فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والإيمانُ: تصديق النفس بثبوت نسبة شيء لشيء، أو بانتفاء نسبة شيء عن شيء، تصديقًا جازمًا لا يحتمل نقيض تلك النسبة، وقد اشتهر اسم الإيمان شرعًا في اليقين بالنسبة المقتضية وجود الله ووجودَ صفاته التي دلت عليها الأدلة العقلية أو الشرعية، والمقتضية مجيء رسول الله مخبرًا عن الله الذي أرسله وثبوتَ صفات الرسول عليه الصلاة والسلام التي لا يتم معنى رسالته عن الله بدونها: مثل الصدق فيما يبلغ عن الله، والعصمة عن اقتراف معصية الله تعالى.
ومعنى زيادة الإيمان: قوة اليقين في نفس المُوقن على حسب شدة الاستغناء عن استحضار الأدلة في نفسه، وعن إعادة النظر فيها، ودفععِ الشك العارض للنفس، فإنه كلما كانت الأدلة أكثر وأقوى وأجلى مقدمات كان اليقين أقوى، فتلك القوة هي المعبر عنها بالزيادة، وتفاوتها تدرج في الزيادة، ويجوز أن تسمى قلة التدرج في الأدلة نقصًا لكنه نقص عن الزيادة، وذلك مع مراعاة وجود أصل حقيقة الإيمان، لأنها لو نقصت عن اليقين لبطلت ماهية الأيمان، وقد أشار البخاري إلى هذا بقوله: باب زيادةِ الإيمان ونقصانه فإذا ترك شيئًا من الكمال فهو ناقص فلو أن نقص الأدلة بلغ بصاحبه إلى انخرَام اليقين لم يكن العلم الحاصل له إيمانًا، حتى يوصف بالنقص، فهذا هو المراد من وصف الإيمان بالزيادة، في القرآن وكلام الرسول، وهو بين.
ولم يرد عن الشريعة ذكر نقص الإيمان، وذلك هو الذي يريده جمهور علماء الأمه إذا قالوا الإيمان يزيد كما قال مالك بن أنس الإيمانُ يزيد ولا ينقص، وهو عبارة كاملة، وقد يطلق الإيمان على الأعمال التي تجب على المؤمن وهو إطلاق باعتبار كون تلك الأعمال من شرائِع الإيمان، كما أطلق على الصلاة اسم الإيمان في قوله تعالى: {وما كان الله ليضيع إيمانكم} [البقرة: 143] ولكن الاسم المضبوط لهذا المعنى هو اسم الإسلام كما يفصح عنه حديث سؤال جبريل عن الإيمان والإسلام والإحسان، فالإيمان قد يطلق على الإسلام وهو بهذا الاعتبار يوصف بالنقص والزيادة باعتبار الإكثار من الأعمال والإقلال، ولكنه ليس المراد في هذه الآية ولا في نظائِرها من آيات الكتاب وأقواللِ النبيّء صلى الله عليه وسلم وقد يريده بعض علماء الأمة فيقول: الإيمان يزيد وينقص، ولعل الذي الجأهم إلى وصفه بالنقص هو ما اقتضاه الوصف بالزيادة.
وهذا مذهبٌ أشار إليه البخاري في قوله باب من قال إن الإيمان هو العمل وقال الشيخ ابن أبي زيد وأن الإيمان قولُ باللسان واخلاصٌ بالقلب وعملٌ بالجوارح يزيد بزيادة الأعمال وينقص بنقص الأعمال فيكون فيها النقص وبها الزيادةوهو جار على طريقة السلف من إقرار ظواهر القرآن والسنة، في الأمور الاعتقادية ولكن وصف الإيمان بالنقص لا داعي إليه لعدم وجود مقتضيه لعدم وصفه بالنقص في القرآن والسنة ولهذا قال مالك الإيمان يزيد ولا ينقص.
وكيفية تأثير تلاوة الآيات في زيادة الإيمان: أن دقائِق الإعجاز التي تحتوي عليها آيات القرآن تزيد كل آية تنزل منها أو تتكرر على الأسماع سامعها يقينًا بأنها من عند الله، فتزيده استدلالًا على ما في نفسه، وذلك يُقوي الإيمان حتى يصل إلى مرتبة تقرب من الضرورة على نحو ما يحصل في تواتر الخبر من اليقين بصدق المخبرين، ويحصل مع تلك الزيادة زيادة في الإقبال عليها بشراشر القلوب ثم في العمل بما تتضمنه من أمر أو نهي، حتى يحصل كمال التقوى، فلا جرم كان لكل آية تتلى على المؤمنين زيادة في عوارض الإيمان من قوة اليقين وتكثير الأعمال فهذا وصف راسخ للآيات ويجوز أن تفسر زيادة الإيمان عند تلاوة الآيات بأنها زيادة إدراك للمعاني المؤمن بها، كما فسرت زيادة الإيمان بالنسبة إلى الأعمال، التي تجب على المؤمن إذ تلك الإدراكات تعلقات بعضها حسي وبعضها عقلي.
وحظ المقام المتعلق بآحكام الأنفال من هذه الزيادة هو أن سماع آيات حكم الأنفال يزيد إيمان المؤمنين قوة، بنبذ الشقاق والتشاجر الطارئ ببينهم في أنفس الأموال عندهم، وهو المال المكتسب من سيوفهم، فإنه أحب أموالهم إليهم.
وفي الحديث: «وجعل رزقي تحت ظل رمحي» وبذلك تتضح المناسبة بين ذكر حكم الأنفال، وتعقيبه بالأمر بالتقوى وإصلاح ذات البين والطاعة، ثم تعليل ذلك بأن شأن المؤمنين ازدياد إيمانهم عند تلاوة آيات الله.
صلة ثالثة ل {المؤمنون} أوحال منه، وجعلت فعلًا مضارعًا للدلالة على تكرر ذلك منهم، ووصفهم بالتوكل على الله وهو الاعتماد على الله في الأحوال والمساعي ليقدر للمتوكل تيسيرًا مرة ويعوضه عن الكسب المنهي عنه بآحسن منه من الحلال المأذون فيه.
وتقدم تفسير التوكل عند قوله: {فإذا عزمت فتوكل على الله} في سورة [آل عمران: 159].
ومناسبة هذا الوصف للغرض: أنهم أمروا بالتخلي عن الأنفال، والرضى بقسمة الرسول صلى الله عليه وسلم فيها، فمن كان قد حرم من نفل قتيله يتوكلُ على الله في تعويضه بأحسن منه.
وتقديم المجرور في قوله: {وعلى ربهم يتوكلون} إما للرعاية على الفاصلة فهو من مقتضيات الفصاحة مع ما فيه من الاهتمام باسم الله، وإما للتعريض بالمشركين، لأنهم يتوكلون على إعانة الأصنام، قال تعالى: {واتخذوا من دون الله آلهةً ليكونوا لهم عزًا} [مريم: 81] فيكون الكلام مدحًا للمؤمنين، وتعريضًا بذم المشركين، ثم فيه تحذير من أن تبقى في نفوس المؤمنين آثار من التعلق بما نهوا عن التعلق به، لتوهمهم أنهم إذا فوّتوه فقد أضاعوا خيرًا من الدنيا. اهـ.

.قال الشنقيطي:

قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} الآية..
هذه الآية تدل على أن وجل القلوب عند سماع ذكر الله من علامات المؤمنين.
وقد جاء في آية أخرى ما يدل على خلاف ذلك وهي قوله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}، فالمنافاة بين الطمأنينة ووجل القلوب ظاهرة.
والجواب عن هذا أن الطمأنينة تكون بانشراح الصدر بمعرفة التوحيد والوجل يكون عند خوف الزيغ والذهاب عن الهدى كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}.
وقوله تعالى: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} الآية.
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ}. اهـ.

.قال الشعراوي:

{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}
وفي هاتين الآيتين الكريمتين خمسُ صفاتٍ لها ترتيب عقائدي وحركي وجوارحي، وبذلك يتحدد تشخيص كلمة المؤمنين، هذه الصفات هي الأولى: أنه إذا ذكر الله وجلت قلوبهم، وثانية الصفات أنه: إذا تليت عليهم آيات الله زادتهم إيمانًا، ثالثة الصفات: أنهم على ربهم يتوكلون، ورابعة الصفات: أنهم يقيمون الصلاة، وخامسة الصفات: أنهم ينفقون مما رزقهم الله.
والصفة الأولى للمؤمنين هي: {إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال: 2].
والوجل هو الخوف في فزع ينشأ منه قشعريرة، واضطراب في القلب، وحينما أراد الشعراء أن يعطوا صورة بهذا الإحساس، نجد شاعرًا منهم يقول:
كأن القلب ليلة قيل يغدي ** بليلي العامرية أو يراح

قطاط غرها شرك تجا ** ذبه وقد علق الجناح

فالشاعرُ يصور حالة قلبه حين سمع بنبأ سفر حبيبته، كأنه صار مثل حمامة تحاولُ أن تخلّص نفسها من شبكة أو مَصْيدة وقعت فيها، إنها تجاذب المصيدة حتى تخرج، وهي ترجف في مثل هذا الموقف، هكذا حال القلب لحظة فراق المحبوبة عند الشاعر.
وإذا كان ذكر الله عز وجل يدفع قلوب المؤمنين إلى الوجل، ألا يتنافى ذلك مع قول الحق سبحانه وتعالى:؟ {الذين آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ الله أَلاَ بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ القلوب} [الرعد: 28].
في الحقيقة لا يوجد تعارض بين القولين؛ لأن ذكر الله تعالى يأتي بأحوال متعددة، فإن كان الإنسان مسرفًا على نفسه، فهو يرجف حين يذكر الله الذي خالف منهجه. وإن كان الإنسان يراعي حق الله في كل عمل قَدْر الاستطاعة، فلابد أن يطمئن قلبه لحظة ذكر الله؛ لأنه اتبع منهج الله ما استطاع إلى ذلك سبيلا.
إذن فالخوف أو الوجل إنما ينشأ من مَهابةِ وسطوة صفات الجلال. والاطمئنان إنما يجيء من إشراقات وحنان صفات الجمال. ولذلك تجمعها آية واحدة هي قول الحق تبارك وتعالى: {الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ الله} [الزمر: 23].
فالجلود تقشعر خوفًا ووجَلًا ومهابة من الله عز وجل، ثم تلين اطمئنانًا وطمعًا في حنان المنّان سبحانه وتعالى، لأن رّبنا قال: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الغفور الرحيم} [الحجر: 49].
إذن فلا يقولن أحد إن هناك تعارضًا بين الوجل والاطمئنان، فكلها من ذكر الله بالأحوال المتعددة للإنسان، فإذا ما وجل الإنسان فهو يتجه إلى فعل الخير فيطمئن مصداقًا لقول الحق تبارك وتعالى: {إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات ذلك ذكرى لِلذَّاكِرِينَ} [هود: 114].
وهل يزيد الإيمان أو ينقص؟
اختلف العلماء في هذا الأمر. ونحن عندما ننظر إلى قول الحق نجده يؤكد زيادة الإيمان، وحينما نسأل ما الإيمان؟ وما الإسلام؟.... إلخ نجد الجواب في توضيح الرسول صلى الله عليه وسلم ورده على السائل في الحديث الآتي والذي يرويه الصحابي الجليل سيدنا أبو هريرة رضي الله عنه حيث قال:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا بارزًا للناس فأتاه رجل فقال يا رسول الله: ما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتابه ولقائه ورسله وتؤمن بالبعث الآخر، قال يا رسول الله: ما الإسلام؟ قال: الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة المكتوبة وتؤدي الزكاة المفروضة وتصوم رمضان. قال يا رسول الله: ما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه فإنك إن لا تراه فإنه يراك. قال: يا رسول الله: متى الساعة؟ قال ما المسئول عنها بأعلم من السائل ولكن سأحدثك عن أشراطها، إذا ولدت الأمة ربها فذلك من أشراطها، وإذا كانت العراة الحفاة رءوس الناس فذاك من أشراطها، وإذا تطاول رعاءُ البَهْم في البنيان فذاك من أشراطها في خمس لا يعلمهن إلا الله. ثم تلا صلى الله عليه وسلم: إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير، ثم أدبر الرجل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ردوا عليّ الرجل فأخذوا ليردوه فلم يروا شيئا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا جبريل جاء يعلم الناس دينهم.
وجبريل عليه السلام حين جاء يسأل ليعلم بعضًا من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له الرسول عليه السلام عن الإيمان: «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر»، وفي رواية أخرى ذكر القضاء والقدر خيره وشره.
وهذه كلها أمور غيبية، ولا يقال في الأمر المحسّ إيمان، فلا يقول واحد: أنا مؤمن أنى أتحرك على الأرض؛ لأن هذا أمر حسيّ. والإيمان لا يكون إلاّ بالأمور الغيبية وأولها أن تؤمن بإله واحد لا تدركه الأبصار وهو غيب، وبملائكته وهي غيب، وصدقنا وجودها لأنه أبلغنا بذلك الوجود. وكذلك أن نؤمن بالكتب المنزلة على الرسل. وبالرسل، وصحيح أن الكتاب أمر حسيّ والرسول كذلك له وجود حسيّ، لكن لم نشاهد الوحي وهو ينزل الكتاب على الرسول. إذن فهو أمر غيبي، وكذلك الإيمان باليوم الآخر أمر غيبي أيضًا، والايمان بالقضاء والقدر وهو ما غابت عنا حكمته، وكلها إذن أمور غيبية.
هذا الإيمان في القمة، لكن هناك إيمان آخر يجيء لأننا نعلم أن التشريعات لم تأت مرة واحدة، بل كانت تأتي على مراحل، فتشريع ينزل أولًا بأن نؤمن أنه من الله. إذن فالذي يزيد وينقص من الإيمان هو الإيمان بالتكليفات، وأنها صادرة من الله عز وجل، وكلما كانت تنزل آية بتشريع جديد كانت تزيد المؤمنين إيمانًا، فعندما نزل الأمر بالصلاة آمنوا بإقامتها واستجابوا ونفذوا، ثم جاء الصوم فامتثلوا للأمر به، ثم يجيء الأمر بالزكاة فتكون الطاعة والتنفيذ، وطبعًا هناك فرق بين أن تؤمن بالشيء، وأن تفعل الشيء.
فالإيمان شيء، وفعله شيء؛ لأن الإسلام هو الانقياد الظاهري للمنهج، وتطبيق كل ما يجيء به الإسلام هو إيمان مستمر متزايد؛ لأننا آمنا بأن ما يجيء من المنهج هو من الله. إذن فالذي يزيد هو توابع الإيمان من التكليفات والامتثال لهذه التكليفات، مثال ذلك: كلنا نعرف قول الحق: {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97].
لكن هناك أناس يتمسكون بحرفية قول الحق: {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ العالمين} [آل عمران: 97].
والذين يتمسكون بحرفية القول الحق لم يتساءلوا: كفر بماذا؟ هل كفر لأنه لم يحج؟ لا، إن كفره في هذه المسألة لا يكون إلا بأن ينكر أن الحج ركن من أركان الإسلام، فالمطلوب منا إيمانيًا أن نقر بالحج كركن من أركان الإسلام في حدود الاستطاعة، فإن فعله الإنسان كان قد نفذ الحكم، أما إن لم يفعله فقد يكون ذلك في حدود عدم الاستطاعة.