فصل: (سورة فاطر: الآيات 27- 28):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.[سورة فاطر: الآيات 19- 23]:

{وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ (19) وَلا الظُّلُماتُ وَلا النُّورُ (20) وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ (21) وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلا الْأَمْواتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ (23)}.
{الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ} مثل للكافر والمؤمن، كما ضرب البحرين مثلا لهما أو للصنم واللّه عزّ وجلّ، والظلمات والنور والظنّ والحرور: مثلان للحق والباطل، وما يؤدّيان إليه من الثواب والعقاب. والأحياء والأموات: مثل للذين دخلوا في الإسلام والذين لم يدخلوا فيه، وأصروا على الكفر والحرور: السموم، إلا أنّ السموم يكون بالنهار، والحرور بالليل والنهار. وقيل: بالليل خاصة. فإن قلت: لا المقرونة بواو العطف ما هي؟ قلت: إذا وقعت الواو في النفي قرنت بها لتأكيد معنى النفي. فإن قلت: هل من فرق بين هذه الواوات؟ قلت: بعضها ضمت شفعا إلى شفع، وبعضها وترا إلى وتر {إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ} يعنى أنه قد علم من يدخل في الإسلام ممن لا يدخل فيه، فيهدى الذي قد علم أنّ الهداية تنفع فيه، ويخذل من علم أنها لا تنفع فيه. وأمّا أنت فخفى عليك أمرهم، فلذلك تحرص وتنهالك على إسلام قوم من المخذولين. ومثلك في ذلك مثل من لا يريد أن يسمع المقبورين وينذر، وذلك ما لا سبيل إليه، ثم قال {إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ} أي ما عليك إلا أن تبلغ وتنذر، فإن كان المنذر ممن يسمع الإنذار نفع، وإن كان من المصرين فلا عليك. ويحتمل أنّ اللّه يسمع من يشاء وأنه قادر على أن يهدى المطبوع على قلوبهم على وجه القسر والإلجاء، وغيرهم على وجه الهداية والتوفيق، وأما أنت فلا حيلة لك في المطبوع على قلوبهم الذين هم بمنزلة الموتى.

.[سورة فاطر: آية 24]:

{إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيها نَذِيرٌ (24)}.
{بِالْحَقِّ} حال من أحد الضميرين، يعنى: محقا أو محقين، أو صفة للمصدر، أي: إرسالا مصحوبا بالحق. أو صلة لبشير ونذير على: بشيرا بالوعد الحق، ونذيرا بالوعيد الحق. والأمّة الجماعة الكثيرة. قال اللّه تعالى: {وجد عليه أمّة من الناس} ويقال لأهل كل عصر: أمّة، وفي حدود المتكلمين: الأمّة هم المصدقون بالرسول صلى اللّه عليه وسلم دون المبعوث إليهم، وهم الذين يعتبر إجماعهم، والمراد هاهنا: أهل العصر. فإن قلت: كم من أمّة في الفترة بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام ولم يخل فيها نذير؟ قلت: إذا كانت آثار النذارة باقية لم تخل من نذير إلى أن تندرس، وحين اندرست آثار نذارة عيسى بعث اللّه محمدا صلى اللّه عليه وسلم. فإن قلت: كيف اكتفى بذكر النذير عن البشير في آخر الآية بعد ذكرهما؟ قلت لما كانت النذارة مشفوعة بالبشارة لا محالة، دلّ ذكرها على ذكرها، لاسيما قد اشتملت الآية على ذكرهما.

.[سورة فاطر: الآيات 25- 26]:

{وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (26)}.
{بِالْبَيِّناتِ} بالشواهد على صحة النبوّة وهي المعجزات {وَبِالزُّبُرِ} وبالصحف {وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ} نحو التوراة والإنجيل والزبور. لما كانت هذه الأشياء في جنسهم أسند المجيء بها إليهم إسنادا مطلقا، وإن كان بعضها في جميعهم: وهي البينات، وبعضها في بعضهم: وهي الزبر والكتاب. وفيه مسلاة لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.

.[سورة فاطر: الآيات 27- 28]:

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)}.
{أَلْوانُها} أجناسها من الرّمان والتفاح والتين والعنب وغيرها مما لا يحصر أو هيئاتها من الحمرة والصفرة والخضرة ونحوها. والجدد: الخطط والطرائق. قال لبيد:
أو مذهب جدد على ألواحه

ويقال: جدة الحمار للخطة السوداء على ظهره، وقد يكون للظبي جدتان مسكيتان تفصلان بين لوني ظهره وبطنه {وَغَرابِيبُ} معطوف على بيض أو على جدد، كأنه قيل: ومن الجبال مخطط ذو جدد، ومنها ما هو على لون واحد غرابيب. وعن عكرمة رضى اللّه عنه: هي الجبال الطوال السود. فإن قلت: الغربيب تأكيد للأسود. يقال: أسود غربيب، وأسود حلكوك: وهو الذي أبعد في السواد وأغرب فيه. ومنه الغراب. ومن حق التأكيد أن يتبع المؤكد كقولك: أصفر فاقع، وأبيض يقق وما أشبه ذلك. قلت: وجهه أن يضمر المؤكد قبله ويكون الذي بعده تفسيرا لما أضمر، كقول النابغة:
والمؤمن العائذات الطّير

وإنما يفعل ذلك لزيادة التوكيد، حيث يدل على المعنى الواحد من طريقى الإظهار والإضمار جميعا، ولابد من تقدير حذف المضاف في قوله تعالى {وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ} بمعنى: ومن الجبال ذو جدد بيض وحمر وسود، حتى يئول إلى قولك: ومن الجبال مختلف ألوانه كما قال: {ثمرات مختلفا ألوانها} {وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ} يعنى: ومنهم بعض مختلف ألوانه. وقرئ: {ألوانها} وقرأ الزهري {جدد} بالضم: جمع جديدة، وهي الجدّة، يقال: جديدة وجدد وجدائد، كسفينة وسفن وسفائن. وقد فسر بها قول أبى ذؤيب يصف حمار وحش:
جون السّراة له جدائد أربع

وروى عنه: جدد، بفتحتين، وهو الطريق الواضح المسفر وضعه موضع الطرائق والخطوط الواضحة المنفصل بعضها من بعض. وقرئ: {والدواب} مخففا ونظير هذا التخفيف قراءة من قرأ {و لا الضالين} لأنّ كل واحد منهما فرار من التقاء الساكنين، فحرك ذاك أوّ لهما، وحذف هذا آخرهما. وقوله {كَذلِكَ} أي كاختلاف الثمرات والجبال. المراد: العلماء به الذين علموه بصفاته وعدله وتوحيده، وما يجوز عليه وما لا يجوز، فعظموه وقدروه حق قدره، وخشوه حق خشيته، ومن ازداد به علما ازداد منه خوفا، ومن كان علمه به أقل كان آمن. وفي الحديث: «أعلمكم باللّه أشدّكم له خشية» وعن مسروق: كفى بالمرء علما أن يخشى، وكفى بالمرء جهلا أن يعجب بعلمه. وقال رجل للشعبى: أفتنى أيها العالم، فقال: العالم من خشي اللّه. وقيل: نزلت في أبى بكر الصديق رضى اللّه عنه وقد ظهرت عليه الخشية حتى عرفت فيه. فإن قلت: هل يختلف المعنى إذا قدّم المفعول في هذا الكلام أو أخر؟ قلت: لابد من ذلك، فإنك إذا قدمت اسم اللّه وأخرت العلماء كان المعنى: إنّ الذين يخشون اللّه من بين عباده هم العلماء دون غيرهم، وإذا عملت على العكس انقلب المعنى إلى أنهم لا يخشون إلا اللّه، كقوله تعالى {وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ} وهما معنيان مختلفان. فإن قلت: ما وجه اتصال هذا الكلام بما قبله؟ قلت: لما قال {أَلَمْ تَرَ} بمعنى ألم تعلم أن اللّه أنزل من السماء ماء، وعدد آيات اللّه وأعلام قدرته وآثار صنعته وما خلق من الفطر المختلفة الأجناس وما يستدل به عليه وعلى صفاته، أتبع ذلك {إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ} كأنه قال: إنما يخشاه مثلك ومن على صفتك: ممن عرفه حق معرفته وعلمه كنه علمه. وعن النبي صلى اللّه عليه وسلم: «أنا أرجو أن أكون أتقاكم للّه وأعلمكم به». فإن قلت: فما وجه قراءة من قرأ {إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ} وهو عمر بن عبد العزيز ويحكى عن أبى حنيفة؟ قلت: الخشية في هذه القراءة استعارة، والمعنى: إنما يجلهم ويعظمهم، كما يجل المهيب المخشى من الرجال بين الناس من بين جميع عباده {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} تعليل لوجوب الخشية، لدلالته على عقوبة العصاة وقهرهم وإثابة أهل الطاعة والعفو عنهم، والمعاقب المثيب: حقه أن يخشى.

.[سورة فاطر: الآيات 29- 30]:

{إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30)}.
{يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ} يداومون على تلاوته وهي شأنهم وديدنهم. وعن مطرف رحمه اللّه: هي آية القرّاء. وعن الكلبي رحمه اللّه: يأخذون بما فيه. وقيل: يعلمون ما فيه ويعملون به.
وعن السدى رحمه اللّه: هم أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ورضى عنهم. وعن عطاء: هم المؤمنون {يَرْجُونَ} خبر إن، والتجارة: طلب الثواب بالطاعة. {ولِيُوَفِّيَهُمْ} متعلق بلن تبور، أي: تجارة ينتفي عنها الكساد وتنفق عند اللّه ليوفيهم بنفاقها عنده {أُجُورَهُمْ} وهي ما استحقوه من الثواب وَيَزِيدَهُمْ من التفضل على المستحق، وإن شئت جعلت يَرْجُونَ في موضع الحال على: وأنفقوا راجين ليوفيهم، أي فعلوا جميع ذلك من التلاوة وإقامة الصلاة والإنفاق في سبيل اللّه لهذا الغرض، وخبر إن قوله {إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} على معنى: غفور لهم شكور لأعمالهم. والشكر مجاز عن الإثابة.

.[سورة فاطر: آية 31]:

{وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31)}.
{الْكِتابِ} القرآن. ومن للتبيين أو الجنس. ومن للتبعيض {مُصَدِّقًا} حال مؤكدة، لأنّ الحق لا ينفك عن هذا التصديق {لِما بَيْنَ يَدَيْهِ} لما تقدّمه من الكتب {لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ} يعنى أنه خبرك وأبصر أحوالك، فرآك أهلا لأن يوحى إليك مثل هذا الكتاب المعجز الذي هو عيار على سائر الكتب.

.[سورة فاطر: الآيات 32- 35]:

{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (33) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ (35)}.
فإن قلت: ما معنى قوله {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ}؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما: إنا أوحينا إليك القرآن ثم أورثنا من بعدك أي حكمنا بتوريثه. أو قال: أورثناه وهو يريد نورثه، لما عليه أخبار اللّه الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا وهم أمّته من الصحابة والتابعين وتابعيهم ومن بعدهم إلى يوم القيامة، لأن اللّه اصطفاهم على سائر الأمم، وجعلهم أمة وسطا ليكونوا شهداء على الناس، واختصهم بكرامة الانتماء إلى أفضل رسل اللّه، وحمل الكتاب الذي هو أفضل كتب اللّه، ثم قسمهم إلى ظالم لنفسه مجرم وهو المرجأ لأمر اللّه، ومقتصد: هو الذي خلط عملا صالحا وآخر سيئا، وسابق من السابقين. والوجه الثاني: أنه قدم إرساله في كل أمّة رسولا وأنهم كذبوا برسلهم وقد جاءوهم بالبينات والزبر والكتاب المنير.
ثم قال: {إنّ الذين يتلون كتاب اللّه}، فأثنى على التالين لكتبه العاملين بشرائعه من بين المكذبين بها من سائر الأمم واعترض بقوله: {وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ ثم قال ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا} أي من بعد أولئك المذكورين، يريد بالمصطفين من عباده: أهل الملة الحنيفية، فإن قلت: فكيف جعلت {جَنَّاتُ عَدْنٍ} بدلا من {الفضل الكبير} الذي هو السبق بالخيرات المشار إليه بذلك؟ قلت: لما كان السبب في نيل الثواب، نزل منزلة المسبب، كأنه هو الثواب، فأبدلت عنه جنات عدن، وفي اختصاص السابقين بعد التقسيم بذكر ثوابهم والسكوت عن الآخرين ما فيه من وجوب الحذر، فليحذر المقتصد، وليملك الظالم لنفسه حذرا وعليهما بالتوبة النصوح المخلصة من عذاب اللّه، ولا يغترا بما رواه عمر رضى اللّه عنه عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: «سابقنا سابق، ومقتصدنا ناج، وظالمنا مغفور له» فإنّ شرط ذلك صحة التوبة لقوله تعالى: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} وقوله {إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} ولقد نطق القرآن بذلك في مواضع من استقرأها اطلع على حقيقة الأمر ولم يعلل نفسه بالخدع. وقرئ {سباق}. ومعنى {بِإِذْنِ اللَّهِ} بتيسيره وتوفيقه فإن قلت: لم قدم الظالم؟ ثم المقتصد ثم السابق؟ قلت: للإيذان بكثرة الفاسقين وغلبتهم، وأن المقتصدين قليل بالإضافة إليهم والسابقون أقل من القليل. وقرئ: {جنة عدن} على الإفراد، كأنها جنة مختصة بالسابقين. و{جنات عدن} بالنصب على إضمار فعل يفسره الظاهر، أي يدخلون جنات عدن يدخلونها، و{يدخلونها} على البناء للمفعول. و{يحلون} من حليت: المرأة، فهي حال {وَلُؤْلُؤًا} معطوف على محل من أساور، ومن داخلة للتبعيض، أي: يحلون بعض أساور من ذهب، كأنه بعض سابق لسائر الأبعاض، كما سبق المسوّرون به غيرهم: وقيل: إنّ ذلك الذهب في صفاء اللؤلؤ. وقرئ:
{ولولؤا} بتخفيف الهمزة الاولى، وقرى: {الحزن} والمراد: حزن المتقين، وهو ما أهمهم من خوف سوء العاقبة، كقوله تعالى {إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ فمنّ اللّه علينا ووقانا عذاب السموم} وعن ابن عباس رضى اللّه عنهما: حزن الاعراض والآفات. وعنه: حزن الموت.
وعن الضحاك: حزن إبليس ووسوسته. وقيل: همّ المعاش. وقيل: حزن زوال النعم، وقد أكثروا حتى قال بعضهم: كراء الدار، ومعناه: أنه يعم كل حزن من أحزان الدين والدنيا حتى هذا. وعن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم «ليس على أهل لا إله إلا اللّه وحشة في قبورهم ولا في محشرهم ولا في مسيرهم، وكأنى بأهل لا إله إلا اللّه يخرجون من قبورهم وهم ينفضون التراب عن رءوسهم ويقولون الحمد للّه الذي أذهب عنا الحزن» وذكر الشكور: دليل على أن القوم كثير والحسنات، المقامة: بمعنى الإقامة، يقال: أقمت إقامة ومقاما ومقامة مِنْ فَضْلِهِ من عطائه وإفضاله، من قولهم: لفلان فضول على قومه وفواضل، وليس من الفضل الذي هو التفضل، لأن الثواب بمنزلة الأجر المستحق، والتفضل كالتبرع. وقرئ: لغوب، بالفتح:
وهو اسم ما يلغب منه، أي: لا نتكلف عملا يلغبنا: أو مصدر كالقبول والولوغ، أو صفة للمصدر، كأنه لغوب لغوب، كقولك: موت مائت، فإن قلت: ما الفرق بين النصب واللغوب؟ قلت: النصب التعب والمشقة التي تصيب المنتصب للأمر المزاول له. وأما اللغوب فما يلحقه من الفتور بسبب النصب، فالنصب: نفس المشقة والكلفة. واللغوب: نتيجته وما يحدث منه من الكلال والفترة.

.[سورة فاطر: الآيات 35- 37]:

{الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ (35) وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَ لَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37)}.
{فَيَمُوتُوا} جواب النفي، ونصبه بإضمار أن: وقرئ: {فيموتون} عطفا على يقضى، وإدخالا له في حكم النفي، أي: لا يقضى عليهم الموت فلا يموتون، كقوله تعالى {وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ}. كَذلِكَ مثل ذلك الجزاء يجزى وقرئ: {يجازى} و{نجزى كُلَّ كَفُورٍ} بالنون {يَصْطَرِخُونَ} يتصارخون: يفتعلون من الصراخ وهو الصياح بجهد وشدّة. قال:
كصرخة حبلى أسلمتها قبيلها

واستعمل في الاستغاثة لجهد المستغيث صوته. فإن قلت: هلا اكتفى بصالحا كما اكتفى به في قوله تعالى {فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحًا} وما فائدة زيادة {غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} على أنه يؤذن أنهم يعملون صالحا آخر غير الصالح الذي عملوه؟ قلت: فائدته زيادة التحسر على ما عملوه من غير الصالح مع الاعتراف به. وأما الوهم فزائل لظهور حالهم في الكفر وركوب المعاصي، ولأنهم كانوا يحسبون أنهم على سيرة صالحة، كما قال اللّه تعالى {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} فقالوا. أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نحسبه صالحا فنعمله {أَوَ لَمْ نُعَمِّرْكُمْ} توبيخ من اللّه يعنى: فنقول لهم. وقرئ: {ما يذكر فيه} من أذكر على الإدغام وهو متناول لكل عمر تمكن فيه المكلف من إصلاح شأنه وإن قصر، إلا أن التوبيخ في المتطاول أعظم.
وعن النبي صلى اللّه عليه وسلم: «العمر الذي أعذر اللّه فيه إلى ابن آدم ستون سنة».
وعن مجاهد: ما بين العشرين إلى الستين. وقيل: ثماني عشر وسبع عشر. و{النَّذِيرُ} الرسول صلى اللّه عليه وسلم. وقيل: الشيب. وقرئ: {وجاءتكم النذر} فإن قلت: علام عطف وجاءكم النذير؟
قلت: على معنى: أو لم نعمركم، لأن لفظه لفظ استخبار. ومعناه معنى إخبار، كأنه قيل: قد عمرناكم وجاءكم النذير.