فصل: فصل في ذكر اجتهاد رسول الله صلى الله عليه وسلم في طاعة ربه ومداومته على عبادته.

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من لطائف وفوائد المفسرين:

قال الشنقيطي:
قوله تعالى: {يا أيُّها الْمُزّمِّلُ قُمِ اللّيْل إلاّ قلِيلا}. وقوله: {إِنّ ربّك يعْلمُ أنّك تقُومُ أدْنى مِنْ ثُلُثيِ اللّيْلِ} إلى قوله: {وطائِفةٌ مِن الّذِين معك} الآية يدل على وجوب قيام الليل على الأمة لأن أمر القدوة أمر لاتباعه. وقوله: {وطائِفةٌ مِن الّذِين معك} دليل على عدم الخصوص به صلى الله عليه وسلم، وقد ذكر الله ما يدل على خلاف ذلك في قوله: {فاقرأوا ما تيسّر مِن القرآن}. وقوله: {فاقرأوا ما تيسّر مِنْهُ}.
والجواب ظاهر وهو أن الأخير ناسخ للأول ثم نسخ الأخير أيضا بالصلوات الخمس. اهـ.

.فصل في ذكر اجتهاد رسول الله صلى الله عليه وسلم في طاعة ربه ومداومته على عبادته.

قال المقريزي:
خرّج البخاري من حديث حيوة عن أبي الأسود، سمع عروة عن عائشة رضي الله عنها «أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه، فقالت عائشة: لم تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أحب أن أكون عبدا شكورا؟ فلما كثر لحمه صلّى جالسا فإذا أراد أن يركع قام فقرأ ثم ركع».
وخرّجه مسلم من حديث أبي صخر عن ابن قسيط عن عروة عن عائشة قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلّى قام حتى تفطر رجلاه، قالت عائشة: يا رسول الله! أتصنع هذا وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبدا شكورا؟».
ولهما من حديث أبي عوانة عن زياد بن علاقة عن المغيرة بن شعبة «أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى حتى انتفخت قدماه، فقيل له: أتكلف هذا وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبدا شكورا؟». وللبخاريّ من حديث مسعر عن زياد قال: سمعت المغيرة يقول: «إن كان النبي صلى الله عليه وسلم ليقوم أو يصلي حتى ترم قدماه أو ساقاه، فيقال له، فيقول: أفلا أكون عبدا شكورا؟».
وله من حديث أبي عيينة، أخبرنا زياد أنه سمع المغيرة يقول: «قام النبي صلى الله عليه وسلم حتى تورمت قدماه، فقيل له: قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، قال: أفلا أكون عبدا شكورا؟». وخرّج قاسم بن أصبغ من حديث سفيان عن زياد بن علاقة عن المغيرة بن شعبة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «جعلت قرة عيني الصلاة، وكان يصلي حتى ترم قدماه، قال: فقيل له يا رسول الله! أليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبدا شكورا؟» وله من حديث شعبة عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي حتى ترم قدماه، فقيل له: تفعل هذا وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبدا شكورا؟» وخرّج ابن حبان في صحيحه من حديث أبي إسحاق عن حارثة بن مضرب أن عليا قال: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أصبح ببدر من الغد أحيا تلك الليلة كلها وهو مسافر».
ومن حديث شعبة عن حارثة بن مضرب عن علي رضي الله عنه قال: «ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد، ولقد رأيتنا وما فينا قائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة يصلي ويبكي حتى أصبح» وخرّج الإمام أحمد من حديث مالك عن عبد الله بن عبد الرحمن بن معمر عن أبي يوسف مولى عائشة عن عائشة «أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، تدركني الصلاة وأنا جنب، وأنا أريد الصيام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا تدركني الصلاة وأنا جنب وأنا أريد الصيام فأغتسل وأصوم، فقال الرجل: إنا لسنا مثلك، قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فغضب رسول الله وقال: والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم للّه عز وجل وأعلمكم بما أتقى» وخرّج ابن عساكر من حديث آدم، أخبرنا أبو شيبة عن عطاء الخراساني عن أبي عمران الجوني عن عائشة قالت: «كان أحب الأعمال إلى رسول الله أربعة، فعملان يجهدان ماله وعملان يجهدان جسده، فأما اللذان يجهدان ماله فالجهاد والصدقة، وأما اللذان يجهدان جسده فالصوم والصلاة».
وخرّج من حديث عبد الرزاق، أخبرنا ابن جريح قال: قال عبد الله بن أبي مليكة: سمعت أهل عائشة يذكرون عنها أنها كانت تقول: «كان رسول الله شديد الإنصاب لجسده في العبادة، غير أنه حين دخل في السن وثقل من اللحم كان أكثر ما يصلي وهو قاعد».
وخرّج البخاري ومسلم وأبو داود من حديث منصور عن إبراهيم عن علقمة قال: «سألت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قلت: يا أم المؤمنين، كيف كان عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ هل كان يخص شيئا من الأيام؟ قالت: لا، كان عمله ديمة، وأيّكم تستطيعون ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستطيع». ذكره البخاري في كتاب الرقاق، وفي كتاب الصيام وخرّج البخاري من حديث عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر عن همام بن منبه قال: هذا ما حدثني أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إياكم والوصال، قال: قلت: فإنك تواصل يا رسول الله، قال: إني لست في ذاكم مثلكم، إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني، فاكلفوا من العمل ما لكم به طاقة». وخرّجه مسلم من أوجه. وخرّجا معناه من حديث ابن عمر وأنس وعائشة والنسائي في كتاب عمل اليوم والليلة من حديث سعيد بن عبد العزيز عن إسماعيل بن عبيد الله عن خالد بن عبد الله بن الحسين قال: سمعت أبا هريرة يقول: «ما رأيت أحدا أكثر أن يقول: أستغفر الله وأتوب إليه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم مائة مرة».
وله من حديث مغيرة بن أبي الخواء الكندي عن سعيد بن أبي بردة عن أبيه عن جده قال: «جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن جلوس فقال: ما أصبحت غداة قط إلا استغفرت الله فيها مائة مرة». وله من حديث عفان عن حماد بن سلمة قال: أخبرنا ثابت عن أبي بردة عن الأغر المزني قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنه ليغان على قلبي حتى استغفر الله في كل يوم مائة مرة».
قال أهل اللغة: الغين والغيم بمعنى، والمراد هنا ما يتغشّى القلب. قال القاضي: قيل: المراد الفترات والغفلات عن الذكر الّذي كان شأنه الدوام عليه، فإذا فتر عنه أو غفل، عدّ ذلك ذنبا واستغفر منه.
وقيل: هو همه بسبب أمته، وما أطلع عليه من أحوالها بعده فيستغفر لهم.
وقيل: سببه اشتغاله بالنظر في مصالح أمته وأمورهم، ومحاربة العدو ومداراته، وتأليف المؤلفة، ونحو ذلك، فيشتغل بذلك من عظيم مقامه، فيراه ذنبا بالنسبة إلي عظيم منزلته، وإن كانت هذه الأمور من أعظم الطاعات، وأفضل الأعمال، فهي نزول عن عالي درجته، ورفيع مقامه، من حضوره مع الله تعالى، ومشاهدته، ومراقبته، وفراغه مما سواه، فيستغفر لذلك.
وقيل: يحتمل أن يكون هذا الغين هو السكينة التي تغشي قلبه، لقوله تعالى: {فأنْزل السّكِينة عليْهِمْ} (آية 18/ الفتح)، ويكون استغفاره إظهارا للعبودية والافتقار، وملازمة الخشوع، وشكرا لما أولاه.
وقيل: يحتمل أن يكون هذا الغين حال خشية وإعظام يغشي القلب، ويكون استغفاره شكرا كما سبق.
وقيل: هو شيء يعتري القلوب الصافية، مما تتحدث به النفس، فهو شأنها، والله أعلم. (المرجع السابق).
(عون المعبود): ج 4 ص 265، حديث رقم (1512) وقال فيه: «في كل يوم مائة مرة»، قال في النهاية: وغينت السماء تغان إذا أطبق عليها الغيم، وقيل: الغين شجر ملتف. أراد ما يغشاه من السهو الّذي لا يخلو منه البشر، لأن قلبه أبدا كان مشغولا باللّه تعالى، فإن عرض له وقتا ما عارض بشريّ يشغله عن أمور الأمة أو الملة ومصالحهما، عدّ ذلك ذنبا وتقصيرا، فيفرغ إلى الاستغفار.
ومن حديث جعفر بن سليمان عن ثابت عن أبي بردة عن رجل من أصحابه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنه ليغان على قلبي فأستغفر الله كل يوم مائة مرة». ومن حديث سليمان بن المغيرة عن حميد بن هلال قال: حدثني أبو بردة قال: جلست إلى رجل من المهاجرين يعجبني تواضعه، فسمعته يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يا أيها الناس توبوا إلى الله واستغفروه فإنّي أتوب إلى الله وأستغفره كل يوم مائة مرة، أو قال: أكثر من مائة مرة».
وقال السنديّ: وحقيقته بالنظر إلى قلب النبي صلى الله عليه وسلم لا تدري، وإن قدره صلى الله عليه وسلم أجلّ وأعظم مما يخطر في كثير من الأوهام، فالتفويض في مثله أحسن، نعم القدر المقصود بالإفهام مفهوم، وهو أنه صلى الله عليه وسلم كان يحصل له حالة داعية إلي الاستغفار، فيستغفر كل يوم مائة مرة، فكيف غيره. والله أعلم.
وقوله: «يا أيها الناس توبوا إلى الله فإنّي أتوب في اليوم مائة مرة»، هذا الأمر بالتوبة موافق لقوله تعالى: {وتُوبُوا إِلى الله جمِيعا أيُّها الْمُؤْمِنُون لعلّكُمْ تُفْلِحُون} 24: 31، وقوله تعالى: {يا أيُّها الّذِين آمنُوا تُوبُوا إِلى الله توْبة نصُوحا} (آية 31/ النور)، (آية 8/ التحريم) على الترتيب. وقد سبق في الباب قبله بيان سبب استغفاره وتوبته صلى الله عليه وسلم، ونحن إلى الاستغفار والتوبة أحوج.
قال أصحابنا وغيرهم من العلماء: للتوبة ثلاثة شروط: أن يقلع عن المعصية، وأن يندم على فعلها، ورواه النضر بن شميل من حديث محمد بن عمرو بن علقمة عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني لأستغفر الله وأتوب إليه في كل يوم مائة مرة». وخرج الإمام أحمد من حديث داود عن الشعبي عن مسروق قال: قالت عائشة: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر في آخر أمره من قول: سبحان الله وبحمده أستغفر الله وأتوب إليه، قالت: فقلت: يا رسول الله! ما لي أراك تكثر من قول سبحان الله وبحمده أستغفر الله وأتوب إليه؟ قال: إني ربي عز وجل كان أخبرني أني سأرى علامة في أمتي وأمرني إذا رأيتها أن أسبح بحمده وأستغفره إنه كان توابا، فقد رأيتها، {إِذا جاء نصْرُ الله والْفتْحُ ورأيْت النّاس يدْخُلُون في دِينِ الله أفْواجا فسبِّحْ بِحمْدِ ربِّك واسْتغْفِرْهُ إِنّهُ كان توّابا} [110: 1 – 3]». وخرّج البخاري ومسلم من حديث الأعمش عن إبراهيم عن عبيدة السليماني عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقرأ عليّ القرآن، فقلت: يا رسول الله! أقرأ عليك القرآن وعليك أنزل؟ قال: إني أشتهي أن أسمعه من غيري، قال: فقرأت عليه حتى إذا بلغت {فكيْف إِذا جِئْنا من كُلِّ أُمّةٍ بِشهِيدٍ وجِئْنا بِك على هؤُلاءِ شهِيدا} [4: 41]، فرفعت بصري أو غمزني رجل إلى جنبي فرفعت رأسي فرأيت دموعه تسيل». وقال البخاري: «إني أحب أن أسمعه من غيري»- وهنا انتهى حديثه- لم يذكر ما بعده. ترجم عليه باب من أحب أن يسمع القرآن من غيره، وذكره في باب البكاء عند قراءة القرآن.
وفي رواية لمسلم:«قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر اقرأ عليّ»، فذكره. وذكر البخاري في كتاب التفسير من حديث سفيان عن سليمان عن إبراهيم عن عبيده عن عبد الله قال يحيى بعض الحديث «عن عمرو بن مرة قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم اقرأ عليّ، قلت: أقرأ عليك وعليك أنزل، قال: إني أحب أن أسمعه من غيري، فقرأت عليه سورة النساء حتى بلغت: {فكيْف إِذا جِئْنا من كُلِّ أُمّةٍ بِشهِيدٍ وجِئْنا بِك على هؤُلاءِ شهِيدا} 4: 41 قال: أمسك، فإذا عيناه تذرفان».
وذكره في فضائل القرآن وكرره. وذكر له مسلم عدة طرق. وخرج الترمذي من حديث عبد الله بن المبارك، حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن مطرف بن عبد الله بن الشخير عن أبيه قال: «أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، ولجوفه أزيز كأزيز المرجل (من البكاء)».
وخرجه ابن حبان من حديث هدبة عن حماد بمثله سواء. ورواه يزيد بن هارون عن حماد عن ثابت عن مطرف عن أبيه أنه قال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وفي صدره أزيز أزيز الرحى من البكاء».
وخرج الترمذي من حديث أبي كريب، أخبرنا معاوية بن هشام عن شيبان عن أبي إسحاق عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه قال:«قال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله! أراك شبت! قال: شيبتني هود، والواقعة، والمرسلات، وعم يتساءلون، وإذا الشمس كورت». قال أبو عيسى: هذا حديث حسن لا نعرفه من حديث ابن عباس إلا من هذا الوجه.
وروى علي بن صالح هذا الحديث عن أبي إسحاق عن أبي جحيفه نحو هذا، وقد روى عن أبي الحق عن أبي ميسرة شيء من هذا مرسلا، ورواه معاوية ابن هشام أيضا عن شيبان عن فراس عن عطية عن أبي سعيد قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «يا رسول الله! أسرع عليك الشيب! فقال: شيبتني هود، وأخواتها: الواقعة، وعم يتساءلون، وإذا الشمس كورت». وقال سيف بن عمر عن محمد بن عون عن عكرمة عن ابن عباس قال: «ألظّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالواقعة والحاقة، وعم يتساءلون، والنازعات، وإذا الشمس كورت، وإذا السماء انفطرت، فاستطار فيه القتير فقال له أبو بكر رضي الله عنه: أسرع فيك القتير! بأبي أنت وأمي، فقال: شيبتني هود وصواحباتها هذه، وفيها، والمرسلات». وخرّج البخاري من حديث أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لن ينجى أحدا منكم عمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟
قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة، سدّدوا، وقاربوا، وأغدوا، وروحوا، وشيء من الدّلجة، والقصد القصد تبلغوا»
ذكره في الرقاق وقال ابن الجوزي: يتحصل عن ذلك أربعة أجوبة: الأول أن التوفيق للعمل من رحمة الله، ولو لا رحمة الله السابقة ما حصل الإيمان، ولا الطاعة التي يحصل بها النجاة. الثاني، أن منافع العبد لسيده، فعمله مستحق لمولاه، فمهما أنعم عليه من الجزاء فهو من فضله.
الثالث، جاء في بعض الأحاديث أن نفس دخول الجنة برحمة الله، واقتسام الدرجات بالأعمال.
الرابع، أن أعمال الطاعات كانت في زمن يسير، والثواب لا ينفد، والإنعام الّذي لا ينفد في جزاء ما ينفذ بالفضل لا بمقابلة الأعمال.
وقال ابن القيم في كتاب (مفتاح دار السعادة): الباء المقتضية للدخول، غير الباء الماضية، فالأولى السببية الدالة على أن الأعمال سبب الدخول المقتضية له، كاقتضاء سائر الأسباب لمسبباتها، والثانية بالمعاوضة، نحو اشتريت منه بكذا، فأخبر أن دخول الجنة ليس في مقابلة عمل أحد، وأنه لو لا رحمة الله لعبده لما أدخله الجنة، لأن العمل بمجرده ولو تناهى لا يوجب بمجرده دخول الجنة، ولا أن يكون عوضا لها، لأنه لو وقع على الوجه الّذي يحبه الله لا يقاوم نعمة الله، بل جميع العمل لا يوازي نعمة واحدة، فتبقى سائر نعمه مقتضية لشكرها، وهو لم يوفها حق شكرها، فلو عذّبه في هذه الحالة لعذبه وهو غير ظالم، وإذا رحمه في هذه الحالة، كانت رحمته خيرا من عمله، كما في حديث أبيّ بن كعب، الّذي أخرجه أبو داود وابن ماجة في ذكر القدر، ففيه: «لو أن الله عذّب أهل سماواته وأرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم كانت رحمته خيرا لهم».
قال: وهذا فصل الخطاب مع الجبرية الذين أنكروا أن تكون الأعمال سببا في دخول الجنة من كل وجه. والقدرية الذين زعموا أن الجنة عوض العمل وأنها ثمنه، وأن دخولها بمحض الأعمال. والحديث يبطل دعوى الطائفتين.
قوله: «قالوا ولا أنت يا رسول الله»؟ قال الكرماني: إذا كان كل الناس لا يدخلون الجنة إلا برحمة الله، فوجه تخصيص رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذكر أنه إذا كان مقطوعا له بأنه يدخل الجنة ثم لا يدخلها إلا برحمة الله، فغيره يكون في ذلك بطريق الأولى.
قوله: «برحمة»، في رواية أبي عبيد: «بفضل ورحمة»، وفي رواية الكشميني من طريقه: «بفضل رحمته»، وفي رواية الأعمش: «برحمة وفضل»، وفي رواية بشر بن سعيد: «منه برحمة»، وفي رواية ابن عون: «بمغفرة ورحمة» قال أبو عبيد: المراد بالتغمد، الستر، وما أظنه إلا مأخوذا من غمد السيف، لأنك إذا أغمدت السيف فقد ألبسته الغمد وسترته به.
قال الرافعي: في الحديث أن العامل لا ينبغي أن يتكل على عمله في طلب النجاة ونيل الدرجات، لأنه إنما عمل بتوفيق الله، وإنما ترك المعصية بعصمة الله، فكل ذلك بفضله ورحمته.
قوله: «سدّدوا»، في رواية بشر بن سعيد، عن أبي هريرة عند مسلم: «و لكن سدّدوا»، ومعناه: اقصدوا السداد، أي الصواب، ومعنى هذا الاستدراك أنه قد يفهم من النفي المذكور نفي فائدة العمل، فكأنه قيل: بل له فائدة، وهو أن العمل علامة على وجود الرحمة التي تدخل العامل الجنة، فاعملوا واقصدوا بعملكم الصواب، أي اتباع السنة من الإخلاص وغيره ليقبل عملكم، فينزل عليكم. وخرّجه مسلم من حديث ليث عن بكير عن بسر بن سعيد عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لن ينجي أحدا منكم عمله، قال رجل: ولا إياك يا رسول الله؟ قال: ولا إياي إلا أن يتغمدني الله منه برحمة، ولكن سددوا». وفي رواية له: «قاربوا وسددوا، واعلموا أنه لن ينجو أحد منكم بعمله، قالوا: يا رسول الله، ولا أنت؟ قال: وقال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل».
وله من حديث معقل عن أبي الزبير عن جابر قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من أحد يدخله عمله الجنة، فقيل له: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة». وذكره من طرق عديدة.
وللبخاريّ ومسلم من حديث موسى بن عقبة قال سمعت أبا سلمة بن عبد الرحمن بن عوف يحدث عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سددوا وقاربوا وأبشروا، فإنه لن يدخل الجنة أحدا عمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله منه برحمته، واعلموا أن أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل». ولابن حبان من حديث جعفر بن عوف قال: حدثنا أبو جناب الكلبي، حدثنا عطاء قال: دخلت أنا وعبد الله بن عمر وعبيد بن عمير على عائشة رضي الله عنها، فقال ابن عمر: «حدثيني بأعجب ما رأيت من رسول الله، فسكتت ثم قالت: كل أمره كان عجبا، أتاني في ليلتي حتى إذا دخل معني في لحافي، وألصق جلده بجلدي، قال: يا عائشة، ائذني لي في ليلتي لربي، فقلت، إني أحب قربك وهواك، فقام إلى قربة في البيت، فما أكثر صب الماء، ثم قام فقرأ القرآن ثم بكى حتى رأيت دموعه قد بلغت حجره، ثم اتكأ على جنبه الأيمن، ووضع يده اليمنى تحت خده، ثم بكى حتى رأيت دموعه قد بلغت الأرض، قالت: فجاءه بلال فآذنه بالصلاة، فلما رآه يبكي قال: يا رسول الله! أتبكي وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبدا شكورا؟ وقال: أفلا أبكي وقد أنزل علي الليلة: {إِنّ في خلْقِ السّماواتِ والْأرْضِ واخْتِلافِ اللّيْلِ والنّهارِ لآياتٍ لِأُولِي الْألْبابِ الّذِين يذْكُرُون الله قِياما وقُعُودا وعلى جُنُوبِهِمْ ويتفكّرُون في خلْقِ السّماواتِ والْأرْضِ، ربّنا ما خلقْت هذا باطِلا سبحانك فقِنا عذاب النّارِ} [3: 190 – 191]، وويل لمن قرأ هذه الآية ولم يتفكر فيها». وله من حديث شعبة عن أبي إسحاق قال: سمعت حارثة بن مضرب يحدث عن علي رضي الله عنه قال: «لقد رأيتنا وما فينا قائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة يصلي ويبكي حتى أصبح، يعني ليلة القدر». وخرّج البخاري من حديث معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إني لأنقلب إلى أهلي فأجد التمرة ساقطة على فراشي فأرفعها لآكلها، ثم أخشى أن تكون صدقة فألقيها». وخرّجاه من طرق متعددة.
قوله: «إني لأنقلب إلى أهلي فأجد التّمرة ساقطة على فراشي ثم أرفعها لأكلها ثم أخشى أن تكون صدقة فألقيها»، وفيه تحريم الصدقة عليه صلى الله عليه وسلم وأنه لا فرق بين صدقة الفرض والتطوع، لقوله صلى الله عليه وسلم: «لو لا أن تكون من الصدقة لأكلتها» فهي تعم النوعين، ولم يقل الزكاة، وفيه استعمال الورع، لأن هذه التمرة لا تحرم بمجرد الاحتمال، لكن الورع تركها. وفيه أن التمرة ونحوها من محقرأت الأموال لا يجب تعريفها، بل يباح أكلها والتصرف فيها في الحال، لأنه صلى الله عليه وسلم إنما تركها خشية أن تكون من الصدقة لا لكونها لقطة، وهذا الحكم متفق عليه، وعلله أصحابنا وغيرهم بأن صاحبها في العادة لا يطلبها، ولا يبقى له فيها.
وخرّج الحاكم من حديث عبد الله بن المبارك، أخبرنا أسامة بن زيد عن عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تصور ذات ليلة فقيل له: ما أسهرك؟ قال: إني وجدت تمرة ساقطة فأكلتها ثم ذكرت تمرا كان عندنا من تمر الصدقة، فما أدري أمن ذلك كانت التمرة أو من تمر أهلي؟ فذلك أسهرني». قال:
هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وله من حديث المعافي بن عمران عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي مريم عن ضمرة ابن حبيب عن أم عبد الله أخت شداد بن أوس «أنها بعثت إلى النبي صلى الله عليه وسلم بقدح لبن عند فطره، وذلك في طول النهار وشدة الحر، فرد إليها الرسول: أنى لك هذا اللبن؟ قالت: من شاة لي، قال: أنى لك هذه الشاة؟ قالت: اشتريتها من مالي، فشرب فلما أن كان من الغد أتت أمّ عبد الله رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! بعثت إليك بذلك اللبن مرثيّة لك من شدة الحر وطول النهار، فرددتها إلي مع الرسول! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بذلك أمرت الرسل، أن لا تأكل إلا طيبا، ولا تعمل إلا صالحا» قال: هذا حديث صحيح الإسناد.
وخرّج أبو داود في كتاب الجهاد عن مخلد بن خالد، وخرّج الترمذي في السير عن محمد بن المثنى، وخرّج ابن ماجة عن عبدة بن عبد الله، وخرّج محمد ابن يوسف أربعتهم عن أبي عاصم الضحاك بن مخلد النبيل عن أبي بكرة بكار بن عبد العزيز بن أبي بكرة «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أتاه أمر يسرّه ويسرّ به خرّ ساجدا»
وقال ابن سعد: أخبرنا محمد بن عبد الله الأسدي، أخبرنا كثير بن زيد عن زياد بن أبي زياد مولى عياش بن أبي ربيعة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كانتا خصلتان لا يكلهما، إلى أحد: الوضوء من الليل حين يقوم والسائل يقوم حتى يعطيه». وله من طريق الليث بن سعد أن معاوية بن صالح حدثه أن أبا حمزة حدثه أنّ عائشة قالت: «ما خيّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما، قالت: وما انتقم رسول الله لنفسه من أحد قط إلا أن يؤذى في الله فينتقم، ولا رأيت رسول الله وكل صدقته إلى غير نفسه حتى يكون هو الّذي يضعها في يد السائل، ولا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل في وضوئه إلى غير نفسه حتى يكون هو الّذي يهيئ وضوءه لنفسه حتى يقوم من الليل».
وقال محمد بن حمير حدثنا أبو بكر بن أبي مريم عن عطاء بن أبي رباح عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه قال: اشترى أسامة بن زيد بمائة دينار إلى شهر، فسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تعجبوا من أسامة المشتري إلى شهر، إن أسامة لطويل الإبل، والّذي نفسي بيده ما طرفت عيناي إلا ظننت أن شفراى لا يلتقيان حتى أقبض، ولا لقمت لقمة إلا ظننت أن لا أسيغها حتى أغصّ بها من الموت»، ثم قال: «يا بني آدم إن كنتم تعقلون فعدوا أنفسكم من الموتى، والّذي نفسي بيده إنما توعدون لآت، وما أنتم بمعجزين». وقال ابن لهيعة عن أبي هريرة عن حيثر عن ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يهريق الماء فيمسح التراب، فأقول: يا رسول الله! الماء منك قريب، فيقول: «و ما يدريني لعلي لا أبلغه». وخرج الإمام أحمد من حديث مسلم بن محمد بن زائدة، قال عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن عائشة أنها قالت: ما رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه إلى السماء إلا قال: «يا مصرف القلوب ثبت قلبي على طاعتك». وقال ابن المبارك: حدثنا الحسن بن صالح، عن منصور عن إبراهيم قال: حدثنا «أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير خارجا من الغائط قط إلا توضأ»
وذكر ابن عساكر من حديث محمد بن الحجاج عن محمد بن عبد الرحمن بن سفينة عن أبيه عن سفينة قال: «تعبّد النبي صلى الله عليه وسلم واعتزل النساء حتى صار كالشن البالي قبل موته بشهرين»
تنبيه:
حديث وجود التمر في بعض طرقه: لقي تمرة على فراشه، وفي بعضها لقي تمرة في منزلة، وفي أخرى لقي تمرة في الطريق، فكان في ذلك ثلاث رتب في الورع، متفاوتة في التأكيد، أيسرها تمرة الفراش، فإنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يقبل الصدقة، ولا تدخل منزله غالبا، فكيف بأخص منزله وهو الفراش، فيندر كونها من تمر الصدقة، وفوق ذلك في التأكيد تمرة المنزل، وآكدها تمرة الطريق لكثرة مرور الصدقات فيها، هذا كله مع أن تمر الصدقة قليل بالنسبة إلى جنس التمر، فآكد هذه الصور الثلاث لا يجاوز الورع في المباح، ولا تنتهي التمرة به إلى حد النهي، لكن مقام النبوة كريم، والورع به جدير. اهـ.
وقوله: «فليس مني» إن كانت الرغبة بضرب من التأويل يعذر صاحبه فيه، فمعنى «فليس مني» أي على طريقتي، ولا يلزم أن يخرج عن الملة، وإن كان إعراضا وتنطعا يفضي إلى اعتقاد أرجحيّة عمله، فمعنى «فليس مني» ليس على ملتي، لأن اعتقاد ذلك نوع من الكفر، وفي الحديث دلالة على فضل النكاح والترغيب فيه.
وفيه تتبع أحوال الأكابر للتأسي بأفعالهم وأنه إذا تعذرت معرفته من الرجال جاز استكشافه من النساء، وأن من عزم على عمل بر واحتاج إلى إظهاره حيث يأمن الرياء لم يكن ذلك ممنوعا.
وفيه تقديم الحمد والثناء على الله عند إلقاء مسائل العلم وبيان الأحكام للمكلفين، وإزالة الشبهة عن المجتهدين، وأن المباحات قد تنقلب بالقصد إلى الكراهة والاستحباب.
وقال الطبري: فيه الرد على من منع استعمال الحلال من الأطعمة من الملابس وآثر غليظ الثياب وخشن الأكل. قال عياض: هذا مما اختلف فيه السلف، فمنهم من نحا إلى ما قال الطبري، ومنهم من عكس واحتج بقوله تعالى: {أذْهبْتُمْ طيِّباتِكُمْ في حياتِكُمُ الدُّنْيا} 46: 20، قال: والحق أن هذه الآية في الكفار، وقد أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بالأمرين، كما أن الأخذ بالتشديد في العبادة يفضي إلى الملل القاطع لأصلها وملازمة الاقتصار على الفرائض مثلا، وترك التنفل يفضي إلى إيثار البطالة، وعدم النشاط إلى العبادة، وخير الأمور الوسط.