الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وجملة: {يضاعف له العذاب} بدلُ اشتمال من {يلق أثامًا}، وإبدال الفعل من الفعل إبدال جملة فإن كان في الجملة فعل قابلٌ للإعراب ظهر إعراب المحل في ذلك الفعل لأنه عِماد الجملة.وجُعل الجزاء مضاعفة العذاب والخلود.فأما مضاعفة العذاب فهي أن يعذّب على كل جُرم مما ذكر عذابًا مناسبًا ولا يكتفَى بالعذاب الأكبر عن أكبر الجرائم وهو الشرك، تنبيهًا على أن الشرك لا ينجي صاحبه من تبعة ما يقترفه من الجرائم والمفاسد، وذلك لأن دعوة الإسلام للناس جاءت بالإقلاع عن الشرك وعن المفاسد كلها.وهذا معنى قول من قال من العلماء بأن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة يَعنون خطاب المؤاخذة على ما نُهوا عن ارتكابه، وليس المراد أنهم يُطلب منهم العمل إذ لا تقبل منهم الصالحات بدون الإيمان، ولذلك رام بعض أهل الأصول تخصيص الخلاف بخطاب التكليف لا الاتلاف والجنايات وخطاب الوضع كله.وأما الخلود في العذاب فقد اقتضاه الإشراك.وقوله: {مهانًا} حال قصد منها تشنيع حالهم في الآخرة، أي يعذّب ويُهان إهانة زائدة على إهانة التعذيب بأن يشتم ويحقر.وقرأ الجمهور: {يضاعفْ} بألف بعد الضاد وبجزم الفعل.وقرأه ابن كثير وابن عامر وأبو جعفر ويعقُوب {يضعَّف} بتشديد العين وبالجزم.وقرأه ابن عامر وأبو بكر عن عاصم {يضاعفُ} بألف بعد الضاد وبرفع الفعل على أنه استئناف بياني.{إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70)}.الاستثناء من العموم الذي أفادته {مَن} الشرطية في قوله: {ومَن يفعل ذلك} [الفرقان: 68].والتقدير: إلاّ مَن تاب فلا يضاعف له العذاب ولا يخلد فيه، وهذا تطمين لنفوس فريق من المؤمنين الذين قد كانوا تلبسوا بخصال أهل الشرك ثم تابوا عنها بسبب توبتهم من الشرك، وإلا فليس في دعوتهم مع الله إلهًا آخر بعد العنوان عنهم بأنهم عباد الرحمن ثناءٌ زائد.وفي صحيح مسلم: عن ابن عباس أن ناسًا من أهل الشرك قَتلوا فأكثروا وزَنَوا فأكثروا، فأتوا محمدًا صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لَحسن لو تخبرنا أن لما عملنا كفارةً فنزلت: {والذين لا يدعون مع الله إلهًا آخر} [الفرقان: 68] الآية، والمعنى: أنه يعفى عنه من عذاب الذنوب التي تاب منها، ولا يخطر بالبال أنه يعذب عذابًا غير مضاعف وغيرَ مخلَّد فيه، لأن ذلك ليس من مجاري الاستعمال العربي بل الأصل في ارتفاع الشيء المقيَّد أن يقصد منه رفعه بأسره لا رفع قيوده، إلاّ بقرينة.والتوبة: الإقلاع عن الذنب، والندمُ على ما فرط، والعزم على أن لا يعود إلى الذنب، وإذْ كان فيما سَبق ذكرُ الشرك فالتوبة هنا التلبس بالإيمان، والإيمان بعد الكفر يوجب عدم المؤاخدة كما اقترفه المشرك في مدة شركه كما في الحديث «الإسلام يجُبّ ما قبله»، ولذلك فعطف {وآمن} على {من تاب} للتنويه بالإيمان، وليبنى عليه قوله: {وعمل عملًا صالحًا} وهو شرائع الإسلام تحريضًا على الصالحات وإيماء إلى أنها لا يعتد بها إلا مع الإيمان كما قال تعالى في سورة البلد (17) {ثم كان من الذين آمنوا}، وقال في عكسه {والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا} [النور: 39].وقتل النفس الواقع في مدة الشرك يجبُّه إيمان القاتل لأجل مزية الإيمان، والإسلام يجُبّ ما قبله بلا خلاف، وإنما الخلاف الواقع بين السلف في صحة توبة القاتل إنما هو في المؤمن القاتل مؤمنًا متعمدًا.ولما كان مما تشمله هذه الآية لأن سياقها في الثناء على المؤمنين فقد دلت الآية على أن التوبة تمحو آثام كل ذنب من هذه الذنوب المعدودة ومنها قتل النفس بدون حقّ وهو المعروف من عمومات الكتاب والسنة.وقد تقدم ذلك مفصلًا في سورة النساء (93) عند قوله تعالى: {ومَن يقتُل مؤمنًا متعمّدًا} الآية.وفُرع على الاستثناء الذين تابوا وآمنوا وعملوا عَملًا صالحًا أنهم يبدل الله سيئاتهم حسنات، وهو كلام مسوق لبيان فضل التوبة المذكورة التي هي الإيمان بعد الشرك لأن {من تاب} مستثنى مِن {مَنْ يَفْعَلْ ذلك} [الفرقان: 68] فتعيّن أن السيئات المضافة إليهم هي السيئات المعروفة، أي التي تقدم ذكرها، الواقعةُ منهم في زمن شركهم.والتبديل: جعل شيء بَدَلًا عن شيء آخر، وتقدم عند قوله تعالى: {ثم بَدَّلْنا مكان السيئة الحسنة} في سورة الأعراف (95)، أي يجعل الله لهم حسنات كثيرة عوضًا عن تلك السيئات التي اقترفوها قبل التوبة وهذا التبديل جاء مجملًا وهو تبديل يكون له أثر في الآخرة بأن يعوضهم عن جزاء السيئات ثوابَ حسنات أضدادِ تلك السيئات، وهذا لفضل الإيمان بالنسبة للشرك ولفضل التوبة بالنسبة للآثام الصادرة من المسلمين.وبه يظهر موقع اسم الإشارة في قوله: {فأولئك} المفيد التنبيه على أنهم أحرياء بما أخبر عنهم به بعد اسم الإشارة لأجل ما ذكر من الأوصاف قبل اسم الإشارة، أي فأولئك التائبون المُؤمنون العاملون الصالحات في الإيمان يبدّل الله عقاب سيئاتهم التي اقترفوها من الشرك والقتل والزنا بثواب.ولم تتعرض الآية لمقدار الثواب وهو موكول إلى فضل الله، ولذلك عُقب هذا بقوله: {وكان الله غفورًا رحيمًا} المقتضي أنه عظيم المغفرة.{وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71)}.إذا وقع الإخبار عن شيء أو توصيفٌ له أو حالةٌ منه بمرادف لما سبق مثله في المعنى دون زيادة تعيَّن أن يكون الخبر الثاني مستعملًا في شيء من لوازم معنى الإخبار يبيّنه المقام، كقول أبي الطَّمحان لقَيْنِي:
وقول أبي النجم: وقول النبي صلى الله عليه وسلم «من رَآني في المنام فقد رآني» فقوله تعالى هنا: {ومن تاب وعمل صالحًا فإنه يتوب إلى الله متابًا} وقع الإخبار عن التائب بأنه تائب إذ المتاب مصدر ميمي بمعنى التوبة فيتعيّن أن يُصرف إلى معنى مفيد، فيجوز أن يكون المقصود هو قوله: {إلى الله} فيكون كناية عن عظيم ثوابه.ويجوز أن يكون المقصود ما في المضارع من الدلالة على التجدد، أي فإنه يستمر على توبته ولا يرتد على عَقبيه فيكون وعدًا من الله تعالى أن يُثبّته على القول الثابت إذا كان قد تاب وأيّد توبته بالعمل الصالح.ويجوز أن يكون المقصود ما للمفعول المطلق من معنى التأكيد، أي من تاب وعمل صالحًا فإن توبته هي التوبة الكاملة الخالصة لله على حد قول النبي صلى الله عليه وسلم «إنما الأعمال بالنيّات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأةٍ يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه» فيكون كقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا توبُوا إلى الله توبة نصوحًا} [التحريم: 8].وذكر المفسرون احتمالات أخرى بعيدة.والتوكيد ب إنّ على التقادير كلها لتحقيق مضمون الخبر. اهـ.
|