كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وذكر صاحبا تفسير الجلالين (يرحمهما الله): أفلم ينظروا بعيونهم معتبرين بعقولهم حين أنكروا البعث (إلي السماء) كائنة فوقهم (كيف بنيناها) بلا عمد (وزيناها) بالكواكب ومالها من فروج شقوق تعيبها.
وذكر مخلوف (يرحمه الله): أفلم ينظروا.. شروع في بيان بعض أدلة القدرة التامة علي البعث، ردا لاستبعادهم إياه، وهو سبعة أدلة؛ أي اغفلوا أو عموا فلم ينظروا- حين انكروا البعث- الي السماء فوقهم كيف أحكمنا بناءها، ورفعناها بغير عمد، وزيناها بالكواكب،(ومالها من فروج) شقوق وفتوق وصدوع، جمع فرج وهو الشق بين الشيئين، والمراد سلامتها من كل عيب وخلل.
ويذكر صاحب الظلال (يرحمه الله): ان هذه السماء صفحة من كتاب الكون تنطق بالحق الذي فارقوه، أفلم ينظروا إلي ما فيها من تشامخ وثبات واستقرار؟ وإلي ما فيها بعد ذلك من زينة وجمال، وبراءة من الخلل والاضطراب!!! إن الثبات والكمال والجمال هي صفة السماء التي تتناسق مع السياق هنا، مع الحق وما فيه من ثبات وكمال وجمال، ومن ثم تجيء صفة البناء وصفة الزينة وصفة الخلو من الثقوب والفروج.
ويقول الصابوني (امد الله في عمره): ثم ذكر الله تعالى دلائل القدرة والوحدانية الدالة علي عظمة رب العالمين فقال: (أفلم ينظروا إلي السماء فوقهم) أي أفلم ينظروا نظر تفكر واعتبار إلي السماء في ارتفاعها وإحكامها، فيعلموا أن القادر علي إيجادها قادر علي إعادة الإنسان بعد موته!!!(كيف بنيناها وزيناها) أي كيف رفعناها بلا عمد، وزيناها بالنجوم،(وما لها من فروج) اي ما لها من شقوق وصدوع.
وقد أجمع المفسرون الذين تعرضوا لشرح هذه الآية الكريمة علي اعتبار الحرف (ما) في قول الحق تبارك وتعالى،(وما لها من فروج) انه حرف نفي أي ان السماء خالية من الفروج التي قد تنبيء بخلل ما في بنائها وذلك لأن انفراج السماء وانفطارها وانشقاقها من علامات الآخرة لقول الحق تبارك وتعالى:
{وإذا السماء فرجت} (المرسلات: 9).
{يوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا} (الفرقان: 25).
{فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين} (الدخان: 10).
{فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان} (الرحمن: 37).
{يوم تمور السماء مورا} (الطور: 9).
{وانشقت السماء فهي يومئذ واهية} (الحاقة: 16).
{يوم تكون السماء كالمهل} (المعارج: 8).
{السماء منفطر به كان وعده مفعولا} (المزمل: 18).
{وفتحت السماء فكانت أبوابا} (النبأ: 19).
{وإذا السماء كشطت} (التكوير: 11).
{إذا السماء انفطرت} (الانفطار: 1).
{إذا السماء انشقت} (الانشقاق: 1).
وهذه الآيات كلها تشير الي الآخرة، وتصور القيامة وأهوالها وشيئا من مشاهدها المرعبة، واحداثها العظام، وتؤكد سلامة سماء الدنيا من كل هذه الأوصاف.
هل يمكن للآية الكريمة أن تحمل معني وجود فروج في السماء؟
أجمع المفسرون كما سبق وان اشرنا علي ان الحرف (ما) في قول الحق تبارك وتعالى(وما لها من فروج) هو حرف نفي ينفي وجود فروج بالسماء تنبيء بضعف او خلل في بنائها، ولكن انطلاقا من وجود مناطق مظلمة إظلاما تاما في السماء الدنيا نظرا لخلوها من النجوم وتجمعاتها سماها علماء الفلك مجازا بالفراغات او الفجوات نسبة الي خلوها من الأجرام المضيئة اندفع نفر قليل من علماء المسلمين الي الاقتراح بأن (ما) في هذه الآية الكريمة قد تكون اسما موصولا بمعني (الذي) وليست (ما) النافية، وذلك في محاولة لإثبات وجود فروج في السماء، وتصوروا ان هذا الاستنتاج يجعل الآية كلها تقرأ في الصيغة التعجبية الاستفهامية التي بدأت بها الآية بمعني: أفلم ينظروا الي السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها؟ وأفلم ينظروا ما للسماء من فروج؟.
وهذا الاستنتاج مخالف لنصوص القرآن الكريم التي تجمع علي غير ذلك، وعلي ان انفراج السماء وانفطارها وانشقاقها هو من علامات الآخرة، ولا وجود لها، في سماء الدنيا كما سبق أن أشرنا؛ ليس هذا فقط بل إن الدراسات الفلكية والفيزيائية تنفي إمكانية وجود فراغات في الجزء المدرك من الكون وذلك للأسباب التالية:
أولا: المناطق المظلمة من الكون المدرك لا تعني وجود فراغات فيه في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات من القرن العشرين قام عدد من الفلكيين بعملية مسح للجزء المدرك من السماء لعمل خرائط جديدة له ثلاثية الأبعاد، وفي أثناء ذلك لاحظوا وجود العديد من المناطق المظلمة التي لا تحتوي نجوما مضيئة بين المجرات، وسموها مجازا (بالفجوات) او (الفقاعات) وانطلقوا من ذلك الي الاستنتاج بأن الكون المدرك يشبه قطعة الإسفنج المليئة بالفجوات، وتمثل المجرات فيها خيوط الاسفنج المنسوجة بإحكام حول تلك الفجوات، واعتبروا تلك الفجوات خيوطا كونية عملاقة سموها باسم ولما كانت فجوات الإسفنج ليست فراغا لامتلائها بالهواء أو بالماء، فإن المناطق المظلمة بالكون المدرك ليست فراغا لامتلائها بالدخان الكوني، وبمختلف صور الأشعة الكونية، بل قد يكون فيها من صور المادة والأجرام الخفية ما يفوق كتل المجرات المحيطة بها مجتمعة، ويعتقد عدد من الفلكيين المعاصرين أن هذه المناطق المظلمة تتكون أساسا من المواد الداكنة الباردة التي تمثل الكتلة المفقودة في الكون المدرك، وقد تحتوي علي أعداد من النجوم الخانسة ذات الكثافات الفائقة والمعروفة باسم الثقوب السود، وأن هذه المادة الداكنة الخفية والنجوم الخانسة التي أمكن إدراكها بطرق غير مباشرة، أمكن حساب كتلتها بمايزيد علي تسعين بالمئة من كتلة الجزء المدرك من الكون.
ففي سنة 1981 م اكتشف عدد من الفلكيين تلك المناطق المظلمة من الكون المدرك في كوكبة العواء أو كوكبة راعي الشتاء التي تقع في نصف الكرة الشمالي، وظنوها فراغات هائلة أو فقاعات عظيمة، ثم تبين لهم بعد ذلك أن أمثال تلك المناطق المظلمة منتشرة في مختلف أرجاء الكون المنظور، وحتي في داخل مجرتنا، وأنها من أساسيات النظام الكوني، ومن أسرار بنائه، وأن لها دورا مهما في تماسك ذلك البناء.
وفي سنة 1989 م تم اكتشاف مايسمي باسم الحائط العظيم وهو عبارة عن حشد هائل من تجمعات المجرات يبلغ طوله نحو مائتين وخمسين مليونا من السنين الضوئية، وعرضه نحو مائتي مليون، وسمكه نحو خمسة عشر مليونا من السنين الضوئية، وقد اكتشف الفلكيون في داخل هذا الحائط العظيم العديد من المناطق المظلمة الشاسعة الأبعاد، التي تفصل بين كل من المجرات والتجمعات المجرية بمختلف مستوياتها، وتبدو هذه المناطق المظلمة وكأنها مناطق جذب فائقة الشدة، مرتبة ترتيبا دقيقا وبأشكال هندسية محددة، وتتوزع المجرات حولها، وكأنها خلايا عظيمة البناء متصلة بشكل هندسي بديع حول المناطق المظلمة التي يبدو أنها مشدودة إلي مراكز تلك المناطق بقوي فائقة للغاية إلي ماقد أشير إليه آنفا باسم المادة الداكنة التي يراها البعض أربطة كونية فائقة علي هيئة جسيمات فائقة الكتلة لم يمكن اكتشافها بعد، أو علي هيئة قوة كهرومغناطيسية ذات موجات غير معروفة تؤثر في المادة التي تنتشر حولها وقد تكون ناتجة عن الحركة الدورانية الشديدة في كل أجرام السماء.
وهذه الكتل المظلمة أو الفقاعات الدخانية الضخمة التي لاتحوي أية أجرام منظورة، قد تضم بجوار المادة الداكنة والاجرام غير المنظورة أعدادا هائلة من الجسيمات المادية والإشعاعات الكونية، وربما بعض الغازات المتأينة المعروفة باسم البلازما ويبدو أنها من أسرار بناء السما، ومن ضرورات قيامها واتزانها، ومن لوازم انتشار كل من المادة والطاقة في مختلف أرجائها، وأن لها دورا مهما في بناء التجمعات المجرية العظمي يفوق دور تجاذب المجرات فيما بينها ويعتقد بأن هذه الفقاعات الدخانية قد تكونت عقب عملية الانفجارالعظيم بعد فترة من الزمن كافية لتجمع اللبنات الأولية للمادة الناشئة عن ذلك الانفجار علي هيئة ذرات، ويعتقد كذلك بأن المجرات قد تكونت بتكدس عدد من تلك الفقاعات الدخانية علي ذاتها بفعل الجاذبية، كما يعتقد بأن تفكك المجرات في مراحلها النهائية قد يؤدي إلي تكون مثل هذه الفقاعات الدخانية، ويمكن بذلك ان يفسر نشأة أشباه النجوم التي تنتشر اليوم علي أطراف الجزء المدرك من الكون.
ففي يناير سنة 1988 م تم اكتشاف شبيه نجم علي مسافة تقدر بنحو (16850) سنة ضوئية منا، وفي أغسطس من نفس السنة تم اكتشاف مجرة راديوية تبعد عنا خمسة عشر بليونا من السنين الضوئية، وفي نهاية سنة 1989 م تم اكتشاف شبيه نجم يبعد عنا بمسافة (17400) مليون سنة ضوئية، ويعتبر بعده أقصي حد وصل إليه علماء الفلك في الجزء المدرك من الكون الذي يتسع باستمرار.
ثانيا: اتساع الكون ينفي وجود فراغات فيه ثبت لنا في مطلع القرن العشرين أن كوننا دائم الاتساع وأن هذا الاتساع ناشيء عن تباعد المجرات عنا وعن بعضها البعض، وبهذا التباعد تتخلق المادة والطاقة من حيث لايدرك العلماء، لأن كلا من المكان والزمان والمادة والطاقة قد تم خلقه بعملية الانفجار العظيم، ويتجدد خلقه بتمدد الكون واتساعه، فلايوجد مكان بغير زمان، ولازمان بغير مكان، ولايوجد مكان وزمان بغير مادة وطاقة.
ويؤدي تباعد المجرات إلي اتساع أفق الكون بالنسبة لموقعنا منه، ونحن لانستطيع أن نري من هذا الموقع ماوراء الأفق، ومن المفروض أنه باتساع الكون وتباعد الأفق الكوني عنا في كل لحظة أنه يمكن لنا أن نري أجراما سماوية جديدة علي حافة ذلك الأفق باستمرار، وأن تختفي عن رؤيتنا أجرام قديمة وتخرج عن مجال رؤيتنا ولكن أجهزتنا الفلكية الحالية لاتتيح لنا التحقق من ذلك علي الرغم من تطورها المذهل، وذلك لأن أفق الكون يبتعد عنا بتمدده بسرعات تقترب أحيانا من سرعة الضوء (نحو 92%
من سرعة الضوء)، وعلي الرغم من ذلك فإنه انطلاقا من وحدة البناء في الجزء المدرك لنا من السماء فإننا نعتقد بأن القوانين الحاكمة للكون واحدة وسارية في كل أجزائه علي الرغم من ان النقطة التي بدأت منها عملية الانفجار العظيم لم يتم تحديد موقعها بعد، وهي بالتأكيد أبعد بكثير من الحافة المدركة للجزء المرئي من السماء، الذي يقدر قطره بنحو 19- 23 بليون سنة ضوئية.
ثالثا: المادة المضادة في الكون تنفي وجود فراغات فيه في سنة 1924 م أثبت العالم الفرنسي دي بروجلي أن الإلكترون يتصرف أحيانا في ظروف معينة علي أنه موجة إشعاعية غير مادية وما ينطبق علي الإلكترون ينطبق علي أي لبنة أخري من اللبنات الأولية للمادة.
وفي سنة 1925 م وضع كل من هايسنبرج الألماني وشرودنجر النمساوي منفردين القواعد الأساسية لميكانيكا الكم وللميكانيكا الموجية وكلاهما يبحث في الأسباب التي تؤدي بالكم الضوئي أو الفوتون لأن يتصرف أحيانا علي هيئة جسيم مادي وأحيانا أخري علي هيئة موجة اشعاعية.
وفي نفس السنة 1925 م أعلن باولي مبدأ الاستبعاد الذي يؤكد أن زوجين من الإلكترونات داخل الذرة الواحدة لايمكن أن يكون لهما نفس العدد الكمي، وبالتالي لايمكن أن يكون لهما نفس المدار حول النواة، ونفس السرعة، وينطبق هذا القانون فقط علي الجسيمات الأساسية التي تدخل في تركيب الذرة.
وفي سنة 1931 م أعلن ديراك النظرية المتناسبة للالكترون التي أشار فيها إلي وجود الكترون بشحنة وطاقة مختلفتين تم اكتشافه بعد ذلك بسنة واحدة (1932 م) في الأشعة الكونية بواسطة كارل أندرسون وسمي باسم البوزيترون وتسلسل بعد ذلك اكتشاف نقائض لباقي الجسيمات الأولية للمادة من مثل نقيض البروتون واعتبرت نقائض المادة في مواجهة المادة حقيقة من حقائق كوننا المدرك، حيث ثبت أن لكل جسيم مادي نقيضه أي جسيما يماثله تماما في الكتلة والحجم والسرعة ولكن له شحنة مضادة ويدور بطريقة معاكسة، وثبت انه إذا التقي الضدان فإنهما يفنيان فناء تاما.
وقد تساءل العلماء عن كيفية بقاء عالمنا المادي مع وجود كل من المادة وأضدادها وكلاهما يفني بلقاء الآخر وقد فسر ذلك بان كلا من المادة والمادة المضادة قد تجمع علي ذاته لتكوين تجمعات سماوية خاصة به بمعني وجود عوالم من المادة المضادة مغايرة لعالمنا المادي لانراها ولا نعلم عنها شيئا، وهذا وحده غيركاف لإثبات وجود فراغات في السماء.
رابعا: مراحل خلق الكون المدرك تنفي وجود أية فراغات في السماء تؤكد الدراسات الفيزيائية والفلكية انه نتيجة لواقعة الانفجار العظيم (أو فتق الرتق) تم خلق كل من المكان والزمان والمادة والطاقة في فترة تقدر بحوالي 1510 ثانية (أي ألف مليون مليون ثانية أي حوالي الثلاثين مليون سنة تقريبا بعد الانفجار العظيم) مر فيها الكون بمراحل يتصورها علماء الفيزياء الفلكية علي النحو التالي:
(1) عصر الكواركات والجليونات وتقدر له الومضة من 10- 43 ثانية إلي 10- 32 ثانية وتتميز بحالات كثيفة للمادة واضدادها وان كانت نسبة الكواركات تفوق اضدادها كما تميزت بالتضخم والتوسع الانفجاريين وبانفصال كل من قوة الجاذبية والقوة النووية الشديدة كقوتين متميزتين.
(2) عصر اللبتونات ويقدر له الومضة من 10- 32 ثانية إلي 10- 6 ثانية بعد الانفجار العظيم وفيها تمايزت اللبتونات من الكواركات وظهرت البوزونات bosons وكانت فيه كل من القوة النووية الضعيفة والقوة الكهرومغناطيسية متحدتين علي هيئة القوة الكهربية الضعيفة.
3- عصر النيوكليونات وأضدادها:
تقدر له الفترة بين 10 ثانية الي 225 ثانية بعد الانفجار العظيم وفيها اتحدت الكواركات لتكوين النيوكيلونات واضدادها.
وانفصلت القوي الاربع المعروفة (الجاذبية، النووية الشديدة، النووية الضعيفة والكهرومغناطيسية).
4- عصر تخليق نووي الذرات:
وتقدر له الفترة من 225 ثانية الي ألف ثانية بعد الانفجار العظيم وفيها تخلقت نوي ذرات الايدروجين (74) والهيليوم (25) وبعض النوي الأثقل قليلا وفيه سادت المادة.
5- عصر الايونات:
وتقدر له الفترة من 310 ثانية الي 1310 ثانية بعد الانفجار العظيم وفيه تكونت غازات من ايونات كل من الايدروجين والهيليوم واخذ الكون في الاتساع والتبرد التدريجي.
6- عصر تخلق الذرات:
وتقدر له الفترة من 1310 ثانية الي 1510 ثانية وفيه تخلقت الذرات المتعادلة وارتبطت بالجاذبية واصبح الكون شفافا لمعظم موجات الضوء.
7- عصر تخلق النجوم والمجرات:
تقدر له الفترة من 15/10 ثانية الي اليوم والي ان يشاء الله، ويتميز ببدء عملية الاندماج النووي لتكوين نوي ذرات اثقل من الايدروجين.
وهذه المراحل المتتالية تؤكد ان المادة والطاقة ملأتا المكان والزمان منذ اللحظة الأولي للانفجار العظيم وظلا يملآنه مع استمرار تمدد الكون وان كان ذلك يتم بتباين واضح في تركيز وجودهما من نقطة الي أخري في الجزء المدرك من الكون.