|
الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
التفسير الخامس: من أله في الشيء إذا تحير فيه ولم يهتد إليه، فالعبد إذا تفكر فيه تحير؛ لأن كل ما يتخيله الإنسان ويتصوره فهو بخلافه، فإن أنكر العقل وجوده كذبته نفسه؛ لأن كل ما سواه فهو محتاج، وحصول المحتاج بدون المحتاج إليه محال، وإن أشار إلى شيء يضبطه الحس والخيال وقال إنه هو كذبته نفسه أيضًا؛ لأن كل ما يضبطه الحس والخيال فأمارات الحدوث ظاهرة فيه، فلم يبق في يد العقل إلا أن يقر بالوجود والكمال مع الاعتراف بالعجز عن الإدراك، فهاهنا العجز عن درك الإدراك إدراك، ولا شك أن هذا موقف عجيب تتحير العقول فيه وتضطرب الألباب في حواشيه.التفسير السادس: من لاه يلوه إذا احتجب، ومعنى كونه محتجبًا من وجوه: الأول: أنه بكنه صمديته محتجب عن العقول.الثاني: أن لو قدرنا أن الشمس كانت واقفة في وسط الفلك غير متحركة كانت الأنوار باقية على الجدران غير زائلة عنها، فحينئذٍ كان يخطر بالبال أن هذه الأنوار الواقعة على هذه الجدران ذاتية لها، إلا لما شاهدنا أن الشمس تغيب وعند غيبتها تزول هذه الأنوار عن هذه الجدران فبهذا الطريق علمنا أن هذه الأنوار فائضة عن قرص الشمس، فكذا هاهنا الوجود الواصل إلى جميع عالم المخلوقات من جناب قدرة الله تعالى كالنور الواصل من قرص الشمس، فلو قدرنا أنه كان يصح على الله تعالى الطلوع والغروب والغيبة والحضور لكان عند غروبه يزول ضوء الوجود عن الممكنات، فحينئذٍ كان يظهر أن نور الوجود منه، لكنه لما كان الغروب والطلوع عليه محالًا لا جرم خطر ببال بعض الناقصين أن هذه الأشياء موجودة بذواتها ولذواتها، فثبت أنه لا سبب لاحتجاب نوره إلا كمال نوره، فلهذا قال بعض المحققين: سبحان من احتجب عن العقول بشدة ظهوره، واختفى عنها بكمال نوره وإذا كان كذلك ظهر أن حقيقة الصمدية محتجبة عن العقول، ولا يجوز أن يقال: محجوبة لأن المحجوب مقهور، والمقهور يليق بالعبد، أما الحق فقاهر، وصفة الاحتجاب صفة القهر فالحق محتجب، والخلق محجوبون.التفسير السابع: اشتقاقه من أله الفصيل إذا ولع بأمه، والمعنى أن العباد مولهون مولعون بالتضع إليه في كل الأحوال، ويدل عليه أمور: الأول: أن الإنسان إذا وقع في بلاء عظيم وآفة قوية فهنالك ينسى كل شيء إلا الله تعالى، فيقول بقلبه ولسانه: يا رب، يا رب، فإذا تخلص عن ذلك البلاء وعاد إلى منازل الآلاء والنعماء أخذ يضيف ذلك الخلاص إلى الأسباب الضعيفة والأحوال الخسيسة، وهذا فعل متناقض، لأنه إن كان المخلص عن الآفات والموصل إلى الخيرات غير الله وجب الرجوع في وقت نزول البلاء إلى غير الله، وإن كان مصلح المهمات هو الله تعالى في وقت البلاء وجب أن يكون الحال كذلك في سائر الأوقات، وأما الفزع إليه عند الضرورات والإعراض عنه عند الراحات فلا يليق بأرباب الهدايات، والثاني: أن الخير والراحة مطلوب من الله، والثالث: أن المحسن في الظاهر إما الله أو غيره، فإن كان غيره فذلك الغير لا يحسن إلا إذا خلق الله في قلبه داعية الإحسان، فالحق سبحانه وتعالى هو المحسن في الحقيقة، والمحسن مرجوع إليه في كل الأوقات، والخلق مشغوفون بالرجوع إليه.شكا بعض المريدين من كثرة الوسواس، فقال الأستاذ: كنت حدادًا عشر سنين، وقصارًا عشرة أخرى، وبوابًا عشرة ثالثة، فقالوا: ما رأيناك فعلت ذلك، قال: فعلت ولكنكم ما رأيتم، أما عرفتم أن القلب كالحديد؟ فكنت كالحداد ألينه بنار الخوف عشر سنين، ثم بعد ذلك شرعت في غسله عن الأوضار والأقذار عشر سنين، ثم بعد هذه الأحوال جلست على باب حجرة القلب عشرة أخرى سالا سيف لا إله إلا الله فلم أزل حتى يخرج منه حب غير الله، ولم أزل حتى يدخل فيه حب الله تعالى، فلما خلت عرصة القلب عن غير الله تعالى وقويت فيه محبة الله سقطت من بحار عالم الجلال قطرة من النور فغرق القلب في تلك القطرة، وفني عن الكل، ولم يبق فيه إلا محض سر لا إله إلا الله.التفسير الثامن: أن اشتقاق لفظ الإله من أله الرجل يأله إذا فزع من أمر نزل به فألهه أي أجاره، والمجير لكل الخلائق من كل المضار هو الله سبحانه وتعالى، لقوله تعالى: {وَهُوَ يُجْيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ} [المؤمنون: 88] ولأنه هو المنعم لقوله تعالى: {وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ فَمِنَ الله} [النحل: 53] ولأنه هو المطعم لقوله تعالى: {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ} [الأنعام: 14] ولأنه هو الموجد لقوله تعالى: {قُلْ كُلّ مّنْ عِندِ الله} [النحل: 53] فهو سبحانه وتعالى قهار للعدم بالوجود والتحصيل، جبار لها بالقوة والفعل والتكميل، فكان في الحقيقة هو الله ولا شيء سواه.وهاهنا لطائف وفوائد:الفائدة الأولى: عادة المديون أنه إذا رأى صاحب الدين من البعد فإنه يفر منه، والله الكريم يقول: عبادي: أنتم غرمائي بكثرة ذنوبكم، ولكن لا تفروا مني، بل أقول: {فَفِرُّواْ إِلَى الله} [الذاريات: 50] فإني أنا الذي أقضي ديونكم وأغفر ذنوبكم، وأيضًا الملوك يغلقون أبوابهم عن الفقراء دون الأغنياء، وأنا أفعل ضد ذلك.الفائدة الثانية: قال صلى الله عليه وسلم: «إن للّه تعالى مائة رحمة أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والطير والبهائم والهوام فبها يتعاطفون ويتراحمون، وأخر تسعة وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة»، وأقول: إنه صلى الله عليه وسلم إنما ذكر هذا الكلام على سبيل التفهيم، وإلا فبحار الرحمة غير متناهية فكيف يعقل تحديدها بحد معين.الفائدة الثالثة: قال صلى الله عليه وسلم: «إن اللّه عزّ وجلّ يقول يوم القيامة للمذنبين: هل أحببتم لقائي؟ فيقولون: نعم يا رب، فيقول اللّه تعالى: ولم؟ فيقولون: رجونا عفوك وفضلك، فيقول اللّه تعالى: إني قد أوجبت لكم مغفرتي».الفائدة الرابعة: قال عبد الله بن عمر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله عزّ وجلّ ينشر على بعض عباده يوم القيامة تسعة وتسعين سجلًا كل واحد منها مثل مد البصر فيقول له: هل تنكر من هذا شيئًا؟ هل ظلمك الكرام الكاتبون؟ فيقول: لا يا رب، فيقول الله تعالى: فهل كان لك عذر في عمل هذه الذنوب؟ فيقول: لا يا رب، فيضع ذلك العبد قلبه على النار فيقول الله تعالى: إن لك عندي حسنة وإنه لا ظلم اليوم، ثم يخرج بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله فيقول العبد: يا رب، كيف تقع هذه البطاقة في مقابلة هذه السجلات؟ فتوضع البطاقة في كفة والسجلات في كفة أخرى، فطاشت السجلات وثقلت البطاقة ولا يثقل مع ذكر الله شيء».الفائدة الخامسة: وقف صبي في بعض الغزوات ينادي عليه في من يزيد في يوم صائف شديد الحر، فبصرت به امرأة فعدت إلى الصبي وأخذته وألصقته إلى بطنها، ثم ألقت ظهرها على البطحاء وأجلسته على بطنها تقيه الحر، وقالت: ابني، ابني، فبكى الناس وتركوا ما هم فيه فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى وقف عليهم فأخبروه الخبر، فقال: «أعجبتم من رحمة هذه بابنها فإن الله تعالى أرحم بكم جميعًا من هذه المرأة بابنها» فتفرق المسلمون على أعظم أنواع الفرح والبشارة.
فأخرجه على الأصل.
|