكر، فانطلقت أنا وابن لها في بهم لنا ولم نأخذ معنا زاداً، فقلت يا أخي اذهب فائتنا بزاد من عند أمنا، فانطلق أخي ومكثت عند البهم فأقبل إلي طائران أبيضان كأنهما نسران، فقال أحدهما لصاحبه‏:‏ أهو هو‏؟‏ فقال‏:‏ نعم‏.‏

فأقبلا يبتدراني، فأخذاني فبطحاني للقفا، فشقا بطني ثم استخرجا قلبي، فشقاه فأخرجا منه علقتين سوداوين‏.‏ فقال أحدهما لصاحبه‏:‏ ائتني بماء ثلج فغسلا به جوفي، ثم قال‏:‏ ائتني بماء برد فغسلا به قلبي‏.‏ ثم قال‏:‏ ائتني بالسكينة فذرها في قلبي، ثم قال أحدهما لصاحبه‏:‏ خطه فخاطه، وختم على قلبي بخاتم النبوة‏.‏

فقال أحدهما لصاحبه‏:‏ اجعله في كفة واجعل ألفاً من أمته في كفة، فإذا أنا أنظر إلى الألف فوقي أشفق أن يخر علي بعضهم، فقال‏:‏ لو أن أمته وزنت به لمال بهم، ثم انطلقا فتركاني وفرقت فرقاً شديدا، ثم انطلقت إلى أمي فأخبرتها بالذي لقيت، فأشفقت أن يكون قد لبس بي، فقالت‏:‏ أعيذك بالله، فرحلت بعيراً لها، وحملتني على الرحل، وركبت خلفي حتى بلغنا إلى أمي فقالت‏:‏ أديت أمانتي وذمتي، وحدثتها بالذي لقيت، فلم يرعها وقالت‏:‏ إني رأيت خرج مني نور أضاءت منه قصور الشام‏.‏

ورواه أحمد من حديث بقية بن الوليد به‏.‏ وهكذا رواه عبد الله بن المبارك وغيره عن بقية بن الوليد به‏.‏

وقد رواه ابن عساكر من طريق أبي داود الطيالسي، حدثنا جعفر بن عبد الله بن عثمان القرشي، أخبرني عمير بن عمر بن عروة بن الزبير قال‏:‏ سمعت عروة بن الزبير يحدث عن أبي ذر الغفاري قال‏:‏ قلت يا رسول الله كيف علمت أنك نبي حين علمت ذلك، واستيقنت أنك نبي‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏يا أبا ذر أتاني ملكان وأنا ببعض بطحاء مكة، فوقع أحدهما على الأرض، وكان الآخر بين السماء والأرض، فقال أحدهما لصاحبه‏:‏ أهو هو‏؟‏

قال‏:‏ هو هو‏.‏

قال‏:‏ زنه برجل، فوزنني برجل فرجحته‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏‏)‏‏.‏

وذكر تمامه، وذكر شق صدره وخياطته، وجعل الخاتم بين كتفيه، قال‏:‏ فما هو إلا أن وليا عني فكأنما أعاين الأمر معاينة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 337‏)‏

ثم أورد ابن عساكر، عن أبي بن كعب بنحو ذلك‏.‏ ومن حديث شداد بن أوس بأبسط من ذلك‏.‏

وثبت في صحيح مسلم من طريق حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل عليه السلام وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه فصرعه فشق عن قلبه، فاستخرج القلب، واستخرج منه علقة سوداء فقال‏:‏ هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله في طشت من ذهب بماء زمزم ثم لأمه، ثم أعاده في مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه - يعني ظئره - فقالوا‏:‏ إن محمداً قد قتل، فاستقبلوه وهو منتقع اللون‏.‏

قال أنس‏:‏ وقد كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره‏.‏

وقد رواه ابن عساكر من طريق ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن عبد ربه بن سعيد، عن ثابت البناني، عن أنس‏:‏ أن الصلاة فرضت بالمدينة، وأن ملكين أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهبا به إلى زمزم، فشقا بطنه فأخرجا حشوته في طشت من ذهب فغسلاه بماء زمزم، ثم لبسا جوفه حكمة وعلماً‏.‏

ومن طريق ابن وهب أيضاً، عن يعقوب بن عبد الرحمن الزهري، عن أبيه، عن عبد الرحمن بن عامر بن عتبة بن أبي وقاص، عن أنس قال‏:‏ أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث ليال قال‏:‏ خذوا خيرهم وسيدهم، فأخذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعمد به إلى زمزم، فشق جوفه ثم أتى بتور من ذهب فغسل جوفه ثم ملئ حكمة وإيماناً‏.‏

وثبت من رواية سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن أنس وفي الصحيحين من طريق شريك بن عبد الله بن أبي نمر، عن أنس، وعن الزهري، عن أنس، عن أبي ذر، وقتادة، عن أنس، وعن مالك بن صعصعة، عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الإسراء‏.‏

كما سيأتي قصة شرح الصدر ليلتئذ، وإنه غسل بماء زمزم، ولا منافاة لاحتمال وقوع ذلك مرتين‏:‏ مرة وهو صغير، ومرة ليلة الإسراء، ليتأهب للوفود إلى الملأ الأعلى ولمناجاة الرب عز وجل، والمثول بين يديه تبارك وتعالى‏.‏

وقال ابن إسحاق‏:‏ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه‏:‏ ‏(‏‏(‏أنا أعربكم، أنا قرشي، واسترضعت في بني سعد بن بكر‏)‏‏)‏‏.‏

وذكر ابن إسحاق أن حليمة لما أرجعته إلى أمه بعد فطامه، مرت به على ركب من النصارى فقاموا إليه عليه الصلاة والسلام فقلبوه، وقالوا‏:‏ إنا سنذهب بهذا الغلام إلى ملكنا فإنه كائن له شأن، فلم تكد تنفلت منهم إلا بعد جهد‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 338‏)‏

وذكر أنها لما ردته حين تخوفت عليه أن يكون أصابه عارض، فلما قربت من مكة افتقدته فلم تجده، فجاءت جده عبد المطلب فخرج هو وجماعة في طلبه فوجده ورقة بن نوفل، ورجل آخر من قريش فأتيا به جده، فأخذه على عاتقه، وذهب فطاف به يعوذه، ويدعو له، ثم رده إلى أمه آمنة‏.‏

وذكر الأموي من طريق عثمان بن عبد الرحمن الوقاصي - وهو ضعيف - عن الزهري، عن سعيد بن المسيب قصة مولده عليه الصلاة والسلام، ورضاعه من حليمة على غير سياق محمد بن إسحاق‏.‏

وذكر أن عبد المطلب أمر ابنه عبد الله أن يأخذه فيطوف به في أحياء العرب ليتخذ له مرضعة، فطاف حتى استأجر حليمة على رضاعه، وذكر أنه أقام عندها ست سنين، تزيره جده في كل عام، فلما كان من شق صدره عندهم ما كان، ردته إليهم فأقام عند أمه حتى كان عمره ثماني سنين ماتت، فكفله جده عبد المطلب فمات وله عليه الصلاة والسلام عشر سنين، فكفله عماه شقيقا أبيه‏:‏ الزبير، وأبو طالب‏.‏

فلما كان له بضع عشرة سنة خرج مع عمه الزبير إلى اليمن، فذكر أنهم رأوا منه آيات في تلك السفرة، منها أن فحلاً من الإبل كان قد قطع بعض الطريق في واد ممرهم عليه، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم برك حتى حك بكلكله الأرض، فركبه عليه الصلاة والسلام‏.‏

ومنها أنه خاض بهم سيلاً عرماً فأيبسه الله تعالى حتى جاوزوه، ثم مات عمه الزبير وله أربع عشرة سنة، فانفرد به أبو طالب‏.‏

والمقصود أن بركته عليه الصلاة والسلام حلت على حليمة السعدية وأهلها وهو صغير، ثم عادت على هوازن بكمالهم، فواضله حين أسرهم بعد وقعتهم، وذلك بعد فتح مكة بشهر، فمتوا إليه برضاعه فأعتقهم وتحنن عليهم، وأحسن إليهم، كما سيأتي مفصلاً في موضعه إن شاء الله تعالى‏.‏

قال محمد بن إسحاق‏:‏ في وقعة هوازن، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده عبد الله بن عمرو قال‏:‏ كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بحنين، فلما أصاب من أموالهم وسباياهم أدركه وفد هوازن بالجعرانة وقد أسلموا، فقالوا‏:‏ يا رسول الله إنا أهل وعشيرة، وقد أصابنا من البلاء ما لم يخف عليك، فامنن علينا من الله عليك‏.‏

وقام خطيبهم زهير بن صرد فقال‏:‏ يا رسول الله إن ما في الحظائر من السبايا خالاتك وحواضنك اللاتي كن يكفلنك، فلو أنا ملحنا ابن أبي شمر، أو النعمان بن المنذر، ثم أصابنا منهما مثل الذي أصابنا منك، رجونا عائدتهما وعطفهما، وأنت خير المكفولين ثم أنشد‏:‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 339‏)‏

امنن علينا رسول الله في كرم * فإنك المرء نرجوه وندخر

امنن على بيضة قد عاقها قدر * ممزق شملها في دهرها غير

أبقت لنا الدهر هتافاً على حزن * على قلوبهم الغماء والغمر

إن لم تداركها نعماء تنشرها * يا أرجح الناس حلماً حين يختبر

امنن على نسوة قد كنت ترضعها * إذ فوك يملؤه من محضها درر

امنن على نسوة قد كنت ترضعها * وإذ يزينك ما تأتي وما تذر

لا تجعلنا كمن شالت نعامته * واستبق منا فإنا معشر زهر

إنا لنشكر للنعمى وإن كفرت * وعندنا بعد هذا اليوم مدخر

وقد رويت هذه القصة من طريق عبيد الله بن رماحس الكلبي الرملي، عن زياد بن طارق الجشمي، عن أبي صرد زهير بن جرول - وكان رئيس قومه - قال‏:‏ لما أسرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين، فبينا هو يميز بين الرجال والنساء وثبت حتى قعدت بين يديه، وأسمعته شعراً أذكّره حين شب ونشأ في هوازن حيث أرضعوه‏:‏

امنن علينا رسول الله في دعة * فإنك المرء نرجوه وننتظر

امنن على بيضة قد عاقها قدر * ممزق شملها في دهرها غير

أبقت لنا الحرب هتافاً على حزن * على قلوبهم الغماء والغمر

إن لم تداركها نعماء تنشرها * يا أرجح الناس حلماً حين يختبر

امنن على نسوة قد كنت ترضعها * إذ فوك تملؤه من محضها الدرر

إذ أنت طفل صغير كنت ترضعها * وإذ يزينك ما تأتي وما تذر

لا تجعلنا كمن شالت نعامته * واستبق منا فإنا معشر زهر

إنا لنشكر للنعمى وإن كفرت * وعندنا بعد هذا اليوم مدخر

فألبس العفو من قد كنت ترضعه * من أمهاتك إن العفو مشتهر

إنا نؤمل عفواً منك تلبسه * هذي البرية إذ تعفو وتنتصر

فاغفر عفا الله عما أنت راهبه * يوم القيامة إذ يهدى لك الظفر

قال‏:‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 340‏)‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لله ولكم‏)‏‏)‏‏.‏

فقالت الأنصار‏:‏ وما كان لنا فهو لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وسيأتي أنه عليه الصلاة والسلام أطلق لهم الذرية وكانت ستة آلاف ما بين صبي وامرأة، وأعطاهم أنعاماً وأناسي كثيراً‏.‏

حتى قال أبو الحسين ابن فارس‏:‏ فكان قيمة ما أطلق لهم يومئذ خمسمائة ألف ألف درهم، فهذا كله من بركته العاجلة في الدنيا، فكيف ببركته على من اتبعه في الدار الآخرة‏؟‏

 فصل ذكر رجوعه عليه الصلاة والسلام إلى أمه آمنة بعد رضاعة حليمة‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ بعد ذكر رجوعه عليه الصلاة والسلام إلى أمه آمنة، بعد رضاعة حليمة له، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أمه آمنة بنت وهب، وجده عبد المطلب في كلاءة الله وحفظه، ينبته الله نباتاً حسناً لما يريد به من كرامته، فلما بلغ ست سنين توفيت أمه آمنة بنت وهب‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ حدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم‏:‏ أن أم رسول الله صلى الله عليه وسلم آمنة توفيت وهو ابن ست سنين بالأبواء بين مكة والمدينة، كانت قد قدمت به على أخواله من بني عدي بن النجار تزيره إياهم، فماتت وهي راجعة به إلى مكة‏.‏

وذكر الواقدي بأسانيده‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم خرجت به أمه إلى المدينة، ومعها أم أيمن وله ست سنين، فزارت أخواله‏.‏ قالت أم أيمن‏:‏ فجاءني ذات يوم رجلان من يهود المدينة، فقالا لي‏:‏ أخرجي إلينا أحمد ننظر إليه، فنظرا إليه وقلباه، فقال أحدهما لصاحبه‏:‏ هذا نبي هذه الأمة، وهذه دار هجرته، وسيكون بها من القتل والسبي أمر عظيم، فلما سمعت أمه خافت وانصرفت به، فماتت بالأبواء وهي راجعة‏.‏

وقد قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا حسين بن محمد، حدثنا أيوب بن جابر، عن سماك، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن ابن بريدة، عن أبيه قال‏:‏ خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كنا بودَّان قال‏:‏

‏(‏‏(‏مكانكم حتى آتيكم‏)‏‏)‏‏.‏

فانطلق ثم جاءنا وهو ثقيل، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إني أتيت قبر أم محمد فسألت ربي الشفاعة - يعني لها - فمنعنيها، وإني كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، وكنت نهيتكم عن لحوم الأضاحي بعد ثلاثة أيام فكلوا وأمسكوا ما بدا لكم، ونهيتكم عن الأشربة في هذه الأوعية فاشربوا ما بدا لكم‏)‏‏)‏‏.‏

وقد رواه البيهقي‏:‏ من طريق سفيان الثوري، عن علقمة بن يزيد، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه قال‏:‏

انتهى النبي صلى الله عليه وسلم إلى رسم قبر، فجلس وجلس الناس حوله، فجعل يحرك رأسه كالمخاطب، ثم بكى فاستقبله عمر فقال‏:‏ ما يبكيك يا رسول الله‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏هذا قبر آمنة بنت وهب، استأذنت ربي في أن أزور قبرها فأذن لي، واستأذنته في الاستغفار لها فأبى عليّ، وأدركتني رقتها فبكيت‏)‏‏)‏‏.‏

قال فما رؤيت ساعة أكثر باكياً من تلك الساعة‏.‏ تابعه محارب بن دثار، عن بريدة، عن أبيه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 341‏)‏

ثم روى البيهقي‏:‏ عن الحاكم، عن الأصم، عن بحر بن نصر، عن عبد الله بن وهب‏:‏ حدثنا ابن جريج، عن أيوب بن هاني، عن مسروق بن الأجدع، عن عبد الله بن مسعود قال‏:‏ خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر في المقابر وخرجنا معه، فأمرنا فجلسنا، ثم تخطى القبور حتى انتهى إلى قبر منها فناجاه طويلاً، ثم ارتفع نحيب رسول الله صلى الله عليه وسلم باكياً، فبكينا لبكاء رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل علينا، فتلقاه عمر بن الخطاب فقال‏:‏ يا رسول الله ما الذي أبكاك لقد أبكانا وأفزعنا‏؟‏

فجاء فجلس إلينا فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أفزعكم بكائي‏)‏‏)‏‏.‏

قلنا‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إن القبر الذي رأيتموني أناجي قبر آمنة بنت وهب، و، إني استأذنت ربي في زيارتها فأذن لي، واستأذنت ربي في الاستغفار لها فلم يأذن لي فيه، ونزل علي‏:‏‏{‏مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ * وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 113-114‏]‏ فأخذني ما يأخذ الولد للوالدة من الرقة فذلك الذي أبكاني‏)‏‏)‏‏.‏

غريب ولم يخرجوه‏.‏

وروى مسلم، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن محمد بن عبيد، عن يزيد بن كيسان، عن أبي حازم، عن أبي هريرة قال‏:‏ زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله، ثم قال‏:‏

‏(‏‏(‏استأذنت ربي في زيارة قبر أمي فأذن لي، واستأذنته في الاستغفار لها فلم يأذن لي، فزوروا القبور تذكركم الموت‏)‏‏)‏‏.‏

وروى مسلم، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن عفان، عن حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، أن رجلاً قال‏:‏ يا رسول الله أين أبي‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏في النار‏)‏‏)‏‏.‏

فلما قفا دعاه فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إن أبي وأباك في النار‏)‏‏)‏‏.‏

وقد روى البيهقي من حديث أبي نعيم الفضل بن دكين، عن إبراهيم بن سعد، عن الزهري، عن عامر بن سعد، عن أبيه قال‏:‏ جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ إن أبي كان يصل الرحم، وكان وكان فأين هو‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏في النار‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فكأن الأعرابي وجد من ذلك، فقال‏:‏ يا رسول الله أين أبوك‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏حيثما مررت بقبر كافر فبشره بالنار‏)‏‏)‏‏.‏ قال‏:‏ فأسلم الأعرابي بعد ذلك‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 342‏)‏

فقال لقد كلفني رسول الله صلى الله عليه وسلم تعباً ما مررت بقبر كافر إلا بشرته بالنار‏.‏ غريب ولم يخرجوه من هذا الوجه‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا أبو عبد الرحمن، حدثنا سعيد - هو ابن أبي أيوب - حدثنا ربيعة بن سيف المعافري، عن أبي عبد الرحمن الحبلي، عن عبد الله بن عمرو قال‏:‏ بينما نحن نمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ بصر بامرأة لا يظن أنه عرفها، فلما توسط الطريق وقف حتى انتهت إليه، فإذا فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏

‏(‏‏(‏ما أخرجك من بيتك يا فاطمة‏؟‏‏)‏‏)‏‏.‏

فقالت‏:‏ أتيت أهل هذا البيت فترحمت إليهم ميتهم وعزيتهم‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لعلك بلغت معهم الكدى‏)‏‏)‏‏.‏

قالت‏:‏ معاذ الله أن أكون بلغتها معهم، وقد سمعتك تذكر في ذلك ما تذكر‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لو بلغتيها معهم ما رأيت الجنة حتى يراها جد أبيك‏)‏‏)‏‏.‏

ثم رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي، والبيهقي من حديث ربيعة بن سيف بن مانع المعافري الصنمي الإسكندري‏.‏

وقد قال البخاري‏:‏ عنده مناكير‏.‏

وقال النسائي‏:‏ ليس به بأس‏.‏

وقال مرة‏:‏ صدوق‏.‏ وفي نسخة‏:‏ ضعيف‏.‏

وذكره ابن حبان في الثقات، وقال‏:‏ كان يخطئ كثيراً‏.‏

وقال الدارقطني‏:‏ صالح‏.‏

وقال ابن يونس في ‏(‏تاريخ مصر‏)‏ في حديثه مناكير‏.‏

توفي قريباً من سنة عشرين ومائة، والمراد بالكدى‏:‏ القبور، وقيل‏:‏ النوح‏.‏

والمقصود أن عبد المطلب مات على ما كان عليه من دين الجاهلية، خلافاً لفرقة الشيعة فيه، وفي ابنه أبي طالب على ما سيأتي في وفاة أبي طالب‏.‏

وقد قال البيهقي بعد روايته هذه الأحاديث في كتابه ‏(‏دلائل النبوة‏)‏ وكيف لا يكون أبواه وجده عليه الصلاة والسلام بهذه الصفة في الآخرة، وقد كانوا يعبدون الوثن حتى ماتوا ولم يدينوا دين عيسى بن مريم عليه السلام، وكفرهم لا يقدح في نسبه عليه الصلاة والسلام، لأن أنكحة الكفار صحيحة، ألا تراهم يسلمون مع زوجاتهم، فلا يلزمهم تجديد العقد ولا مفارقتهن، إذا كان مثله يجوز في الإسلام، وبالله التوفيق انتهى كلامه‏.‏

قلت‏:‏ وأخباره صلى الله عليه وسلم عن أبويه وجده عبد المطلب بأنهم من أهل النار، لا ينافي الحديث الوارد عنه من طرق متعددة أن أهل الفترة والأطفال والمجانين والصم يمتحنون في العرصات يوم القيامة، كما بسطناه سنداً ومتناً في تفسيرنا عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 15‏]‏ فيكون منهم من يجيب ومنهم من لا يجيب، فيكون هؤلاء من جملة من لا يجيب، فلا منافاة، ولله الحمد والمنة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 343‏)‏

وأما الحديث الذي ذكره السهيلي، وذكر أن في إسناده مجهولين إلى ابن أبي الزناد، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل ربه أن يحيي أبويه فأحياهما وآمنا به، فإنه حديث منكر جداً، وإن كان ممكناً بالنظر إلى قدرة الله تعالى، لكن الذي ثبت في الصحيح يعارضه، والله أعلم‏.‏

 فصل كفالة عبد المطلب للنبي عليه الصلاة والسلام‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مع جده عبد المطلب بن هاشم - يعني بعد موت أمه آمنة بنت وهب - فكان يوضع لعبد المطلب فراش في ظل الكعبة، وكان بنوه يجلسون حول فراشه ذلك حتى يخرج إليه، لا يجلس عليه أحد من بنيه إجلالا له‏.‏

قال‏:‏ فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي وهو غلام جفر حتى يجلس عليه، فيأخذه أعمامه ليؤخروه عنه، فيقول عبد المطلب إذا رأى ذلك منهم‏:‏ دعوا ابني فوالله إن له لشأناً، ثم يجلسه معه على فراشه، ويمسح ظهره بيده، ويسره ما يراه يصنع‏.‏

وقال الواقدي‏:‏ حدثني محمد بن عبد الله، عن الزهري‏.‏ وحدثنا عبد الله بن جعفر، عن عبد الواحد بن حمزة بن عبد الله‏.‏ وحدثنا هاشم بن عاصم الأسلمي، عن المنذر بن جهم‏.‏ وحدثنا معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد‏.‏

وحدثنا عبد الرحمن بن عبد العزيز، عن أبي الحويرث‏.‏ وحدثنا ابن أبي سبرة، عن سليمان بن سحيم، عن نافع، عن ابن جبير - دخل حديث بعضهم في بعض - قالوا‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكون مع أمه آمنة بنت وهب، فلما توفيت قبضه إليه جده عبد المطلب، وضمه ورق عليه رقة لم يرقها على ولده، وكان يقربه منه ويدنيه، ويدخل عليه إذا خلا وإذا نام، وكان يجلس على فراشه فيقول عبد المطلب إذا رأى ذلك‏:‏ دعوا ابني إنه يؤسس ملكاً‏.‏

وقال قوم من بني مدلج لعبد المطلب‏:‏ احتفظ به، فإنا لم نر قدماً أشبه بالقدم الذي في المقام منه‏.‏ فقال عبد المطلب لأبي طالب‏:‏ اسمع ما يقول هؤلاء، فكان أبو طالب يحتفظ به‏.‏

وقال عبد المطلب لأم أيمن - وكانت تحضنه - يا بركة لا تغفلي عن ابني، فإني وجدته مع غلمان قريب من السدرة، وإن أهل الكتاب يزعمون أن ابني نبي هذه الأمة، وكان عبد المطلب لا يأكل طعاماً إلا يقول‏:‏ علي بابني فيؤتى به إليه‏.‏

فلما حضرت عبد المطلب الوفاة أوصى أبا طالب بحفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم وحياطته، ثم مات عبد المطلب ودفن بالحجون‏.‏

وقال ابن إسحاق‏:‏ فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمان سنين هلك جده عبد المطلب بن هاشم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 344‏)‏

ثم ذكر جمعه بناته وأمره إياهن أن يرثينه، وهن‏:‏ أروى، وأميمة، وبرة، وصفية، وعاتكة، وأم حكيم البيضاء، وذكر أشعارهن، وما قلن في رثاء أبيهن وهو يسمع قبل موته‏.‏ وهذا أبلغ النوح، وبسط القول في ذلك‏.‏ وقد قال ابن هشام‏:‏ ولم أر أحداً من أهل العلم بالشعر يعرف هذا الشعر‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فلما هلك عبد المطلب بن هاشم ولي السقاية وزمزم بعده ابنه العباس، وهو من أحدث إخوته سناً، فلم تزل إليه حتى قام الإسلام، وأقرها في يده رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد جده عبد المطلب مع عمه أبي طالب، لوصية عبد المطلب له به، ولأنه كان شقيق أبيه عبد الله، أمهما فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم‏.‏

قال‏:‏ فكان أبو طالب هو الذي يلي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد جده، وكان إليه ومعه‏.‏

وقال الواقدي‏:‏ أخبرنا معمر، عن ابن نجيح، عن مجاهد‏.‏ وحدثنا معاذ بن محمد الأنصاري، عن عطاء، عن ابن عباس‏.‏ وحدثنا محمد بن صالح، وعبد الله بن جعفر، وإبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة - دخل حديث بعضهم في حديث بعض -

قالوا‏:‏ لما توفي عبد المطلب قبض أبو طالب رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يكون معه، وكان أبو طالب لا مال له، وكان يحبه حباً شديداً، لا يحبه ولده، وكان لا ينام إلا إلى جنبه، ويخرج فيخرج معه، وصب به أبو طالب صبابة لم يصب مثلها بشيء قط، وكان يخصه بالطعام، وكان إذا أكل عيال أبي طالب جميعاً أو فرادى لم يشبعوا، وإذا أكل معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم شبعوا‏.‏

فكان إذا أراد أن يغديهم قال‏:‏ كما أنتم حتى يأتي ولدي، فيأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأكل معهم، فكانوا يفضلون من طعامهم، وإن لم يكن منهم لم يشبعوا، فيقول أبو طالب‏:‏ إنك لمبارك، وكان الصبيان يصبحون رمصاً شعثاً، ويصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم دهيناً كحيلاً‏.‏

وقال الحسن بن عرفة‏:‏ حدثنا علي بن ثابت، عن طلحة بن عمرو، سمعت عطاء بن أبي رباح، سمعت ابن عباس يقول‏:‏ كان بنو أبي طالب يصبحون رمصاً عمصاً، ويصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم صقيلاً دهيناً، وكان أبو طالب يقرب إلى الصبيان صفحتهم أول البكرة، فيجلسون وينتهبون، ويكف رسول الله صلى الله عليه وسلم يده فلا ينتهب معهم، فلما رأى ذلك عمه عزل له طعامه على حدة‏.‏

وقال ابن إسحاق‏:‏ حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، أن أباه حدثه، أن رجلاً من لهب كان عائفاً، فكان إذا قدم مكة أتاه رجال من قريش بغلمانهم ينظر إليهم ويعتاف لهم فيهم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 345‏)‏

قال‏:‏ فأتي أبو طالب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غلام مع من يأتيه، قال‏:‏ فنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم شغله عنه شيء، فلما فرغ قال‏:‏ الغلام عليَّ به‏.‏

فلما رأى أبو طالب حرصه عليه غيبه عنه، فجعل يقول‏:‏ ويلكم ردوا على الغلام الذي رأيته آنفاً، فوالله ليكونن له شأن‏.‏ قال وانطلق به أبو طالب‏.‏

 فصل في خروجه عليه الصلاة والسلام مع عمه بي طالب إلى الشام‏.‏

في خروجه عليه الصلاة والسلام مع عمه أبي طالب إلى الشام وقصته مع بحيرى الراهب‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ ثم إن أبا طالب خرج في ركب تاجراً إلى الشام، فلما تهيأ للرحيل وأجمع السير صب به رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما يزعمون - فرق له أبو طالب وقال‏:‏ والله لأخرجن به معي ولا أفارقه ولا يفارقني أبداً - كما قال - فخرج به، فلما نزل الركب بصري من أرض الشام وبها راهب يقال له‏:‏ بحيرى في صومعة له، وكان إليه علم أهل النصرانية، ولم يزل في تلك الصومعة منذ قط راهب فيها إليه يصير علمهم عن كتاب فيما يزعمون، يتوارثونه كابراً عن كابر‏.‏

فلما نزلوا ذلك العام ببحيرى - وكانوا كثيرا ما يمرون به فلا يكلمهم ولا يعرض لهم - حتى كان ذلك العام فلما نزلوا قريباً من صومعته، صنع لهم طعاماً كثيراً، وذلك فيما يزعمون عن شيء رآه وهو في صومعته، يزعمون أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الركب حتى أقبل وغمامة تظلله من بين القوم‏.‏

ثم أقبلوا فنزلوا في ظل شجرة قريباً منه، فنظر إلى الغمامة حين أظلت الشجرة، وتهصرت أغصان الشجرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى استظل تحتها، فلما رأى ذلك بحيرى نزل من صومعته، وقد أمر بطعام فصنع، ثم أرسل إليهم فقال‏:‏ إني صنعت لكم طعاماً يا معشر قريش، فأنا أحب أن تحضروا كلكم كبيركم، وصغيركم، وعبدكم، وحركم‏.‏

فقال له رجل منهم‏:‏ والله يا بحيرى إن لك لشأناً اليوم ما كنت تصنع هذا بنا وقد كنا نمر بك كثيراً فما شأنك اليوم‏؟‏

قال له بحيرى‏:‏ صدقت، قد كان ما تقول ولكنكم ضيف، وقد أحببت أن أكرمكم وأصنع لكم طعاماً فتأكلون منه كلكم، فاجتمعوا إليه، وتخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين القوم لحداثة سنه في رحال القوم تحت الشجرة‏.‏

فلما رآهم بحيرى لم ير الصفة التي يعرف ويجده عنده، فقال‏:‏ يا معشر قريش لا يتخلفن أحد منكم عن طعامي‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 346‏)‏

قالوا‏:‏ يا بحيرى ما تخلف أحد ينبغي له أن يأتيك إلا غلام، وهو أحدثنا سناً فتخلف في رحالنا‏.‏

قال‏:‏ لا تفعلوا ادعوه فليحضر هذا الطعام معكم‏.‏

قال‏:‏ فقال رجل من قريش مع القوم واللات والعزى إن كان للؤم بنا أن يتخلف محمد بن عبد الله بن عبد المطلب عن طعام من بيننا‏.‏ ثم قام إليه فاحتضنه وأجلسه مع القوم‏.‏

فلما رأى بحيرى جعل يلحظه لحظاً شديداً وينظر إلى أشياء من جسده قد كان يجدها عنده من صفته، حتى إذا فرغ القوم من طعامهم وتفرقوا، قام إليه بحيرى وقال له يا غلام‏:‏ أسألك بحق اللات والعزى إلا أخبرتني عما أسألك عنه، وإنما قال له بحيرى ذلك لأنه سمع قومه يحلفون بهما، فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له‏:‏ لا تسألني باللات والعزى شيئاً، فوالله ما أبغضت شيئاً قط بغضهما‏.‏

فقال له بحيرى‏:‏ فبالله ألا ما أخبرتني عما أسألك عنه‏.‏ فقال له‏:‏ سلني عما بدا لك، فجعل يسأله عن أشياء من حاله من نومه، وهيئته، وأموره، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره، فوافق ذلك ما عند بحيرى من صفته‏.‏

ثم نظر إلى ظهره فرأى خاتم النبوة بين كتفيه، موضعه من صفته التي عنده، فلما فرغ أقبل على عمه أبي طالب فقال له‏:‏ ما هذا الغلام منك‏؟‏ قال‏:‏ ابني‏.‏ قال بحيرى‏:‏ ما هو بابنك وما ينبغي لهذا الغلام أن يكون أبوه حياً‏.‏ قال‏:‏ فإنه ابن أخي‏.‏ قال‏:‏ فما فعل أبوه‏؟‏ قال‏:‏ مات وأمه حبلى به‏.‏

قال‏:‏ صدقت ارجع بابن أخيك إلى بلده واحذر عليه اليهود، فوالله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت ليبغنه شراً، فإنه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم، فأسرع به إلى بلاده‏.‏ فخرج به عمه أبو طالب سريعاً حتى أقدمه مكة حين فرغ من تجارته بالشام‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فزعموا فيما روى الناس أن زريراً وثماماً ودريسماً - وهم نفر من أهل الكتاب - قد كانوا رأوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلما رأى بحيرى في ذلك السفر الذي كان فيه مع عمه أبي طالب، فأرادوه فردهم عنه بحيرى‏.‏

فذكرهم الله وما يجدون في الكتاب من ذكره وصفته، وأنهم إن أجمعوا لما أرادوا به لم يخلصوا إليه، حتى عرفوا ما قال لهم وصدقوه بما قال، فتركوه وانصرفوا عنه‏.‏

وقد ذكر يونس بن بكير عن ابن إسحاق أن أبا طالب قال في ذلك ثلاث قصائد‏.‏ هكذا ذكر ابن إسحاق هذا السياق من غير إسناد منه‏.‏ وقد ورد نحوه من طريق مسند مرفوع‏.‏

فقال الحافظ أبو بكر الخرائطي‏:‏ حدثنا عباس بن محمد الدوري، حدثنا قراد أبو نوح، حدثنا يونس عن أبي إسحاق، عن أبي بكر بن أبي موسى، عن أبيه قال‏:‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 347‏)‏

خرج أبو طالب إلى الشام ومعه رسول الله صلى الله عليه وسلم في أشياخ من قريش، فلما أشرفوا على الراهب - يعني بحيرى - هبطوا فحلوا رحالهم، فخرج إليهم الراهب وكانوا قبل ذلك يمرون به فلا يخرج ولا يلتفت إليهم، قال‏:‏ فنزل وهم يحلون رحالهم، فجعل يتخللهم حتى جاء فأخذ بيد النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ هذا سيد العالمين‏.‏

وفي رواية البيهقي زيادة‏:‏ هذا رسول رب العالمين، بعثه الله رحمة للعالمين، فقال له أشياخ من قريش‏:‏ وما علمك‏؟‏ فقال إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق شجرة ولا حجر إلا خر ساجداً، ولا يسجدون إلا لنبي، وإني أعرفه بخاتم النبوة أسفل من غضروف كتفه مثل التفاحة، ثم رجع فصنع لهم طعاماً، فلما أتاهم به -وكان هو في رعية الإبل - فقال‏:‏ أرسلوا إليه‏.‏

فأقبل وغمامة عليه تظله، فلما دنا من القوم قال‏:‏ انظروا إليه عليه غمامة، فلما دنا من القوم وجدهم قد سبقوه إلى فيء الشجرة، فلما جلس مال فيء الشجرة عليه قال‏:‏ انظروا إلى فيء الشجرة مال عليه، قال‏:‏ فبينما هو قائم عليهم وهو ينشدهم ألا يذهبوا به إلى الروم، فإن الروم إن رأوه عرفوه بالصفة فقتلوه‏.‏ فالتفت فإذا هو بسبعة نفر من الروم قد أقبلوا‏.‏

قال‏:‏ فاستقبلهم، فقال‏:‏ ما جاء بكم‏؟‏ قالوا‏:‏ جئنا أن هذا النبي خارج في هذا الشهر، فلم يبق طريق إلا بعث إليه ناس، وإنا أخبرنا خبره فبعثنا إلى طريقك هذه‏.‏ قال لهم‏:‏ فهل خلفكم أحد هو خير منكم‏؟‏ قالوا‏:‏ لا، إنما أخبرناه خبره إلى طريقك هذه‏.‏ قال‏:‏ أفرأيتم أمراً أراد الله أن يقضيه هل يستطيع أحد من الناس رده‏؟‏ فقالوا‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ فبايعوه، وأقاموا معه عنده‏.‏

قال‏:‏ فقال الراهب‏:‏ أنشدكم الله أيكم وليه‏؟‏ قالوا‏:‏ أبو طالب فلم يزل يناشده حتى رده، وبعث معه أبو بكر بلالاً، وزوده الراهب من الكعك والزيت‏.‏

هكذا رواه الترمذي عن أبي العباس الفضل بن سهل الأعرج عن قراد أبي نوح به‏.‏ والحاكم، والبيهقي، وابن عساكر، من طريق أبي العباس محمد بن يعقوب الأصم، عن عباس بن محمد الدوري به‏.‏

وهكذا رواه غير واحد من الحفاظ من حديث أبي نوح عبد الرحمن بن غزوان الخزاعي مولاهم، ويقال له‏:‏ الضبي، ويعرف بقراد، سكن بغداد وهو من الثقات الذين أخرج لهم البخاري، ووثقه جماعة من الأئمة والحفاظ، ولم أر أحداً جرحه، ومع هذا في حديثه هذا غرابة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 348‏)‏

قال الترمذي‏:‏ حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه‏.‏ وقال عباس الدوري‏:‏ ليس في الدنيا أحد يحدث به غير قراد أبي نوح، وقد سمعه منه أحمد بن حنبل رحمه الله، ويحيى بن معين لغرابته وانفراده، حكاه البيهقي وابن عساكر‏.‏

قلت‏:‏ فيه من الغرائب أنه من مرسلات الصحابة، فإن أبا موسى الأشعري إنما قدم في سنة خيبر سنة سبع من الهجرة، ولا يلتفت إلى قول ابن إسحاق في جعله له من المهاجرة إلى أرض الحبشة من مكة، وعلى كل تقدير فهو مرسل‏.‏

فإن هذه القصة كانت ولرسول الله صلى الله عليه وسلم من العمر فيما ذكره بعضهم ثنتا عشرة سنة، ولعل أبا موسى تلقاه من النبي صلى الله عليه وسلم فيكون أبلغ، أو من بعض كبار الصحابة رضي الله عنهم، أو كان هذا مشهوراً مذكوراً أخذه من طريق الاستفاضة‏.‏

الثاني‏:‏ أن الغمامة لم تذكر في حديث أصح من هذا‏.‏

الثالث‏:‏ أن قوله وبعث معه أبو بكر بلالاً، إن كان عمره عليه الصلاة والسلام إذ ذاك ثنتي عشرة سنة، فقد كان عمر أبي بكر إذ ذاك تسع سنين أو عشرة، وعمر بلال أقل من ذلك، فأين كان أبو بكر إذ ذاك‏؟‏ ثم أين كان بلال‏؟‏ كلاهما غريب، اللهم إلا أن يقال إن هذا كان ورسول الله صلى الله عليه وسلم كبيراً‏.‏

إما بأن يكون سفره بعد هذا، أو إن كان القول بأن عمره كان إذ ذاك ثنتي عشرة سنة غير محفوظ، فإنه إنما ذكره مقيداً بهذا الواقدي‏.‏

وحكى السهيلي عن بعضهم أنه كان عمره عليه الصلاة والسلام إذ ذاك تسع سنين، والله أعلم‏.‏

قال الواقدي‏:‏ حدثني محمد بن صالح، وعبد الله بن جعفر، وإبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة، عن داود بن الحصين قالوا‏:‏ لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنتي عشرة سنة، خرج به عمه أبو طالب إلى الشام في العير التي خرج فيها للتجارة، ونزلوا بالراهب بحيرى، فقال لأبي طالب بالسر ما قال، وأمره أن يحتفظ به، فرده معه أبو طالب إلى مكة‏.‏

وشبَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي طالب يكلؤه الله عز وجل، ويحفظه، ويحوطه من أمور الجاهلية ومعائبها، لما يريد به من كرامته حتى بلغ أن كان رجلاً أفضل قومه مروءة، وأحسنهم خلقاً، وأكرمهم مخالطة، وأحسنهم جواراً، وأعظمهم حلماً وأمانة، وأصدقهم حديثاً، وأبعدهم من الفحش والأذى، ما رؤي ملاحياً ولا ممارياً أحداً، حتى سماه قومه الأمين، لما جمع الله فيه من الأمور الصالحة، فكان أبو طالب يحفظه، ويحوطه، وينصره، ويعضده حتى مات‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 2/ 349‏)‏

وقال محمد بن سعد‏:‏ أخبرنا خالد بن معدان، حدثنا معتمر بن سليمان سمعت أبي يحدث عن أبي مجلز أن عبد المطلب - أو أبا طالب شك خالد - قال‏:‏ لما مات عبد الله عطف على محمد، فكان لا يسافر سفراً إلا كان معه فيه، وإنه توجه نحو الشام فنزل منزلاً فأتاه فيه راهب، فقال‏:‏ إن فيكم رجلاً صالحاً‏.‏

ثم قال‏:‏ أين أبو هذا الغلام‏؟‏ قال‏:‏ فقال ها أنا ذا وليه - أو قيل هذا وليه - قال‏:‏ احتفظ بهذا الغلام ولا تذهب به إلى الشام، إن اليهود حسَّد، وإني أخشاهم عليه‏.‏ قال‏:‏ ما أنت تقول ذلك، ولكن الله يقوله فرده، وقال‏:‏ اللهم إني أستودعك محمداً، ثم إنه مات‏.‏