فصل: قصة ذي الكفل الذي زعم قوم أنه ابن أيوب

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البداية والنهاية **


 قصة نبي الله أيوب

قال ابن إسحاق‏:‏ كان رجلاً من الروم وهو أيوب بن موص بن زارح بن العيص بن إسحاق بن إبراهيم الخليل‏.‏

وقال غيره‏:‏ هو أيوب بن موص بن رعويل بن العيص بن إسحاق بن يعقوب‏.‏ وقيل غير ذلك في نسبه‏.‏

وحكى ابن عساكر أن أمه بنت لوط عليه السلام‏.‏ وقيل كان أبوه ممن آمن بإبراهيم عليه السلام يوم ألقي في النار فلم تحرقه‏.‏

والمشهور الأول، لأنه من ذرية إبراهيم كما قررنا عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآيات ‏[‏الأنعام‏:‏ 84‏]‏‏.‏

من أن الصحيح أن الضمير عائد على إبراهيم دون نوح عليهما السلام‏.‏

وهو من الأنبياء المنصوص على الإيحاء إليهم في سورة النساء في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ‏}‏ الآية ‏[‏النساء‏:‏ 163‏]‏‏.‏

فالصحيح أنه من سلالة العيص بن إسحاق، وامرأته قيل‏:‏ اسمها ليا بنت يعقوب، وقيل‏:‏ رحمه بنت أفرائيم، وقيل‏:‏ منشا بن يوسف بن يعقوب، وهذا أشهر فلهذا ذكرناه هاهنا‏.‏ ثم نعطف بذكر أنبياء بني إسرائيل بعد ذكر قصته إن شاء الله وبه الثقة وعليه التكلان‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 83-84‏]‏‏.‏

وقال تعالى في سورة ص‏:‏ ‏{‏وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ * ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ * وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ‏}‏ ‏[‏41-44‏]‏‏.‏

وروى ابن عساكر من طريق الكلبي أنه قال‏:‏ أول نبي بعث إدريس، ثم نوح، ثم إبراهيم، ثم إسماعيل، ثم إسحاق، ثم يعقوب، ثم يوسف، ثم لوط، ثم هود، ثم صالح، ثم شعيب، ثم موسى وهرون، ثم إلياس، ثم اليسع، ثم عرفي بن سويلخ بن أفرائيم بن يوسف بن يعقوب، ثم يونس بن متي من بني يعقوب، ثم أيوب بن زراح بن آموص بن لبفرز بن العيص بن إسحاق بن إبراهيم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 255‏)‏

وفي بعض هذا الترتيب نظر، فإن هوداً وصالحاً المشهور أنهما بعد نوح، وقبل إبراهيم، والله أعلم‏.‏

قال علماء التفسير والتاريخ وغيرهم‏:‏ كان أيوب رجلاً كثير المال من سائر صنوفه وأنواعه، من الأنعام، والعبيد، والمواشي، والأراضي المتسعة بأرض البثينة من أرض حوران‏.‏

وحكى ابن عساكر أنها كلها كانت له، وكان له أولاد وأهلون كثير، فسلب من ذلك جميعه، وابتلى في جسده بأنواع البلاء، ولم يبق منه عضو سليم سوى قلبه ولسانه، يذكر الله عز وجل بها، وهو في ذلك كله صابر محتسب ذاكر لله عز وجل في ليله ونهاره، وصباحه ومسائه‏.‏

وطال مرضه حتى عافه الجليس، وأوحش منه الأنيس، وأخرج من بلده، وألقي على مزبلة خارجها، وانقطع عنه الناس، ولم يبق أحد يحنو عليه سوى زوجته، كانت ترعى له حقه، وتعرف قديم إحسانه إليها، وشفقته عليها، فكانت تتردد إليه، فتصلح من شأنه، وتعينه على قضاء حاجته، وتقوم بمصلحته‏.‏

وضُعف حالها، وقل ما لها، حتى كانت تخدم الناس بالأجر، لتطعمه وتقود بأوده رضي الله عنها وأرضاها، وهي صابرة معه على ما حل بهما من فراق المال والولد، وما يختص بها من المصيبة بالزوج، وضيق ذات اليد، وخدمة الناس بعد السعادة، والنعمة، والخدمة، والحرمة، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

‏(‏‏(‏أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه‏)‏‏)‏‏.‏

ولم يزد هذا كله أيوب عليه السلام إلا صبراً واحتساباً وحمداً وشكراً، حتى أن المثل ليضرب بصبره عليه السلام، ويضرب المثل أيضاً بما حصل له من أنواع البلايا‏.‏

وقد روي عن وهب بن منبه وغيره من علماء بني إسرائيل، في قصة أيوب، خبر طويل في كيفية ذهاب ماله، وولده، وبلائه في جسده، والله أعلم بصحته‏.‏

وعن مجاهد أنه قال‏:‏ كان أيوب عليه السلام أول من أصابه الجدري، وقد اختلفوا في مدة بلواه على أقوال؛ فزعم وهب أنه ابتلي ثلاث سنين لا تزيد ولا تنقص‏.‏ وقال أنس‏:‏ ابتلي سبع سنين وأشهراً، وألقى على مزبلة لبني إسرائيل تختلف الدواب في جسده، حتى فرَّج الله عنه، وعظم له الأجر، وأحسن الثناء عليه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 256‏)‏

وقال حميد‏:‏ مكث في بلواه ثمانية عشرة سنة‏.‏ وقال السدي‏:‏ تساقط لحمه حتى لم يبق إلا العظم والعصب، فكانت امرأته تأتيه بالرماد تفرشه تحته، فلما طال عليها قالت‏:‏ يا أيوب لو دعوت ربك لفرج عنك، فقال‏:‏ قد عشت سبعين سنة صحيحاً، فهو قليل لله أن أصبر له سبعين سنة، فجزعت من هذا الكلام، وكانت تخدم الناس بالأجر وتطعم أيوب عليه السلام‏.‏

ثم إن الناس لم يكونوا يستخدمونها لعلمهم أنها امرأة أيوب، خوفاً أن ينالهم من بلائه، أو تعديهم بمخالطته، فلما لم تجد أحداً يستخدمها عمدت فباعت لبعض بنات الأشراف إحدى ضفيرتيها، بطعام طيب كثير، فأتت به أيوب، فقال‏:‏ من أين لك هذا‏؟‏ وأنكره‏.‏

فقالت‏:‏ خدمت به أناساً فلما كان الغد لم تجد أحداً، فباعت الضفيرة الأخرى بطعام فأتته به فأنكره أيضاً، وحلف لا يأكله حتى تخبره من أين لها هذا الطعام، فكشفت عن رأسها خمارها، فلما رأى رأسها محلوقاً قال في دعائه‏:‏ ‏{‏أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 83‏]‏‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا أبو سلمة، حدثنا جرير بن حازم، عن عبد الله بن عبيد بن عمير، قال‏:‏ كان لأيوب أخوان، فجاءا يوماً فلم يستطيعا أن يدنوا منه من ريحه، فقاما من بعيد، فقال أحدهما لصاحبه‏:‏ لو كان الله علم من أيوب خيراً ما ابتلاه بهذا، فجزع أيوب من قولهما جزعاً لم يجزع من شيء قط‏.‏

قال‏:‏ اللهم إن كنت تعلم أني لم أبت ليلة قط شبعاناً وأنا أعلم مكان جائع فصدقني، فصدق من السماء وهما يسمعان‏.‏

ثم قال‏:‏ اللهم إن كنت تعلم أني لم يكن لي قميصان قط وأنا أعلم مكان عار، فصدقني فصدق من السماء وهما يسمعان‏.‏

ثم قال‏:‏ اللهم بعزتك وخر ساجداً، فقال‏:‏ اللهم بعزتك لا أرفع رأسي أبداً حتى تكشف عني، فما رفع رأسه حتى كشف عنه‏.‏

وقال ابن أبي حاتم وابن جرير جميعاً‏:‏ حدثنا يونس بن عبد الأعلى، أنبئنا ابن وهب، أخبرني نافع بن يزيد عن عقيل، عن الزهري، عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

‏(‏‏(‏إن نبي الله أيوب لبث به بلاؤه ثماني عشرة سنة، فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين من إخوانه كانا من أخص إخوانه له، كانا يغدوان إليه ويروحان، فقال أحدهما لصاحبه‏:‏ يعلم الله لقد أذنب أيوب ذنباً ما أذنبه أحد من العالمين‏.‏

قال له صاحبه‏:‏ وما ذاك‏؟‏

قال‏:‏ منذ ثماني عشر سنة لم يرحمه ربه فكشف ما به، فلما راحا إليه لم يصبر الرجل حتى ذكر ذلك له‏.‏

فقال أيوب‏:‏ لا أدري ما تقول غير أن الله عز وجل يعلم أني كنت أمر على الرجلين يتنازعان فيذكران الله فأرجع إلى بيتي فأكفر عنهما، كراهية أن يذكر الله إلا في حق‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏وكان يخرج في حاجته فإذا قضاها أمسكت امرأته بيده حتى يرجع، فلما كان ذات يوم أبطأت عليه، فأوحى الله إلى أيوب في مكانه أن ‏{‏ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 42‏]‏ فاستبطأته فتلقته تنظر، وأقبل عليها قد أذهب الله ما به من البلاء وهو على أحسن ما كان، فلما رأته قالت‏:‏ أي بارك الله فيك هل رأيت نبي الله هذا المبتلى، فوالله على ذلك ما رأيت رجلاً أشبه به منك إذ كان صحيحاً، قال‏:‏ فإني أنا هو‏)‏‏)‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 257‏)‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏وكان له أندران‏:‏ أندر للقمح وأندر للشعير، فبعث الله سحابتين، فلما كانت إحداهما على أندر القمح أفرغت فيه الذهب حتى فاض، وأفرغت الأخرى في أندر الشعير الورق حتى فاض‏)‏‏)‏‏.‏

هذا لفظ ابن جرير، وهكذا رواه بتمامه ابن حبان في ‏(‏صحيحه‏)‏ عن محمد بن الحسن بن قتيبة، عن حرملة، عن ابن وهب به‏.‏ وهذا غريب رفعه جداً، والأشبه أن يكون موقوفاً‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، ثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد، أنبأنا علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس قال‏:‏ وألبسه الله حلة من الجنة فتنحى أيوب وجلس في ناحية، وجاءت امرأته فلم تعرفه‏.‏

فقالت‏:‏ يا عبد الله هذا المبتلى الذي كان ههنا لعل الكلاب ذهبت به أو الذئاب، وجعلت تكلمه ساعة‏.‏

قال‏:‏ ولعل أنا أيوب‏.‏

قالت‏:‏ أتسخر مني يا عبد الله‏؟‏

فقال‏:‏ ويحك أنا أيوب، قد رد الله عليّ جسدي‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ ورد الله عليه ماله وولده بأعيانهم ومثلهم معهم‏.‏

وقال وهب بن منبه‏:‏ أوحى الله إليه‏:‏ قد رددت عليك أهلك، ومالك، ومثلهم معهم فاغتسل بهذا الماء فإن فيه شفاءك، وقرب عن صحابتك قرباناً، واستغفر لهم فإنهم قد عصوني فيك‏.‏ رواه ابن أبي حاتم‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ ثنا أبو زرعة، حدثنا عمرو بن مرزوق، حدثنا همام، عن قتادة، عن النضر بن أنس، عن بشير بن نهيك، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

‏(‏‏(‏لما عافى الله أيوب عليه السلام أمطر عليه جراداً من ذهب، فجعل يأخذ بيده ويجعل في ثوبه قال‏:‏ فقيل له يا أيوب أما تشبع‏؟‏ قال‏:‏ يا رب ومن يشبع من رحمتك‏)‏‏)‏‏.‏

وهكذا رواه الإمام أحمد، عن أبي داود الطيالسي، وعبد الصمد عن همام عن قتادة به‏.‏

ورواه ابن حبان في ‏(‏صحيحه‏)‏، عن عبد الله بن محمد الأزدي، عن إسحاق بن راهويه، عن عبد الصمد به‏.‏ ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب، وهو على شرط الصحيح، فالله أعلم‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ ثنا سفيان، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة‏:‏ أرسل على أيوب رجل من جراد من ذهب فجعل يقبضها في ثوبه، فقيل‏:‏ يا أيوب ألم يكفك ما أعطيناك‏؟‏ قال‏:‏ أي رب ومن يستغني عن فضلك‏.‏

هذا موقوف وقد روي عن أبي هريرة من وجه أخر مرفوعاً‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن همام بن منبه قال‏:‏ هذا ما حدثنا أبو هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏بينما أيوب يغتسل عرياناً خرّ عليه جراد من ذهب، فجعل أيوب يحثي في ثوبه فناداه ربه عز وجل‏:‏ يا أيوب ألم أكن أغنيتك عما ترى‏.‏

قال‏:‏ بلى يا رب، ولكن لا غنى لي عن بركتك‏)‏‏)‏‏.‏

رواه البخاري من حديث عبد الرزاق به‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 258‏)‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ارْكُضْ بِرِجْلِكَ‏}‏ أي‏:‏ اضرب الأرض برجلك فامتثل ما أمر به، فأنبع الله له عيناً باردة الماء، وأمر أن يغتسل فيها ويشرب منها، فأذهب الله عنه ما كان يجده من الألم والأذى والسقم والمرض، الذي كان في جسده ظاهراً وباطناً، وأبدله الله بعد ذلك كله صحة ظاهرة وباطنة، وجمالاً تاماً، ومالاً كثيراً حتى صب له من المال صباً مطراً عظيماً جراداً من ذهب‏.‏

وأخلف الله له أهله كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 84‏]‏ فقيل‏:‏ أحياهم الله بأعيانهم، وقيل‏:‏ آجره فيمن سلف وعوضه عنهم في الدنيا بدلهم وجمع له شمله بكلهم في الدار الآخرة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا‏}‏ أي‏:‏ رفعنا عنه شدته، وكشفنا ما به من ضر رحمة منا به، ورأفة وإحساناً‏.‏

‏{‏وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ‏}‏ أي‏:‏ تذكرة لمن ابتلي في جسده أو ماله أو ولده، فله أسوة بنبي الله أيوب حيث ابتلاه الله بما هو أعظم من ذلك فصبر واحتسب، حتى فرج الله عنه‏.‏

ومن فهم من هذا اسم امرأته فقال‏:‏ هي رحمة من هذه الآية، فقد أبعد النجعة، وأغرق النزع‏.‏

وقال الضحاك عن ابن عباس‏:‏ رد الله إليها شبابها، وزادها حتى ولدت له ستة وعشرون ولداً ذكراً‏.‏

وعاش أيوب بعد ذلك سبعين سنة بأرض الروم على دين الحنيفية، ثم غيروا بعده دين إبراهيم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 44‏]‏ هذه رخصة من الله تعالى لعبده ورسوله أيوب عليه السلام، فيما كان من حلفه ليضربن امرأته مائة سوط فقيل‏:‏ حلفه ذلك لبيعها ضفائرها‏.‏ وقيل‏:‏ لأنه عرضها الشيطان في صورة طبيب يصف لها دواء لأيوب، فأتته فأخبرته فعرف أنه الشيطان، فحلف ليضربها مائة سوط‏.‏

فلما عافاه الله عز وجل أفتاه أن يأخذ ضغثاً، وهو كالعثكال الذي يجمع الشماريخ فيجمعها كلها ويضربها به ضربة واحدة، ويكون هذا منزلا منزلة الضرب بمائة سوط، ويبر ولا يحنث، وهذا من الفرج والمخرج لمن اتقى الله وأطاعه، ولا سيما في حق امرأته الصابرة المحتسبة المكابدة الصديقة، البارة الراشدة، رضي الله عنها‏.‏

ولهذا عقب الله هذه الرخصة وعللها بقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ‏}‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 259‏)‏

وقد استعمل كثير من الفقهاء هذه الرخصة في باب الإيمان والنذور، وتوسع آخرون فيها حتى وضعوا كتاب الحيل في الخلاص من الإيمان، وصدوره بهذه الآية الكريمة وأتوا فيه بأشياء من العجائب والغرائب، وسنذكر طرفاً من ذلك في كتاب الأحكام عند الوصول إليه إن شاء الله تعالى‏.‏

وقد ذكر ابن جرير وغيره من علماء التاريخ‏:‏ أن أيوب عليه السلام لما توفي كان عمره ثلاثاً وتسعين سنة، وقيل‏:‏ إنه عاش أكثر من ذلك، وقد روى ليث عن مجاهد ما معناه‏:‏ أن الله يحتج يوم القيامة بسليمان عليه السلام على الأغنياء، وبيوسف عليه السلام على الأرقاء، وبأيوب عليه السلام على أهل البلاء، رواه ابن عساكر بمعناه‏.‏

وأنه أوصى إلى ولده حومل، وقام بالأمر بعده ولده بشر بن أيوب، وهو الذي يزعم كثير من الناس أنه ذو الكفل فالله أعلم‏.‏ ومات ابنه هذا وكان نبياً فيما يزعمون، وكان عمره من السنين خمسا وسبعين، ولنذكر ههنا قصة ذي الكفل إذ قال بعضهم إنه ابن أيوب عليها السلام‏.‏

 قصة ذي الكفل الذي زعم قوم أنه ابن أيوب

قال الله تعالى بعد قصة أيوب في سورة الأنبياء‏:‏ ‏{‏وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ * وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ‏}‏ ‏[‏85-86‏]‏‏.‏

وقال تعالى بعد قصة أيوب أيضاً في سورة ص‏:‏ ‏{‏وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ * إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ * وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ * وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 45-48‏]‏‏.‏

فالظاهر من ذكره في القرآن العظيم بالثناء عليه، مقروناً مع هؤلاء السادة الأنبياء أنه نبي عليه من ربه الصلاة والسلام، وهذا هو المشهور‏.‏ وقد زعم آخرون أنه لم يكن نبياً وإنما كان رجلاً صالحاً، وحكماً مقسطاً عادلاً، وتوقف ابن جرير في ذلك، فالله أعلم‏.‏

وروى ابن جرير، وابن أبي نجيح عن مجاهد‏:‏ أنه لم يكن نبياً وإنما كان رجلاً صالحاً، وكان قد تكفل لبني قومه أن يكفيه أمرهم، ويقضي بينهم بالعدل، فسمى ذا الكفل‏.‏

وروى ابن جرير، وابن أبي حاتم، من طريق داود بن أبي هند، عن مجاهد أنه قال‏:‏ لما كبر اليسع قال‏:‏ لو أني استخلفت رجلاً على الناس يعمل عليهم في حياتي، حتى أنظر كيف يعمل‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 260‏)‏

فجمع الناس فقال‏:‏ من يتقبل لي بثلاث استخلفه‏:‏ يصوم النهار، ويقوم الليل، ولا يغضب‏.‏

قال‏:‏ فقام رجل تزدريه العين، فقال‏:‏ أنا‏.‏

فقال‏:‏ أنت تصوم النهار، وتقوم الليل، ولا تغضب‏؟‏

قال‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ فردهم ذلك اليوم، وقال مثلها اليوم الآخر‏.‏

فسكت الناس وقام ذلك الرجل فقال‏:‏ أنا‏.‏ فاستخلفه‏.‏ قال‏:‏ فجعل إبليس يقول للشياطين‏:‏ عليكم بفلان فأعياهم ذلك، فقال‏:‏ دعوني وإياه، فأتاه في صورة شيخ كبير فقير، وأتاه حين أخذ مضجعه للقائلة، وكان لا ينام الليل والنهار، إلا تلك النومة فدق الباب، فقال‏:‏ من هذا‏؟‏

قال‏:‏ شيخ كبير مظلوم‏.‏

قال‏:‏ فقام ففتح الباب، فجعل يقص عليه فقال‏:‏ إن بيني وبين قومي خصومة، وإنهم ظلموني وفعلوا بي وفعلوا، حتى حضر الرواح وذهبت القائلة، وقال‏:‏ إذا رحت فأتني آخذ لك بحقك‏.‏

فانطلق وراح‏.‏

فكان في مجلسه فجعل ينظر هل يرى الشيخ فلم يره، فقام يتبعه، فلما كان الغد جعل يقضي بين الناس وينتظره فلا يراه، فلما رجع إلى القائلة فأخذ مضجعه، أتاه فدق الباب فقال من هذا‏؟‏

فقال‏:‏ الشيخ الكبير المظلوم، ففتح له فقال‏:‏ ألم أقل لك إذا قعدت فأتني‏؟‏

فقال‏:‏ إنهم أخبث قوم، إذا عرفوا أنك قاعد قالوا نحن نعطيك حقك، وإذا قمت جحدوني‏.‏

قال‏:‏ فانطلق فإذا رحت فأتني، قال ففاتته القائلة فراح فجعل ينتظر فلا يراه، وشق عليه النعاس فقال لبعض أهله‏:‏ لا تدعن أحداً يقرب هذا الباب حتى أنام، فإني قد شق علي النوم، فلما كان تلك الساعة جاء فقال له الرجل‏:‏ وراءك وراءك، فقال‏:‏ إني قد أتيته أمس، فذكرت له أمري‏.‏

فقال‏:‏ لا والله لقد أمرنا أن لا ندع أحداً يقربه، فلما أعياه نظر فرأى كوة في البيت فتسور منها، فإذا هو في البيت، وإذا هو يدق الباب من داخل، قال‏:‏ فاستيقظ الرجل فقال‏:‏ يا فلان ألم آمرك قال‏:‏ أما من قبلي والله فلم تؤت فانظر من أين أتيت‏؟‏

قال‏:‏ فقام إلى الباب فإذا هو مغلق كما أغلقه، وإذا الرجل معه في البيت فعرفه، فقال‏:‏ أعدو الله‏؟‏

قال‏:‏ نعم أعييتني في كل شيء ففعلت ما ترى لأغضبنك، فعصمك الله مني، فسماه الله ذا الكفل لأنه تكفل بأمر فوفى به‏.‏

وقد روى ابن أبي حاتم أيضاً، عن ابن عباس قريباً من هذا السياق‏.‏

وهكذا روي عن عبد الله بن الحارث، ومحمد بن قيس، وابن حجيرة الأكبر، وغيرهم من السلف نحو هذا‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا أبو الجماهر، أنبأنا سعيد بن بشير، حدثنا قتادة، عن كنانة بن الأخنس قال‏:‏ سمعت الأشعري - يعني أبا موسى رضي الله عنه - وهو على هذا المنبر يقول‏:‏ ما كان ذو الكفل نبياً ولكن كان رجل صالح، يصلي كل يوم مائة صلاة، فتكفل له ذو الكفل من بعده يصلي كل يوم مائة صلاة فسمى ذا الكفل‏.‏

ورواه ابن جرير من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة قال‏:‏ قال أبو موسى الأشعري فذكره منقطعاً‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 261‏)‏

فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد‏:‏ حدثنا أسباط بن محمد، حدثنا الأعمش، عن عبد الله بن عبد الله، عن سعد مولى طلحة، عن ابن عمر قال‏:‏ سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً لو لم أسمعه إلا مرة أو مرتين - حتى عد سبع مرار - ولكن قد سمعته أكثر من ذلك قال‏:‏

‏(‏‏(‏كان الكفل من بني إسرائيل لا يتورع من ذنب عمله، فأتته مرأة فأعطاها ستين ديناراً على أن يطأها، فلما قعد منها مقعد الرجل من امرأته أرعدت وبكت فقال‏:‏ لها ما يبكيك أأكرهتك‏؟‏

قالت‏:‏ لا، ولكن هذا عمل لم أعمله قط، وإنما حملتني عليه الحاجة، قال‏:‏ فتفعلين هذا ولم تفعليه قط، ثم نزل فقال‏:‏ اذهبي بالدنانير لك‏.‏

ثم قال‏:‏ والله لا يعصي الله الكفل أبداً فمات من ليلته فأصبح مكتوباً على بابه قد غفر الله لكفل‏)‏‏)‏‏.‏

ورواه الترمذي من حديث الأعمش به وقال حسن‏.‏

وذكر أن بعضهم رواه فوقفه على ابن عمر فهو حديث غريب جداً، وفي إسناده نظر فإن سعداً هذا قال أبو حاتم‏:‏ لا أعرفه إلا بحديث واحد، ووثقه ابن حبان، ولم يرو عنه سوى عبد الله بن عبد الله الرازي هذا، فالله أعلم‏.‏

 باب ذكر أمم أهلكوا بعامة

وذلك قبل نزول التوراة بدليل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية ‏[‏القصص‏:‏ 43‏]‏‏.‏

كما رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم، والبزار من حديث عوفي الأعرابي، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري قال‏:‏ ما أهلك الله قوماً بعذاب من السماء أو من الأرض بعد ما أنزلت التوراة على وجه الأرض، غير القرية التي مسخوا قردة‏.‏ ألم ترَ أن الله تعالى يقول‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى‏}‏ ورفعه البزار في رواية له‏.‏ والأشبه والله أعلم وقفه، فدل على أن كل أمة أهلكت بعامة قبل موسى عليه السلام فمنهم‏:‏

 أصحاب الرس‏.‏

قال الله تعالى في سورة الفرقان‏:‏ ‏{‏وَعَاداً وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيراً * وَكُلّاً ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلّاً تَبَّرْنَا تَتْبِيراً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 38-39‏]‏‏.‏

وقال تعالى في سورة ق‏:‏ ‏{‏كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ * وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 12-14‏]‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 262‏)‏

وهذا السياق والذي قبله يدل على أنهم أهلكوا ودمروا وتبروا وهو الهلاك‏.‏ وهذا يرد اختيار ابن جرير من أنهم أصحاب الأخدود الذين ذكروا في سورة البروج، لأن أولئك عند ابن إسحاق وجماعة كانوا بعد المسيح عليه السلام، وفيه نظر أيضاً‏.‏

وروى ابن جرير قال‏:‏ قال ابن عباس‏:‏ أصحاب الرس؛ أهل قرية من قرى ثمود‏.‏ وقد ذكر الحافظ الكبير أبو القاسم ابن عساكر في أول تاريخه عند ذكر بناء دمشق، عن تاريخ أبي القاسم عبد الله بن عبد الله بن جرداد وغيره‏:‏

أن أصحاب الرس كانوا بحضور، فبعث الله إليهم نبياً يقال له‏:‏ حنظلة بن صفوان، فكذبوه وقتلوه، فسار عاد بن عوص بن أرم بن سام بن نوح بولده من الرس فنزل الأحقاف، وأهلك الله أصحاب الرس، وانتشروا في اليمن كلها، وفشوا مع ذلك في الأرض كلها، حتى نزل جيرون بن سعد بن عاد بن عوص بن أرم بن سام بن نوح دمشق وبني مدينتها، وسماها جيرون، وهي إرم ذات العماد‏.‏

وليس أعمدة الحجارة في موضع أكثر منها بدمشق، فبعث الله هود بن عبد الله بن رباح بن خالد بن الحلود بن عاد إلى عاد، يعني أولاد عاد بالأحقاف، فكذبوه وأهلكهم الله عز وجل، فهذا يقتضي أن أصحاب الرس قبل عاد بدهور متطاولة‏.‏ فالله أعلم‏.‏

وروى ابن أبي حاتم، عن أبي بكر بن أبي عاصم، عن أبيه، عن شبيب بن بشر، عن عكرمة، عن ابن عباس قال‏:‏ الرس‏:‏ بئر بآذربيجان‏.‏

وقال الثوري، عن أبي بكر، عن عكرمة قال‏:‏ الرس‏:‏ بئر رسوا فيها نبيهم، أي دفنوه فيها‏.‏

وقال ابن جريج‏:‏ قال عكرمة‏:‏ أصحاب الرس بفلج، وهم أصحاب ياسين‏.‏

وقال قتادة‏:‏ فلج من قرى اليمامة، قلت‏:‏ فإن كانوا أصحاب ياسين كما زعمه عكرمة، فقد أهلكوا بعامة، قال الله تعالى في قصتهم‏:‏ ‏{‏إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 29‏]‏ وستأتي قصتهم بعد هؤلاء، وإن كانوا غيرهم وهو الظاهر فقد أهلكوا أيضاً وتبروا‏.‏ وعلى كل تقدير فينافي ما ذكره ابن جرير‏.‏

وقد ذكر أبو بكر محمد بن الحسن النقاش‏:‏ أن أصحاب الرس كانت لهم بئر ترويهم، وتكفي أرضهم جميعها، وكان لهم ملك عادل حسن السيرة، فلما مات وجدوا عليه وجداً عظيماً، فلما كان بعد أيام تصور لهم الشيطان في صورته، وقال‏:‏

إني لم أمت، ولكن تغيبت عنكم حتى أرى صنيعكم، ففرحوا أشد الفرح وأمر بضرب حجاب بينهم وبينه، وأخبرهم أنه لا يموت أبداً، فصدق به أكثرهم وافتتنوا به وعبدوه، فبعث الله فيهم نبياً، وأخبرهم أن هذا شيطان يخاطبهم من وراء الحجاب، ونهاهم عن عبادته، وأمرهم بعبادة الله وحده لا شريك له‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 263‏)‏

قال السهيلي‏:‏ وكان يوحى إليه في النوم، وكان اسمه حنظلة بن صفوان، فعدوا عليه فقتلوه وألقوه في البئر، فغار ماؤها وعطشوا بعد ريهم، ويبست أشجارهم وانقطعت ثمارهم، وخربت ديارهم، وتبدلوا بعد الأنس بالوحشة، وبعد الاجتماع بالفرقة، وهلكوا عن آخرهم، وسكن في مساكنهم الجن والوحوش، فلا يسمع ببقاعهم إلا عزيف الجن، وزئير الأسد، وصوت الضباع‏.‏

فأما ما رواه - أعني - ابن جرير، عن محمد بن حميد، عن سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن كعب القرظي قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏إن أول الناس يدخل الجنة يوم القيامة العبد الأسود‏)‏‏)‏‏.‏

وذلك أن الله تعالى بعث نبياً إلى أهل قرية فلم يؤمن به من أهلها إلا ذلك الأسود‏.‏

ثم إن أهل القرية عدوا على النبي، فحفروا له بئراً فألقوه فيها، ثم أطبقوا عليه بحجر أصم قال‏:‏ فكان ذلك العبد يذهب فيحتطب على ظهره، ثم يأتي بحطبه فيبيعه ويشتري به طعاماً وشراباً، ثم يأتي به إلى ذلك البئر فيرفع تلك الصخرة ويعينه الله عليها، ويدلي إليه طعامه وشرابه، ثم يردها كما كانت‏.‏

قال‏:‏ فكان كذلك ما شاء الله أن يكون، ثم إنه ذهب يوماً يحتطب كما كان يصنع، فجمع حطبه وحزم حزمته وفرغ منها، فلما أراد أن يحتملها وجد سنة فاضطجع ينام، فضرب الله على أذنه سبع سنين نائماً، ثم إنه هب فتمطى وتحول لشقه الآخر، فاضطجع فضرب الله على أذنه سبع سنين أخرى‏.‏

ثم إنه هب واحتمل حزمته، ولا يحسب أنه نام إلا ساعة من نهار، فجاء إلى القرية فباع حزمته، ثم اشترى طعاماً وشراباً كما كان يصنع‏.‏ ثم إنه ذهب إلى الحفرة إلى موضوعها الذي كانت فيه، فالتمسه فلم يجده، وقد كان بدا لقومه فيه بداء فاستخرجوه وآمنوا به وصدقوه‏.‏

قال‏:‏ فكان نبيهم يسألهم عن ذلك الأسود ما فعل فيقولون له‏:‏ ما ندري حتى قبض الله النبي عليه السلام، وأهب الأسود من نومه بعد ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏إن ذلك الأسود لأول من يدخل الجنة‏)‏‏)‏‏.‏

فإنه حديث مرسل ومثله فيه نظر‏.‏ ولعل بسط قصته من كلام محمد بن كعب القرظي، والله أعلم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 264‏)‏

ثم قد رده ابن جرير نفسه وقال‏:‏ لا يجوز أن يحمل هؤلاء على أنهم أصحاب الرس المذكورون في القرآن، قال‏:‏ لأن الله أخبر عن أصحاب الرس أنه أهلكهم، وهؤلاء قد بدا لهم فآمنوا بنبيهم، اللهم إلا أن يكون حدثت لهم أحداث، آمنوا بالنبي بعد هلاك آبائهم والله أعلم‏.‏ ثم اختار أنهم أصحاب الأخدود وهو ضعيف لما تقدم، ولما ذكر في قصة أصحاب الأخدود حيث توعدوا بالعذاب في الآخرة إن لم يتوبوا ولم يذكر هلاكهم، وقد صرح بهلاك أصحاب الرس والله أعلم‏.‏

 قصة قوم يس وهم أصحاب القرية

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءهَا الْمُرْسَلُونَ * إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ * قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ * قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ * وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ * قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ * وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ * وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * آتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلَا يُنْقِذُونِ * إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ * قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَالَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ * وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ * إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 13-29‏]‏‏.‏

اشتهر عن كثير من السلف والخلف أن هذه القرية أنطاكية‏.‏ رواه ابن إسحاق فيما بلغه عن ابن عباس، وكعب الأحبار، ووهب بن منبه، وكذا روي عن بريدة بن الحصيب، وعكرمة، وقتادة، والزهري، وغيرهم‏.‏

قال ابن إسحاق فيما بلغه عن ابن عباس، وكعب، ووهب أنهم قالوا‏:‏ وكان لها ملك اسمه انطيخس بن انطيخس وكان يعبد الأصنام‏.‏ فبعث الله إليه ثلاثة من الرسل وهم‏:‏ صادق ومصدوق وشلوم، فكذبهم‏.‏

وهذا ظاهر أنهم رسل من الله عز وجل، وزعم قتادة أنهم كانوا رسلاً من المسيح‏.‏ وكذا قال ابن جرير عن وهب، عن ابن سليمان، عن شعيب الجبائي‏:‏ كان اسم المرسلين الأوليين‏:‏ شمعون ويوحنا، واسم الثالث بولس، والقرية أنطاكية‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 265‏)‏

وهذا القول ضعيف جداً‏:‏ لأن أهل أنطاكية لما بعث إليهم المسيح ثلاثة من الحواريين، كانوا أول مدينة آمنت بالمسيح في ذلك الوقت‏.‏ ولهذا كانت إحدى المدن الأربع التي تكون فيها بتاركة النصارى، وهن‏:‏ أنطاكية، والقدس، واسكندرية، ورومية، ثم بعدها إلى القسطنطينية ولم يهلكوا‏.‏

وأهل هذه القرية المذكورة في القرآن أهلكوا كما قال في آخر قصتها، بعد قتلهم صديق المرسلين‏:‏ ‏{‏إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ‏}‏ لكن إن كانت الرسل الثلاثة المذكورون في القرآن، بعثوا إلى أهل أنطاكية قديماً، فكذبوهم وأهلكهم الله ثم عمرت بعد ذلك‏.‏ فلما كان في زمن المسيح آمنوا برسله إليهم فلا يمنع هذا، والله أعلم‏.‏

فأما القول بأن هذه القصة المذكورة في القرآن هي قصة أصحاب المسيح فضعيف لما تقدم، ولأن ظاهر سياق القرآن يقتضي أن هؤلاء الرسل من عند الله‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً‏}‏ يعني لقومك يا محمد‏.‏

‏{‏أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ‏}‏ يعني المدينة‏.‏

{‏إِذْ جَاءهَا الْمُرْسَلُونَ * إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ‏}‏ أي‏:‏ أيدناهما بثالث في الرسالة‏.‏

{‏فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ‏}‏ فردوا عليهم بأنهم بشر مثلهم، كما قالت الأمم الكافرة لرسلهم يستبعدون أن يبعث الله نبياً بشرياً، فأجابوهم بأن الله يعلم أنا رسله إليكم، ولو كنا كذبنا عليه لعاقبنا وانتقم منا أشد الانتقام‏.‏

{‏وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ‏}‏ أي‏:‏ إنما علينا أي نبلغكم ما أرسلنا به إليكم والله هو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء‏.‏

{‏قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ‏}‏ أي‏:‏ تشاءمنا بما جئتمونا به‏.‏

{‏لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ‏}‏ بالمقال، وقيل‏:‏ بالفعال ويؤيد الأول قوله‏:‏ ‏{‏وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ فوعدوهم بالقتل والإهانة‏.‏

{‏قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ‏}‏ أي‏:‏ مردود عليكم‏.‏

‏{‏أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ‏}‏ أي‏:‏ بسبب أنا ذكرناكم بالهدى ودعوناكم إليه توعدتمونا بالقتل والإهانة‏.‏

{‏بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ‏}‏ أي‏:‏ لا تقبلون الحق ولا تريدونه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى‏}‏ يعني لنصرة الرسل وإظهار الإيمان بهم‏.‏

‏{‏قَالَ يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ‏}‏ أي‏:‏ يدعونكم إلى الحق المحض بلا أجرة ولا جعالة‏.‏ ثم دعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له ونهاهم عن عبادة ما سواه مما لا ينفع شيئاً لا في الدنيا ولا في الآخرة‏.‏

{‏إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ‏}‏ أي‏:‏ إن تركت عبادة الله وعبدت معه ما سواه‏.‏

ثم قال مخاطباً للرسل‏:‏ ‏{‏إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ‏}‏ قيل‏:‏ فاستمعوا مقالتي واشهدوا لي بها عند ربكم‏.‏ وقيل معناه فاسمعوا يا قومي إيماني برسل الله جهرة، فعند ذلك قتلوه‏.‏ قيل‏:‏ رجماً، وقيل‏:‏ عضاً، وقيل‏:‏ وثبوا إليه وثبة رجل واحد فقتلوه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 266‏)‏

وحكى ابن إسحاق عن بعض أصحابه، عن ابن مسعود قال‏:‏ وطئوه بأرجلهم حتى أخرجوا قصبته من دبره‏.‏

وقد روى الثوري، عن عاصم الأحول، عن أبي مجلز‏:‏ كان اسم هذا الرجل حبيب بن مري، ثم قيل‏:‏ كان نجاراً، وقيل‏:‏ حبالاً، وقيل‏:‏ إسكافياً، وقيل‏:‏ قصاراً، وقيل‏:‏ كان يتعبد في غار هناك، فالله أعلم‏.‏

وعن ابن عباس كان حبيب النجار قد أسرع فيه الجذام، وكان كثير الصدقة قتله قومه‏.‏ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏ادْخُلِ الْجَنَّةَ‏}‏ يعني لما قتله قومه أدخله الله الجنة، فلما رأى فيها من النضرة والسرور قال‏:‏ ‏{‏قَالَ يَالَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ‏}‏ يعني ليؤمنوا بما آمنت به فيحصل لهم ما حصل لي‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ نصح قومه في حياته ‏{‏يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ‏}‏ وبعد مماته ‏{‏قَالَ يَالَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ‏}‏ رواه ابن أبي حاتم، وكذلك قال قتادة‏:‏ لا يلقى المؤمن إلا ناصحاً، لا يلقى غاشاً لما عاين ما عاين من كرامة الله‏.‏

‏{‏ياليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين‏}‏ تمنى والله أن يعلم قومه بما عاين من كرامة الله، وما هو عليه‏.‏ قال قتادة‏:‏ فلا والله ما عاتب الله قومه بعد قتله‏.‏ ‏{‏إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ‏}‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ‏}‏ أي‏:‏ ما احتجنا في الانتقام منهم إلى إنزال جند من السماء عليهم‏.‏ هذا معنى ما رواه ابن إسحاق عن بعض أصحابه، عن ابن مسعود‏.‏

قال مجاهد وقتادة‏:‏ وما أنزل عليهم جنداً أي‏:‏ رسالة أخرى‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ والأول أولى‏.‏

قلت‏:‏ وأقوى ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ‏}‏ أي‏:‏ وما كنا نحتاج في الانتقام إلى هذا، حين كذبوا رسلنا وقتلوا ولينا‏.‏ ‏{‏إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ‏}

قال المفسرون‏:‏ بعث الله إليهم جبريل عليه السلام، فأخذ بعضادتي الباب الذي لبلدهم ثم صاح بهم صيحة واحدة، فإذا هم خامدون أي‏:‏ قد أخمدت أصواتهم، وسكنت حركاتهم، ولم يبق منهم عين تطرف‏.‏

وهذا كله مما يدل على أن هذه القرية ليست أنطاكية، لأن هؤلاء أهلكوا بتكذيبهم رسل الله إليهم، وأهل أنطاكية آمنوا واتبعوا رسل المسيح من الحواريين إليهم، فلهذا قيل إن أنطاكية أول مدينة آمنت بالمسيح‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 267‏)‏

فأما الحديث الذي رواه الطبراني من حديث حسين الأشقري، عن سفيان بن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

‏(‏‏(‏السبق ثلاثة‏:‏ فالسابق إلى موسى‏:‏ يوشع بن نون، والسابق إلى عيسى‏:‏ صاحب يس، والسابق إلى محمد‏:‏ علي بن أبي طالب‏}‏‏.‏

فإنه حديث لا يثبت؛ لأن حسيناً هذا متروك، وشيعي من الغلاة، وتفرده بهذا مما يدل على ضعفه بالكلية، والله أعلم‏.‏

 قصة يونس

قال الله تعالى في سورة يونس‏:‏ ‏{‏فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 98‏]‏‏.‏

وقال تعالى في سورة الأنبياء‏:‏ ‏{‏وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 87-88‏]‏‏.‏

وقال تعالى في سورة الصافات‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ * فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ * فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ * وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ * وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ * فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 139-148‏]‏‏.‏

وقال تعالى في سورة نون‏:‏ ‏{‏فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ * لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ * فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 48-50‏]‏‏.‏

قال أهل التفسير‏:‏ بعث الله يونس عليه السلام إلى أهل نينوى من أرض الموصل، فدعاهم إلى الله عز وجل فكذبوه وتمردوا على كفرهم وعنادهم، فلما طال ذلك عليه من أمرهم، خرج من بين أظهرهم ووعدهم حلول العذاب بهم بعد ثلاث‏.‏

قال ابن مسعود، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وقتادة، وغير واحد من السلف والخلف‏:‏ فلما خرج من بين ظهرانيهم، وتحققوا نزول العذاب بهم، قذف الله في قلوبهم التوبة والإنابة، وندموا على ما كان منهم إلى نبيهم، فلبسوا المسوح وفرقوا بين كل بهيمة وولدها، ثم عجوا إلى الله عز وجل وصرخوا وتضرعوا إليه، وتمسكنوا لديه، وبكى الرجال والنساء، والبنون والبنات والأمهاب، وجأرت الأنعام والدواب والمواشي، فرغت الإبل وفصلانها، وخارت البقر وأولادها، وثغت الغنم وحملانها، وكانت ساعة عظيمة هائلة، فكشف الله العظيم بحوله وقوته ورأفته ورحمته عنهم العذاب، الذي كان قد اتصل بهم بسببه، ودار على رؤوسهم كقطع الليل المظلم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 268‏)‏

ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا‏}‏ أي‏:‏ هلاّ وجدت فيما سلف من القرون قرية آمنت بكمالها، فدل على أنه لم يقع ذلك بل كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 34‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 98‏]‏ أي‏:‏ آمنوا بكمالهم‏.‏

وقد اختلف المفسرون هل ينفعهم هذا الإيمان في الدار الآخرة، فينقذهم من العذاب الأخروي، كما أنقذهم من العذاب الدنيوي‏؟‏ على قولين؛ الأظهر من السياق‏:‏ نعم والله أعلم‏.‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لَمَّا آمَنُوا‏}‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ * فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 147‏]‏ وهذا المتاع إلى حين لا ينفي أن يكون معه غيره من رفع العذاب الأخروي، والله أعلم‏.‏

وقد كانوا مائة ألف لا محالة، واختلفوا في الزيادة فعن مكحول عشرة آلاف‏.‏

وروى الترمذي، وابن جرير، وابن أبي حاتم من حديث زهير عمن سمع أبا العالية‏:‏ حدثني أبي بن كعب أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله‏:‏ ‏{‏وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ‏}‏ قال‏:‏ يزيدون عشرين ألفاً، فلولا هذا الرجل المبهم لكان هذا الحديث فاصلاً في هذا الباب‏.‏

وعن ابن عباس‏:‏ كانوا مائة ألف وثلاثين ألفاً، وعنه‏:‏ وبضعة وثلاثين ألفاً، وعنه‏:‏ وبضعة وأربعين ألفاً، وقال سعيد بن جبير‏:‏ كانوا مائة ألف وسبعين ألفاً‏.‏

واختلفوا هل كان إرساله إليهم قبل الحوت أو بعده، أو هما أمتان على ثلاثة أقوال‏:‏ هي مبسوطة في التفسير‏.‏ والمقصود أنه عليه السلام لما ذهب مغاضباً بسبب قومه، ركب سفينة في البحر، فلجت بهم واضطربت وماجت بهم، وثقلت بما فيها وكادوا يغرقون، على ما ذكره المفسرون‏.‏

قالوا‏:‏ فاشتوروا فيما بينهم على أن يقترعوا، فمن وقعت عليه القرعة ألقوه من السفينة ليتحفظوا منه‏.‏ فلما اقترعوا وقعت القرعة على نبي الله يونس، فلم يسمحوا به فأعادوها ثانية فوقعت عليه أيضاً، فشمر ليخلع ثيابه ويلقى بنفسه فأبوا عليه ذلك‏.‏ ثم أعادوا القرعة ثالثة فوقعت عليه أيضاً، لما يريده الله به من الأمر العظيم‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ * فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ‏}‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 269‏)‏

وذلك أنه لما وقعت عليه القرعة ألقى في البحر، وبعث الله عز وجل حوتاً عظيماً من البحر الأخضر فالتقمه، وأمره الله تعالى أن لا يأكل له لحماً، ولا يهشم له عظماً، فليس لك برزق‏.‏ فأخذه فطاف به البحار كلها، وقيل‏:‏ إنه ابتلع ذلك الحوت حوت آخر أكبر منه‏.‏ قالوا‏:‏ ولما استقر في جوف الحوت حسب أنه قد مات، فحرك جوارحه فتحركت فإذا هو حي، فخر لله ساجداً وقال‏:‏ يا رب اتخذت لك مسجداً لم يعبدك أحد في مثله‏.‏

وقد اختلفوا في مقدار لبثه في بطنه‏.‏ فقال مجالد، عن الشعبي‏:‏ التقمه ضحى ولفظه عشية‏.‏ وقال قتادة‏:‏ مكث فيه ثلاثاً‏.‏ وقال جعفر الصادق‏:‏ سبعة أيام‏.‏ ويشهد له شعر أمية بن أبي الصلت‏:‏

وأنت بفضل منك نجيت يونسا * وقد بات في أضعاف حوت لياليا

وقال سعيد بن أبي الحسن، وأبو مالك‏:‏ مكث في جوفه أربعين يوماً، والله أعلم كم مقدار ما لبث فيه‏.‏

والمقصود أنه لما جعل الحوت يطوف به في قرار البحار اللجية، ويقتحم به لجج الموج الأحاجي، فسمع تسبيح الحيتان للرحمن، وحتى سمع تسبيح الحصى لفالق الحب والنوى، ورب السموات السبع والأرضين السبع، وما بينها وما تحت الثرى‏.‏

فعند ذلك وهنالك قال ما قال‏:‏ بلسان الحال والمقال، كما أخبر عنه ذو العزة والجلال الذي يعلم السر والنجوى، ويكشف الضر والبلوى، سامع الأصوات وإن ضعفت، وعالم الخفيات وإن دقت، ومجيب الدعوات وإن عظمت، حيث قال في كتابه المبين المنزل على رسوله الأمين، وهو أصدق القائلين ورب العالمين وإله المرسلين‏:‏

{‏وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ‏}‏ إلى أهله ‏{‏مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 87-88‏]‏ ‏{‏فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ‏}‏ أن نضيق‏.‏ وقيل معناه‏:‏ نقدر من التقدير وهي لغة مشهورة قدَر وقدّر كما قال الشاعر‏:‏

فلا عائدٌ ذاك الزمانُ الذي مضى * تباركتَ ما يقدَرْ يكن فلك الأمر‏.‏

{‏فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ‏}‏ قال ابن مسعود، وابن عباس، وعمرو بن ميمون، وسعيد بن جبير، ومحمد بن كعب، والحسن، وقتادة، والضحاك‏:‏ ظلمة الحوت، وظلمة البحر، وظلمة الليل‏.‏

وقال سالم بن أبي الجعد‏:‏ ابتلع الحوت حوت آخر، فصار ظلمة الحوتين مع ظلمة البحر‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 270‏)‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ‏}‏ قيل معناه‏:‏ لولا أنه سبح الله هنالك، وقال ما قال من التهليل والتسبيح والاعتراف لله بالخضوع والتوبة إليه، والرجوع إليه للبث هنالك إلى يوم القيامة‏.‏ ولبعث من جوف ذلك الحوت‏.‏

هذا معنى ما روي عن سعيد بن جبير في إحدى الروايتين عنه‏.‏

وقيل معناه‏:‏ ‏{‏فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ‏}‏ من قبل أخذ الحوت له ‏{‏مِنَ الْمُسَبِّحِينَ‏}‏ أي‏:‏ المطيعين المصلين الذاكرين الله كثيراً‏.‏ قاله‏:‏ الضحاك بن قيس، وابن عباس، وأبو العالية، ووهب بن منبه، وسعيد بن جبير، والضحاك، والسدي، وعطاء بن السائب، والحسن البصري، وقتادة، وغير واحد، واختاره ابن جرير‏.‏

ويشهد لهذا ما رواه الإمام أحمد، وبعض أهل السنن عن ابن عباس‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي‏:‏

‏(‏‏(‏يا غلام إني معلمك كلمات‏:‏ احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة‏)‏‏)‏‏.‏

وروى ابن جرير في ‏(‏تفسيره‏)‏، والبزار في ‏(‏مسنده‏)‏، من حديث محمد بن إسحاق، عمن حدثه، عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة قالت‏:‏ سمعت أبا هريرة يقول‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏لما أراد الله حبس يونس في بطن الحوت، أوحى الله إلى الحوت أن خذه ولا تخدش لحماً ولا تكسر عظماً، فأخذه ثم هوى به إلى مسكنه من البحر، فلما انتهى به إلى أسفل البحر سمع يونس حساً فقال في نفسه‏:‏ ما هذا‏؟‏

فأوحى الله إليه وهو في بطن الحوت إن هذا تسبيح دواب البحر‏.‏

قال فسبح وهو في بطن الحوت، فسمعت الملائكة تسبيحه‏.‏

فقالوا‏:‏ يا ربنا إنا نسمع صوتاً ضعيفاً بأرض غريبة‏.‏

قال‏:‏ ذلك عبدي يونس عصاني فحبسته في بطن الحوت في البحر‏.‏

قالوا‏:‏ العبد الصالح الذي كان يصعد إليك منه في كل يوم وليلة عمل صالح‏!‏

قال‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ فشفعوا له عند ذلك فأمر الحوت فقذفه في الساحل‏)‏‏)‏‏.‏

كما قال الله‏:‏ ‏{‏وَهُوَ سَقِيْمٌ‏}‏ هذا لفظ ابن جرير إسناداً ومتناً‏.‏ ثم قال البزار‏:‏ لا نعلمه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا بهذا الإسناد كذا قال‏.‏

وقد قال ابن أبي حاتم في ‏(‏تفسيره‏)‏‏:‏ حدثنا أبو عبد الله أحمد بن عبد الرحمن أخي ابن وهب، حدثنا عمي، حدثني أبو صخر أن يزيد الرقاشي حدثه، سمعت أنس بن مالك ولا أعلم إلا أن أنساً يرفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏أن يونس النبي عليه السلام حين بدا له أن يدعو بهذه الكلمات وهو في بطن الحوت قال‏:‏ اللهم لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين‏.‏

فأقبلت الدعوة تحن بالعرش، فقالت الملائكة‏:‏ يا رب صوت ضعيف معروف من بلاد غريبة‏.‏

فقال‏:‏ أما تعرفون ذاك‏؟‏

قالوا‏:‏ يا رب ومن هو‏؟‏

قال‏:‏ عبدي يونس‏.‏

قالوا‏:‏ عبدك يونس الذي لم يزل يرفع له عملاً متقبلاً، ودعوة مجابة‏.‏

قالوا‏:‏ يا ربنا أو لا ترحم ما كان يصنعه في الرخاء فتنجيه من البلاء‏؟‏

قال‏:‏ بلى، فأمر الحوت فطرحه في العراء‏)‏‏)‏‏.‏

ورواه ابن جرير، عن يونس، عن ابن وهب به‏.‏

زاد ابن أبي حاتم قال‏:‏ أبو صخر حميد بن زياد فأخبرني ابن قسيط وأنا أحدثه هذا الحديث، أنه سمع أبا هريرة يقول‏:‏ طرح بالعراء وانبت الله عليه اليقطينة‏.‏

قلنا‏:‏ يا أبا هريرة وما اليقطينة‏؟‏

قال‏:‏ شجرة الدباء‏.‏

قال أبو هريرة‏:‏ وهيأ الله له أروية وحشية تأكل من خشاش الأرض، أو قال‏:‏ هشاش الأرض‏.‏

قال فتنفشخ عليه فترويه من لبنها كل عشية وبكرة، حتى نبت‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 271‏)‏

وقال أمية بن أبي الصلت في ذلك بيتاً من شعره‏:‏

فأنبت يقطينا عليه برحمة * من الله لولا الله أصبح ضاويا

وهذا غريب أيضاً من هذا الوجه، ويزيد الرقاشي ضعيف ولكن يتقوى بحديث أبي هريرة المتقدم، كما يتقوى ذاك بهذا والله أعلم‏.‏

وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَنَبَذْنَاهُ‏}‏ أي‏:‏ ألقيناه ‏{‏بِالْعَرَاءِ‏}‏ وهو المكان القفر الذي ليس فيه شيء من الأشجار بل هو عار منها‏.‏

‏{‏وَهُوَ سَقِيْمٌ‏}‏ أي‏:‏ ضعيف البدن‏.‏

قال ابن مسعود‏:‏ كهيئة الفرخ ليس عليه ريش‏.‏

وقال ابن عباس، والسدي، وابن زيد‏:‏ كهيئة الضبي حين يولد، وهو المنفرش ليس عليه شيء‏.‏

{‏وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ‏}‏ قال ابن مسعود، وابن عباس، وعكرمة، ومجاهد، وسعيد بن جبير، ووهب بن منبه، وهلال بن يساف، وعبد الله بن طاوس، والسدي، وقتادة، والضحاك، وعطاء الخراساني، وغير واحد‏:‏ هو القرع‏.‏

قال بعض العلماء في إنبات القرع عليه حكم جمة؛ منها‏:‏ أن ورقه في غاية النعومة، وكثير وظليل، ولا يقربه ذباب، ويؤكل ثمره من أول طلوعه إلى آخره، نياً ومطبوخاً وبقشره وببزره أيضاً‏.‏ وفيه نفع كثير، وتقوية للدماغ، وغير ذلك‏.‏

وتقدم كلام أبي هريرة في تسخير الله تعالى له تلك الأروية التي كانت ترضعه لبنها، وترعى في البرية وتأتيه بكرة وعشية، وهذا من رحمة الله به ونعمته عليه وإحسانه إليه ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ‏}‏ أي‏:‏ الكرب والضيق الذي كان فيه‏.‏

{‏وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ أي‏:‏ وهذا صنيعنا بكل من دعانا واستجار بنا‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ حدثني عمران بن بكار الكلاعي، حدثنا يحيى بن صالح، حدثنا أبو يحيى بن عبد الرحمن، حدثني بشر بن منصور، عن علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب قال‏:‏ سمعت سعد بن مالك - وهو ابن أبي وقاص - يقول‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏

‏(‏‏(‏اسم الله الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى‏:‏ دعوة يونس بن متى‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فقلت يا رسول الله‏:‏ هي ليونس خاصة أم لجماعة المسلمين‏؟‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏هي ليونس خاصة وللمؤمنين عامة إذا دعوا بها‏.‏ ألم تسمع قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ فهو شرط من الله لمن دعاه به‏)‏‏)‏‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن كثير بن زيد، عن المطلب بن حنطب قال‏:‏

قال أبو خالد‏:‏ أحسبه عن مصعب، يعني‏:‏ ابن سعد، عن سعد قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏من دعا بدعاء يونس أستجيب له‏)‏‏)‏‏.‏

قال أبو سعيد الأشج‏:‏ يريد به ‏{‏وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ وهذان طريقان عن سعد وثالث أحسن منهما‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 272‏)‏

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا إسماعيل بن عمر، حدثنا يونس بن أبي إسحاق الهمذاني، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سعد، حدثني والدي محمد، عن أبيه سعد، وهو ابن أبي وقاص قال‏:‏ مررت بعثمان بن عفان في المسجد فسلمت عليه، فملأ عينيه مني ثم لم يردد عليّ السلام، فأتيت عمر بن الخطاب، فقلت‏:‏ يا أمير المؤمنين هل حدث في السلام شيء‏؟‏

قال‏:‏ لا، وما ذاك‏؟‏

قلت‏:‏ لا، إلا أني مررت بعثمان آنفاً في المسجد فسلمت عليه، فملأ عينيه مني ثم لم يردد علي السلام‏.‏

قال فأرسل عمر إلى عثمان فدعاه فقال‏:‏ ما منعك أن لا تكون رددت على أخيك السلام‏؟‏

قال‏:‏ ما فعلت‏.‏

قال سعد‏:‏ قلت‏:‏ بلى حتى حلف وحلفت‏.‏

قال ثم إن عثمان ذكر فقال‏:‏ بلى، وأستغفر الله وأتوب إليه، إنك مررت بي آنفاً وأنا أحدث نفسي بكلمة سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا والله ما ذكرتها قط إلا تغشى بصري وقلبي غشاوة‏.‏

قال سعد‏:‏ فأنا أنبئك بها، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر لنا أول دعوة، ثم جاء أعرابي فشغله حتى قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتبعته، فلما أشفقت أن يسبقني إلى منزله ضربت بقدمي الأرض، فالتفت إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏من هذا أبو إسحاق‏؟‏‏)‏‏)‏

قال‏:‏ قلت‏:‏ نعم يا رسول الله‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏فمه‏؟‏‏)‏‏)‏

قلت‏:‏ لا والله إلا أنك ذكرت لنا أول دعوة، ثم جاء هذا الأعرابي فشغلك‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏نعم دعوة ذي النون إذ هو في بطن الحوت‏:‏ لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، فإنه لم يدع بها مسلم ربه في شيء قط إلا استجاب له‏)‏‏)‏‏.‏