فصل: الحكم الرابع: هل يُنْقى الزاني ويغرّبُ من بلده؟

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.الحكم الرابع: هل يُنْقى الزاني ويغرّبُ من بلده؟

يرى الإمام أبو حنيفة أن حدّ الزاني البكر هو الجلد مائة جلدة أو النفي ليس من الحد في شيء وأنه مفوض إلى رأي الإمام إن شاء غرّب وإن شاء ترك.
ويرى الجمهور مالك والشافعي وأحمد أن حده الجلد مائة جلدة وتغريب عام.
أدلة الأحناف:
أولًا: استدل أبو حنيفة بظاهر الآية الكريمة، فإنها اقتصرت في مقام البيان على مائة جلدة، فلو كان النفي مشروعًا لكان ذلك نسخاص للكتاب، وخبرُ الآحاد لا يقوى على نسخ الكتاب، ولو كان النفي حدًا مع الجلد لبيَّنه عليه الصلاة والسلام للصحابة لئلا يعتقدوا عند سماع التلاوة أن الجلد هو جميع الحد، ولكان وروده فيوزن ورود نقل الآية وشُهرتها، ولمّا لم يكن ذلك كذلك ثبت أنه ليس بحد، وأن حد الزنى ليس إلا الجلدُ.
ثانيًا: استدل بحديث إذا زنتْ الأمةُ فتبيّن زناها فليجلدها الحدّ ولا يُثرِّبْ عليها، صم غن زنت فلْيَبعها ولو بحبل من شعر فدل الحديث على أن الجلد هو تمام الحد، ولو كان النفي من الحد لذكره.
ثالثًا: واستدل أيضًا بما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: إذا زنى البكران فإنهما يجلدان ولا ينفيان لأن نفيهما فتنة لهما وقال: وكفى بالنفي فتنة.
أدلة الجمهور:
1- واستدل الجمهور بحديث عبادة بن الصامت المتقدم وفيه «البكرُ بالبكرِ جلدُ مائةٍ وتغريبُ عام، والثيَّبِ جلدُ مائةٍ والرجمُ».
2- قصة العسيف الذي زنى بامرأة الأعرابي وقد تقدم وفيه قوله: «إن على ابنك جلد مائة وتغريب عام» والحديث مروي في الصحيحين.
3- قالوا وقد تكرر ذكر النفي في قصة العسيف على أنه من الحد، ولا مانع من الزياة عل حكم الآية بخبر الآحاد، فقد أنزل الله الجلد قرآنًا وبقي التغريب في البكر سنة.
هل التغريب يشمل المرأة؟
ثم إن القائلين بالنفي- وهم الجمهور- اختلفوا هل التغريب خاص بالرجل أم يشمل المرأة أيضًا، فذهب مالك والأوزاعي إلى أن النفي خاص بالرجل ولا تُنفى المرأة لقوله عليه السلام: «البكر بالبكر» الحديث.
وقال الشافعي وأحمد: إن النفي عام للرجال والنساء فتغرب المرأة مع محرم وأجرته عليها ودليلهما عموم الأحاديث وهذا هو المشهور من مذهب الشافعية والحنابلة.
قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره: إنّ الزاني لا يخلو: إما أن يكون بكرًا وهو الذي لم يتزوج، أو محصنًا وهو الذي قد وَطِيءَ في نكاح صحيح وهو حر بالغ عاقل، فأما إذا كان بكرًا لم يتزوج فإن حده مائة جلدة كما في الآية، ويزاد على ذلك أن يُغرّب عامًا عن بلده عند جمهور العلماء، خلافًا لأبي حنيفة رحمه الله، فإن عنده أن التغريب إلى رأي الإمام إن شاء غرَّب، وإن شاء لم يغرِّب.
وحجة الجمهور في ذلك ما ثبت في الصحيحين. وذكر قصة العسيف التي مرّ ذكرها.
يقول الشيخ السايس في كتابه تفسير آيات الأحكام:
ويمكن الجمع بين هذه الأخبار بإبقاء الآية على حكمها، وأن الجلد هو تمام الحد، وجعل النفي على وجه التعزير، ويكون النبي صلى الله عليه وسلم قد رأى في ذلك الوقت نفي البكر لأنهم كانوا حديثي عهد بالجاهلية، فرأى ردعهم بالنفي بعد الجلد كما أمر بشق روايا الخمر، وكسر الأواني، لأنه أبلغ في الزجر وأحرى بقطع العادة.

.الحكم الخامس: ما هو حد الذمي المحصن؟

اختلف العلماء في حد الذمي المحصن فذهب الحنفية إلى أن حدَّه الجلد وذهب الشافعية والحنابلة إلى أن حده الرجم.
دليل الأحناف:
1- حديث ابن عمر: «من أشرك بالله فليس بمحصن» قالوا: والمراد به إحصان الرجم، وأما رجم الرسول صلى الله عليه وسلم لليهودِيّيْنِ فإنما كان بحكم التوراة.
2- قالوا: إن النعمة في حق المسلم أعظم فكانت جنايته أغلظ ولهذا تُشدّد العقوبة واستدلوا على ذلك بقوله تعالى في حق أمهات المؤمنين: {يا نساء النبي مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا العذاب ضِعْفَيْنِ} [الأحزاب: 30].
3- واستدلوا أيضًا بأن إحصان القذف يعتبر فيه الإسلام بالإجماع، فكذلك إحصان الرجم، والجامعُ هو كمال النعمة.
دليل الشافعية:
1- استدلوا بعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا قبلوا الجزية فلهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين».
2- واستدلوا بما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما: «أن اليهود أتوا النبي صلى الله عليه وسلم برجل وامرأة منهم قد زنيا، فقال: ما تجدون في كتابكم؟ قالوا: نسخِّم وجوههما ويخزيان، قال: كذبتم إنَّ فيها الرجم فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين، فجاءوا بقارئ لهم، فقرأ حتى إذا انتهى إلى موضع منها وضع يده عليه، فقيل له ارفع يدك، فرفع يده فإذا هي تلوح، فقالوا يا محمد: إن فيها الرجم ولكنا كنا نتكاتمه بيننا، فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما... قال: فلقد رأيته يُحنى على المرأة يقيها الحجارة بنفسه» رواه البخاري ومسلم.
وعن البراء بن عازب رضي الله عنه: مُرّ على النبي صلى الله عليه وسلم بيهودي محمّم مجلود، فدعاهم فقال: أهكذا تجدون حد الزنى في كتابكم؟ قالوا: نعم، فدعا رجلًا من علمائهم فقال: أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ قال: لا.. ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك بحد الرجم، ولكن كثر في أشرافنا وكنا إذا أخذنا الشريف تركناه، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد فقلنا: تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع، فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم إني أول من أحيا أمرك إذْ أماتوه» فأمر به فرجم، فأنزل الله عز وجل: {يا أيها الرسول لاَ يَحْزُنكَ الذين يُسَارِعُونَ فِي الكفر} إلى قوله: {إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ} [المائدة: 41] يقولون: ائتوا محمدًا، فإن أمركم بالتحميم والجلد فخذوه وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا فقد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهوديين فإن كان ذلك حكمًا بشرعِهِ فالأمرُ ظاهر، وإن كان حكمًا بشرع من قبله فقد صار شرعًا له.
3- وقالوا: إنّ زنى الكافر مثل زنى المسلم في الحاجة إلى الزَّاجر فلذا يرجم.
4- وتأولوا حديث «من أشرك بالله فليس بمحصن» بأن المراد به ليس على قاذف المشرك عقوبة كما تجب على قاذف المسلم العفيف.
5- وأجابوا على القياس على حد القذف، بأن حد القذف ثبت لرفع العار كرامةً للمقذوف، والكافرُ لا يكون محلًا للكرامة.
الترجيح: ولعلَّ ما ذهب إلأيه الشافعية أرجح لقوة أدلتهم حيث أن النبي صلى الله عليه وسلم رجم الزانيين من اليهود فكان ذلك حجَّةً واضحة.

.الحكم السادس: من الذي يتولى إقامة الحدود؟

الظاهر من قوله تعالى: {فاجلدوا} أنه خطاب موجه لأولي الأمر من الحكام لأن فيه مصلحة للمجتمع وذلك بدرء الفساد، واستصلاح العباد وكلُّ ما كان من قبيل المصلحة العامة، فإنما يكون تنفيذه على الإمام أو من ينيبه من القضاء أو الولاة أو غيرهم. وقد اتفق العلماء على أن الذي يقيم الحدود على الأحرار إنما هو الإمام أو نائبه أما الأرقاء العبيد فقد اختلفوا فيهم على مذهبين:
أ- مذهب مالك والشافعي وأحمد قالوا: يجوز للسيد أن يقيم الحد على بعده وأمته في الزنى والخمر والقذف وأما السرقة فإنه من حقّ الإمام.
ب- مذهب الأحناف: قالوا: إقامة الحدود كلها من حق الإمام، ولا يملك السيد أن يقيم حدًّا ما إلى بإذن الإمام.
حجة الجمهور: احتج الجمهور بنصوص من السنة النبوية وبآثار عن الصحابة نلخصها فيما يلي:
1- حديث أبي هريرة «إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحدّ ولا يُثَرّبْ ثمَّ إن زنت فليبعها ولو بحبل من شعر».
قالوا: فقد أذن الرسول صلى الله عليه وسلم للسيد بإقامة الحد على العبد، ومعنى لا يثرّب: أي لا يجاوز الحدّ في الجلد ولا يبالغ فيه.
2- حديث علي كرم الله وجهه: أقيموا الحدودَ على ما ملكتْ أيمانُكم مَنْ أُحْصِن أوْ لم يحْصن.
3- ما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه أقام حدًا على بعض إمائه فجعل يضرب رجليها وساقيها، فقال له ولده سالم فأين قول الله تعالى: {وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ الله}؟ فقال يا بنيّ: أتراني أشفقت عليها إن الله تعالى لم يأمرني أن أقتلها.
قالوا: ولم يكن ابن عمر واليًا ولا نائبًا عن الوالي فدل على جواز إقامة الحد من جهة السيِّد.
حجة الأحناف:
1- واحتج الأحناف بظاهر الآية الكريمة {الزانية والزاني فاجلدوا} وقالوا: إن الآية عامة في كل زان وزانية وهو خطاب مع الأئمة دون سائر الناس، والآية لم نفرق بين الأحرار والعبيد، فوجب أن تكون إقامة الحد على الأحرار وعلى العبيد للأئمة دون الناس.
2- وتأولوا الأحاديث التي استدل بها الجمهور بأن المراد بها أن يرفع الموالي أمر عبيدهم إلى الحكام ليجلدوهم ويقيموا عليهم الحد، ولا يسكتوا عنهم فيكون المراد من الحديث الشريف «أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم» إي بلغوا أمرهم للحكام ولا تخفوا عنهم ذلك ليقيموا عليهم حدود الله.
3- وقالوا: إن جلد ابن عمر بعض إمائه- إن صح- كان رأيًا له لا يعارض العموم في الآية.
الترجيح: ولعل ما ذهب إليه الجمهور هو الأرجح سيما بعد أن وضَّحته السنة النبوية وتعزّز بفعل بعض الصحابة الأخيار، والله أعلم.

.الحكم السابع: ما هي صفة الجلد وكيفيته؟

استدل العلماء من قوله تعالى: {وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ} على أنه لا يجوز تخفيف العقوبة على الزاني بإسقاطها وإنقاص العدد، أو تخفيف الضرب، فإن العقوبة ما شعرت إلا للزجر والتأديب.