فصل: تفسير الآيات (158- 170):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآيات (158- 170):

قوله تعالى: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160) فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (163) وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166) وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما تم إظهار ضلالهم، بكتهم في أسلوب آخر معرضًا عن خطابهم تخويفًا من إحلال عذابهم فقال: {وجعلوا} أي بعض العرب منابذين لما مضى بيانه من الأدلة {بينه وبين الجنة} أي الجن الذين هم شر الطوائف، وأنثهم إشارة إلى تحقيرهم عن هذا الأمر الذي أهلوهم له {نسبًا} بأن قالوا: إنه- جلت سبحات وجهه وعظم تعالى جده- تزوج بنات سروات الجن، فأولد منهم الملائكة، ومن المعلوم أن أحدًا لا يتزوج إلا من يجانسه، فأبعدوا غاية البعد لأنه لا مجانس له.
ولما كان النسيب يكرم ولا يهان قال مؤنثًا لضميرهم زيادة في تحقيرهم: {ولقد علمت الجنة} أي مطلقًا السروات منهم والأسافل {إنهم} أي الجن كلهم {لمحضرون} أي إليه بالبعث كرهًا ليعاملوا بالعدل مع بقية الخلائق يوم فصل القضاء، والتجلي في مظاهر العز والعظمة والكبرياء، فهم أقل من أن يدعى لهم ذلك.
ولما ذكر اليوم الأعظم الذي يظهر فيه لكل أحد معاقد الصفات، وتتلاشى عند تلك المظاهر أعيان الكائنات، وتنمحي لدى تلك النعوت آثار الفانيات، وكان ذكره على وجه مبين بُعد الجن عن المناسبة، كان مجزأ للتنزيه وموضعًا بعد تلك الضلالات للتقديس نتيجة لذلك فقال مصرحًا باسم التسبيح الجامع لجميع أنواعه، والجلالة إشارة إلى عظم المقام: {سبحان الله} أي تنزه الذي له جميع العظمة تنزهًا يفوت الحصر {عما يصفون} أي عما يصفه به جميع الخلائق الذين يجمعهم الإحضار ذلك اليوم، أو الكفار الذين ادعوا له الولد وجعلوا الملائكة من الولد {إلا عباد الله} أي الذين يصلحون للإضافة إلى الاسم الأعظم من حيث إطلاقه على الذات الأعظم ولذلك أظهر ولم يضمر، لأن الضمير يعود على عين الماضي، فربما أوهم تقييده بما ذكر في الأول فيفهم تقييد تشريفهم بالتسبيح، {المخلصين} من جميع الخلائق أو من العرب وهم من أسلم منهم بعد نزول هذه السورة فإنهم لا يصفونه إلا بما أذن لهم فيه ولأجل أن هذه السورة سورة المتجردين عن علائق العوائق عن السير إليه، كرر وصف الإخلاص فيها كثيرًا.
ولما نزه نفسه المقدس سبحانه عن كل نقص، دل على ذلك بأنهم وجميع ما يعبدونه من دونه لا يقدرون على شيء لم يقدره، فقال مسببًا عن التنزيه مؤكدًا تكذيبًا لمن يظن أن غير الله يملك شيئًا مواجهًا لهم بالخطاب لأنه أنكى وأجدر بالإغضاب: {فإنكم وما تعبدون} أي من الأصنام وغيرها من كل من زعمتموه إلهًا.
وابتدأ الخبر عن {أن} فصدره بالنافي فقال: {ما} وغلب المخاطبين المعبر عنهم بكاف الخطاب على من عطف عليهم وهم معبوادتهم تنبيهًا على أنهم عدم كما حقرهم بالتعبير عنهم بما دون {من} فقال مخاطبًا: {أنتم عليه} أي على الله خاصة {بفاتنين} أي بمغيرين أحدًا من الناس بالإضلال {إلا من هو} أي في حكمه وتقديره {صال الجحيم} أي معذب بعذابه لحكمه عليه بالشقاوة فعلم أنكم لا تقدرون أن تغيروا عليه إلا من غيره هو فبحكمه ضل لا بكم، نعوذ بك منك، لا مهرب منك إلا إليك، والمراد بتقديم الجار أن غيره قد يقدر على أن يفسد عليه من لا يريد فساده ويعجز عن رد المفسد، فالتعبير بأداة الاستعلاء تهكم بهم بمعنى أنه ليس في أيديكم من الإضلال إلا هذا الذي جعله لكم من التسبب، فإن كان عندكم غلبة فسموه بها، وتوحيد الضمير على لفظ {من} في الموضعين للإشارة إلى أن الميت على الشرك بعد بعث النبي صلى الله عليه وسلم من العرب قليل، وقرئ شاذًا {صالوا} دفعًا لظن أنه واحد.
ولما كان من المعلوم أن هذا الاستفتاء من النبي صلى الله عليه وسلم وقع امتثالًا للأمر المصدر به، وبطل بهذه الجملة قدرتهم وقدرة معبوداتهم التي يدعون لها بعض القدرة، قال مؤكدًا لذلك ومبطلًا لقدرة المخلصين أيضًا عطفًا على {فإنكم وما تعبدون} {وما منا} أي نحن وأنتم ومعبوادتكم وغير ذلك، أحد {إلا له مقام معلوم} قد قدره الله تعالى في الأزل، ثم أعلم الملائكة بما أراد منه فلا يقدر أحد من الخلق على أن يتجاوز ما أقامه فيه سبحانه نوع مجاوزة، فلكل من الملائكة مقام معروف لا يتعداه، والأولياء لهم مقام مستور بينهم وبين الله لا يطلع عليه أحد، والأنبياء عليهم الصلاة والسلام لهم مقام مشهور مؤيد بالمعجزات الظاهرة، لأنهم للخلق قدوة، فأمرهم على الشهرة، وأمر الأولياء على السترة- قاله القشيري، وغير المذكورين من أهل السعادة لهم مقام في الشقاوة معلوم عند الله تعالى وعند من أطلعه عليه من عباده.
ولما سلب عن الكل كل شيء من القدرة إلا ما وهبهم، وكان الكفار يدعون أنهم يعبدون الله تعالى وينزهونه وأن الإشراك لا يقدح في ذلك، بين أن المخلصين خصوًا دونهم بمواقف الصفاء، ومقامات الصدق والوفاء، لأن طاعتهم أبطلها إشراكهم، فقال مؤكدًا ومخصصًا: {وإنا} أي يا معشر المخلصين {لنحن} أي دونكم {الصافون} أي أنفسنا في الصلاة والجهاد وأجنحتنا في الهواء فيما أرسلنا به وغير ذلك لاجتماع قلوبنا على الطاعة {وإنا لنحن المسبحون} أي المنزهون له سبحانه عن كل نقص مما ادعيتموه من البنات وبجوز أن يكون المعنى: لنا هذا الفعل، وهو الصف والتسبيح، ولا ينوي له مفعول البتة.
ولما بين ضلالهم وهداه صلى الله عليه وسلم وهدى من اتبعه- بما أشار إليه بصفة الربوبية التي أضافها إليه في قوله: {ألربك} أعلم بأنهم زادوا على عيب الضلال في نفسه عيب الإخلاف للوعد والنقض لما أكدوه من العهد، فقال مؤكدًا إشارة إلى أنه لا يكاد يصدق أن عاقلًا يؤكد على نفسه في أمر ثم يخلفه جوابًا لمن يقول: هل نزهوه كما نزهه المخلصون: {وإن} أي فعلوا ذلك من الضلال بالشبه التي افتضحت بما كشفناه من ستورها ولم ينزهوا كما نزه المخلصون والحال أنهم {كانوا} قبل هذا {ليقولون} أي قولًا لا يزالون يجددونه مع ما فيه من التأكيد {لو أن عندنا ذكرًا} أي على أيّ حال كان من أحواله من كتاب أو غيره {من الأولين} أي من الرسل الماضين {لكنا عباد الله} أي بحيث أنا نصير أهلًا للإضافة إلى المحيط بصفات الكمال {المخلصين} أي في العبادة له بلا شائبة من شرك أصلًا.
ولما كان هذا الذكر- الذي أتاهم مع كونه أعظم ذكر أتى مصدقًا لكتب الأولين وكان الرسول الآتي به أعظم الرسل، فكان لذلك هو عين ما عقدوا عليه مع زيادة الشرف- سببًا لكفرهم قال: {فكفروا به} أي فتسبب عما عاهدوا عليه أنهم كفروا بذلك الذكر مع زيادته في الشرف على ما طلبوا بالإعجاز وغيره فتسبب عن ذلك تهديدهم ممن أخلفوا وعده، ونقضوا مع التأكيد عهده، فقال: {فسوف يعلمون} أي بوعيد ليس هو من جنس كلامهم، بل هو مما لا خلف فيه بوجه. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

ثم قال تعالى: {وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجنة نَسَبًا}.
واختلفوا في المراد بالجنة على وجوه الأول: قال مقاتل: أثبتوا نسبًا بين الله تعالى وبين الملائكة حين زعموا أنهم بنات الله، وعلى هذا القول فالجنة هم الملائكة سموا جنًا لاجتنانهم عن الأبصار أو لأنهم خزّان الجنة، وأقول هذا القول عندي مشكل، لأنه تعالى أبطل قولهم الملائكة بنات الله، ثم عطف عليه قوله: {وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجنة نَسَبًا} والعطف يقتضي كون المعطوف مغايرًا للمعطوف عليه، فوجب أن يكون المراد من هذه الآية غير ما تقدم الثاني: قال: مجاهد قالت كفار قريش الملائكة بنات الله، فقال لهم أبو بكرالصديق: فمن أمهاتهم؟ قالوا: سروات الجن، وهذا أيضًا عندي بعيد لأن المصاهرة لا تسمى نسبًا والثالث: روينا في تفسير قوله تعالى: {وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَاء الجن} [الأنعام: 100] أن قومًا من الزنادقة يقولون: الله وإبليس أخوان فالله الخير الكريم وإبليس هو الأخ الشرير الخسيس، فقوله تعالى: {وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجنة نَسَبًا} المراد منه هذا المذهب، وعندي أن هذا القول أقرب الأقاويل.
وهو مذهب المجوس القائلين بيزدان واهرمن.
ثم قال تعالى: {وَقَدْ عَلِمَتِ الجنة إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} أي قد علمت الجنة أن الذين قالوا: هذا القول محضرون النار ويعذبون وقيل المراد ولقد علمت الجنة أنهم سيحضرون في العذاب، فعلى القول الأول: الضمير عائد إلى قائل هذا القول، وعلى القول الثاني عائد إلى الجنة أنفسهم، ثم إنه تعالى نزه نفسه عما قالوا من الكذب فقال: {سبحان الله عَمَّا يَصِفُونَ إِلاَّ عِبَادَ الله المخلصين} وفي هذا الاستثناء وجوه، قيل: استثناء من المحضرين، يعني: أنهم ناجون، وقيل هو استثناء من قوله تعالى: {وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجنة نَسَبًا} وقيل: هو استثناء منقطع من المحضرين، ومعناه ولكن المخلصين براء من أن يصفوه بذلك، والمخلص بكسر اللام من أخلص العبادة والاعتقاد لله وبفتحها من أخلصه الله بلطفه، والله أعلم.
{فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161)}.
فيه مسائل:
المسألة الأولى:
اعلم أنه تعالى لما ذكر الدلائل على فساد مذهب الكفار أتبعه بما نبه به على أن هؤلاء الكفار لا يقدرون على حمل أحد على الضلال إلا إذا كان قد سبق حكم الله في حقه بالعذاب والوقوع في النار، وذكر صاحب الكشاف في قوله: {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مَا أَنتم عَلَيْهِ بفاتنين} قولين الأول: الضمير في {عَلَيْهِ} لله عز وجل معناه فإنكم ومعبوديكم ما أنتم وهم جميعًا بفاتنين على الله إلا أصحاب النار الذين سبق في علم الله كونهم من أهل النار، فإن قبل كيف يفتنونهم على الله؟ قلنا يفتنونهم عليه بإغوائهم من قولك فتن فلان على فلان امرأته كما تقول أفسدها عليه والوجه الثاني: أن تكون الواو في قوله: {وَمَا تَعْبُدُونَ} بمعنى مع كما في قولهم كل رجل وضيعته، فكما جاز السكوت على كل رجل وضيعته، فكذلك جاز أن يسكت على قوله: {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ} لأن قوله: {وَمَا تَعْبُدُونَ} ساد مسد الخبر، لأن معناه فإنكم مع ما تعبدون، والمعنى فإنكم مع آلهتكم أي فإنكم قرناؤهم وأصحابهم لا تتركون عبادتها، ثم قال تعالى: {مَا أَنتم عَلَيْهِ} أي على ما تعبدون {بفاتنين} بباعثين أو حاملين على طريق الفتنة والإضلال {إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ الجحيم} مثلكم.
وقرأ الحسن {صَالِ الجحيم} بضم اللام ووجهه أن يكون جمعًا وسقوط واوه لالتقاء الساكنين، فإنه قيل كيف يستقيم الجمع مع قوله: {مَنْ هُوَ} قلنا {مِنْ} موحد اللفظ مجموع المعنى فحمل هو على لفظه والصالون على معناه.
المسألة الثانية:
احتج أصحابنا بهذه الآية على أنه لا تأثير لإغواء الشيطان ووسوسته، وإنما المؤثر قضاء الله تعالى وتقديره، لأن قوله تعالى: {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ بفاتنين} تصريح بأنه لا تأثير لقولهم ولا تأثير لأحوال معبوديهم في وقوع الفتنة والضلال، وقوله تعالى: {إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ الجحيم} يعني إلا من كان كذلك في حكم الله وتقديره، وذلك تصريح بأن المقتضي لوقوع هذه الحوادث حكم الله تعالى، وكان عمر بن عبد العزيز يحتج بهذه الآية في إثبات هذا المطلوب، قال الجبائي: المراد أن الذين عبدوا الملائكة يزعمون أنهم بنات الله لا يكفرون أحدًا إلا من ثبت في معلوم الله أنه سيكفر، فدل هذا على أن من ضل بدعاء الشيطان لم يكن ليؤمن بالله لو منع الله الشيطان من دعائه وإلا كان يمنع الشيطان، فصح بهذا أن كل من يعصي لم يكن ليصلح عنه شيء من الأفعال والجواب: حاصل هذا الكلام أنه لا تأثير لإغواء شياطين الإنس والجن.
وهذا لا نزاع فيه إلا أن وجه الاستدلال أنه تعالى بين أنه لا تأثير لكلامهم في وقوع الفتنة، ثم استثنى منه ما في قوله تعالى: {إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ الجحيم} فوجب أن يكون المراد من وقوع الفتنة هو كونه محكومًا عليه بأنه صال الجحيم، وذلك تصريح بأن حكم الله بالسعادة والشقاوة هو الذي يؤثر في حصول الشقاوة والسعادة.
واعلم أن أصحابنا قرروا هذه الحجة بالحديث المشهور وهو أنه حج آدم موسى، قال القاضي هذا الحديث لم يقبله علماء التوحيد، لأنه يوجب أن لا يلام أحد على شيء من الذنوب، لأنه إن كان آدم لا يجوز لموسى أن يلومه على عمل كتبه الله عليه قبل أن يخلقه، فكذلك كل مذنب.
فإن صحت هذه الحجة لآدم عليه السلام، فلماذا قال موسى عليه السلام في الوكزة هذا من عمل الشيطان، إنه عدو مضل مبين؟ ولما قال فلن أكون ظهيرًا للمجرمين؟ ولماذا لام فرعون وجنوده على أمر كتبه الله عليهم؟ ومن عجيب أمرهم أنهم يكفرون القدرية، وهذا الحديث يوجب أن آدم كان قدريًا، فلزمهم أن يكفروه، وكيف يجوز مع قول آدم وحواء عليهما السلام: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَكُنتُم مّنَ الخاسرين} [الأعراف: 23] أن يحتج على موسى بأنه لا لوم عليه، وقد كتب عليه ذلك قبل أن يخلقه، هذا جملة كلام القاضي فيقال له هب أنك لا تقبل ذلك الخبر، فهل ترد هذه الآية أم لا، فإنا بينا أن صريح هذه الآية يدل على أنه لا تأثير للوساوس في هذا الباب، فإن الكل يحصل بحكمة الله تعالى، والذي يدل عليه وجوه الأول: أن الكافر إن ضل بسبب وسوسة الشيطان فضلال الشيطان إن كان بسبب شيطان آخر لزم تسلسل الشياطين وهو محال، وإن انتهى إلى ضلال لم يحصل بسبب وسوسة متقدمة فهو المطلوب الثاني: أن كل أحد يريد أن يحصل لنفسه الاعتقاد الحق والدين الصدق، فحصول ضده يدل على أن ذلك ليس منه الثالث: أن الأفعال موقوفة على الدواعي وحصول الدواعي بخلق الله، فيكون الكل من الله تعالى الرابع: أنه تعالى لما اقتضت حكمته شيئًا، وعلم وقوعه، فلو لم يقع ذلك الشيء لزم انقلاب ذلك الحكم كذبًا وانقلاب ذلك العلم جهلًا وهو محال، وأما الآيات التي تمسك بها القاضي فهي معارضة بالآيات الدالة على أن الكل من الله والقرآن كالبحر المملوء من هذه الآيات فتبقى الدلائل العقلية التي ذكرناها سليمة، والله أعلم.
ثم قال تعالى: {وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} فالجمهور على أنهم الملائكة، وصفوا أنفسهم بالمبالغة في العبودية، فإنهم يصطفون للصلاة والتسبيح، والغرض منه التنبيه على فساد قول من يقول إنهم أولاد الله وذلك لأن مبالغتهم في العبودية تدل على اعترافهم بالعبودية، واعلم أن هذه الآية تدل على ثلاثة أنواع من صفات الملائكة فأولها قوله تعالى: {وَمَا مِنَّا إِلاَّ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} وهذا يدل على أن لكل واحد منهم مرتبة لا يتجاوزها ودرجة لا يتعدى عنها، وتلك الدرجات إشارة إلى درجاتهم في التصرف في أجسام هذا العالم إلى درجاتهم في معرفة الله تعالى أما درجاتهم في التصرفات والأفعال فهي قوله: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصافون} والمراد كونهم صافين في أداء الطاعات ومنازل الخدمة والعبودية، وأما درجاتهم في المعارف فهي قوله تعالى: {وَإِنَّا لَنَحْنُ المسبحون} والتسبيح تنزيه الله عما لا يليق به.
واعلم أن قوله: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصافون وَإِنَّا لَنَحْنُ المسبحون} يفيد الحصر ومعناه أنهم هم الصافون في مواقف العبودية لا غيرهم وأنهم هم المسبحون لا غيرهم، وذلك يدل على أن طاعات البشر ومعارفهم بالنسبة إلى طاعات الملائكة وإلى معارفهم كالعدم، حتى يصح هذا الحصر.
وبالجملة فهذه الآلفاظ الثلاثة تدل على أسرار عجيبة من صفات الملائكة فكيف يجوز مع هذا الحصر أن يقال البشر تقرب درجته من الملك فضلًا عن أن يقال هل هو أفضل منه أم لا.
وأما قوله: {وَإِن كَانُواْ لَيَقُولُونَ لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْرًا مّنَ الأولين لَكُنَّا عِبَادَ الله المخلصين} فالمعنى أن مشركي قريش وغيرهم كانوا يقولون: {لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْرًا} أي كتابًا من كتب الأولين الذين نزل عليهم التوراة والإنجيل لأخلصنا العبادة لله، ولما كذبنا كما كذبوا.
ثم جاءهم الذكر الذي هو سيد الأذكار والكتاب المهيمن على كل الكتب، وهو القرآن فكفروا به.
ونظير هذه الآية قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُورًا} ثم قال تعالى: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} أي فسوف يعلمون عاقبة هذا الكفر والتكذيب. اهـ.