فصل: فصل في فضل السورة الكريمة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم




.سورة القلم:

.فصول مهمة تتعلق بالسورة الكريمة:

.فصل في فضل السورة الكريمة:

قال مجد الدين الفيروزابادي:
فضل السّورة:
فيه حديثان منكران:
حديث أُبي: «منْ قرأها أعطاه الله ثواب الّذين حسّن الله أخلاقهم».
وحديث علي: «يا علي منْ قرأها نوّر الله قلبه، وقبره، وبيّض وجهه، وأعطاهُ كتابه بيمينه، وله بكلِّ آية قرأها ثوابُ من مات مبطونا». اهـ.

.فصل في مقصود السورة الكريمة:

.قال البقاعي:

سورة القلم مقصودها إظهار ما استتر، وبيان ما أبهم في آية: {فستعلمون من هو في ضلال مبين} بتعيين المهتدي الذي برهن على هدايته حيازته العلم الذي هو النور الأعظم الذي لا يضل بمصاحبته بتقبل القرآن والتخلق بالفرقان الذي هو صفة الرحمن بقدر الإمكان الذي تصل إليه قوة الإنسان، وأدل ما فيها على هذا الغرض {ن} وكذا {القلم} فلذا سميت بكل منهما، وبالكلام على كل منهما يعرف ذلك، وحاصله أن النون مبين محيط يفيد بيانه كما يحيط ضوء الشمس بما يظهره وكما تحيط الدواة بمدادها بآية ما دل عليه بمخرجه وصفاته، واستقر الكلام الواقع فيها وفي المعاني التي اشتركت في لفظه، وأمات القلم فإبانته للمعارف أمر لا ينكر. اهـ.

.قال مجد الدين الفيروزابادي:

.بصيرة في: {ن والقلم}:

السّورة مكِّيّة.
آياتها اثنتان وخمسون.
وكلماتها ثلاثمائة.
وحروفها ألف ومائتان وستّ وخمسون.
فواصل آياتها {من}.
ولها اسمان: سورة ن، وسورة القلم.
وهذا أشهر.

.معظم مقصود السّورة:

الذّبّ عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعذابُ ما نعى الزّكاة، وتخويف الكفّار بالقيامة، وتهديد المجرمين بالاستدراج، وأمر الرّسول- صلى الله عليه وسلم- بالصّبر، والإِشارةُ إِلى حال يونس عليه السلام في قلّة الصّبر، وقصد الكفّار رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصيبوه بالعين في {ليُزْلِقُوْنك بِأبْصارِهِمْ} الآية.

.الناسخ والمنسوخ:

فيها من المنسوخ آيتان: {فذرْنِي} م {فاصْبِرْ لِحُكْمِ ربِّك} م آية السّيف. اهـ.

.فصل في متشابهات السورة الكريمة:

قال مجد الدين الفيروزابادي:
المتشابهات:
قوله تعالى: {حلاّفٍ مّهِينٍ} إِلى قوله: {زنِيم} تسعة أوصاف، ولم يدخل بينها واو العطف ولا بعد السابع فيدلّ على ضعف القول بواو الثمانية.
{فأقْبل} بالفاءِ سبق.
{فاصْبِر} بالفاءِ سبق. اهـ.

.فصل في التعريف بالسورة الكريمة:

.قال ابن عاشور:

سورة القلم:
سميت هذه السورة في معظم التفاسير وفي (صحيح البخاري) سورة (ن والقلم) على حكاية اللفظين الواقعين في أولها، أي سورة هذا اللفظ.
وترجمها الترمذي في جامعه وبعضُ المفسِرين سورة (ن) بالاقتصار على الحرف المفرد الذي افتتحت به مثل ما سميت سورة (ص) وسورة (ق).
وفي بعض المصاحف سميت سورة (القلم) وكذلك رأيت تسميتها في مصحف مخطوط بالخط الكوفي في القرن الخامس.
وهي مكية قال ابن عطية: لا خلاف في ذلك بين أهل التأويل.
وذكر القرطبي عن الماوردي: أن ابن عباس وقتادة قالا: أولُها مكي، إلى قوله: {على الخرطوم} (القلم: 16) ومن قوله: {إنا بلوناهم} إلى {لو كانوا يعلمون} (القلم: 17 33) مدني، ومن قوله: {إن للمتقين عند ربهم جنات النعيم} إلى قوله: {فهم يكتبون} (القلم: 34-47) مكي. ومن قوله: {فاصبر لحكم ربك} إلى قوله: {من الصالحين} (القلم: 48-50) مدني، ومن قوله: {وإن يكاد الذين كفروا} (القلم: 51) إلى آخر السورة مكي.
وفي (الإِتقان) عن السخاوي: أن المدني منها من قوله: {إنا بلوناهم} إلى {لو كانوا يعلمون} (القلم: 17-33) ومن قوله: {فاصبر لحكم ربك} إلى قوله: {من الصالحين} (القلم: 48 50) فلم يجعل قوله: {إن للمتقين عند ربهم} إلى قوله: {فهم يكتبون} (القلم: 34 47) مدنيا خلافا لما نسبه الماوردي إلى ابن عباس.
وهذه السورة عدّها جابر بن زيد ثانية السور نزولا قال: نزلت بعد سورة {اقرأ باسم ربك} وبعدها سورةُ المزمل ثم سورة المدثر، والأصح حديث عائشة أن أول ما أنزل سورة {اقرأ باسم ربك} ثم فتر الوحي ثم نزلت سورة المدثر.
وما في حديث جابر بن عبد الله أن سورة المدثر نزلت بعد فترة الوحي يحمل على أنها نزلت بعد سورة {اقرأ باسم ربك} جمعا بينه وبين حديث عائشة رضي الله عنها.
وفي تفسير القرطبي: أن معظم السورة نزل في الوليد بن المغيرة وأبي جهل.
واتفق العادّون على عدّ آيها ثنتين وخمسين. اهـ.

.قال سيد قطب:

تقديم لسورة القلم:
لا يمكن تحديد التاريخ الذي نزلت فيه هذه السورة سواء مطلعها أو جملتها. كما أنه لا يمكن الجزم بأن مطلعها قد نزل أولا، وأن سائرها نزل أخيرا- ولا حتى ترجيح هذا الاحتمال. لأن مطلع السورة وختامها يتحدثان عن أمر واحد، وهو تطاول الذين كفروا على شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم وقولهم: إنه مجنون!
والروايات التي تقول: إن هذه السورة هي الثانية في النزول بعد سورة العلق كثيرة، ومن المتفق عليه في ترتيب المصاحف المختلفة أنها هي السورة الثانية؛ ولكن سياق السورة وموضوعها وأسلوبها يجعلنا نرجح غير هذا. حتى ليكاد يتعين أنها نزلت بعد فترة من الدعوة العامة، التي جاءت بعد نحو ثلاث سنوات من الدعوة الفردية، في الوقت الذي أخذت فيه قريش تدفع هذه الدعوة وتحاربها، فتقول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك القولة الفاجرة؛ وأخذ القرآن يردها وينفيها، ويهدد المناهضين للدعوة، ذلك التهديد الوارد في السورة.
واحتمال أن مطلع السورة نزل مبكرا وحده بعد مطلع سورة العلق. وأن الجنون المنفي فيه: {ما أنت بنعمة ربك بمجنون}.. جاء بمناسبة ما كان يتخوفه النبي صلى الله عليه وسلم على نفسه في أول الوحي، من أن يكون ذلك جنونا أصابه.. هذا الاحتمال ضعيف. لأن هذا التخوف ذاته على هذا النحو ليست فيه رواية محققة، ولأن سياق السورة المتماسك يدل على أن هذا النفي ينصب على ما جاء في آخرها من قوله تعالى: {وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون}.. فهذا هو الأمر الذي افتتح السورة بنفيه، كما يتبادر إلى الذهن عند قراءة السورة المتماسكة الحلقات.
كذلك ذكرت بعض الروايات أن في السورة آيات مدنية من الآية السابعة عشرة إلى نهاية الآية الثالثة والثلاثين. وهي الآيات التي ذكرت قصة أصحاب الجنة وابتلاءهم، والآيات من الثانية والأربعين إلى نهاية الخمسين وهي التي تشير إلى قصة صاحب الحوت.. ونحن نستبعد هذا كذلك. ونعتقد أن السورة كلها مكية. لأن طابع هذه الآيات عميق في مكيته. وهو أنسب شيء لأن يجيء في سياق السورة عند نزولها متسقا مع الموضوع ومع الحالة التي تعالجها.
والذي نرجحه بشأن السورة كلها أنها ليست الثانية في ترتيب النزول؛ وأنها نزلت بعد فترة من البعثة النبوية بعد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالدعوة العامة. وبعد قول الله تعالى له: {وأنذر عشيرتك الأقربين}. وبعد نزول طائفة من القرآن فيها شيء من قصص الأولين وأخبارهم، التي قال عنها قائلهم: {أساطير الأولين}.. وبعدما أصبحت قريش مدعوة إلى الإسلام كافة، وأصبحت تدفع هذه الدعوة بالاتهامات الباطلة والحرب العنيفة التي اقتضت تلك الحملة العنيفة الواردة في السورة على المكذبين، والتهديد القاصم في أولها وفي آخرها على السواء.. والمشهد الأخير في السورة يوحي بهذا كذلك: {وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون}.. فهو مشهد دعوة عامة لمجموعات كبيرة. ولم يكن الأمر كذلك في أول الدعوة. إنما كانت الدعوة توجه إلى أفراد. بوسيلة فردية. ولا تلقى إلى الذين كفروا وهم متجمعون. ولم يقع شيء من هذا- كما تقول الروايات الراجحة- إلا بعد ثلاث سنوات من بدء الدعوة.
والسورة تشير إلى شيء من عروض المشركين على النبي صلى الله عليه وسلم للالتقاء في منتصف الطريق، والتهادن على تراض في القضية التي يختلفون عليها وهي قضية العقيدة: {ودوا لو تدهن فيدهنون}.. وظاهر أن مثل هذه المحاولة لا تكون والدعوة فردية، ولا خطر منها. إنما تكون بعد ظهورها، وشعور المشركين بخطرها.
وهكذا تتضافر الشواهد على أن هذه السورة نزلت متأخرة عن أيام الدعوة الأولى. وأن هناك ثلاث سنوات على الأقل- قابلة للزيادة- بين بدء الدعوة وبين وقت نزولها. ولا يعقل أن ثلاث سنوات مرت لم يتنزل فيها قرآن. والطبيعي أن تكون هناك سور كثيرة، وأجزاء من سور قد نزلت في هذه الفترة، تتحدث عن ذات العقيدة بدون مهاجمة عنيفة للمكذبين بها كالوارد في هذه السورة منذ مطلعها.
ولكن هذا لا ينفي أن تكون هذه السورة وسورتا المدثر والمزمل قد نزلت في الفترة الأولى من الدعوة. وإن لم يكن ذلك أول ما نزل كما هو وارد في المصاحف، للأسباب التي أوردناها هنا. وهي تكاد تنطبق كذلك على سورتي المزمل والمدثر.
لقد كانت هذه الغرسة- غرسة العقيدة الإسلامية- تودع في الأرض لأول مرة في صورتها الرفيعة المجردة الناصعة. وكانت غريبة على حس الجاهلية السائدة، لا في الجزيرة العربية وحدها بل كذلك في أنحاء الأرض جميعا.
وكانت النقلة عظيمة بين الصورة الباهتة المحرفة المشوهة من ملة إبراهيم التي يستمسك بخيوط حائلة منها مشركو قريش، ويلصقون بها الترهات والأساطير والأباطيل السائدة عندهم، وبين الصورة الباهرة العظيمة المستقيمة الواضحة البسيطة الشاملة المحيطة التي جاءهم بها محمد صلى الله عليه وسلم متفقة في أصولها مع الحنيفية الأولى- دين إبراهيم عليه السلام- وبالغة نهاية الكمال الذي يناسب كونها الرسالة الأخيرة للأرض، الباقية لتخاطب الرشد العقلي في البشرية إلى آخر الزمان.
وكانت النقلة عظيمة بين الشرك بالله وتعدد الأرباب، وعبادة الملائكة وتماثيلها، والتعبد للجن وأرواحها، وسائر هذه التصورات المضطربة المفككة التي تتألف منها العقيدة الجاهلية.. وبين الصورة الباهرة التي يرسمها القرآن للذات الإلهية الواحدة وعظمتها وقدرتها، وتعلق إرادتها بكل مخلوق.
كذلك كانت النقلة عظيمة بين الطبقية السائدة في الجزيرة، والكهانة السائدة في ديانتها، واختصاص طبقات بالذات بالسيادة والشرف وسدانة الكعبة والقيام بينها وبين العرب الآخرين.. وبين البساطة والمساواة أمام الله والاتصال المباشر بينه وبين عباده كما جاء بها القرآن.
ومثلها كانت النقلة بين الأخلاق السائدة في الجاهلية والأخلاق التي جاء القرآن يبشر بها، وجاء محمد صلى الله عليه وسلم يدعو إليها ويمثلها.
وكانت هذه النقلة وحدها كافية للتصادم بين العقيدة الجديدة وبين قريش ومعتقداتها وأخلاقها. ولكن هذه لم تكن وحدها. فقد كان إلى جانبها اعتبارات- ربما كانت أضخم في تقدير قريش من العقيدة ذاتها- على ضخامتها.
كانت هناك الاعتبارات الاجتماعية التي دعت بعضهم أن يقول كما حكى عنهم القرآن الكريم: {لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم}.. والقريتان هما مكة والطائف. فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم مع شرف نسبه، وأنه في الذؤابة من قريش، لم تكن له مشيخة فيهم ولا رياسة قبل البعثة. بينما كان هناك مشيخة قريش ومشيخة ثقيف وغيرهما، في بيئة تجعل للمشيخة والرياسة القبلية كل الاعتبار، فلم يكن من السهل الانقياد خلف محمد صلى الله عليه وسلم من هؤلاء المشيخة!
وكانت هناك الاعتبارات العائلية التي تجعل رجلا كأبي جهل (عمرو بن هشام) يأبى أن يسلم بالحق الذي يواجهه بقوة في الرسالة الإسلامية، لأن نبيها من بني عبد مناف.. وذلك كما ورد في قصته مع الأخنس بن شريق وأبي سفيان بن حرب، حين خرجوا ثلاث ليال يستمعون القرآن خفية، وهم في كل ليلة يتواعدون على عدم العودة خيفة أن يراهم الناس فيقع في نفوسهم شيء. فلما سأل الأخنس بن شريق أبا جهل رأيه فيما سمع من محمد كان جوابه: (ماذا سمعت؟ تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف: أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا. حتى إذا تجاثينا على الركب، وكنا كفرسي رهان، قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء. فمتى ندرك مثل هذه؟ والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه!).
وكانت هناك اعتبارات أخرى نفعية وطبقية ونفسية من ركام الجاهلية في المشاعر والتصورات والأوضاع كلها تحاول قتل تلك الغرسة الجديدة في مغرسها بكل وسيلة قبل أن تثبت جذورها وتتعمق، وقبل أن تمتد فروعها وتتشابك. وبخاصة بعد أن تجاوزت دور الدعوة الفردية؛ وأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يجهر بالدعوة؛ وأخذت معالم الدعوة الجديدة تبرز، كما أخذ القرآن يتنزل بتسفيه عقيدة الشرك وما وراءها من الآلهة المدعاة والتصورات المنحرفة والتقاليد الباطلة.
والرسول صلى الله عليه وسلم ولو أنه نبي، ولو أنه يتلقى من ربه الوحي، ولو أنه يتصل بالملأ الأعلى.. هو بشر، تخالجه مشاعر البشر. وكان يتلقى هذه المقاومة العنيفة، وتلك الحرب التي شنها عليه المشركون، ويعاني وقعها العنيف الأليم، هو والحفنة القليلة التي آمنت به على كره من المشركين.
وكان صلى الله عليه وسلم يسمع والمؤمنون به يسمعون، ما كان يتقوله عليه المشركون، ويتطاولون به على شخصه الكريم، {ويقولون إنه لمجنون}.. ولم تكن هذه إلا واحدة من السخريات الكثيرة، التي حكاها القرآن في السور الأخرى؛ والتي كانت توجه إلى شخصه صلى الله عليه وسلم وإلى الذين آمنوا معه. وغير الأذى الذي كان يصيب الكثيرين منهم على أيدي أقربائهم الأقربين!
والسخرية والاستهزاء- مع الضعف والقلة- مؤذيان أشد الإيذاء للنفس البشرية، ولو كانت هي نفس رسول.
ومن ثم نرى في السور المكية- كسور هذا الجزء- أن الله كأنما يحتضن- سبحانه- رسوله والحفنة المؤمنة معه، ويواسيه ويسري عنه، ويثني عليه وعلى المؤمنين. ويبرز العنصر الأخلاقي الذي يتمثل في هذه الدعوة وفي نبيها الكريم. وينفي ما يقوله المتقولون عنه، ويطمئن قلوب المستضعفين بأنه هو يتولى عنهم حرب أعدائهم، ويعفيهم من التفكير في أمر هؤلاء الأعداء الأقوياء الأغنياء!
ونجد من هذا في سورة القلم مثل قوله تعالى عن النبي صلى الله عليه وسلم:
{ن والقلم وما يسطرون ما أنت بنعمة ربك بمجنون وإن لك لأجرا غير ممنون وإنك لعلى خلق عظيم}..
وقوله تعالى عن المؤمنين:
إن للمتقين عند ربهم جنات النعيم. أفنجعل المسلمين كالمجرمين؟ مالكم؟ كيف تحكمون؟!..
ويقول عن أحد أعداء النبي البارزين:
{ولا تطع كل حلاف مهين هماز مشاء بنميم مناع للخير معتد أثيم عتل بعد ذلك زنيم أن كان ذا مال وبنين إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين سنسمه على الخرطوم}..
ثم يقول عن حرب المكذبين عامة:
{فذرني ومن يكذب بهذا الحديث سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم إن كيدي متين}..
وذلك غير عذاب الآخرة المذل للمتكبرين:
{يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون..}
ويضرب لهم أصحاب الجنة- جنة الدنيا- مثلا على عاقبة البطر تهديدا لكبراء قريش المعتزين بأموالهم وأولادهم ممن لهم مال وبنون؛ الكائدون للدعوة بسبب مالهم من مال وبنين.
وفي نهاية السورة يوصي النبي صلى الله عليه وسلم بالصبر الجميل: {فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت..}.
ومن خلال هذه المواساة وهذا الثناء وهذا التثبيت، مع الحملة القاصمة على المكذبين والتهديد الرهيب، يتولى الله- سبحانه- بذاته حربهم في ذلك الأسلوب العنيف.. من خلال هذا كله نتبين ملامح تلك الفترة، فترة الضعف والقلة، وفترة المعاناة والشدة، وفترة المحاولة القاسية لغرس تلك الغرسة الكريمة في تلك التربة العنيدة!
كذلك نلمح من خلال أسلوب السورة وتعبيرها وموضوعاتها ملامح البيئة التي كانت الدعوة الإسلامية تواجهها. وهي ملامح فيها سذاجة وبدائية في التصور والتفكير والمشاعر والاهتمامات والمشكلات على السواء.
نلمح هذه السذاجة في طريقة محاربتهم للدعوة بقولهم للنبي صلى الله عليه وسلم {إنه لمجنون}!
من الاية 2 الى الاية 3
{ما أنت بِنِعْمةِ ربِّك بِمجْنُونٍ (2) وإِنّ لك لأجْرا غيْر ممْنُونٍ (3)}
وهو اتهام لا حبكة فيه ولا براعة، وأسلوب من لايجد إلا الشتمة الغليظة يقولها بلا تمهيد ولا برهان، كما يفعل السذج البدائيون.
ونلمحها في الطريقة التي يرد الله بها عليهم فريتهم ردا يناسب حالهم: {ما أنت بنعمة ربك بمجنون وإن لك لأجرا غير ممنون وإنك لعلى خلق عظيم فستبصر ويبصرون بأيكم المفتون}.. وكذلك في التهديد المكشوف العنيف: {فذرني ومن يكذب بهذا الحديث سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم إن كيدي متين}..
ونلمحها في رد هذا السب على رجل منهم: {ولا تطع كل حلاف مهين هماز مشاء بنميم مناع للخير معتد أثيم عتل بعد ذلك زنيم...}.
ونلمحها في القصة- قصة أصحاب الجنة- التي ضربها الله لهم. وهي قصة قوم سذج في تفكيرهم وتصورهم وبطرهم، وفي حركاتهم كذلك وأقوالهم {وهم يتخافتون ألا يدخلنها اليوم عليكم مسكين..} الخ.
وأخيرا نلمح سذاجتهم من خلال ما يوجهه إليهم من الجدل: {أم لكم كتاب فيه تدرسون إن لكم فيه لما تخيرون أم لكم أيمان علينا بالغة إلى يوم القيامة إن لكم لما تحكمون سلهم أيهم بذلك زعيم}...
وهي ملامح تظهر بوضوح من خلال التعبير القرآني، وتفيد في دراسة السيرة ووقائعها وخطوات الدعوة فيها؛ ومدى ما ارتفع القرآن بعد ذلك بهذه البيئة وبتلك الجماعة في أواخر عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ومدى ما نقلها من هذه السذاجة في التفكير والتصور والشعور والاهتمام. كما يتضح في أساليب الخطاب فيما بعد، وفي الحقائق والمشاعر والتصورات والاهتمامات بعد عشرين عاما لا تزيد. وهي في حياة الأمم ومضة لا تذكر. ولا تقاس إليها تلك النقلة الواسعة الشاملة.. التي انتقلتها الجماعة في هذا الوقت القصير. والتي تسلمت بها قيادة البشرية فارتفعت بتصوراتها وأخلاقها إلى القمة التي لم ترتفع إليها قيادة قط في تاريخ البشرية، لا من ناحية طبيعة العقيدة، ولا من ناحية آثارها الواقعية في حياة الإنسان في الأرض، ولا من ناحية السعة والشمول لتضم الإنسانية كلها بين جوانحها في سماحة وعطف، وفي تلبية لكل حاجاتها الشعورية، وحاجاتها الفكرية، وحاجاتها الاجتماعية، وحاجاتها التنظيمية في شتى الميادين..
إنها المعجزة تتجلى في النقلة من هذه السذاجة التي تبدو ملامحها من خلال مثل هذه السورة إلى ذلك العمق والشمول. وهي نقلة أوسع وأكبر من تحول القلة إلى كثرة، والضعف إلى قوة، لأن بناء النفوس والعقول أعسر من بناء الأعداد والصفوف. اهـ.