الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البيان في مذهب الإمام الشافعي
وإن حدث عند المسلِم بالمقبوض عيب آخر.. فله أن يطالب بأرش العيب الموجود قبل القبض، إلا أن يرضى المسلَم إليه بأخذه معيبًا.. فلا يثبت للمسلم المطالبة بالأرش. وقال أبو حنيفة: (ليس للمسلم المطالبة بالأرش؛ لأن رجوعه بالأرش أخذ عوض عن الجزء الفائت، وبيع المسلَم فيه قبل القبض لا يجوز). دليلنا: أنه عوض يجوز ردُّه بالعيب، فإذا سقط الرد بحدوث عيب.. ثبت له الرجوع بالأرش، كبيع الأعيان. وأمَّا قوله: (إن الرجوع بالأرش أخذ عوض عن الجزء الفائت، وبيع المسلم فيه لا يجوز قبل القبض) فغير صحيح؛ لأن بيع المبيع المعيَّن قبل القبض لا يصح، وقد جاز أخذ الأرش عنه. ولأن ذلك فسخ العقد في الجزء الفائت، وليس ببيع، ولهذا يكون بحسب الثمن المسمى في العقد.
أحدهما: ينفسخ السلم؛ لأن المعقود عليه قد تعذر تسليمه، فانفسخ العقد، كما لو اشترى منه قفيزًا من صبرة، فتلفت الصبرة قبل القبض. ولأنه لو أسلم إليه في ثمرة بلدٍ بعينه، كبغداد.. صح السلم، ولم يكن للمسلَم إليه أن يدفع إليه من ثمرة غير بغداد. وكذلك: إذا أسلم إليه في ثمرة عام.. لم يكن له أن يدفع إليه من ثمرة غير ذلك العام. والقول الثاني: لا ينفسخ السَّلم، ولكن يثبت للمسلم الخيار: بين أن يفسخ العقد، وبين أن لا يفسخ ويصبر إلى أن يوجد المسلم فيه، وبه قال أبو حنيفة، وهو الصحيح؛ لأن المعقود عليه في الذمة لم يتلف، بدليل: أنه لو أسلم إليه في الرطب من ثمرة عامين، فقدم المسلم إليه في العام الأول ما يجب فيه في العام الثاني.. جاز. وإن انقطع بعض المسلم فيه، ووجد البعض: فإن قلنا: إن السلم ينفسخ إذا عدم جميع المسلم فيه.. انفسخ السلم هاهنا في القدر المفقود من المسلم فيه. وهل ينفسخ في الموجود منه؟ فيه طريقان، كما قلنا فيمن اشترى عبدين، فتلف أحدهما قبل القبض: الأول: من أصحابنا من قال: فيه قولان. و [الطريق الثاني منهم من قال: لا ينفسخ، قولاً واحدًا. فإذا قلنا: ينفسخ.. فلا كلام. وإذا قلنا: لا ينفسخ.. ثبت للمسلم الخيار في الفسخ؛ لأن الصفقة تفرّقت عليه. فإن فسخ.. فلا كلام، وإن لم يفسخ.. أخذ الموجود، وهل يأخذه بجميع الثمن أو بحصته؟ فيه قولان، حكاهما الشيخ أبو حامد، وابن الصبّاغ. قلت: وعلى قياس ما ذكر في "المهذب" هناك: أنه يأخذه هاهنا بحصّته من (الثمن): وهو رأس مال السلم، قولاً واحدًا. فإذا قلنا: يأخذه بجميع الثمن.. فلا خيار للمسلم إليه. وإن قلنا: يأخذه بحصته.. فهل للمسلم إليه الخيار؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصبّاغ. وإن قلنا: إن المسلم فيه إذا انقطع جميعه لا ينفسخ السلم، بل يثبت للمسلم الخيار.. ثبت له أيضًا هاهنا الخيار ليأخذ بعض حقه. فإذا اختار أن يفسخ السلم في المفقود والموجود.. جاز؛ لتفرق حقِّه عليه. وإن اختار أن يفسخ السلم في المفقود، ويقره في الموجود.. فهل له ذلك؟ فيه قولان، بناء على القولين في تفريق الصفقة. فإن قلنا: يجوز، ففسخ السلم في المفقود.. فبكم يأخذ الموجود؟ على ما مضى.
وقال أبو يوسف: إن كان قبل القبض.. فهو فسخ، وإن كان بعد القبض.. فهي بيع. وقال مالك: (هي بيع بكل حال). وحكى القاضي أبو الطيب: أنه القول القديم للشافعي. وأمَّا الشيخ أبو حامد: فحكاه وجهًا لبعض أصحابنا. دليلنا: أن المبيع عاد إلى البائع بلفظ لا ينعقد به البيع، فكان فسخًا، كالردِّ بالعيب. إذا ثبت هذا: فإن أسلم رجل إلى غيره شيئًا في شيء، ثم تقايلا في عقد السلم.. صحّ ـ وقد وافَقَنا مالك على ذلك ـ وهذا من أوضح دليل على: أن الإقالة فسخ؛ لأنها لو كان بيعًا.. لما صحَّ في المسلَم فيه قبل القبض، كما لا يصح بيعُهُ. وإن أقاله في بعض المسلم فيه.. صح في القدر الذي أقاله. وقال ابن أبي ليلى: تكون إقالة في الجميع. وقال ربيعة، ومالك، والليث: (لا يصح). دليلنا: أن الإقالة مندوبٌ إليها، بدليل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أقال نادمًا في بيع.. أقاله الله نفسه يوم القيامة». وما جاز في جميع المبيع.. جاز في بعضه، كالإبراء والإنظار. وإن أقاله بأكثر من الثمن، أو بأقل منه، أو بجنس آخر.. لم تصح الإقالة. وقال أبو حنيفة: (تصح الإقالة، ويجب ردُّ الثمن المسمى في العقد). دليلنا: أن المسلم أو المشتري لم يسقط حقه من المبيع، إلاَّ بشرط العوض الذي شرطه، فإذا لم يصح له العوض.. لم تصح له الإقالة، كما لو اشترى منه داره بألف، بشرط أن يبيعه غلامه بألف.
وإن أراد أن يأخذ عنه عوضًا.. نظرت: فإن كان رأس المال من أموال الرّبا.. نظرت: فإن أراد أن يأخذ منه ما هو من جنسه.. جاز أن يأخذ ما هو مثله، ولم يجز أن يأخذ أكثر منه ولا أقل منه، ولا يصح أن يتفرَّقا قبل قبضه. وإن أراد أن يأخذ عنه من غير جنسه، إلا أنه جمعتهما علَّة واحدة في الربا، كالدراهم والدنانير.. جاز أن يأخذ أكثر منه وأقل منه، إلا أنه لا يصح أن يتفرقا قبل قبض العوض، كما قلنا في البيع. وإن أراد أن يأخذ منه عوضًا ليس من أموال الربا، كالثياب والدواب، أو كان رأس المال من غير أموال الرّبا.. صح ذلك أيضًا. وهل يشترط فيه القبض قبل التفرق؟ فيه وجهان: أحدهما: أنه يشترط ذلك؛ لئلا يتفرّقا والعوض والمعوَّض في ضمان واحد. والثاني: لا يشترط ذلك، كما لو اشترى أحدهما بالآخر. وإن اختلفا في قدر رأس مال السلم.. فالقول قول المسلم إليه مع يمينه؛ لأن الأصل براءة ذمته مما زاد على ما أقر به. وإن اختلفا في قدر المسلم فيه، أو في الأجل أو في قدره.. تحالفا. وإن اتَّفقا على الأجل، واختلفا في انقضائه، فادّعى المسلم انقضاء الأجل، وادَّعى المسلم إليه بقاءه.. فالقول قول المسلم إليه مع يمينه؛ لأن الأصل بقاؤه. والله أعلم
وروى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من كشف عن مسلم كربة من كرب الدنيا.. كشف الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر.. يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر على مسلم.. ستر الله عليه في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه». والقرض مما تفرج به الكرب. وقد رُوي عن ابن عبّاس، وابن مسعود، وأبي الدرداء: أنهم قالوا: (لئن نقرض مرتين.. أحب إلينا من أن نتصدق مرة). وقال بعضهم: إنما كان القرض خيرًا من الصدقة؛ لأن الصدقة قد تدفع إلى من هو غنيٌّ عنها، ولا يسأل إنسان القرض إلا وهو محتاج إليه.
آدميٍّ، فافتقر إلى الإيجاب والقبول، كالبيع والهبة، وفيه احترازٌ من العتق. وينعقد بلفظ القرض والسلف؛ لأنه قد ثبت له عرف الاستعمال. وسمي القرض: قرضًا؛ لأنه قطع له من ماله قطعة، ومن قطع منه شيئًا.. فقد قرضه. وينعقد بما يؤدي معنى ذلك، فإن قال: ملَّكتك هذا، على أن ترد عليَّ بدلَه.. كان قرضًا، وإن قال: ملَّكتك هذا، ولم يذكر البدل.. فهو هبة. وإن اختلفا فيه.. فالقول قول الموهوب له؛ لأن الظاهر معه. قال الشيخ أبو إسحاق: فإن قال: أقرضتك ألفا، وقبل، وتفرقا، ثم دفع إليه إلفا، فإن لم يطل الفصل.. جاز؛ لأن الظاهر أنه قصد الإيجاب. وإن طال الفصل.. لم يجز حتى يعيد لفظ القرض؛ لأنه لا يمكنه البناء على العقد مع طول الفصل.
ولو أقرضه شيئًا إلى أجل.. لم يلزم الأجل، وكان حالاًّ. وهكذا: لو كان له عنده ثمن حالٌّ فأجَّله، أو كان مؤجَّلاً فزاد في أجله.. لم يلزم ذلك. وقال مالك - رحمة الله عليه -: (يدخل الأجل في ابتداء القرض، بأن يقرضه إلى أجل، ويدخل في انتهائه، بأن يقرضه حالاًّ، ثم يؤجِّله له، فيتأجَّلَ). ووافقنا أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (أن الأجل لا يدخل في القرض، وأمّا الثمن الحالُّ: فيتأجل بالتأجيل). دليلنا على مالك: أن الأجل يقتضي جزءًا من العوَض، والقرض لا يحتمل الزيادة والنقصان في عوضه، فلم يجز شرط الأجل فيه. وأمّا الدليل على أبي حنيفة: فقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل شرط ليس في كتاب الله.. فهو باطل»، وتأجيل الحق الحالِّ ليس في كتاب الله تعالى، فكان باطلاً، ولأنه حقٌّ مستقرٌّ فلم يتأجَّل بالتأجيل، كالقرض. وقولنا: (مستقرٌّ) احترازٌ من الثمن في مدة الخيار؛ ولأنه إنظار تبرَّع به، فلم يلزمه، كالمرأة إذا وجدت زوجها عِنِّينًا، فأجَّلَته، ثم رجعت عن ذلك.. فإن لها ذلك.
أحدهما من أصحابنا من قال: لا يملكها إلاَّ بالتصرُّف بالبيع أو الهبة أو بأن يتلفها أو تتلف في يده؛ لأن للمقرض أن يرجع في العين، وللمستقرض أن يردّها. ولو ملكها المستقرض بالقبض.. لم يملك واحدٌ منهما فسخ ذلك. فعلى هذا: إن استقرض حيوانًا.. كانت نفقته على المقرض إلى أن يتلفه المستقرض. وإن استقرض أباه.. لم يعتق عليه بالقبض. والثاني: منهم من قال: يملكها المستقرض بالقبض. قال الشيخ أبو حامد: وهو الصحيح؛ لأنه بالقبض يملك التصرف فيها في جميع الوجوه، فلو لم يملكها بالقبض.. لما ملك التصرف فيها بما فيه حظٌّ، وبما لا حظَّ فيه. وأمَّا الرجوع في العين المقرضة: فلا خلاف بين أصحابنا: أنَّ للمستقرض أن يردَّها على المقرض، وأمَّا المقرض: فهل له أن يرجع فيها وهي في يد المستقرض؟ من أصحابنا من قال: إن قلنا: إنَّ المستقرض ملكها بالقبض.. لم يكن للمقرض أن يرجع فيها بغير رضا المستقرض، وإن قلنا: إنَّ المستقرض لا يملكها إلاَّ بالتصرُّف.. فللمقرض أن يرجع فيها. ومنهم من قال: للمقرض أن يرجع فيها بكل حال، وهو المنصوص، ولا يكون جواز رجوع المقرض فيها مانعًا من ثبوت الملك للمستقرض فيها قبل التصرُّف، ألا ترى أن الأب إذا وهب لابنه شيئًا، وأقبضه إيَّاه.. فإن الابن قد ملكه، وللأب أن يرجع فيه؟ وكذلك: إذا اشترى كل واحد سلعة بسلعة، ثم وجد كل واحدٍ منهما بما صار إليه عيبًا.. فإن لكل واحد منهما أن يرجع في سلعته وإن كانت ملكًا للآخر. ويبطل بما لو تصرَّف هذا المستقرض بالعين المستقرضة، ثم رجعت إليه.. فإن للمقرض أن يرجع فيها، ولا يدلُّ ذلك على: أنَّ المستقرض لم يكن مالكًا للعين وقت التصرُّف فيها. فعلى هذا: إذا اقترض حيوانًا، وقبضه.. كانت نفقته على المستقرض. وإن اقترض أباه، وقبضه.. صحَّ، وعتق عليه.
فـالأول: منهم من قال: يملكه بالتناول، فإذا أخذ لقمة بيده.. ملكها، كما إذا وهبه شيئًا، وأقبضه إيَّاه. فعلى هذا: لو أراد المقدِّم أن يسترجعها منه بعد أن أخذها بيده.. لم يكن له ذلك. والثاني: منهم من قال: يملكه بتركه في الفم. فعلى هذا: للمقدِّم أن يرجع فيه ما لم يتركه المقدِّم إليه في فيهِ. والثالث منهم من قال: لا يملكه إلا بالبلع. والرابع حكاه في "المهذب": أنه لا يملكه بالأكل، بل يأكله وهو على ملك صاحبه. فإذا قلنا: إن المقدم إليه ملكه بأخذه باليد، أو بتركه في الفم.. فهل له أن يبيحه لغيره، أو يتصرف فيه بغير ذلك؟ فيه وجهان: أحدهما قال عامَّة أصحابنا: لا يجوز له ذلك، لأنه أباح له انتفاعًا صحيحًا مخصوصًا، فلا يجوز له أن ينتفع به لغيره، كما لو أعاره ثوبًا.. لم يكن له أن يعيره غيره. والثاني: قال الشيخ أبو حامد، والقاضي أبو الطيب: له أن يفعل به ما شاء من وجوه التصرفات، مثل: البيع، والهبة لغيره؛ لأنه يملكه، فهو كما لو وهبه شيئًا وأقبضه إيّاه. قال ابن الصبّاغ: وهذا الذي قالاه لا يجيءُ على أصولهما؛ لأن من شرط الهبة عندهما القبول والإيجاب والإذن بالقبض، إلاَّ أن يتضمَّنها العتق لقوَّته، ولم يوجد ذلك هاهنا. ولأن الإذن بالتناول إنَّما تضمَّن إباحة الأكل، فلا يصح أن يحصل به الملك، ولو كان ذلك صحيحًا.. لجاز له تناول جميع الذي قدم إليه، وينصرف به إلى بيته. وكذلك: إذا قلنا: بتركه في فيه.. فإنه لم يحصل الأكل المأذون فيه، وإنَّما يملكه بالبلع. وقال: وعندي: أنَّ بالبلع يبطل معنى الملك فيه، ويصير كالتالف. قال: والأوجه في ذلك: أن يكون إذنًا في الإتلاف لا تمليك فيه.
فإن قلنا: يجب ردُّ القيمة.. جاز قرض هذه الأشياء. وإن قلنا: يجب ردُّ المثل فيها.. لم يجز قرضها، ويأتي توجيههما.
ولا يصح القرض إلاَّ في مال معلوم، فإن أقرضه دراهم غير معلومة الوزن، أو طعامًا غير معلوم الكيل.. لم يصحَّ؛ لأنه إذا لم يعلم قدر ذلك.. لم يمكنه القضاء.
وقال أبو حنيفة: (لا يصح قرضها). وبنى ذلك على أصله: أن السلم لا يصح فيها. دليلنا: ما «روى أبو رافع - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استسلف من أعرابي بَكْرًا، فقدمت عليه إبلٌ من إبل الصدقة، فأمرني أن أقضيه، فقلت: لم أجِد في الإبل إلا جملاً خيارًا رباعيًّا، فقال: «اقضه إيّاه، فإن خير الناس أحسنهم قضاءً». ولأن ما صحَّ أن يثبت في الذمة مهرًا.. صحَّ أن يثبت فيها قرضًا، كالثياب. فأمَّا استقراض الجواري: فيجوز ذلك لمن لا يحل له وطؤها بنسب أو رضاع أو مصاهرة، كغيرها من الحيوان، ولا يجوز لمن يحل له وطؤها. وقال المزني، وابن داود، وابن جرير الطبري: يجوز. وحكى الطبري عن بعض أصحابنا الخراسانيِّين: أنه يجوز قرضها، ولا يحل للمستقرض وطؤها. دليلنا: أنَّه عقد إرفاق لا يلزم كل واحد من المتعاقدين، فلم يملك به الاستمتاع، كالعارية. فقولنا: (عقد إرفاق لا يلزم كل واحد من المتعاقدين، فلم يملك به الاستمتاع) احترازٌ من البيع إذا اشترى جارية بجارية، ثم وجد كل واحد منهما بما صار إليه عيبًا.. فإن لكل واحد منهما أن يطأ جاريته، وليس بعقد إرفاق. ولا ينتقض بالرجل إذا وهب لابنه جارية؛ لأن الهبة تلزم من جهة الموهوب، ولا تلزم من جهة الواهب.
ولا يجوز أن يقرضه دراهم على أن يعطيه بدلها في بلد أخرى، ولا أن يكتب له بها سفتجة، فيأمن خطر الطريق ومؤنة الحمل. وكذلك: لا يجوز أن يقرضه شيئًا بشرط أن يرد عليه خيرًا منه؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن قرض جرَّ منفعة». فإن أقرضه شيئًا بشرط أن يرد عليه أكثر منه.. نظرتَ: فإن كان ذلك من أموال الرِّبا، بأن أقرضه درهمًا، بشرط أن يرد عليه درهمين، أو أقرضه ذهب طعام بشرط أن يرد عليه ذهبي طعام.. لم يجز؛ لما رويَ: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «كل قرض جر منفعة.. فهو حرام»، ولأن هذا ربًا، فلم يجز، كالبيع. وإن كان ذلك في غير أموال الربا، كالثياب والحيوان.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو حامد: أحدهما: يجوز؛ لما روى «عبد الله بن عمرٍو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «أمرني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أُجهِّزَ جيشًا، فنفدت الإبل، فأمرني أن آخذ بعيرًا ببعيرين إلى أجل». وهذا استسلافٌ. والثاني: لا يجوز، وهو المذهب؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «كل قرض جرّ منفعة.. فهو حرام»، ولأن هذا زيادة لا يقابلها عوض، فلم تصح، كما لو باعه داره بمائة على أن يعطيه مائة وعشرة، ولأنه لو اشترط زيادة في الجودة.. لم يصح، فلأن لا يجوز اشتراط الزيادة في العدد أولى. وأمَّا الخبر: فهو واردٌ في السلم، بدليل: أنه قال: (كنت آخذ البعير بالبعيرين إلى أجل). والقرض لا يدخله الأجل. وإن أقرضه شيئًا بشرط أن يرد عليه دون ما أقرضه.. ففيه وجهان، حكاهما في "المهذب": أحدهما: لا يجوز؛ لأن مقتضى القرض ردُّ المثل، فإذا شرط النقصان عمّا أقرضه.. فقد شرط ما ينافي مقتضى العقد، فلم يجز، كما لو شرط الزيادة. والثاني: يجوز؛ لأن القرض جُعل رفقًا بالمستقرض، فشرط الزيادة يخرج القرض عن موضوعه، فلم يجز، وشرط النقصان لا يخرجه عن موضوعه، فجاز.
ومن أصحابنا من قال: لا يجوز ذلك في أموال الرِّبا، ويجوز في غيرها. وهذا ليس بصحيح؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اقترض نصف صاع، فرد صاعًا، واقترض صاعًا، فردَّ صاعين»، واقترض من الأعرابي بكرًا، فردَّ عليه أجود منه، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خيار الناس أحسنهم قضاء»، وقال جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «كان لي عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دين، فقضاني، وزادني»، ولأنه متطوع بالزيادة، فجاز، كما لو وصله بها. وكذلك: لو اقترض رجل شيئًا، وردَّ أنقص ممَّا أخذ، وطابت نفس المقرض بذلك.. جاز، كما لو أعطى الزيادة وطابت نفس المقترض بذلك. وإن كان الرجل معروفًا أنه إذا أُقرض.. ردّ أكثر ممَّا اقترض، أو أجود منه.. فهل يجوز إقراضه مطلقًا؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يصحُّ إقراضه إلاَّ بشرط أن يرد عليه مثل ما أخذه؛ لأن ما علم بالعرف، كالمعروف بالشرط. والثاني ـ وهو الصحيح ـ: أنه يجوز إقراضه من غير شرط؛ لأن الزيادة مندوبٌ إليها في القضاء، فلا يمنع من جواز القرض، وأمّا ما كان معروفًا من جهة العرف: فلا يمنع جواز الإقراض، ألا ترى أنه لو جرت عادة رجل أنه إذا اشترى من إنسان تمرًا أطعمه منه، أو أطعم البائع من غيره.. لم يصر ذلك بمنزلة المشروط في بطلان البيع منه. |