فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قوله تعالى: {تَوَفَّاهُمُ الملائكة} يحتمل أن يكون فعلًا ماضيًا لم يستند بعلامة تأنيث، إذ تأنيث لفظ الملائكة غير حقيقي، ويحتمل أن يكون فعلًا مستقبلًا على معنى تتوفاهم؛ فحذفت إحدى التاءين.
وحكى ابن فُورَك عن الحسن أن المعنى تحشرهم إلى النار.
وقيل: تقبض أرواحهم؛ وهو أظهر.
وقيل: المُراد بالملائكة ملك الموت؛ لقوله تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الموت الذي وُكِّلَ بِكُمْ} [السجدة: 11].
و{ظالمي أَنْفُسِهِمْ} نصب على الحال؛ أي في حال ظلمهم أنفسهم، والمراد ظالمين أنفسهم فحذف النون استخفافًا وأضاف؛ كما قال تعالى: {هَدْيًا بَالِغَ الكعبة} [المائدة: 95].
وقول الملائكة: {فِيمَ كُنتُمْ} سؤال تقريع وتوبيخ، أي أكنتم في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أم كنتم مشركين! وقول هؤلاء: {كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرض} يعني مكة، اعتذار غير صحيح؛ إذ كانوا يستطيعون الحيل ويهتدون السبيل، ثم وقفتهم الملائكة على دينهم بقولهم: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله وَاسِعَةً}.
ويفيد هذا السؤال والجواب أنهم ماتوا مسلمين ظالمين لأنفسهم في تركهم الهجرة، وإلاَّ فلو ماتوا كافرين لم يقل لهم شيء من هذا، وإنما أضرب عن ذكرهم في الصحابة لشدّة ما واقعوه، ولعدم تعيّن أحدهم بالإيمان، واحتمال ردّته. والله أعلم. اهـ.

.قال الفخر:

الظلم قد يراد به الكفر قال تعالى: {إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] وقد يراد به المعصية {فَمِنْهُمْ ظالم لّنَفْسِهِ} [فاطر: 32] وفي المراد بالظلم في هذه قولان: الأول: أن المراد الذين أسلموا في دار الكفر وبقوا هناك، ولم يهاجروا إلى دار الإسلام.
الثاني: أنها نزلت في قوم من المنافقين كانوا يظهرون الإيمان للمؤمنين خوفًا، فإذا رجعوا إلى قومهم أظهروا لهم الكفر ولم يهاجروا إلى المدينة، فبيّن الله تعالى بهذه الآية أنهم ظالمون لأنفسهم بنفاقهم وكفرهم وتركهم الهجرة.
وأما قوله تعالى: {قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ} ففيه وجوه: أحدها: فيم كنتم من أمر دينكم.
وثانيها: فيم كنتم في حرب محمد أو في حرب أعدائه.
وثالثها: لم تركتم الجهاد ولم رضيتم بالسكون في ديار الكفار؟. اهـ.
قال الفخر:
قال تعالى: {قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ في الأرض} جوابًا عن قولهم: {فِيمَ كُنتُمْ} وكان حق الجواب أن يقولوا: كنا في كذا، أو لم نكن في شيء.
وجوابه: أن معنى {فِيمَ كُنتُمْ} التوبيخ بأنهم لم يكونوا في شيء من الدين حيث قدروا على المهاجرة ولم يهاجروا، فقالوا: كنا مستضعفين اعتذارًا عما وبخوا به، واعتلالًا بأنهم ما كانوا قادرين على المهاجرة، ثم إن الملائكة لم يقبلوا منهم هذا العذر بل ردوه عليهم فقالوا: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله واسعة فتهاجروا فِيهَا} أرادوا أنكم كنتم قادرين على الخروج من مكة إلى بعض البلاد التي لا تمنعون فيها من إظهار دينكم، فبقيتم بين الكفار لا للعجز عن مفارقتهم، بل مع القدرة على هذه المفارقة، فلا جرم ذكر الله تعالى وعيدهم فقال: {فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا}. اهـ.

.قال القرطبي:

والمراد بقوله: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله وَاسِعَةً} المدينة؛ أي ألم تكونوا متمكنين قادرين على الهجرة والتباعد ممن كان يستضعفكم! وفي هذه الآية دليل على هِجران الأرض التي يعمل فيها بالمعاصي.
وقال سعيد بن جبير: إذا عمِل بالمعاصي في أرض فاخرج منها؛ وتلا: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا}.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من فرّ بِدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبرًا استوجب الجنة وكان رفيق إبراهيم ومحمدٍ عليهما السَّلام». اهـ.

.قال ابن عاشور:

وظاهر الآية أنّ الخروج إلى كلّ بلد غير بلد الفتنة يعدّ هجرة، لكن دلّ قوله: {مهاجرًا إلى الله ورسوله} [النساء: 100] أنّ المقصود الهجرة إلى المدينة وهي التي كانت واجبة، وأمّا هجرة المؤمنين إلى الحبشة فقد كانت قبل وجوب الهجرة؛ لأنّ النبي وفريقًا من المؤمنين، كانوا بعدُ بمكة، وكانت بإذن النبي صلى الله عليه وسلم وهذا ردّ مفحم لهم.
والمهاجرة: الخروج من الوطن وترك القوم، مفاعلةٌ من هَجَر إذا ترك، وإنّما اشتقّ للخروج عن الوطن اسم المهاجرة لأنها في الغالب تكون عن كراهية بين الراحل والمقيمين، فكلّ فريق يطلب ترك الآخر، ثم شاع إطلاقها على مفارقة الوطن بدون هذا القيد. اهـ.

.قال ابن عطية:

وكان العباس ممن خرج مع الكفار لكنه نجا وأسر، وكان من المطعمين في نفير بدر، قال السدي: لما أسر العباس وعقيل ونوفل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس: «افد نفسك وابن أخيك، فقال له العباس: يا رسول الله، ألم نصل قبلتك ونشهد شهادتك؟ قال يا عباس: إنكم خاصمتم فخصمتم» ثم تلا عليه هذه الآية {ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها} قال السدي: فيوم نزلت هذه الآية كان من أسلم ولم يهاجر فهو كافر حتى يهاجر، إلا من لا يستطيع حيلة ولا يهتدي سبيلًا.
قال القاضي أبو محمد- رحمه الله-: وفي هذا الذي قاله السدي نظر، والذي يجري مع الأصول أن من مات من أولئك بعد أن قبل الفتنة وارتد فهو كافر ومأواه جهنم على جهة الخلود، وهذا هو ظاهر أمر تلك الجماعة وإن فرضنا فيهم من مات مؤمنًا وأكره على الخروج، أو مات بمكة فإنما هو عاص في ترك الهجرة، مأواه جهنم على جهة العصيان دون خلود، لكن لما لم يتعين أحد أنه مات على الإيمان لم يسغ ذكرهم في الصحابة، ولم يعتد بما كان عرف منهم قبل، ولا حجة للمعتزلة في شيء من أمر هؤلاء على تكفيرهم بالمعاصي، وأما العباس فقد ذكر ابن عبد البر رحمه الله أنه أسلم قبل بدر، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم بدر من لقي العباس فلا يقتله، فإنما أخرج كرهًا.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق- رحمه الله- وذكر أنه إنما أسلم مأسورًا حين ذكر له النبي صلى الله عليه وسلم أمر المال الذي ترك عند أم الفضل، وذكر أنه أسلم في عام خيبر، وكان يكتب إلى رسول الله بأخبار المشركين، وكان يحب أن يهاجر، فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن امكث بمكة فمقامك بها أنفع لنا.
قال القاضي أبو محمد: لكن عامله رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أسر على ظاهر أمره. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من فوائد أبي حيان في الآية:

قال عليه الرحمة:
{إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض} روى البخاري عن ابن عباس: أن ناسًا من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سوادهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، يأتي السهم يرمى به فيصيب أحدهم، أو يضرب فيقتل، فنزلت.
وقيل: قوم من أهل مكة أسلموا، فلما هاجر الرسول أقاموا مع قومهم، وفتن منهم جماعة، فلما كان يوم بدر خرج منهم قوم مع الكفار، فقتلوا ببدر فنزلت.
قال عكرمة: نزلت في خمسة قتلوا يوم بدر: قيس بن النائحة بن المغيرة، والحرث بن زمعة بن الأسود بن أسد، وقيس بن الوليد بن المغيرة، وأبو العاصي بن منبه بن الحجاج، وعلي بن أمية بن خلف.
وقال النقاش: في أناس سواهم أسلموا ثم خرجوا إلى بدر، فلما رأوا قلة المسلمين قالوا: غر هؤلاء دينهم.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها هي: أنه تعالى لما ذكر ثواب من أقدم على الجهاد، أتبعه بعقاب من قعد عن الجهاد وسكن في بلاد الكفر.
قال ابن عباس ومقاتل: التوفي هنا قبض الأرواح.
وقال الحسن: الحشر إلى النار.
والملائكة هنا قيل: ملك الموت، وهو من باب إطلاق الجمع على الواحدة تفخيمًا له وتعظيمًا لشأنه، لقوله تعالى: {قل يتوفاكم ملك الموت} هذا قول الجمهور.
وقيل: المراد ملك الموت وأعوانه وهم: ستة، ثلاثة لأرواح المؤمنين، وثلاثة لأرواح الكافرين.
ويشهد لهذا {توفته رسلنا وهم لا يفرطون} وظلمهم أنفسهم بترك الهجرة، وقعودهم مع قومهم حين رجعوا للقتال، أو برجوعهم إلى الكفر، أو بشكهم، أو بإعانة المشركين، أقوال أربعة: وتوفاهم: ماض لقراءة من قرأ توفتهم، ولم يلحق تاء التأنيث للفصل، ولكون تأنيث الملائكة مجازًا أو مضارع، وأصله تتوفاهم.
وقرأ ابراهيم: توفاهم بضم التاء مضارع وفيت، والمعنى: أنّ الله يوفي الملائكة أنفسهم فيتوفونها، أي: يمكنهم من استيفائها فيستوفونها.
والضمير في قالوا للملائكة، والجملة خبر إنّ، والرابط ضمير محذوف دل عليه المعنى، التقدير: قالوا: قالوا لهم فيم كنتم؟ وهذا الاستفهام معناه التوبيخ والتقريع.
والمعنى: في أي شيء كنتم من أمر دينكم؟ وقيل: من أحوال الدنيا، وجوابهم للملائكة اعتذار عن تخلفهم عن الهجرة، وإقامتهم بدار الكفر، وهو اعتذار غير صحيح.
قال الزمخشري: (فإن قلت): كيف صح وقوع قوله: كنا مستضعفين في الأرض، جوابًا عن قولهم: فيم كنتم؟ وكان حق الجواب أن يقولوا: كنا في كذا، ولم يكن في شيء؟ (قلت): معنى فيم كنتم، التوبيخ بأنهم لم يكونوا في شيء من الدين حيث قدروا على الهجرة ولم يهاجروا، فقالوا: كنا مستضعفين اعتذارًا مما وبخوا به، واعتلالًا بالاستضعاف، وأنهم لم يتمكنوا من الهجرة حتى يكونوا في شيء انتهى كلامه.
والذي يظهر أنّ قولهم: كنا مستضعفين في الأرض جواب لقوله: فيم كنتم على المعنى، لا على اللفظ.
لأن معنى: فيم كنتم في أي حال مانعة من الهجرة كنتم، قالوا: كنا مستضعفين أي في حالة استضعاف في الأرض بحيث لا نقدر على الهجرة، وهو جواب كذب، والأرض هنا أرض مكة.
{قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها} هذا تبكيت من الملائكة لهم، وردّ لما اعتذروا به.
أي لستم مستضعفين، بل كانت لكم القدرة على الخروج إلى بعض الأقطار فتهاجروا حتى تلحقوا بالمهاجرين، كما فعل الذين هاجروا إلى الحبشة، ثم لحقوا بعد بالمؤمنين بالمدينة.
ومعنى فتهاجروا فيها أي: في قطر من أقطارها، بحيث تأمنون على دينكم.
وقيل: أرض الله أي المدينة.
واسعة آمنة لكم من العدوّ فتخرجوا إليها.
وهل هؤلاء الذين توفتهم الملائكة مسلمون خرجوا مع المشركين في قتال فقتلوا؟ أو منافقون، أو مشركون؟ ثلاثة أقوال.
الثالث قاله الحسن.
قال ابن عطية: قول الملائكة لهم بعد توفي أرواحهم يدل على أنهم مسلمون، ولو كانوا كفارًا لم يقل لهم شيء من ذلك، وإنما لم يذكروا في الصحابة لشدة ما واقعوه، ولعدم تعين أحد منهم بالإيمان، واحتمال ردته. انتهى ملخصًا.
وقال السدّي: يوم نزلت هذه الآية كان من أسلم ولم يهاجر كافرًا حتى يهاجر، إلا من لا يستطيع حيلة ولا يهتدي سبيلًا انتهى.
قال ابن عطية: والذي تقتضيه الأصول أنّ من ارتد من أولئك كافر ومأواه جهنم على جهة الخلود، ومن كان مؤمنًا فمات بمكة ولم يهاجر، أو أخرج كرهًا فقتل، عاص مأواه جهنم دون خلود.
ولا حجة للمعتزلة في هذه الآية على التكفير بالمعاصي.
وفي الآية دليل على أنَّ من لا يتمكن من إقامة دينه في بلد كما يحب، وجبت عليه الهجرة. اهـ.