الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
المسألة الثانية:اعلم أن هذه الآيات تدل على أن موسى عليه السلام راعى أنواعًا كثيرة من الأدب واللطف عندما أراد أن يتعلم من الخضر.فأحدها: أنه جعل نفسه تبعًا له لأنه قال: {هَلْ أَتَّبِعُكَ}.وثانيها: أن استأذن في إثبات هذا التبعية فإنه قال هل تأذن لي أن أجعل نفسي تبعًا لك وهذا مبالغة عظيمة في التواضع.وثالثها: أنه قال على أن: {تعلمني} وهذا إقرار له على نفسه بالجهل وعلى أستاذه بالعلم.ورابعها: أنه قال: {مِمَّا عُلّمْتَ} وصيغة من للتبعيض فطلب منه تعليم بعض ما علمه الله، وهذا أيضًا مشعر بالتواضع كأنه يقول له لا أطلب منك أن تجعلني مساويًا في العلم لك، بل أطلب منك أن تعطيني جزأً من أجزاء علمك، كما يطلب الفقير من الغني أن يدفع إليه جزأً من أجزاء ماله.وخامسها: أن قوله: {مِمَّا عُلّمْتَ} اعتراف بأن الله علمه ذلك العلم.وسادسها: أن قوله: {رَشَدًا} طلب منه للإرشاد والهداية والإرشاد هو الأمر الذي لو لم يحصل لحصلت الغواية والضلال.وسابعها: أن قوله: {تُعَلّمَنِ مِمَّا عُلّمْتَ} معناه أنه طلب منه أن يعامله بمثل ما عامله الله به وفيه إشعار بأنه يكون إنعامك علي عند هذا التعليم شبيهًا بإنعام الله تعالى عليك في هذا التعليم ولهذا المعنى قيل أنا عبد من تعلمت منه حرفًا.وثامنها: أن المتابعة عبارة عن الإتيان بمثل فعل الغير لأجل كونه فعلًا لذلك الغير، فإنا إذا قلنا: لا إله إلا الله فاليهود الذين كانوا قبلنا كانوا يذكرون هذه الكلمة فلا يجب كوننا متبعين لهم في ذكر هذه الكلمة، لأنا لا نقول هذه الكلمة لأجل أنهم قالوها بل إنما نقولها لقيام الدليل على أنه يجب ذكرها، أما إذا أتينا بهذه الصلوات الخمس على موافقة فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنما أتينا بها لأجل أنه عليه السلام أتى بها لا جرم كنا متابعين في فعل هذه الصلوات لرسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا ثبت هذا فنقول قوله: {هَلْ أَتَّبِعُكَ} يدل على أنه يأتي بمثل أفعال ذلك الأستاذ لمجرد كون ذلك الأستاذ آتيًا بها.وهذا يدل على أن المتعلم يجب عليه في أول الأمر التسليم وترك المنازعة والاعتراض.وتاسعها: أن قوله: {اتبعك} يدل على طلب متابعته مطلقًا في جميع الأمور غير مقيد بشيء دون شيء.وعاشرها: أنه ثبت بالإخبار أن الخضر عرف أولًا أنه نبي بني إسرائيل وأنه هو موسى صاحب التوراة وهو الرجل الذي كلمه الله عز وجل من غير واسطة وخصه بالمعجزات القاهرة الباهرة، ثم إنه عليه السلام مع هذه المناصب الرفيعة والدرجات العالية الشريفة أتى بهذه الأنواع الكثيرة من التواضع وذلك يدل على كونه عليه السلام آتيًا في طلب العلم بأعظم أنواع المبالغة وهذا هو اللائق به لأن كل من كانت إحاطته بالعلوم أكثر كان علمه بما فيها من البهجة والسعادة أكثر فكان طلبه لها أشد وكان تعظيمه لأرباب العلم أكمل وأشد.والحادي عشر: أنه قال: {هَلْ أَتَّبِعُكَ على أَن تعلمني} فأثبت كونه تبعًا له أولًا ثم طلب ثانيًا أن يعلمه وهذا منه ابتداء بالخدمة ثم في المرتبة الثانية طلب منه التعليم.والثاني عشر: أنه قال: {هَلْ أَتَّبِعُكَ على أَن تعلمني} فلم يطلب على تلك المتابعة على التعليم شيئًا كان قال لا أطلب منك على هذه المتابعة المال والجاه ولا غرض لي إلا طلب العلم ثم إنه تعالى حكى عن الخضر أنه قال: {إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْرًا وَكَيْفَ تَصْبِرُ على مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا} وفيه مسائل:المسألة الأولى:اعلم أن المتعلم على قسمين متعلم ليس عنده شيء من العلم ولم يمارس القيل والقال ولم يتعود التقرير والاعتراض، ومتعلم حصل العلوم الكثيرة ومارس الاستدلال والاعتراض.ثم إنه يريد أن يخالط إنسانًا أكمل منه ليبلغ درجة التمام والكمال والتعلم في هذا القسم الثاني شاق شديد، وذلك لأنه إذا رأى شيئًا أو سمع كلامًا فربما كان ذلك بحسب الظاهر منكرًا إلا أنه كان في الحقيقة حقًا صوابًا، فهذا المتعلم لأجل أنه ألف القيل والقال وتعود الكلام والجدال يغتر ظاهره ولأجل عدم كماله لا يقف على سره وحقيقته، وحينئذ يقدم على النزاع والاعتراض والمجادلة، وذلك مما يثقل سماعه على الأستاذ الكامل المتبحر فإذا اتفق مثل هذه الواقعة مرتين أو ثلاثة حصلت النفرة التامة والكراهة الشديدة، وهذا هو الذي أشار إليه الخضر بقوله: {إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْرًا} إشارة إلى أنه ألف الكلام وتعود الإثبات والإبطال والاستدلال والاعتراض، وقوله: {وَكَيْفَ تَصْبِرُ على مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا} إشارة إلى كونه غير عالم بحقائق الأشياء كما هي، وقد ذكرنا أنه متى حصل الأمران صعب السكوت وعسر التعليم وانتهى الأمر بالآخرة إلى النفرة والكراهية وحصول التقاطع والتنافر.المسألة الثانية:احتج أصحابنا بقوله: {إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْرًا} على أن الاستطاعة لا تحصل قبل الفعل.قالوا: لو كانت الاستطاعة على الفعل حاصلة قبل حصول الفعل لكانت الاستطاعة على الصبر حاصلة لموسى عليه السلام قبل حصول الصبر فيلزم أن يصير قوله: {إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْرًا} كذبًا، ولما بطل ذلك علمنا أن الاستطاعة لا توجد قبل الفعل.أجاب الجبائي عنه: أن المراد من هذا القول أنه يثقل عليه الصبر لا أنه لا يستطيعه، يقال في العرف: إن فلانًا لا يستطيع أن يرى فلانًا ولا أن يجالسه إذا كان يثقل عليه ذلك ونظيره قوله تعالى: {مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السمع} أي كان يشق عليهم الاستماع، فيقال له: هذا عدول عن الظاهر من غير دليل وإنه لا يجوز.وأقول مما يؤكد هذا الاستدلال الذي ذكره الأصحاب قوله تعالى: {وَكَيْفَ تَصْبِرُ على مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا} استبعد حصول الصبر على ما لم يقف الإنسان على حقيقته، ولو كانت الاستطاعة قبل الفعل لكانت القدرة على العلم حاصلة قبل حصول ذلك العلم، ولو كان كذلك لما كان حصول الصبر عند عدم ذلك العلم مستبعدًا لأن القادر على الفعل لا يبعد منه إقدامه على ذلك الفعل، ولما حكم الله باستبعاده علمنا أن الاستطاعة لا تحصل قبل الفعل.ثم حكى الله تعالى عن موسى أنه قال: {سَتَجِدُنِى إِن شَاء الله صَابِرًا وَلاَ أَعْصِى لَكَ أمْرًا} وفيه مسائل:المسألة الأولى:احتج الطاعنون في عصمة الله الأنبياء بهذه الآية فقالوا: إن الخضر قال لموسى: {إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْرًا} وقال موسى: {سَتَجِدُنِى إِن شَاء الله صَابِرًا وَلاَ أَعْصِى لَكَ أمْرًا} وكل واحد من هذين القولين يكذب الآخر فيلزم إلحاق الكذب بأحدهما وعلى التقديرين فيلزم صدور الكذب عن الأنبياء عليهم السلام، والجواب أن يحمل قوله: {إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْرًا} على الأكثر الأغلب وعلى هذا التقدير فلا يلزم ما ذكروه.المسألة الثانية:لفظة إن كان كذا تفيد الشك فقوله: {سَتَجِدُنِى إِن شَاء الله صَابِرًا} معناه ستجدني صابرًا إن شاء الله كوني صابرًا، وهذا يقتضي وقوع الشك في أن الله هل يريد كونه صابرًا أم لا.ولا شك أن الصبر في مقام التوقف واجب، فهذا يقتضي أن الله تعالى قد لا يريد من العبد ما أوجبه عليه، وهذا يدل على صحة قولنا: إن الله تعالى قد يأمر بالشيء مع أنه لا يريده، قالت المعتزلة: هذه الكلمة إنما تذكر رعاية للأدب فيما يريد الإنسان أن يفعله في المستقبل فيقال لهم هذا الأدب إن صح معناه فقد ثبت المطلوب، وإن فسد فأي أدب في ذكر هذا الكلام الباطل؟المسألة الثالثة:قوله تعالى: {وَلاَ أَعْصِى لَكَ أمْرًا} يدل على أن ظاهر الأمر يفيد الوجوب لأن تارك المأمور به عاص بدلالة هذه الآية، والعاصي يستحق العقاب لقوله تعالى: {وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} [الجن: 23] وهذا يدل على أن ظاهر الأمر يفيد الوجوب.المسألة الرابعة:قول الخضر لموسى عليه السلام: {وَكَيْفَ تَصْبِرُ على مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا} نسبة إلى قلة العلم والخبر، وقول موسى له: {سَتَجِدُنِى إِن شَاء الله صَابِرًا وَلاَ أَعْصِى لَكَ أمْرًا} تواضع شديد وإظهار للتحمل التام والتواضع الشديد، وكل ذلك يدل على أن الواجب على المتعلم إظهار التواضع بأقصى الغايات، وأما المعلم فإن رأى أن في التغليظ على المتعلم ما يفيده نفعًا وإرشادًا إلى الخير.فالواجب عليه ذكره فإن السكوت عنه يوقع المتعلم في الغرور والنخوة وذلك يمنعه من التعلم ثم قال: {فَإِنِ اتبعتنى فَلاَ تَسْأَلْنى عَن شيء حتى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا} أي لا تستخبرني عما تراه مني مما لا تعلم وجهه حتى أكون أنا المبتدىء لتعليمك إياه وإخبارك به، وفي قراءة ابن عامر فلا تسألن محركة اللام مشددة النون بغير ياء.وروى عنه لا تسألني مثقلة مع الياء وهي قراءة نافع، وفي قراءة الباقين لا تسألن خفيفة والمعنى واحد. اهـ.
|