الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
قوله: {وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ} في ما هذه أربعةُ أوجهٍ، أحدها: أنها موصولةٌ أي: ومن الذي عَمِلَتْه أيديهم من الغرس والمعالجة. وفيه تَجَوُّزٌ على هذا. والثاني: أنها نافيةٌ أي: لم يعملوه هم، بل الفاعلُ له هو اللَّهُ تعالى.وقرأ الأخَوان وأبو بكر بحذف الهاء والباقون {وما عَمِلَتْه} بإثباتِها. فإنْ كانَتْ ما موصولةً فعلى قراءة الأخوين وأبي بكر حُذِف العائدُ كما حُذِف في قولِه: {أهذا الذي بَعَثَ الله رَسُولًا} [الفرقان: 41] بالإِجماع. وعلى قراءةِ غيرِهم جيْءَ به على الأصل. وإن كانَتْ نافيةً فعلى قراءةِ الأخوين وأبي بكر لا ضميرَ مقدرٌ، ولكن المفعولَ محذوفٌ أي: ما عَمِلَتْ أيديهم شيئًا مِنْ ذلك، وعلى قراءةِ غيرِهم الضميرُ يعودُ على {ثَمَرِه} وهي مرسومةٌ بالهاء في غيرِ مصاحفِ الكوفةِ، وبحذفِها فيما عداها. والأخَوان وأبو بكرٍ وافقوا مصاحفهم، والباقون- غير حَفْصٍ- وافقوها أيضًا، وجعفر خالَفَ مصحفَه، وهذا يَدُلُّ على أنَّ القراءةَ متلقَّاةٌ مِنْ أفواهِ الرجال، فيكون عاصمٌ قد أقرأها لأبي بكرٍ بالهاء ولحفصٍ بدونها.الثالث: أنها نكرةٌ موصوفةٌ، والكلامُ فيها كالذي في الموصولة. والرابع: أنها مصدريةٌ أي: ومِنْ عَمَلِ أيديهم. والمصدرُ واقعٌ موقعَ المفعولِ به، فيعودُ المعنى إلى معنى الموصولة أو الموصوفة.{وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37)}.قوله: {وَآيَةٌ لَّهُمُ اليل} كقولِه و{وَآيَةٌ لَّهُمُ الأرض} [يس: 33]. و{نَسْلَخُ} استعارةٌ بديعةٌ شبَّه انكشافَ ظلمةِ الليلِ بكَشْط الجِلْد عن الشاة. وقوله: {مُظْلِمون} أي: داخلون في الظلام كقوله: {مُّصْبِحِينَ} [الحجر: 66].{وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38)}.قوله: {لِمُسْتَقَرٍّ} قيل: في الكلامِ حَذْفُ مضافٍ تقديره: تجري لجَرْي مستقرٍ لها. وعلى هذا فاللامُ للعلةِ أي: لأجل جَرْيِ مستقرٍ لها. والصحيحُ أنَّه لا حَذْفَ، وأنَّ اللامَ بمعنى إلى. ويَدُلُّ على ذلك قراءةُ بعضهم {إلى مُسْتقر}. وقرأ عبد الله وابن عباس وعكرمة وزين العابدين وابنه الباقر والصادق بن الباقر {لا مُستقرَّ} ب لا النافيةِ للجنسِ وبناءِ {مستقرَّ} على الفتح، و{لها} الخبر. وابن أبي عبلة {لا مُسْتقرٌ} بلا العاملةِ عملَ ليس، ف مُسْتَقرٌ اسمها، و{لها} في محلِّ نصبٍ خبرُها كقولِه:
والمرادُ بذلك أنها لا تستقرُّ في الدنيا بل هي دائمةُ الجريانِ، وذلك إشارةً إلى جَرْيها المذكور.{وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39)}.قوله: {والقمر قَدَّرْنَاهُ} قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرٍو برفعِه، والباقون بنصبِه. فالرفعُ على الابتداء، والنصبُ بإضمارِ فعلٍ على الاشتغالِ، والوجهان مُسْتويانِ لتقدُّمِ جملةٍ ذاتِ وجهين، وهي قوله: {والشمسُ تجري} فإنْ راعَيْتَ صدرَها رَفَعْتَ لتعطِفَ جملةً اسميةً على مثلِها، وإنْ راعَيْتَ عَجْزَها نَصَبْتَ لتعطِفَ فعليةً على مثلِها. وبهذه الآيةِ يَبْطُلُ قولُ الأخفشِ: إنه لا يجوزُ النصبُ في الاسم إلاَّ إذا كان في جملةِ الاشتغالِ ضميرٌ يعود على الاسمِ الذي تضمَّنَتْه جملةٌ ذاتُ وجهين. قال: لأنَّ المعطوفَ على الخبرِ خبرٌ فلابد مِنْ ضميرٍ يعودُ على المبتدأ فيجوزُ: زيدٌ قام وعمرًا أكرمتُه في داره، ولو لم يَقُلْ في داره لم يَجُز. ووجهُ الردِّ مِنْ هذه الآية أنَّ أربعةً من السبعةِ نصبوا، وليس في جملة الاشتغال ضميرٌ يعودُ على الشمس. وقد أُجْمع على النصب في قولِه تعالى: {والسماء رَفَعَهَا} [الرحمن: 7] بعد قوله: {والنجم والشجر يَسْجُدَانِ} [الرحمن: 5].قوله: {منازلَ} فيه أوجهٌ، أحدها: أنه مفعولٌ ثانٍ؛ لأنَّ قَدَّرنا بمعنى صَيَّرْنا. الثاني: أنه حالٌ، ولابد مِنْ حَذْفِ مضافٍ قبل {منازل} تقديرُه: ذا منازلَ. الثالث: أنه ظرفٌ أي: قَدَّرْنا مسيرَه في منازلَ، وتقدَّم نحوُه أولَ يونس.قوله: {كالعُرْجُون} العامّةُ على ضَمِّ العينِ والجيم. وفي وزنِه وجهان، أحدهما: أنه فُعْلُول فنونُه أصليةٌ، وهذا هو المرجَّحُ. والثاني: وهو قولُ الزجَّاج أنَّ نونَه مزيدةٌ، ووزنُه فُعْلُوْن، مشتقًا من الانعراجِ وهو الانعطافُ، وقرأ سليمان التيمي بكسر العين وفتح الجيم، وهما لغتان كالبُزيُوْن والبِزْيون. والعُرْجُوْن: عُوْد العِذْقِ ما بين الشَّماريخ إلى مَنْبِته من النخلةِ. وهو تشبيهٌ بديعٌ، شبَّه به القمرَ في ثلاثة أشياء: دقتِه واستقواسِه واصفرارِه.{لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)}.قوله: {سَابِقُ النهار} قرأ عمارة بنصب {النهارَ} حَذَفَ التنوين لالتقاءِ الساكنين. قال المبرد: سمعته يقرؤُها فقلت: ما هذا؟ فقال: أَرَدْتُ {سابقٌ} بالتنوين فخفَّفْتُ.{وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41)}.قوله: {أَنَّا حَمَلْنَا} مبتدأ، و{آيةٌ} خبرٌ مقدمٌ. وجَوَّز أبو البقاء أَنْ يكونَ {أنَّا حَمَلْنا} خبرَ مبتدأ محذوفٍ بناءٍ منه على أنَّ {آية لهم} مبتدأٌ وخبرٌ، كلامٌ مستقلٌ بنفسِه، كما تقدَّم في نظيرِه. والظاهرُ أنَّ الضميرين في {لهم} و{ذريتهم} لشيءٍ واحدٍ. ويُراد بالذريَّة آباؤهم المحمولون في سفينة نوح عليه السلام أو يكون الضميران مختلفَيْن أي: ذرية القرون الماضية. ووجهُ الامتنانِ عليهم: أنَّهم في ذلك مثلُ الذرِّية من حيث إنهم يَنْتفعون بها كانتفاعِ أولئك.{وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42)}.قوله: {مَا يَرْكَبُونَ} هذا يَحْتمل أَنْ يكونَ من جنسِ الفلك إنْ أريد بالفَلَكِ سفينةُ نوحٍ عليه السلام خاصةً، وأن يكونَ مِنْ جنسٍ آخرَ كالإِبِلِ ونحوِها، ولهذا سَمَّتْها سُفُنَ البرِّ. وقد تقدَّم اشتقاقُ الذرِّيَّة في البقرة واختلافُ القُرَّاءِ فيها في الأعراف.قوله: {مِنْ مِثْله} أي: من مثلِ الفلك. وقيل: من مثل ما ذكرِ من خَلْقِ الأزواجِ.{وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ (43)}.وقرأ الحسن {نُغَرِّقْهُمْ} بتشديد الراء.قوله: {فلا صَرِيْخَ} فَعيل بمعنى فاعِل أي: فلا مستغيثَ. وقيل: بمعنى مُفْعِل أي: فلا مغيثَ. وهذا هو الأليقُ بالآية. وقال الزمخشري: فلا إغاثةَ جعله مصدرًا مِنْ أَصْرخ. قال الشيخ: ويَحْتاج إلى نَقْلِ أنَّ صَريخًا يكون مصدرًا بمعنى إصْراخ. والعامَّةُ على فتح {صريخ}. وحكى أبو البقاء أنه قُرئ بالرفع والتنوين. قال: ووجهُه على ما في قوله: {فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} [البقرة: 38].{إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (44)}.قوله: {إِلاَّ رَحْمَةً} منصوبٌ على المفعولِ له وهو استثناءٌ مفرغٌ. وقيل: استثناءٌ منقطعٌ. وقيل: على المصدرِ بفعلٍ مقدرٍ وعلى إسقاط الخافضِ. أي: إلاَّ برحمةٍ. والفاءُ في قوله: {فلا صريخَ} رابطةٌ لهذه الجملةِ بما قبلها. فالضميرُ في {لهم} عائدٌ على {المُغرَقين}. وجوَّز ابن عطية هذا ووجهًا آخرَ، وجعله أحسنَ منه: وهو أَنْ يكونَ استئنافَ إخبارٍ عن المسافرين في البحر ناجين كانوا أو مُغْرَقين، هم بهذه الحالةِ لا نجاةَ لهم إلاَّ برحمةِ اللَّهِ، وليس قولُه: {فَلاَ صَرِيخَ لَهُمْ} مربوطًا بالمغرقين. انتهى. وليس جَعْلُه هذا الأحسنَ بالحسنِ لئلا تخرجَ الفاءُ عن موضوعِها والكلامُ عن التئامِه. اهـ.
وأنشدوا: {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42)}.الإشارة إلى حَمْلِ الخَلْقِ في سفينة السلامة في بحار التقدير عند تلاطم أمواجها بفنونٍ من التغيير والتأثير. فكَمْ من عبدٍ غرق في اشتغاله في ليلة ونهاره، لا يستريح لحظةً من كَدِّ أفعاله، ومقاساةِ التعب في أعماله، وجَمْع ماله.فَجَرَّه ذلك إلى نسيان عاقبته ومآلِه، واستيلاء شُغْلِه بوَلَدِه وعيالِه على فِكْرِه وبالِه- وما سَعْيُه إلاَّ في وَبَالِه!وكم من عِبْدٍ غرق في لُجَّةِ هواه، فجَرَّته مُناه إلى تَحمُّلِ بلواه، وخسيس من أمر مطلوبه ومُبْتَغَاه.. ثم لا يَصَلُ قط إلى منتهاه، خَسِرَ دنياه وعقباه، وبَقِيَ عن مولاه! ومن أمثال هذا وذالك ما لا يُحْصَى، وعلى عقلِ مَنْ فكَّرَ واعتبر لا يَخْفَى.أمَّا إذا حفظ عبدًا في سفينة العناية أفرده- سبحانه- بالتحرُّرِ من رِقِّ خسائس الأمور. وشَغَلَه بظاهره بالقيام بحقِّه، وأكرمه في سرائره بفراغ القلب مع ربَّه، ورقَّاه إلى ما قال: أنا جليسُ مَنْ ذكرني.. وقُلْ في عُلُوِّ شأنِ مَنْ هذه صفته.. ولا حَرَجَ!{وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (44)}.لولا جُودُه وفَضْلُه لحَلَّ بهم من البلاء ما حَلَّ بأمثالهم، لكنه بِحُسْنِ الأفضال، يحفظهم في جميع الأحوال. اهـ.
|