الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وأخرج ابن المبارك وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وأبو نعيم في الحلية عن إبراهيم النخعي قال: كانوا يرون أنه يفرغ من حساب الناس يوم القيامة نصف النهار، فيقيل أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار، فذلك قوله: {أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرًا وأحسن مقيلًا}.وأخرج ابن جرير عن سعيد بن الصوّاف قال: بلغني أن يوم القيامة يقصر على المؤمن حتى يكون كما بين العصر إلى غروب الشمس، وإنهم ليقيلون في رياض الجنة حين يفرغ الناس من الحساب. وذلك قوله: {أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرًا وأحسن مقيلًا}.وأخرج عبد بن حميد وابن حاتم عن قتادة في قوله: {أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرًا وأحسن مقيلًا} أي مأوى ومنزلًا قال قتادة: حدث صفوان ابن محرز قال: إنه ليجاء يوم القيامة برجلين؛ كان أحدهما ملكًا في الدنيا، فيحاسب، فإذا عبد لم يعمل خيرًا فَيُؤْمَرُ به إلى النار. والآخر كان صاحب كساه في الدنيا، فيحاسب، فيقول: يا رب ما أعطيتني من شيء فتحاسبني به فيقول: صدق عبدي، فارسلوه، فيؤمر به إلى الجنة، ثم يتركان ما شاء الله، ثم يدعى صاحب النار، فإذا هو مثل الحممة السوداء فيقال له: كيف وجدت مقيلك؟ فيقول: شر مقيل. فيقال له: عد. ثم يدعى صاحب الجنة، فإذا هو مثل القمر ليلة البدر فيقال له: كيف وجدت مقيلك؟ فيقول رب خير مقيل فيقال: عد.وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: إني لأعرف الساعة التي يدخل فيها أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار: الساعة التي يكون فيها ارتفاع الضحى الأكبر إذا انقلب الناس إلى أهليهم للقيلولة. فينصرف أهل النار إلى النار، وأما أهل الجنة، فينطلق بهم إلى الجنة، فكانت قيلولتهم في الجنة، وأطعموا كبد الحوت فاشبعهم كلهم، فذلك قوله: {أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرًا وأحسن مقيلًا}.وأخرج ابن عساكر عن عكرمة أنه سئل عن يوم القيامة أمن الدنيا هو أم من الآخرة؟ فقال: صدر ذلك اليوم من الدنيا، وآخره من الآخرة. اهـ.
ويتأَوَّلُه البصريون على إضمار: ألا تَرَوْنَني رجلًا. وكان يمكنُ الشيخُ أنْ يجعلَه معربًا كما ادَّعى بطريق أخرى: وهي أن يَجْعَلَ {بشرَى} عاملةً في {يومَئذٍ} أو في {للمجرمين} فيصيرُ من قبيلِ المُطَوَّل، والمُطوَّلُ معربٌ، لكنه لم يُلِمَّ بذلك. وسيأتي شيءٌ من هذا في كلام أبي البقاء رحمه الله. ويجوز أَن يكونَ {بُشرى} معربًا منصوبًا بطريقٍ أخرى. وهي أن تكونَ منصوبةً بفعلٍ مقدرٍ أي: لا يُبَشَّرون بشرى كقولِه تعالى: {لاَ مَرْحَبًا بِهِمْ} [ص: 59]، لا أهلا ولا سهلًا. إلاَّ أنَّ كلامَ الشيخِ لا يمكنُ تنزيلهُ على هذا لقولهِ: جاز أَنْ يكونَ {يومَئذٍ} و{للمجرمين} خبرين فقد حكمَ أنَّ لها خبرًا.وإذا جُعِلَتْ منصوبةً بفعلٍ مقدرٍ لا يكون ل {لا} حينئذٍ خبرٌ، لأنها داخلةٌ على ذلك الفعلِ المقدرِ. وهذا موضعٌ حَسَنٌ فتأمَّلْه.قوله: {يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ} قد تقدَّم من {يومئذٍ} أوجهٌ. وجَوَّز أبو البقاء أَنْ يكونَ منصوبًا ب {بشرى} قال: إذا قَدَّرْتَ أنها منونةٌ غيرُ مبنيةٍ مع لا ويكونُ الخبرُ {للمجرمين}.وجَوَّز أيضًا هو والزمخشريُّ أَنْ يكونَ {يومئذٍ} تكريرًا ل {يومَ يَرَوْن}. ورَدَّه الشيخ سواءً أُريد بالتكريرِ التوكيدُ اللفظيُّ أم أريد به البدلُ قال: لأنَّ يومَ منصوبٌ بما تقدَّم ذِكْرُه مِنْ اذْكُر، أو مِنْ يَعْدِمون البشرى. وما بعد لا العاملةِ في الاسمِ لا يَعْمَل فيه ما قبلَها. وعلى تقدير ما ذكراه يكون العاملُ فيه ما قبل لا. قلت: وما رُدَّ به ليس بظاهرٍ؛ وذلك لأنَّ الجملةَ المنفيَّةَ معمولةٌ للقولِ المضمرِ الواقعِ حالًا مِنَ {الملائكة}، والملائكةُ معمولةٌ ل {يَرَوْن}، ويَرَوْن معمولٌ ل {يوم} خفضًا بالإِضافة، ف {لا} وما في حَيِّزها مِنْ تتمةِ الظرفِ الأولِ من حيث إنَّها معمولةٌ لبعضِ ما في حَيِّزِه فليسَتْ بأجنبيةٍ ولا مانعةٍ مِنْ أَنْ يعملَ ما قبلَها فيما بعدَها. والعجبُ له كيف تَخَيَّلَ هذا، وغَفَلَ عَمَّا قُلْتُه فإنه واضحٌ مع التأمُّل؟و{للمُجْرمين} مِنْ وَضْعِ الظاهرِ مَوْضِعَ المضمرِ شهادةً عليهم بذلك. والضميرُ في {يقولون} يجوزُ عَوْدُه للكفارِ و{للملائكة}.و{حِجْرًا} من المصادرِ المُلْتَزَمِ إضمارُ ناصبها، ولا يُتَصَرَّف فيه. قال سيبويه: ويقولُ الرجلُ للرجل: أَتفعل كذا؟ فيقول: حِجرًا. وهي مِنْ حَجَره إذا مَنَعَه؛ لأن المستعيذَ طالبٌ من اللهِ أن يمنعَ المكروهَ لا يَلْحَقُه. وكأن المعنى: أسأل اللهَ أَنْ يمنعَه مَنْعًا ويَحْجُرَه حَجْرًا.والعامَّةُ على كسرِ الحاء. والضحاك والحسن وأبو رجاء على ضَمِّها وهو لغةٌ فيه. قال الزمخشري: ومجيئُه على فِعْل أو فُعْل في قراءةِ الحسنِ تَصَرُّفٌ فيه لاختصاصِه بموضعٍ واحد، كما كان قَعْدَك وعَمْرك كذلك. وأنشدتُ لبعض الرُجاز: وهذا الذي أنشده الزمخشريُّ يقتضي تَصَرُّفَ {حجرًا} وقد تقدَّم نصُّ سيبويهِ على أنَّه يلزمُ النصبَ. وحكى أبو البقاءِ فيه لغةً ثالثةً وهي الفتحُ. قال: وقد قُرِىء بها. فَعَلى هذا كَمَلَ فيه ثلاثُ لغاتٍ مقروءٌ بهنَّ.ومَحْجُوْرًا صفةٌ مؤكَّدةٌ للمعنى كقولهم: ذَيْل ذائِل، ومَوْت مائتِ. والحِجْر: العقلُ لأنه يمنعُ صاحبَه.{وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23)}.قوله: {هَبَاءً} الهَباءُ والهَبْوَة: الترابُ الدقيق قاله ابن عرفة. قال الجوهري: يُقال منه: هبا يَهْبو إذا ارتفع وَأَهْبَيْتُه أنا إهْباءً. وقال الخليل والزجَّاج: هو مثلُ الغبارِ الداخلِ في الكُوَّة يتراءَى مع ضوءِ الشمس. وقيل: الهَباء ما تطايَرَ مِنْ شَرَرِ النارِ إذا أُضْرِمَتْ. والواحدةُ هَباءة على حَدّ تَمْر وتمرة. ومَنْثورًا أي مُفَرَّقًا، نَثَرْتُ الشيء: فَرَّقْتُه. والنَّثْرَة: لنجومٍ متفرقة. والنَّثْرُ: الكلامُ غيرُ المنظوم على المقابلةِ بالشعرِ. وفائدةُ الوصفِ به أنَّ الهباءَ تراه منتظمًا مع الضوء فإذا حَرَّكْتُه تَفَرَّقَ فجِيِْءَ بهذه الصفةِ لتفيدَ ذلك. وقال الزمخشري: أو مفعولٌ ثالثٌ لجَعَلْناه أي: فَجَعَلْناه جامِعًا لحقارةِ الهَباء والتناثُرِ كقوله تعالى: {كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة: 65] أي: جامعين للمَسْخِ والخَسْءِ. قال الشيخ: وخالَفَ ابنُ درستويه، فخالف النحويين في مَنْعِه أن يكونَ لكان خبران وأزيدُ، وقياسُ قولِه في جَعَلَ أَنْ يمنعَ أن يكونَ لها خبرٌ ثالث. قلت: مقصودُه أنَّ كلامَ الزمخشريِّ مردودٌ قياسًا على ما مَنَعَه ابنُ درستويه مِنْ تعديدِ خبر كان.{أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (24)}.قوله: {خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ} في أفْعَل هنا قولان، أحدُهما: أنها على بابِها من التفضيل. والمعنى: أنَّ المؤمنين خيرٌ في الآخرة مستقرًا مِنْ مستقرِّ الكفارِ، وأحسنُ مقيلًا مِنْ مَقِيلهم، لو فُرِض أَنْ يكونَ لهم ذلك، أو على أنهم خيرٌ في الآخرةِ منهم في الدنيا. والثاني: أَنْ تكونَ لمجردِ الوصفِ مِنْ غيرِ مفاضلةٍ. اهـ.
{أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (24)}.أصحابُ الجنةِ هم الراضون بها، الواصلون إليها، والمُكتَفون بوجدانها، فحسُنَتْ لهم أوطانُهم، وطابَ لهم مُستَقَرُّهم. اهـ.
|