الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
[البقرة: 164] فذكر الله تعالى هذه الأقسام الثمانية من الدلائل والتفاوت بين الموضعين من وجوه الأول: أنه تعالى قال في سورة البقرة: {إِنَّ فِي خَلْقِ السموات والأرض} وقال ههنا: {إِنَّ فِي السموات} والصحيح عند أصحابنا أن الخلق عين المخلوق. وقد ذكر لفظ الخلق في سورة البقرة ولم يذكره في هذه السورة تنبيهًا على أنه لا يتفاوت بين أن يقال السموات وبين أن يقال خلق السموات فيكون هذا دليلًا على أن الخلق عين المخلوق الثاني: أنه ذكر هناك ثمانية أنواع من الدلائل وذكر ههنا ستة أنواع وأهمل منها الفلك والسحاب. والسبب أن مدار حركة الفلك والسحاب على الرياح المختلفة فذكر الرياح الذي هو كالسبب يغني عن ذكرهما والتفاوت الثالث: أنه جمع الكل وذكر لها مقطعًا واحدًا وههنا رتبها على ثلاثة مقاطع والغرض التنبيه على أنه لابد من إفراد كل واحد منها بنظر تام شاف الرابع: أنه تعالى ذكر في هذا الموضوع ثلاثة مقاطع أولها: يؤمنون وثانيها: يوقنون وثالثها: يعقلون. وأظن أن سبب هذا الترتيب أنه قيل إن كنتم من المؤمنين فافهموا هذه الدلائل. وإن كنتم لستم من المؤمنين بل أنتم من طلاب الحق واليقين فافهموا هذه الدلائل. وإن كنتم لستم من المؤمنين ولا من الموقنين فلا أقل من أن تكونوا من زمرة العاقلين فاجتهدوا في معرفة هذه الدلائل. واعلم أن كثيرًا من الفقهاء يقولون إنه ليس في القرآن العلوم التي يبحث عنها المتكلمون. بل ليس فيه إلا ما يتعلق بالأحكام والفقه. وذلك غفلة عظيمة لأنه ليس في القرآن سورة طويلة منفردة بذكر الأحكام وفيه سور كثيرة خصوصًا المكيات ليس فيها إلا ذكر دلائل التوحيد والنبوّة والبعث والقيامة وكل ذلك من علوم الأصو ليين. ومن تأمل علم أنه ليس في يد علماء الأصو ل إلا تفصيل ما اشتمل القرآن عليه على سبيل الإجمال.ثم قال تعالى: {تِلْكَ آيات الله نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بالحق} والمراد من قوله: {بالحق} هو أن صحتها معلومة بالدلائل العقلية وذلك لأن العلم بأنها حقة صحيحة إما أن يكون مستفادًا من النقل أو العقل والأول باطل لأن صحة الدلائل النقلية موقوفة على سبق العلم بإثبات الإله العالم القادر الحكيم وبإثبات النبوّة وكيفية دلالة المعجزات على صحتها. فلوأثبتنا هذه الأصو ل بالدلائل النقلية لزم الدور وهو باطل. ولما بطل هذا ثبت أن العلم بحقيقة هذه الدلائل لا يمكن تحصيله إلا بمحض العقل. وإذا كان كذلك كان قوله: {تِلْكَ ءايات الله نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بالحق} ومن أعظم الدلائل على الترغيب في علم الأصو ل وتقرير المباحث العقلية.ثم قال تعالى: {فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون} يعني أن من ينتفع بهذه الآيات فلا شيء بعده يجوز أن ينتفع به. وأبطل بهذا قول من يزعم أن التقليد كاف وبين أنه يجب على المكلف التأمل في دلائل دين الله. وقوله: {يُؤْمِنُونَ} قرئ بالياء والتاء. واختار أبو عبيدة الياء لأن قبله غيبة وهو قوله: {لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} و{لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} فإن قيل إن في أول الكلام خطابًا وهو قوله: {وَفِى خَلْقِكُمْ} قلنا الغيبة التي ذكرنا أقرب إلى الحرف المختلف فيه والأقرب أولى. ووجه قول من قرأ على الخطاب أن قل فيه مقدر أي قل لهم فبأي حديث بعد ذلك تؤمنون. اهـ.
وقول الآخر: الطويل: وشاهد الحوت قول أبي موسى: وقد ألقى البحر دابة مثل الظرب ودواب البحر لفظ مشهور في اللغة.وقرأ حمزة والكسائي: {آيات} بالنصب في الموضعين الآخرين. وقرأ الباقون والجمهور: {آيات} بالرفع فيهما. فأما من قرأ بالنصب فحمل {آيات} في الموضعين على نصب {إن} في قوله: {إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين} ولا يعرض في ذلك العطف على عاملين الذي لا يجيزه سيبويه وكثير من النحويين. لأنا نقدر {في} معادة في قوله: {واختلاف} وكذلك هي في مصحف ابن مسعود: {وفي اختلاف}. فكأنه قال على قراءة الجمهور: {وفي اختلاف الليل}. وذلك أن ذكرها قد تقدم في قوله: {وفي خلقكم} فلما تقدم ذكر الجار جاز حذفه من الثاني. ويقدر مثبتًا كما قدر سيبويه في قول الشاعر أبودؤاد الأيادي: المتقارب: أي وكل نار.وكما قال الآخر: الرجز: أي وبالحمأة. وهذا الاعتراض كله إنما هو في {آيات} الثاني. لأن الأول قبله حرف الجر ظاهر. وفي قراءة أبي بن كعب وابن مسعود في الثلاثة المواضع: {لآيات}. قال أبو علي: وهذا يدل على أن الكلام محمول على أن في قراءة من أسقط اللامات في الاثنين الآخرين. وأما من رفع {آيات} في الموضعين فوجهه العطف على موضع {إن} وما عملت فيه. لأن موضعها رفع بالابتداء. ووجه آخر وهو أن يكون قوله: {وفي خلقكم وما يبث} مستأنفًا. ويكون الكلام جملة معطوفة على جملة. وقال بعض الناس: يجوز أن يكون جملة في موضع الحال فلا تكون غريبة على هذا.{واختلاف الليل والنهار} إما بالنور والظلام. وإما بكونهما خلفة. والرزق المنزل من السماء: هو المطر. سماه رزقًا بماله. لأن جميع ما يرتزق فعن المطر هو.{وتصريف الرياح} هو بكونها صبًا ودبورًا وجنوبًا وشمالًا. وأيضًا فبكونها مرة رحمة ومرة عذابًا. قاله قتادة. وأيضًا بلينها وشدتها وبردها وحرها.وقرأ طلحة وعيسى: {وتصريف الريح} بالإفراد. وكذلك في جميع القرآن إلا ما كان فيه مبشرات وخالف عيسى في الحجر فقرأ: {الرياح لواقح} [الحجر: 22].وقوله: {تلك آيات الله} إشارة إلى ما ذكر.وقوله: {نتلوها} فيه حذف مضاف. أي يتلوشأنها وتفسيرها وشرح العبرة لها. ويحتمل أن يريد بـ: {آيات الله} القرآن المنزل في هذه المعاني فلا يكون في {نتلوها} حذف مضاف.وقوله: {بالحق} معناه: بالصدق والإعلام بحقائق الأمور في أنفسها.وقوله: {فبأي حديث} الآية توبيخ وتقريع. وفيه قوة التهديد.وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وأبو عمرو وأبو جعفر والأعرج وشيبة وقتادة: {يؤمنون} بالياء من تحت وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وعاصم أيضًا والأعمش {تؤمنون} بالتاء على مخاطبة الكفار. وقرأ طلحة بن مصرف: {توقنون} بالتاء من فوق من اليقين. اهـ.
فحذف (كل) المضاف إلى نار المجرورة لتقدّم ذكرها.وقيل: هو من باب العطف على عاملين.ولم يُجِزه سيبويه. وأجازه الأخفش وجماعة من الكوفيين؛ فعطف {واخْتِلاَفِ} على قوله: {وَفِي خَلْقِكُمْ} ثم قال: {وَتَصْرِيفِ الرياح آيات} فيحتاج إلى العطف على عاملين. والعطف على عاملين قبيح من أجل أن حروف العطف تنوب مناب العامل. فلم تَقْوأن تنوب مناب عاملين مختلفين؛ إذ لوناب مناب رافع وناصب لكان رافعًا ناصبًا في حال.وأما قراءة الرفع فحملا على موضع (إن) مع ما عملت فيه.وقد ألزم النحويون في ذلك أيضًا العطف على عاملين؛ لأنه عَطَف {وَاخْتِلاَفِ} على {وفِي خَلْقِكُمْ}. وعطف (آيات) على موضع (آيات) الأول. ولكنه يقدّر على تكرير (في).ويجوز أن يرفع على القطع مما قبله فيرفع بالابتداء. وما قبله خبره. ويكون عطف جملة على جملة.وحكى الفراء رفع {واختِلاف} و(آيات) جميعًا. وجعل الاختلاف هو الآيات.قوله تعالى: {تَلْكَ آيات الله} أي هذه آيات الله؛ أي حججه وبراهينه الدالة على وحدانيته وقدرته.{نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بالحق} أي بالصدق الذي لا باطل ولا كذب فيه.وقرئ {يَتْلُوهَا} بالياء.{فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ الله} وقيل بعد قرأنه {وآياته يُؤْمِنُونَ} وقراءة العامة بالياء على الخبر.وقرأ ابن مُحَيْصِن وأبو بكر عن عاصم وحمزة والكسائي {تُوْمِنُونَ} بالتاء على الخطاب. اهـ.
|