الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وقال آخر في غير الصرف: وقرأ قُنْبُل وأبو حَيْوَة والجَحْدَرِيّ {لسَبَأ} بإسكان الهمزة. {فِي مَسَاكِنِهِمْ} قراءة العامة على الجمع، وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم؛ لأن لهم مساكن كثيرة وليس بمسكن واحد.وقرأ إبراهيم وحمزة وحفص {مسكنِهِم} موحَّدًا، إلا أنهم فتحوا الكاف.وقرأ يحيى والأعمش والكسائيّ موحَّدًا كذلك، إلا أنهم كسروا الكاف.قال النحاس: والساكن في هذا أبين؛ لأنه يجمع اللفظ والمعنى، فإذا قلت: {مسكنهم} كان فيه تقديران: أحدهما: أن يكون واحدًا يؤدي عن الجمع.والآخر: أن يكون مصدرًا لا يثنَّى ولا يُجمع؛ كما قال الله تعالى: {خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ وعلى سَمْعِهِمْ وعلى أَبْصَارِهِمْ} [البقرة: 7] فجاء بالسمع موحَّدًا.وكذا {مَقْعَدِ صِدْقٍ} [القمر: 55] و {مَسْكِن} مثل مسجد، خارج عن القياس، ولا يوجد مثله إلا سماعًا. {آيَةٌ} اسم كان، أي علامة دالة على قدرة الله تعالى على أن لهم خالقًا خلقهم، وأن كل الخلائق لو اجتمعوا على أن يُخرجوا من الخشبة ثمرة لم يمكنهم ذلك، ولم يهتدوا إلى اختلاف أجناس الثمار وألوانها وطعومها وروائحها وأزهارها، وفي ذلك ما يدل على أنها لا تكون إلا من عالم قادر. {جَنَّتَانِ} يجوز أن يكون بدلًا من {آية} ويجوز أن يكون خبر ابتداء محذوف، فيوقف على هذا الوجه على {آية} وليس بتمام.قال الزجاج: أي الآية جنتان، فجنتان رفع لأنه خبر ابتداء محذوف.وقال الفراء: رفع تفسيرًا للآية، ويجوز أن تنصب {آية} على أنها خبر كان، ويجوز أن تنصب الجنتين على الخبر أيضًا في غير القرآن.وقال عبد الرحمن بن زيد: إن الآية التي كانت لأهل سبأ في مساكنهم أنهم لم يروا فيها بعوضة قطُّ ولا ذبابًا ولا بُرغُوثًا ولا قملة ولا عقربًا ولا حية ولا غيرها من الهوام، وإذا جاءهم الركب في ثيابهم القمل والدواب فإذا نظروا إلى بيوتهم ماتت الدواب.وقيل: إن الآية هي الجنتان، كانت المرأة تمشي فيهما وعلى رأسهما مِكتل فيمتلىء من أنواع الفواكه من غير أن تمسها بيدها؛ قاله قتادة.وروي أن الجنتين كانتا بين جبلين باليمن.قال سفيان: وُجد فيهما قصران مكتوب على أحدهما: نحن بنينا سَلْحِين في سبعين خريفًا دائبين، وعلى الآخر مكتوب: نحن بنينا صِرْواح، مَقِيل ومَراح؛ فكانت إحدى الجنتين عن يمين الوادي والأخرى عن شماله.قال القشيريّ: ولم يرد جنتين اثنتين بل أراد من الجنتين يَمنة ويَسرة؛ أي كانت بلادهم ذات بساتين وأشجار وثمار؛ تستتر الناس بظلالها. {كُلُواْ مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ} أي قيل لهم كلوا، ولم يكن ثمّ أمر، ولكنهم تمكنوا من تلك النعم.وقيل: أي قالت الرسل لهم قد أباح الله تعالى لكم ذلك؛ أي أباح لكم هذه النعم فاشكروه بالطاعة. {مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ} أي من ثمار الجنتين. {واشكروا لَهُ} يعني على ما رزقكم. {بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ} هذا كلام مستأنف؛ أي هذه بلدة طيبة أي كثيرة الثمار.وقيل: غير سبخة.وقيل: طيبة ليس فيها هوام لطيب هوائها.قال مجاهد: هي صنعاء. {وَرَبٌّ غَفُورٌ} أي والمنعم بها عليكم ربّ غفور يستر ذنوبكم، فجمع لهم بين مغفرة ذنوبهم وطيب بلدهم ولم يجمع ذلك لجميع خلقه.وقيل: إنما ذكر المغفرة مشيرًا إلى أن الرزق قد يكون فيه حرام.وقد مضى القول في هذا في أوّل البقرة.وقيل: إنما امتَنّ عليهم بعفوه عن عذاب الاستئصال بتكذيب من كذبوه من سالف الأنبياء إلى أن استداموا الإصرار فاستؤصلوا.قوله تعالى: {فَأَعْرَضُواْ} يعني عن أمره واتباع رسله بعد أن كانوا مسلمين.قال السُّدّي ووهب: بعث إلى أهل سبأ ثلاثة عشر نبيًّا فكذبوهم.قال القُشيرِيّ: وكان لهم رئيس يلقّب بالحمار، وكانوا في زمن الفترة بين عيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم.وقيل: كان له ولد فمات فرفع رأسه إلى السماء فبزق وكفر؛ ولهذا يقال: أكفر من حمار.وقال الجوهريّ: وقولهم أكفر من حمار هو رجل من عادٍ مات له أولاد فكفر كفرًا عظيمًا، فلا يمرّ بأرضه أحد إلا دعاه إلى الكفر، فإن أجابه وإلا قتله.ثم لما سال السيل بجنتيهم تفرّقوا في البلاد؛ على ما يأتي بيانه.ولهذا قيل في المثل: تفرّقوا أيادي سَبَا وقيل: الأَوْس والخزرج منهم. {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ العرم} والعرِم فيما روي عن ابن عباس: السَّد؛ فالتقدير: سَيل السَّد العَرِم.وقال عطاء: العرم اسم الوادي.قتادة: العرم وادي سبأ؛ كانت تجتمع إليه مسايل من الأودية، قيل من البحر وأودية اليمن؛ فردموا ردمًا بين جبلين وجعلوا في ذلك الردم ثلاثة أبواب بعضها فوق بعض، فكانوا يسقون من الأعلى ثم من الثاني ثم من الثالث على قدر حاجاتهم؛ فأخصبوا وكَثُرت أموالهم، فلما كذبوا الرسل سلّط الله عليهم الفأر فنقب الردم.قال وهب: كانوا يزعمون أنهم يجدون في علمهم وكهانتهم أنه يخرّب سدّهم فأرة فلم يتركوا فرجة بين صخرتين إلا ربطوا إلى جانبها هرّة؛ فلما جاء ما أراد الله تعالى بهم أقبلت فأرة حمراء إلى بعض تلك الهِرر فساورتها حتى استأخرت عن الصخرة ثم وثبت ودخلت في الفرجة التي كانت عندها ونقبت السَّد حتى أوهنته للسيل وهم لا يدرون؛ فلما جاء السيل دخل تلك الخلل حتى بلغ السد وفاض الماء على أموالهم فغرَّقها ودفن بيوتهم.وقال الزجاج: العَرِم اسم الجُرَذ الذي نقب السِّكْر عليهم، وهو الذي يقال له الخُلد وقاله قتادة أيضًا فنسب السيل إليه لأنه بسببه.وقد قال ابن الأعرابي أيضًا: العَرِم من أسماء الفأر.وقال مجاهد وابن أبي نَجيح: العَرِم ماء أحمر أرسله الله تعالى في السَّد فشقه وهدمه.وعن ابن عباس أيضًا أن العَرِم المطر الشديد.وقيل العَرْم بسكون الراء.وعن الضحاك كانوا في الفترة بين عيسى ومحمد عليهما السلام.وقال عمرو بن شُرَحْبيل: العرم المُسَنّاة؛ وقاله الجوهريّ، قال ولا واحد لها من لفظها، ويقال واحدها عَرِمة.وقال محمد بن يزيد: العَرِم كل شيء حاجز بين شيئين، وهو الذي يسمى السِّكْر، وهو جَمع عرِمة.النحاس: وما يجتمع من مطر بين جبلين وفي وجهه مُسَنّاة فهو العَرِم، والمُسَنّاة هي التي يسميها أهل مصر الجسر؛ فكانوا يفتحونها إذا شاءوا فإذا رَويت جنتاهم سدّوها.قال الهَرَوِيّ: المُسَنّاة الضفيرة تبنى للسيل تردّه، سُمّيت مُسَنّاةً لأن فيها مفاتح الماء.وروي أن العرم سدّ بنته بِلْقِيس صاحبة سليمان عليه الصلاة والسلام، وهو المسنّاة بلغة حِمير، بنته بالصخر والقار، وجعلت له أبوابًا ثلاثة بعضها فوق بعض، وهو مشتق من العرامة وهي الشدّة، ومنه: رجل عارم، أي شديد، وعَرَمت العظم أعرِمه وأعرُمه عَرْمًا إذا عَرَقته، وكذلك عَرَمت الإبل الشجر أي نالت منه.والعُرام بالضم: العراق من العظم والشجر.وتعرّمت العظم تعرّقته.وصبيّ عارم بَيِّن العُرام بالضم أي شَرِس.وقد عرم يعرم ويعرم عرامة بالفتح.والعَرِم العارم؛ عن الجوهريّ.قوله تعالى: {وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّاتِهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ} وقرأ أبو عمرو {أُكُلِ خَمْطٍ} بغير تنوين مضافًا.قال أهل التفسير والخليل: الخمط الأراك.الجوهري: الخمط ضرب من الأراك له حمل يؤكل.وقال أبو عبيدة: هو كل شجر ذي شوك فيه مرارة.الزجاج: كل نبت فيه مرارة لا يمكن أكله.المبرّد: الخمط كل ما تغيّر إلى ما لا يشتهي.واللبن خَمْط إذا حَمُض.والأوْلى عنده في القراءة {ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ} بالتنوين على أنه نعت ل {أكُل} أو بدل منه؛ لأن الأكل هو الخمط بعينه عنده، فأما الإضافة فباب جوازها أن يكون تقديرها ذواتي أكل حموضة أو أكل مرارة.
|