فصل: مسألة المرأة التي ليس لها الزوج الشابة تضع الخضاب ولبس القلادة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة



.مسألة فضل صلاة العشاء:

وسئل مالك: هل بلغك عن سعيد بن المسيب أنه كان إذا ذكر له البادية والخروج إليها قال: فأين صلاة العشاء؟ قال: نعم، قد بلغني أن سعيد بن المسيب كان إذا ذكر له البادية والخروج إليها قال: فأين صلاة العشاء.
قال محمد بن رشد: إنما كان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يقول ذلك إشفاقا على فوات الصلاة في مسجد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وخص بالذكر صلاة العشاء لما جاء من الفضل في شهودها، فقد قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بيننا وبين المنافقين شهود العشاء والصبح لا يستطيعونها» أو نحو هذا. وقال عثمان بن عفان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: من شهد العشاء في جماعة فكأنما قام نصف ليلة، ومن شهد الصبح فكأنما قام ليلة، وذلك لا يكون إلا عن توقيف، إذ لا مدخل في ذلك للقياس، ولا يقال مثله بالرأي، ولعله أراد أن أهل البادية لا يصلون العشاء والصبح في جماعة، ولا يرى لنفسه اختيارا أن يأتم بأئمتهم لجهلهم بالسنة، وبالله التوفيق.

.مسألة المراوح أيكره أن يروح بها في المساجد:

وسئل مالك عن المراوح، أيكره أن يروح بها في المساجد؟ قال: نعم، إني لأكره ذلك.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قاله؛ لأن المراوح إنما اتخذها أهل الطول للترفيه والتنعم، وليس ذلك من شأن المساجد، فالإتيان إليها بالمراوح من المكروه البين. وستأتي هذه المسألة مكررة في سماع أشهب في أول رسم منه، وبالله التوفيق.

.مسألة الرجل يقعد مع الإمام في الركعتين فينعس فلا ينتبه إلا لقيام الناس أيقوم أم يتشهد:

وسئل مالك عن الرجل يقعد مع الإمام في الركعتين، فينعس فلا ينتبه إلا لقيام الناس، أيقوم أم يتشهد؟ قال: بل يقوم، ولا يقعد للتشهد.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قاله؛ لأن التشهد قد فاته بنعاسه وذهب موضعه، ووجب عليه أن يقوم إذا قام الإمام؛ لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا» الحديث، ولا شيء عليه في التشهد؛ لأنه مما يحمله عنه الإمام، ولا ينتقض وضوؤه بهذا المقدار من النوم؛ لأنه يسير، وبالله التوفيق.

.مسألة الرجل يتشهد وهو ملتف بساجه فيشير من تحت الساج بأصبعه:

وسئل مالك عن الرجل يتشهد وهو ملتف بساجه، فيشير من تحت الساج بأصبعه، قال: لا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: أما الإشارة بالأصبع في التشهد فقد استحسنه في رسم المحرم بعد هذا، وخير فيه في رسم نذر سنة. وقوله هاهنا: لا بأس بذلك يدل على التخفيف، وأن ما سواه أحسن، فلا يعود ذلك إلا إلى الإشارة من تحت الساج، لا إلى نفس الإشارة؛ لأنها السنة من فعل الرسول عَلَيْهِ السَّلَامُ على ما في الموطأ من رواية ابن عمر. ولابن القاسم في تفسير ابن مزين: أنه كان لا يحركهما، وفي سماع أبي زيد عنه أنه قال: رأيت مالكا إذا صلى الصبح، يدعو ويحرك أصبعه التي تلي الإبهام ملحا. ووجه تحريكها استشعار كونه مقبلا على صلاته؛ لئلا يشتغل باله بما سواها. وقد قيل فيها لهذا المعنى: إنها مدية الشيطان، ومقمعة له. ووجه مدها دون تحريك أن يتأول فاعل ذلك بها أن الله وحده لا شريك له، وبالله التوفيق.

.مسألة صلاة رسول الله في منى إلى غير سترة:

قال مالك: صلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في منى إلى غير سترة، ولقد كرهت بنيان مسجد عرفة، وذلك أن الرجل يأتي يمسك بعيره وما أشبه ذلك، وليس لكل الناس من يمسك إبلهم. ولقد أدركت عرفة وما بها مسجد حتى بني بعد، فقيل له: ما اتخذ الناس من البنيان بمنى، فكره ذلك وقال: ذلك مما يضيق على الناس، ولم يعجبه البنيان بها.
قال محمد بن رشد: قوله: صلى رسول الله في منى إلى غير سترة، أي إلى غير سترة مبنية مسجد ولا غيره، لا أنه صلى إلى غير سترة أصلا، فإنه كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا صلى في الصحراء تركز له الحربة، أو توضع بين يديه العنزة، فيصلي إليها. وقد بين العلة في كراهيته للبنيان بمنى، ولبنيان مسجد عرفة، ومثل ذلك كله في الحج الأول من المدونة، وقال فيها: إنما أحدث مسجدها بعد بني هاشم بعشر سنين.

.مسألة الأقناء التي تعلق في مسجد النبي:

وسئل مالك عن الأقناء التي تعلق في مسجد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أكان ذلك من الأمر القديم؟ قال: نعم، قد كان على عهد النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ، وإنما كان لمكان من كان يأتي إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكان لموضع ضيافتهم يأكلون منه وأراه حسنا أن يعلق فيه، فقيل له:
أفترى لو عمل ذلك في مساجد الأمصار؟ فقال: أما كل بلد فيه تمر فلا أرى بذلك بأسا. قال ابن القاسم: ولم ير مالك بأسا بأكل الرطب التي تجعل في المسجد، مثل رطب ابن عمير، وقد جعل صدقة.
قال محمد بن رشد: الأقناء: العراجين من التمر، وواحدها قنو، ويجمع على أقناء وقنوان. قال الله عز وجل: {قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ} [الأنعام: 99]، وفي هذا ما يدل على أن الغرباء الذين لا يجدون مأوى يجوز لهم أن يأووا إلى المساجد، ويبيتوا فيها، ويأكلوا فيها ما أشبه التمر من الطعام الجاف كله، وقد تقدم هذا المعنى في أول الرسم الذي قبل هذا، ويأتي في غير ما موضع، وبالله التوفيق.

.مسألة المرأة التي ليس لها الزوج الشابة تضع الخضاب ولبس القلادة:

وسئل مالك عن المرأة التي ليس لها الزوج الشابة، تضع الخضاب ولبس القلادة ولبس القرطين، قال: لا بأس بذلك. فقيل لمالك: أتصلي بغير قلادة ولا قرطين، قال: نعم، لا بأس بذلك، وإنما يفتيهن بهذا العجائز.
قال محمد بن رشد: إنما وقع السؤال عن المرأة التي ليس لها الزوج الشابة، تضع الخضاب ولبس القلادة ولبس القرطين، من أجل ما روي: «أن امرأة جاءت إلى النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ تبايعه فقال لها: ما لك لا تختضبين، ألك زوج. قالت: نعم، قال: فاختضبي؛ فإن المرأة تختضب لأمرين، إن كان لها زوج فلتختضب لزوجها، وإن لم يكن لها زوج فلتختضب لخطبها، ثم قال: لعن الله المذكرات من النساء، والمؤنثين من الرجال»، فلم يكره مالك للمرأة الشابة إذا لم يكن لها زوج أن تدع الخضاب ولبس القلادة والقرطين، وقال: لا بأس بذلك، ومعناه إذا لم تفعل ذلك قصدا منها للتشبه بالرجال. وأما إن كان لها زوج فالخضاب ولبس القلادة والقرطين مما يستحب لها بدليل الحديث، فهو مستحب في حال، ومباح في حال، ومحظور في حال.
والخضاب المأمور به هو أن تخضب المرأة يديها إلى موضع السوار من ذراعيها. وروي: أن عمر بن الخطاب خطب فقال: يا معشر النساء، إذا اختضبتن فإياكن والنقش والتطريف، ولتخضب إحداكن يديها إلى هذا، وأشار إلى موضع السوار. وأما صلاتها بغير قلادة ولا قرطين، فأجاز ذلك مالك رَحِمَهُ اللَّهُ، ولم ير فيه كراهة، وقال: لا بأس بذلك، وإنما يفتيهن بذلك العجائز، وقوله بَيِّن لا إشكال فيه؛ لأن هذه الأشياء من المعاني التي أبيح للمرأة أن تتزين بها، قال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32] فليست مما يجب عليها في صلاة ولا غير صلاة، وأرى من كان أصل الفتوى بوجوب ذلك عليهن في الصلاة، تأول قول الله عز وجل: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31]، وليس ذلك بصحيح؛ لأن الآية إنما نزلت في الذين كانوا يطوفون بالبيت عراة، فلا يحتج منها على الوجوب إلا في ستر العورة خاصة، وأما حسن الهيئة في اللباس، وما كان في معناه، فإنما يستدل من الآية على استحبابه.
وإنما نزع بها مالك في كراهية الصلاة في مساجد القبائل بغير أردية، وقد كره جماعة السلف للمرأة أن تصلي بغير قلادة، روي ذلك عن ابن سيرين قال: قلت: لم؟ قال: لأنه تشبه بالرجال. وروى أن أم الفضل ابنة غيلان كتبت إلى أنس بن مالك: أتصلي المرأة وليس في عنقها قلادة؟ فكتب إليها: لا تصلي المرأة إلا وفي عنقها قلادة، وإن لم تجد إلا سيرا. ولم يكره مالك رَحِمَهُ اللَّهُ أن تصلي بغير قلادة ولا قرطين، وإن كانت القلادة والقرطان للمرأة من زينتها وحسن هيئتها، كما كره للرجل أن يصلي بغير رداء من أجل أن الرداء من زينته وحسن هيئته، والفرق بينهما عنده، والله أعلم أن القلادة والقرطين من الزينة التي أمر الله تعالى أن لا تبديها إلا لزوجها، أو لذي المحرم منها، وبالله التوفيق.

.مسألة القوم يخرجون إلى السفر فيقدمون الرجل الصالح لفضله ولحاله ويجلونه:

وحدثنا مالك، عن عبد الرحمن بن المحبر أنه كان مع سالم بن عبد الله في بعض المناهل، فأقيمت الصلاة في المسجد، قال: فقلت له: الصلاة قد أقيمت، قال: نصلي مكاننا، ولا نصلي صلاتين صلاة السفر، وصلاة الحضر.
وسئل مالك عن القوم يخرجون إلى السفر، فيشيعهم الرجل الذي له الفضل والسن، فيقدمونه لفضله ولحاله فيجلونه، فقال: أرجو أن لا يكون بذلك بأس.
قال محمد بن رشد: رأى سالم بن عبد الله أن القصر أفضل من الصلاة في الجماعة، وهو مذهب مالك؛ لأنه يرى القصر أفضل من الإتمام في جماعة، فإن أتم في جماعة لا يعيد؛ لأن معه فضل الجماعة مكان ما فاته من فضل القصر، وإن أتم وحده أعاد في الوقت ليدرك فضيلة القصر. وإن قدم المسافرون مقيما لفضله لم يكن بذلك بأس عنده. وقد تقدم هذا المعنى في رسم القبلة، وسيأتي في رسم الصلاة الثاني من سماع أشهب، وبالله التوفيق.

.مسألة الرجوع على صدور القدمين في الصلاة:

وقال مالك: ما رأيت أحدا ممن كنت أقتدي به يرجع على صدور قدميه في الصلاة.
قال محمد بن رشد: يريد بين السجدتين، وهذا كما قاله؛ لأن سنة الصلاة أن يكون جلوسه بين السجدتين كهيئة جلوسه في التشهد، وقد رأى المغيرة بن حكم عبد الله بن عمر يرجع في سجدتين في الصلاة على صدور قدميه، فلما انصرف ذكر ذلك لي، فقال: إنها ليست سنة الصلاة، وإنما أفعل ذلك من أجل أني أشتكي.
وقال في حديث آخر إنما سنة الصلاة أن تنصب رجلك اليمنى وتثني رجلك اليسرى. والسنة إذا أطلقت فهي سنة النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ حتى تضاف إلى غيره، كما قيل سنة العُمَرَيْن- والرجوع على العقبين بين السجدتين هو الإقعاء المنهي عنه عند أهل الحديث، وعند أهل اللغة جلوس الرجل على أليتيه ناصبا فخذيه مثل إقعاء الكلب والسبع، وبالله التوفيق.

.مسألة البدار بالصلاة في أول الوقت:

ولقد بلغني أن ابن عمر كان يروح بعد الزوال ثم يسير أميالا قبل أن يصلي الظهر، فقيل له: فأي ذلك أحب إليك؟ قال مالك: مثل الذي فعل ابن عمر يؤخر ذلك، فقيل له: فالجمع بين الصلاتين في السفر؟ قال: إني لأكره ذلك. قيل له: فالنساء؟ قال: ذلك أخف عندي؛ لأن المرأة تستر وخففه فيها.
وقال ما مالك: «بلغني أن عبد الله بن رواحة أقبل إلى المسجد يوم الجمعة فسمع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول وهو على المنبر للناس اجلسوا قال: فسمعه عبد الله بن رواحة وهو في الطريق فجلس مكانه في الطريق لموضع ما قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ». فقيل له: فأحب إليك إذا جمع في أي وقت؟ قال: في وسط ذلك بين الصلاتين.
قال محمد بن رشد: رواح عبد الله بن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بعد الزوال قبل أن يصلي الظهر يدل على أنه كان يتحرى أن لا يصلي في أول الوقت حتى يتمكن ويمضي منه بعضه، وهو الذي استحب مالك هنا وفي صدر هذا الرسم؛ لأن البدار بالصلاة في أول الوقت من فعل الخوارج، وأن الذي يتحرى أول الوقت لا يأمن أن يخطئ في تحريه فيصلي قبل أول الوقت.
وكراهية مالك جمع الصلاتين في السفر معناه إذا لم يجد في السير، وهو مثل قوله في المدونة، وخففه في المرأة لمشقة النزول عليها لكل صلاة مع حاجتها إلى الاستتار، مع أنه قد أجيز للرجل أيضا وإن لم يَجِدَّ به السير، وإليه ذهب ابن حبيب، وقد روي ذلك عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو الذي يدل عليه حديث معاذ بن جبل في الموطأ قوله فيه: «فأخر الصلاة يوما ثم خرج فصلى الظهر والعصر جميعا ثم دخل ثم خرج فصلى المغرب والعشاء جميعا»؛ لأن قوله ثم خرج ثم دخل يدل على أنه كان نازلا غير ماش في سفره.
وقول مالك: إنه يجمع في وسط ذلك بين الصلاتين يريد في آخر وقت الأولى وأول وقت الثانية، وهو مثل قوله في المدونة، وحديث عبد الله بن رواحة وقع في أثناء المسألة، ولا تعلق له بشيء منها، وفيه دليل على أنه يستحب لمن أتى الجمعة أن يترك الكلام في طريقه إذا علم أن الإمام في الخطبة وكان بموضع يمكن عنه أن يسمع كلام الإمام.
وقد قيل: إن الإنصات لا يجب عليه حتى يدخل المسجد، وهو قول ابن الماجشون ومطرف، وقيل إنه يجب عليه منذ يدخل رحاب المسجد التي تصلى فيه الجمعة من ضيق المسجد، وبالله التوفيق.

.مسألة الجمع بين المغرب والعشاء إذا جمعتا في المطر:

وسئل مالك عن الجمع بين المغرب والعشاء إذا جمعتا في المطر أية ساعة يجمعان؟ قال: يؤخر المغرب قليلا. فقيل: أيوتر من جمع قبل أن يغيب الشفق؟ قال: لا، أفلا يستطيع أن يوتر في بيته؟
قال محمد بن رشد: قوله: إن المغرب تؤخر قليلا في الجمع بينهما هو معنى ما في المدونة، وفي رسم أخذ يشرب خمرا بعد هذا، وهو المشهور في المذهب المعلوم من قول مالك أن ينصرف الناس وعليهم إسفار قبل مغيب الشفق وإظلام الوقت.
وقد روي عن مالك أنه يجمع بينهما عند الغروب، وهو قول محمد بن عبد الحكم، وروي ذلك عن ابن وهب وأشهب.
وهذا القول يأتي على قياس القول بأن المغرب ليس لها في الاختيار إلا وقت واحد، فلما لم يجز على هذا القول تأخير المغرب بعد الغروب إلا لعذر ولا تعجيل العشاء قبل الشفق إلا لعذر أيضا، واستوى الطرفان، رأى التعجيل أولى لما للناس من الرفق في الانصراف والضوء متمكن بعد.
وأما القول الأول فإنه يأتي على مراعاة قول من يرى أن المغرب وقتها في الاختيار إلى مغيب الشفق، وهو ظاهر قول مالك في موطئه، فرأى أن يكون الجمع في وسط وقت المغرب المختار ليدرك من فضيلة وقت المغرب بعضها وتكون العشاء قد عجلت عن وقتها المختار للرفق بالناس كي ينصرفوا وعليهم إسفار قبل تمكن الظلام. وقوله: إنه لا يوتر قبل أن يغيب الشفق صحيح؛ لأن الوتر من صلاة الليل، ولا ضرورة تدعو إلى تعجيله قبل مغيب الشفق، وبالله التوفيق.

.مسألة ينصرف من منى إلى مكة وهو من أهلها فتدركه الصلاة قبل وصوله مكة:

وسئل مالك عن الرجل ينصرف من منى إلى مكة وهو من أهل مكة، فتدركه الصلاة من قبل أن يصل إلى مكة، أترى يتم الصلاة؟ قال: نعم. وأهل المحصب يتمون وراءهم مثلهم، وأرى أن يحصب الناس بالمحصب حتى يصلوا العشاء.
وقد حصب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال لي بعد ذلك أرى أن يصلوا ركعتين حين ينزلون بالمحصب إذا أدركهم الوقت فيما بين منى ومكة، وإن تأخروا بمنى صلوا ركعتين. قال ابن القاسم: وقوله الأول أعجب إلي أن يتموا قبل أن يأتوا المحصب.
قال مالك: «حج معاوية بن أبي سفيان فصلى بمنى ركعتين، فكلمه مروان في ذلك وقال: أنت القائم بأمر عثمان، تصلي ركعتين وقد صلى عثمان أربعا، فقال: ويلك أنا صليتهما هاهنا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ركعتين، قال: فلم يزل به مروان حتى صلى أربعا».
قال محمد بن رشد: أما من قدم مكة ولم ينو المقام بها أربعا حتى خرج إلى الحج فلا اختلاف في أنه يقصر بمنى وفي جميع مواطن الحج لأنه مسافر بعدُ على حاله، وإنما اختلف أهل العلم فيمن نوى الإقامة بمكة أو كان من أهلها وخرج إلى الحج، فقيل: إنه يتم لأنه ليس في سفر يقصر في مثله الصلاة، وهو مذهب أهل العراق، وقيل إنه يقصر لأنها منازل سفر وإن لم يكن سفرا يقصر في مثله الصلاة.
وإلى هذا ذهب مالك، ودليله «أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قدم مكة صبيحة رابعة من ذي الحجة، فأقام بمكة إلى يوم التروية، وذلك أربع ليال»، ثم خرج فقصر بمنى، فلم يختلف قول مالك: إنه يقصر بمنى وعرفة، وفي جميع مواطن الحج إلا في رجوعه من منى إلى مكة بعد انقضاء حجه إذا نوى الإقامة بمكة أو كان من أهلها على ما تقدم، فكان أولا يقول: إنه يُتم؛ مراعاة لمن يرى أنه يتم؛ إذ ليس في سفر تقصر في مثله الصلاة، ثم رجع فقال: إنه يقصر حتى يأتي مكة بناء على أصله في أنه من أهل القصر دون مراعاة منه لقول غيره. وكذلك اختلف في ذلك اختيار ابن القاسم، وستأتي هذه المسألة متكررة في رسم الشريكين وفي رسم المحرم وفي بعض الروايات.
وأما إتمام عثمان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بمنى فقد روي أن الناس لما أنكروا عليه الإتمام قال لهم: إني تأهلت بمكة، وقد سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «من تأهل في بلدة فهو من أهلها»، ولعله تأول أن رسول الله عَلَيْهِ السَّلَامُ لم يقصر بمنى إلا من أجل أن إقامته بمكة لم تكن إقامة تخرجه عن سفره، ولذلك قصر بمنى. وأما معاوية بن أبي سفيان فالوجه فيما ذكر عنه في هذه الرواية والله أعلم أنه كان مقيما بمكة فقصر بمنى؛ لأنه تأول أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قصر بها، وقد كان مقيما بمكة، فلم يزل به مروان حتى صرفه عن تأويله على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان مقيما بمكة إلى أنه إنما قصر، عَلَيْهِ السَّلَامُ؛ لأنه لم يكن مقيما بمكة إقامة تخرجه عن سفره.
فالاختلاف هل كان عَلَيْهِ السَّلَامُ مقيما بمكة قبل خروجه إلى منى أو غير مقيم هو أصل الاختلاف في هذه المسألة، فذهب مالك إلى أنه قصر بمنى وقد كان مقيما، وذهب أهل العراق إلى أنه إنما قصر بمنى من أجل أنه لم يكن مقيما بمكة، وبالله التوفيق.

.مسألة صلاة النوافل في البيوت:

وسئل عن الصلاة في النوافل في البيوت أحب إليك أم في المسجد؟ قال: أما في النهار فلم يزل من عمل الناس الصلاة في المسجد يجرون ويصلون، وأما الليل ففي البيوت. وقد كان الرسول عَلَيْهِ السَّلَامُ يصلي الليل في بيته. وقال مالك: يستحب للذي يصلي بالليل في منزله أن يرفع صوته بالقرآن. وكان الناس إذا أرادوا سفرا تواعدوا لقيام القرآن وبيوتهم شتى، وكانت أصواتهم تسمع بالقرآن، فأنا أستحب ذلك.
قال محمد بن رشد: استحب مالك صلاة النافلة بالنهار في المسجد على صلاتها في البيت؛ لأن صلاة الرجل في بيته وبين أهله وولده وهم يتصرفون ويتحدثون ذريعة إلى اشتغال باله بأمرهم في صلاته، ولهذه العلة كان السلف يهجرون ويصلون في المسجد، فإذا أمن الرجل من هذه العلة فصلاته في بيته أفضل؛ لقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أفضل الصلاة صلاتكم في بيوتكم إلا الصلاة المكتوبة»؛ لأنه حديث صحيح محمول على عمومه في الليل والنهار مع استواء الصلاة في الإقبال عليها وترك اشتغال البال فيها؛ وقد سئل مالك في أول الرسم بعد هذا عن الصلاة في مسجد النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ في النوافل، أفيه أحب إليك أم في البيوت؟ قال: أما الغرباء فإن فيه أحب إلي، يعني بذلك الذين لا يريدون إقامة، فدل هذا من قوله أن الصلاة بالنهار في البيوت لغير الغرباء أحب إليه من الصلاة في المسجد.
ومعنى ذلك إذا أمنوا من اشتغال بالهم في بيوتهم بغير صلاتهم، وأما إذا لم يأمنوا ذلك فالصلاة في المسجد أفضل لهم، فقد قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من ركع ركعتين لا يحدث نفسه فيهما بشيء غفر له ما تقدم من ذنبه». وإنما كانت صلاة النافلة للغرباء في مسجد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أفضل منها لهم في بيوتهم بخلاف المقيمين؛ لأن الصلاة إنما كانت أفضل في البيوت منها في مسجد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفي جميع المساجد من أجل فضل عمل السر على عمل العلانية، قال الله عز وجل: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 271]. قال النبي، عَلَيْهِ السَّلَامُ: «سبعة يظلهم الله في ظله يوم القيامة يوم لا ظل إلا ظله»، فذكر فيهم: «من ذكر الله خاليا ففاضت عيناه، ومن تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه». والغرباء لا يعرفون في البلد ولا يذكرون بصلاتهم في المسجد، فلما لم تكن لصلاتهم في بيوتهم مزية من ناحية السر وجب أن تكون صلاتهم في مسجد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أفضل لما جاء من: «أن الصلاة فيه خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام». فعلى هذا تتفق الروايات ولا يكون بينها تعارض ولا اختلاف. ووجه استحباب مالك للذي يصلي الليل في بيته أن يرفع صوته بالقرآن ليشيع الأمر ويعلو ويكثر فيرتفع عنه الرياء، ويحصل بفعله الاقتداء، فيحصل له أجر من اقتدى به، وذلك من الفعل الحسن لمن صحت نيته في ذلك، وبالله التوفيق.

.مسألة البيتوتة في المسجد:

وسئل عن البيتوتة في المسجد، فقال: أما من كان له منزل؛ فإني أكره له ذلك، وأما من ليس له منزل والضيفان فلا أرى بذلك بأسا.
قال محمد بن رشد: قد مضى هذا المعنى في هذا الرسم وفي أول الرسم الذي قبله فلا معنى لإعادة القول فيه.

.مسألة المرأة إذا كان عليها الخضاب وهي طاهرة أتصلي به:

وسئل عن المرأة إذا كان عليها الخضاب وهي طاهرة أتصلي به؟ قال: غيره أحسن منه. قال ابن القاسم: وقد قال لي قبل ذلك لا بأس به وأنا لا أرى به بأسا إذا كانت على وضوء.
قال محمد بن رشد: لم يبين في هذه الرواية إن كان الخضاب على يديها أو على رجليها وقد ربطت عليه بالخرق، فلذلك لم ير به بأسا، ثم رأى غيره أحسن منه، واختيار ابن القاسم أنه لا بأس به إذا كانت على وضوء، يريد أنها لو لم تكن على وضوء لم يجز لها أن تمسح على خضابها وتصلي.
واختلف إذا لبست على خضابها خفين؛ وهي غير طاهرة لتقيه بذلك، فروى مطرف عن مالك أنه لا يجوز لها أن تمسح عليهما، وقد قيل: إنه يجوز المسح، وإلى هذا ذهب أبو إسحاق التونسي. وقال مالك في المدونة: لا يعجبني، فهي ثلاثة أقوال: المنع والإباحة والكراهة.
وأما إذا كان الخضاب على يديها وقد ربطت عليه فلا ينبغي لها أن تصلي به حتى تنزعه قولا واحدا، يبين هذا ما يأتي في رسم البز أن الرجل إذا حضرته الصلاة وعليه الأصابع والمضرية؛ وهو يرمي أنه ينتعهما، وكذلك يصلي إلا أن يكون في حرب ويخاف أن يطول ذلك به لأن اليدين يسجدان كما يسجد الوجه، وبالله التوفيق.

.مسألة صلاة أهل مكة ووقوفهم في السقائف للظل لموضع الحر:

وسئل مالك عن صلاة أهل مكة ووقوفهم في السقائف للظل لموضع الحر، قال: أرجو أن يكون خفيفا. فقيل له: فأهل المدينة ووقوفهم في الشق الأيمن من مسجدهم وتنقطع صفوفهم في الشق الأيسر، قال أرجو أن يكون واسعا لموضع الشمس. ثم قال: كان رجل يحمل بطحاء ليسجد عليها، فقيل له: أفتكره ذلك؟ قال: نعم. ويسجد على ثوبه أحب إلي من أن يحمل بطحاء يضعها يسجد عليها.
قال محمد بن رشد: خفف انقطاع الصفوف لضرورة الشمس؛ لأن التراص في صفوف الصلاة مستحب. وهذا نحو قوله في المدونة: إنه لا بأس بالصفوف بين الأساطين إذا ضاق المسجد، وهو بين أن قوله فيها لا بأس أن تقف طائفة عن يسار الإمام في الصف ولا تلصق بالطائفة التي عن يمين الإمام، معناه لا بأس بالفعل إذا وقع لا أن ذلك يجوز ابتداء من غير كراهة، والله أعلم.
والبطحاء التراب، فكره وضعها في المسجد وحملها من موضع منه إلى غيره لما في ذلك من حفر المساجد وتغيير سطوحها، ورأى السجود على ثوبه أخف من ذلك، وهو كما قاله: وسيأتي في رسم المحرم التكلم على المصلي وحده في السقائف أو مع غيره إن شاء الله تعالى، وبه التوفيق.

.مسألة حكم أبوال الأنعام:

وسئل مالك عن أبوال الأنعام، قال: أبوالها خفيف قيل له: فالظبي من الأنعام؟ قال: لا، إنما الأنعام الإبل والبقر والغنم. قال الله تبارك وتعالى: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [الأنعام: 143]، قال الظبي ليس من الأنعام ولا أرى أن يتقرب إلى الله عز وجل بشيء منها، يريد في الضحايا والعقائق وما أشبه ذلك من سنن الإسلام.
قال محمد بن رشد: أما أبوال الأنعام فلم يختلف قول مالك أنها طاهرة، ووقع في سماع أشهب من كتاب الجامع أنه فرق بين أبوال الأنعام وبين أبوال ما يؤكل لحمه من غيرها. وتأول ابن لبابة أنه إنما فرق بين ذلك في إجازة التداوي بشربها لا في نجاستها، للحديث الذي جاء في إجازة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشرب أبوال الإبل للرهط الغربيين الذين قدموا على النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ فاستوخموا المدينة.
والمشهور من قول مالك في المدونة وغيرها المساواة بين أبوال الأنعام وبين أبوال ما يؤكل لحمه من غيرها، والذي في هذه الرواية محتمل، ودليلها إجازة الضحايا والعقائق بجميع الأنعام، وهو ظاهر ما في سماع أشهب من كتاب الضحايا خلاف ما في سماع يحيى من كتاب العقيقة لمالك أن العقيقة لا يجزئ فيها إلا الغنم.