الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
ومن الثاني قول علقمة: ولا منافاة في ذلك بأنه تعالى خلقها ومدها، وذهب بأطرافها كل مذهب، أي في مدها.تنبيه:قالوا: ذكر {السماء وما بناها}، للدلالة على حدوثها، وبالتالي على حدوث الشمس والقمر، وأن تدبيرهما لله.وقوله: {وَنَفْسٍ وَمَا سواها فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وتقواها} [الشمس: 7-8]، قالوا: النفس تحمل كامل خلقة الإنسان بجسمه وروحه وقواه الإنسانية، من تفكير وسلوك... إلخ.وقيل: النفس هنا بمعنى القوى المفكرة المدركة مناط الرغبة والاختيار، وعليه فذكر النفس بالمعنى الأول، تكون تسويتها في استواء خلقتها وتركيب أعضائها، وهي غاية في الدلالة على القدرة والكمال والعلم، كما في قوله: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4]، وقال: {وفي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21]، أي من أعضاء وأجزاء وتراكيب وعدة أجهزة تبهر العقول في السمع، وفي البصر، وفي الشم، وفي الذوق، وفي الحس، ومن داخل الجسم ما هو أعظم، فحق أن يقسم بها.{وما سواها}: اي بالقدرة الباهرة، والعلم الشاملز وذكرها بالمعنى الثاني، فإنه في نظري أعظم من المعنى الأول، وذلك أن القوى المدركة والمفكرة والمقدرة للأمور التي لها الاختيار، ومنها القبول والرفض والرضى والسخط والأخذ والمنع، فإنها عالم مستقل.وإنها كما قلنا أعظم مما تقدم، لأن الجانب الخلقي قال تعالى فيه: {لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس} [غافر: 57]، ولكن في هذا الجانب قال: {إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض والجبال فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسان إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب: 72].ومعلوم أن بعض أفراد الإنسان حملها بصدق واداها بوفاء، ونال رضى الله تعالى رضي الله عنهم ورضوا عنه.فهذه النفس في تسويتها لتلقى معني الخير والشر، واستقبال الإلهام الإلهي للفجور، والتقوى أعظم دلالة على القدرة من تلك الجمادات التي لا تبدي ولا تعيد، والتي لا تمسك سلباً ولا إيجاباً.وهنا مثال بسيط فيما استحدث من آلات حفظ وحساب، كالآلة الحاسبة والعقل الألكتروني، فإنها لا تخطئ كما يقولون، وقد بهرت العقول في صفتها، ولكن بنظرة بسية نجدها أمام النفس الإنسانية كقطرة من بحر.فنقول: إنها أولاً من صنع هذه النفس ذات الإدراك النامي والاستنتاج الباهر.ثانياً: هي لا تخطئ لأنها لا تقدر أن تخطئ، لأن الخطأ ناشئ عن اجتهاد فكري، وهي لا اجتهاد لهما، إنما تشير وفق ما رسم لها كالمادة المسجلة في شريط، فإن المسجل مع دقة حفظه لها فإنه لا يقدر أن يزيد ولا ينقص حرفاً واحدًا.أما الإنسان فإنه يغير ويبدل، وعندما يبدل كلمة مكان كلمة، فلقدرته على إيجاد الكلمة الأخرى، أو لاختياره ترك الكلمة الأولى.وهكذا هنا، فالله تعال هنا خلق تلك النفس أولاً، ثم سواها على حال تقبل تلقي الإلهام بقسيمة: الفجور والتقوى، ثم تسلك أحد الطريقين، فكأن مجيء القسم بها بعد تلك المسميات دلالة على عظم ذاتها وقوة دلالتها على قدرة خالقها، وما سواها مستعدة قابلة لتلقي إلهام الله إياها.تنبيه:وفي مجيئها بعد الآيات الكونية. من شمس وقمر وليل ونهار، وسماء وأرض، لفت إلى وجوي التأمل في كل المخلوقات، يستلهم منها الدلالة على قدرة خالقها والاستدلال على تغير الأزمان، وحركة الأفلاك، وأحداث السماء بالبناء أنه لابد لهذا العالم من صانع، ولابد للمحدث المتجدد من فناء وعدم.كما عرض إبراهيم عليه السلام على النمروذ نماذج الاستدلال على الربوبية والألوهية، فأشار إلى الشمس أولاً، ثم إلى القمر، ثم انتقل به إلى الله سبحانه.وقوله: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وتقواها} [الشمس: 8]، إن كان ألهمها بمعنى هداها وبين لها، فهو كما في قوله: {وَهَدَيْنَاهُ النجدين} [البلد: 10]، وقوله: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السبيل} [الإنسان: 3]، وهذا على الهداية العامة، التي بمعنى الدلالة والبيان.وإن كان بمعنى التيسير والإلزام، ففيه إشكال القدر في الخير والاختيار.وقد بحث هذا المعنى الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في دفع إيهام الاضطراب بحثاً وافياً.قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زكاها وَقَدْ خَابَ مَن دساها} [الشمس: 9-10].هذا هو جواب القسم فيما تقدم، فالواو قد حذفت منه اللام لطول ما بين المقسم به والمقسم عليه.وقد نوه عنه الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه عند الكلام على قوله تعالى: {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النار} [ص: 64]، من سورة ص، وأنهم استدلوا لهذه الآية عليه.والأصل: لقد أفلح، فحذفت اللام لطول الفصل، و{زكاها} بمعنى طهَّرها، وأول ما يطهرها منه دنس الشرك ورجسه، كما قال تعالى: {إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ} [التوبة: 28]، وتطهيرها منه بالإيمان ثم من المعاصي بالتقوى، كما في قوله تعالى: {فَلاَ تزكوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتقى} [النجم: 32]، ثم بعمل الطاعات {قَدْ أَفْلَحَ مَن تزكى وَذَكَرَ اسم رَبِّهِ فصلى} [الأعلى: 14-15].واختلف في مرجع الضمير في {زكاها} و{دساها}، وهو يرجع إلى اختلافهم في {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وتقواها} [الشمس: 8]، فهل يعود إلى الله تعالى، كما في {وَنَفْسٍ وَمَا سواها} [الشمس: 7]، أم يعود على العبد.ويمكن أن يستدل لكل قول ببعض النصوص. فمما يستدل به للقول الأولى قوله تعالى: {بَلِ الله يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} [النساء: 49]، وقوله: {وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُمْ مِّنْ أحد أَبَداً} [النور: 21]، وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول عند هذه الآية: «اللَّهم آت نفسي تقواها وزكها، أنت خير من زكاها، وأنت وليها ومولاها».ومما استدل به للقول الثاني فكقوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تزكى وَذَكَرَ اسم رَبِّهِ فصلى} [الأعلى: 14-15]، وقوله: {وَمَن تزكى فَإِنَّمَا يتزكى لِنَفْسِهِ وَإِلَى الله المصير} [فاطر: 18]، وقوله: {فَقُلْ هَل لَّكَ إلى أَن تزكى وَأَهْدِيَكَ إلى رَبِّكَ فتخشى} [النازعات: 18-19]، وقوله: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يزكى} [عبس: 3]، وكلها كما ترى محتملة، والإشكال فيها كالإشكال فيما قبلها.والذي يظهر والله تعالى أعلم: أن الجمع بين تلك النصوص كالجمع في التي قبلها، وأن ما يتزكى به العبد من إيمان وعمل في طاعة وترك لمعصية، فإنه بفضل من الله، كما في قوله تعالى المصرح بذلك {وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُمْ مِّنْ أحد أَبَداً} [النور: 21].وكل النصوص التي فيها عود الضمير أو إسناد التزكية إلى العبد، فإنها بفضل من الله ورحمة، كما تفضل عليه بالهدى والتوفيق للإيمان، فهو الذي يتفضل عليه بالتوفيق إلى العمل الصالح. وترك المعاصي، كما في قولك (لا حول ولا قوة إلا بالله) وقوله: {فَلاَ تزكوا أَنفُسَكُمْ} [النجم: 32]، وقوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ} [النساء: 49]، إنما هو بمعنى المدح والثناء، كما في قوله تعالى: {قَالَتِ الأعراب آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ولكن قولوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14]، بل إن في قوله تعالى: {بَلِ الله يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} [النساء: 49]، الجمع بين الأمرين، القدري والشرعي، {بَلِ الله يُزَكِّي مَن يَشَاءُ} بفضله، {وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} بعدله. والله تعالى أعلم.قوله تعالى: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بطغواها إِذِ انبعث أشقاها فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ الله نَاقَةَ الله وسقياها فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا}.{ثمود} اسم للقبيلة أسند إليها التكذيب، أي بنبي الله صالح، و{أشقاها} هو عاقر الناقة أسند الانبعاث له وحه بين ما جاء بعده، {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا} [الشمس: 14]، فأسند العقر لهم.وقد تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه الجمع بين ذلك في سورة الزخرف، ومضمونه أنهم متواطئؤون معه كما في قوله: {فَنَادَوْاْ صَاحِبَهُمْ فتعاطى فَعَقَرَ} [القمر: 29]، فكانوا شركاء له في عقرها كما قال الشاعر: وفي قصة أبي طلحة في صيد الحمار الوحشي، سالهم النَّبي صلى الله عليه وسلم وهم محرومون للعمرة «هل دله عليه منكم أحد؟ قالوا: لا، قال: هل عاونه عليه منكم أحد؟ قالوا: لا، قال: فكلوا إذاً»، لأن مفهومه: لو عاونوا أو دلوا لكانوا شركاء في صيده، فيحرم عليهم لقوله تعالى: {لاَ تَقْتُلُواْ الصيد وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95]، وبعدم اشتراكهم حل لهم، فلو عاونوا أو شاركوا لحرّم عليهم، وهنا لما كانوا راضين ونادوه وتعاطى سواء عهودهم أو عطاؤهم أو غير ذلك فعقرها وحده، كان هذا باسم الجميع، فكانت العقوبة باسم الجميع، ويؤخذ من هذا قتل الجماعة بالواحد، وعقوبة الربيئة مع الجاني، والله تعالى أعلم. اهـ.
|