الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
ثم قال تعالى: {وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون} والمعنى أن قبل النظر ومعرفة الدليل الاحتمالات بأسرها قائمة. فالذي قالوه يحتمل وضده أيضًا يحتمل. وذلك هو أن يكون القول بالبعث والقيامة حقًا. وأن يكون القول بوجود الإله الحكيم حقًا. فإنهم لم يذكروا شبهة ضعيفة ولا قوية في أن هذا الاحتمال الثاني باطل. ولكنه خطر ببالهم ذلك الاحتمال الأول فجزموة به وأصروا عليه من غير حجة ولا بينة. فثبت أنه ليس علم ولا جزم ولا يقين في صحة القول الذي اختاروه بسبب الظن والحسبان وميل القلب إليه من غير موجب. وهذه الآية من أقوى الدلائل على أن القول بغير حجة وبيّنة قول باطل فاسد. وأن متابعة الظن والحسبان منكر عند الله تعالى.ثم قال تعالى: {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ ءاياتنا بينات مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَن قالواْ ائتوا بِآبائنا إِن كُنتُمْ صادقين} وفيه مسائل:المسألة الأولى:قرئ {حجتهم} بالنصب والرفع على تقديم خبر كان وتأخيره.المسألة الثانية:سمى قولهم حجة لوجوه الأول: أنه في زعمهم حجة الثاني: أن يكون المراد من كان حجتهم هذا فليس لهم ألبتة حجة كقوله:
أي ليس بينهم تحية لمنافاة الضرب للتحية. الثالث: أنهم ذكروها في معرض الاحتجاج بها.المسألة الثالثة:أن حجتهم على إنكار البعث أن قالوا لوصح ذلك فائتوا بآبائنا الذين ماتوا ليشهدوا لنا بصحة البعث.واعلم أن هذه الشبهة ضعيفة جدًّا. لأنه ليس كل ما لا يحصل في الحال وجب أن يكون ممتنع الحصو ل. فإن حصو ل كل واحد منا كان معدومًا من الأزل إلى الوقت الذي حصلنا فيه. ولوكان عدم الحصو ل في وقت معين يدل على امتناع الحصو ل لكان عدم حصو لنا كذلك. وذلك باطل بالاتفاق.ثم قال تعالى: {قُلِ الله يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إلى يَوْمِ القيامة} فإن قيل هذا الكلام مذكور لأجل جواب من يقول: {مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدهر} فهذا القائل كان منكرًا لوجود الإله ولوجود يوم القيامة. فكيف يجوز إبطال كلامه بقوله: {قُلِ الله يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} وهل هذا إلا إثبات للشيء بنفسه وهو باطل. قلنا إنه تعالى ذكر الاستدلال بحدوث الحيوان والإنسان على وجود الفاعل الحكيم في القرآن مرارًا وأطوارًا.فقوله ها هنا {قُلِ الله يُحْيِيكُمْ} إشارة إلى تلك الدلائل التي بيّنها وأوضحها مرارًا. وليس المقصود من ذكر هذا الكلام إثبات الإله بقول الإله. بل المقصود منه التنبيه على ما هو الدليل الحق القاطع في نفس الأمر.ولما ثبت أن الإحياء من الله تعالى. وثبت أن الإعادا مثل الإحياء الأول. وثبت أن القادر على الشيء قادر على مثله. ثبت أنه تعالى قادر على الإعادة. وثبت أن الإعادة ممكنة في نفسها. وثبت أن القادر الحكيم أخبر عن وقت وقوعها فوجب القطع بكونها حقة.وأما قوله تعالى: {ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إلى يَوْمِ القيامة لاَ رَيْبَ فِيهِ} فهو إشارة إلى ما تقدم ذكره في الآية المتقدمة. وهو أن كونه تعالى. عادلًا خالقًا بالحق منزّهًا عن الجور والظلم. يقتضي صحة البعث والقيامة.ثم قال تعالى: {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} أي لكن أكثر الناس لا يعلمون دلالة حدوث الإنسان والحيوان والنبات على وجود الإله القادر الحكيم. ولا يعلمون أيضًا أنه تعالى لما كان قادرًا على الإيجاد ابتداءً وجب أن يكون قادرًا على الإعادة ثانيًا. اهـ.
وقال عكرمة: أي وما يهلكنا إلا الله.وروى أبو هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «كان أهل الجاهلية يقولون ما يهلِكنا إلا الليل والنهار وهو الذي يهلكنا ويميتنا ويحيينا فيسبّون الدهر قال الله تعالى: يؤذيني ابن آدم يسب الدّهْرَ وأنا الدّهْرُ بيدي الأمر أقلّب الليل والنهار».قلت: قوله «قال الله» إلى آخِره نَصُّ البخاري ولفظه.وخرّجه مسلم أيضًا وأبوداود.وفي الموطأ عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يقولن أحدكم يا خيبة الدهر فإن الله هو الدهر» وقد استدلّ بهذا الحديث من قال: إن الدهر من أسماء الله.وقال: من لم يجعله من العلماء اسما إنما خرج ردًّا على العرب في جاهليتها؛ فإنهم كانوا يعتقدون أن الدهر هو الفاعل كما أخبر الله عنهم في هذه الآية؛ فكانوا إذا أصابهم ضر أوضَيْم أو مكروه نسبوا ذلك إلى الدهر فقيل لهم على ذلك: لا تسبّوا الدهر فإن الله هو الدهر؛ أي إن الله هو الفاعل لهذه الأمور التي تضيفونها إلى الدهر فيرجع السبّ إليه سبحانه؛ فَنُهوا عن ذلك.ودلّ على صحة هذا ما ذكره من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال الله تبارك وتعالى يؤذيني ابن آدم...» الحديث.ولقد أحسن من قال. وهو أبوعليّ الثقفيّ: وروي أن سالم بن عبد الله بن عمر كان كثيرًا ما يذكر الدهر فزجره أبوه وقال: إياك يا بنيّ وذِكْرَ الدهر! وأنشد: وقال أبو عبيد: ناظرت بعض الملحدة فقال: ألا تراه يقول «فإن الله هو الدهر»ا؟ فقلت: وهل كان أحد يسبّ الله في اباد الدهر. بل كانوا يقولون كما قال الأعشى: قال أبو عبيد: ومن شأن العرب أن يذمُّوا الدهر عند المصائب والنوائب؛ حتى ذكروه في أشعارهم. ونسبوا الأحداث إليه.قال عمرو بن قمِيئة: ومثله كثير في الشعر.ينسبون ذلك إلى الدهر ويضيفونه إليه. والله سبحانه الفاعل لا ربّ سواه.{وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ} أي علم.و(من) زائدة؛ أي قالوا ما قالوا شاكين.{إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} أي ما هم إلا يتكلمون بالظن.وكان المشركون أصنافًا. منهم هؤلاء. ومنهم من كان يثبت الصانع وينكر البعث. ومنهم من كان يشك في البعث ولا يقطع بإنكاره.وحدث في الإسلام أقوام ليس يمكنهم إنكار البعث خوفًا من المسلمين؛ فيتأولون ويرون القيامة موت البدن. ويرون الثواب والعقاب إلى خيالات تقع للأرواح بزعمهم؛ فشرّ هؤلاء أضرّ من شر جميع الكفار؛ لأن هؤلاء يُلبسون على الحق. ويُغتر بتلبيسهم الظاهر.والمشرك المجاهر بشركه يحذره المسلم.وقيل: نموت وتحيا اثارنا؛ فهذه حياة الذكر.وقيل: أشاروا إلى التناسخ؛ أي يموت الرجل فتجعل روحه في موات فتحيا به.قوله تعالى: {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آياتنَا بَيِّنَاتٍ} أي وإذ تُقرأ على هؤلاء المشركين آياتنا المنزلة في جواز البعث لم يكن ثَمَّ دَفْعٌ {مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَن قالواْ ائتوا بِآبائنا} {حُجَّتَهُمْ} خبر كان. والاْسم {إِلاَّ أَنْ قالوا ائتوا بِآبائنا} الموتى نسألهم عن صدق ما تقولون؛ فردّ الله عليهم بقوله: {قُلِ الله يُحْيِيكُمْ} يعني بعد كونكم نُطَفًا أمواتًا {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إلى يَوْمِ القيامة} كما أحياكم في الدنيا.{ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} أن الله يعيدهم كما بدأهم.الزمخشري: فإن قلت لم سمى قولهم حجة وليس بحجة؟ قلت: لأنهم أدْلَوْا به كما يُدْلِي المحتج بحجته. وساقوه مساقها فسُمّيت حجة على سبيل التهكم.أولأنه في حسبانهم وتقديرهم حجة.أولأنه في أسلوب قوله: كأنه قيل: ما كان حجتهم إلا ما ليس بحجة.والمراد نفي أن تكون لهم حجة ألْبَتَّةَ.فإن قلت: كيف وقع قوله: {قُلِ الله يُحْيِيكُمْ} جواب {ائتوا بِآبائنا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} قلت: لما أنكروا البعث وكذبوا الرسل. وحسبوا أن ما قالوه قول مُبَكّت ألزموا ما هم مقرّون به من أن الله عز وجل هو الذي يحييهم ثم يميتهم. وضُمّ إلى إلزام ذلك إلزام ما هو واجب الإقرأر به إن أنصفوا وأصغَوْا إلى داعي الحق وهو جمعهم يوم القيامة. ومن كان قادرًا على ذلك كان قادرًا على الإتيان بآبائهم. وكان أهون شيء عليه. اهـ.
|