فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{تَجْرِى بِأَعْيُنِنَا} بمرأى منا.
وكني به عن الحفظ أي تجري في ذلك الماء بحفظنا وكلاءتنا، وقيل: بأوليائنا يعني نوحًا عليه السلام ومن آمن معه يقال: مات عين من عيون الله تعالى أي ولي من أوليائه سبحانه، وقيل: بأعين الماء التي فجرناها، وقيل: بالحفظة من الملائكة عليهم السلام سماهم أعينًا وأضافهم إليه جل شأنه والأول أظهر.
وقرأ زيد بن علي وأبو السمال {بأعينا} بالادغام.
{جَزَاء لّمَن كَانَ كُفِرَ} أي فعلنا ذلك جزاءًا لنوح عليه السلام فإنه كان نعمة أنعمها الله تعالى على قومه فكفروها وكذا كل نبي نعمة من الله تعالى على أمته، وجوز أن يكون على حذف الجاء وإيصال الفعل إلى الضمير واستتاره في الفعل بعد انقلابه مرفوعًا أي لمن كفر به وهو نوح عليه السلام أيضًا أي جحدت نبوته، فالكفر عليه ضد الإيمان، وعلى الأول كفران النعمة، وعن ابن عباس ومجاهد من يراد به الله تعالى كأنه قيل: غضبًا وانتصارًا لله عز وجل وهو كما ترى، وقرأ مسلمة بن محارب {كفر} بإسكان الفاء خفف فعل كما في قوله:
لو عصر منه البان والمسك (انعصر)

وقرأ يزيد بن رومان. وقتادة. وعيسى {كُفِرَ} مبنيًا للفاعل فمن يراد بها قوم نوح عليه السلام لا غير، وفي هذه القراءة دليل على وقوع الماضي بغير قد خبرًا لكان وهو مذهب البصريين وغيرهم يقول لابد من وقوع قد ظاهرة أو مقدرة، وجوز أن تكون {كَانَ} زائدة كأنه قيل: جزءًا لمن {كُفِرَ} ولم يؤمن.
{وَلَقَدْ تركناها} أي أبقينا السفينة {ءايَةً} بناءًا على ما روي عن قتادة والنقاش أنه بقي خشبها على الجودي حتى رآه بعض أوائل هذه الأمة، أو أبقينا خبرها، أو أبقينا جنسها وذلك بإبقاء السفن، أو تركنا بمعنى جعلنا، وجوز كون الضمير للفعلة وهي إنجاء نوح عليه السلام ومن معه وإغراق الكافرين {فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} أي معتبر بتلك الآية الحرّية بالاعتبار، وقرأ قتادة على ما نقل ابن عطية {مذكر} بالذال المعجمة على قلب تار الافتعال ذالا وإدغام الذال في الذال، وقال صاحب اللوامح: قرأ قتادة {فهل من مذكر} بتشديد الكاف من التذكير أي من يذكر نفسه أو غيره بها، وقرئ {مذتكر} بذال معجمة بعدها تاء الافتعال كما هو الأصل.
{فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ} استفهام تعظيم وتعجيب أي كانا على كيفية هائلة لا يحيط بها الوصف، والنذر مصدر كالإنذار، وقيل: جمع نذير بمعنى الإنذار، وجعله بعضهم بمعنى المنذر منه، وليس بشيء، وكذا جعله بمعنى المنذر، وكان يحتمل أن تكون ناقصة فكيف في موضع الخبر؟ وتامة فكيف في موضع الحال؟
{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرءان} الخ جملة قسمية وردت في آخر القصص الأربع تقريرًا لمضمون ما سبقَ من قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءهُمْ} [القمر: 4] الخ وتنبيهًا على أن كل قصة منها مستقلة بإيجاب الادكار كافية في الازدجار، ومع ذلك لم يحصل فيها اعتبار، أي وبالله لقد سهلنا القرآن لقومك بأن أنزلناه على لغتهم وشحناه بأنواع المواعظ والعبر وصرفنا فيه من الوعيد والوعد {لِلذّكْرِ} أي للتذكر والاتعاظ {فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} إنكار ونفي للمتعظ على أبلغ وجه وأكده يدل على أنه لا يقدر أحد أن يجيب المستفهم بنعم، وقيل: المعنى سهلنا القرآن للحفظ لما اشتمل عليه من حسن النظم وسلاسة اللفظ وشرف المعاني وصحتها وعروّه عن الوحشى ونحوه فله بالقلوب وحلاوة في السمع فهل من طالب لحفظه ليعان عليه؟ ومن هنا قال ابن جبير: لم يستظهر شيء من الكتب الإلهية غير القرآن، وأخرج ابن المنذر وجماعة عن مجاهد أنه قال: يسرنا القرآن هونا قراءته.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس لولا أن الله تعالى يسره على لسان الآدميين ما استطاع أحد من الخلق أن يتكلم بكلام الله تعالى.
وأخرج الديلمي عن أنس مرفوعًا مثله.
وأخرج ابن المنذر عن ابن سيرين أنه مرّ برجل يقول سورة خفيفة فقال: لا تقل ذلك ولكن قل سورة يسيرة لأن الله تعالى يقول: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرءان لِلذّكْرِ} والمعنى الذي ذكر أولًا أنسب بالمقام، ولعل خبر أنس إن صح ليس تفسيرًا للآية، وجوز تفسير {يَسَّرْنَا} بهيأنا من قولهم: يسر ناقته للسفر إذا رحلها، ويسر فرسه للغزو إذا أسرجه وألجمه قال الشاعر:
وقمت إليه باللجام (ميسرًا) ** هنالك يجزيني الذي كنت أصنع

. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقالوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9)}.
استئناف بيانيّ ناشىء عن قوله: {ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر} [القمر: 4] فإن من أشهرها تكذيب قوم نوح رسولهم، وسبق الإِنباء به في القرآن في السور النازلة قبل هذه السورة.
والخبر مستعمل في التذكير وليفرع عليه ما بعده.
فالمقصود النعي عليهم عدم ازدجارهم بما جاءهم من الأنباء بتعداد بعض المهمّ من تلك الأنباء.
وفائدة ذكر الظرف {قبلهم} تقرير تسلية للنبيء صلى الله عليه وسلم أي أن هذه شنشنة أهل الضلال كقوله تعالى: {وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك} [فاطر: 4] ألا ترى أنه ذكر في تلك الآية قوله: {من قبلك} نظير ما هنا مع ما في ذلك من التعريض بأن هؤلاء معرِضون.
واعلم أنه يقال: كذَّب، إذا قال قولا يدل على التكذيب، ويقال كذّب أيضًا، إذا اعتقد أن غيره كاذب قال تعالى: {فإنهم لا يكذبونك} [الأنعام: 33] في قراءة الجمهور بتشديد الذال، والمعنيان محتملان هنا، فإن كان فعل {كذبت} هنا مستعملًا في معنى القول بالتكذيب، فإن قوم نوح شافهوا نوحًا بأنه كاذب، وإن كان مستعملًا في اعتقادهم كذبه، فقد دلّ على اعتقادهم إعراضهم عن إنذاره وإهمالهم الانضواء إليه عندما أنذرهم بالطوفان.
وعُرِّف {قوم نوح} بالإِضافة إلى اسمه إذ لم تكن للأمة في زمن نوح اسم يعرفون به.
وأسند التكذيب إلى جميع القوم لأن الذين صدقوه عدد قليل فإنه ما آمن به إلا قليل، كما تقدم في سورة هود.
والفاء في قوله: {فكذبوا عبدنا} لتفريع الإِخبار بتفصيل تكذيبهم إياه بأنهم قالوا: {مجنون وازدجر}، على الإِخبار بأنهم كذّبُوه على الإِجمال، وإنما جيء بهذا الأسلوب لأنه لما كان المقصود من الخبر الأول تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم فرّع عليه الإخبار بحصول المشابهة بين تكذيب قوممِ نوح رسولهم وتكذيب المشركين محمدًا صلى الله عليه وسلم في أنه تكذيب لمن أرسله الله واصطفاه بالعبودية الخاصة، وفي أنه تكذيب مشوب ببهتان إذ قال كلا الفريقين لرسوله: مَجنون، ومشوب ببذاءة إذ آذى كلا الفريقين رسولهم وازدجروه.
فمحل التفريع هو وصف نوح بعبودية الله تكريمًا له، والإِخبار عن قومه بأنهم افتروا عليه وصفَه بالجنون، واعتدوا عليه بالأذى والازدجارِ.
فأصل تركيب الكلام: كذبت قبلهم قوم نوح فقالوا: مجنون وازدجر.
ولما أريد الإِيماء إلى تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم ابتداء جعل ما بعد التسلية مفرعًا بفاء التفريع ليظهر قصد استقلال ما قبله ولولا ذلك لكان الكلام غنيًا عن الفاء إذ كان يقول: كذبت قوم نوح عبدنا.
وأعيد فعل {كذَّبوا} لإِفادة توكيد التكذيب، أي هو تكذيب قويّ كقوله تعالى: {وإذا بطشتم بطشتم جَبارين} [الشعراء: 130] وقوله: {ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا} [القصص: 63]، وقول الأحوص:
فإذا تزول تزول عن متخمط ** تُخشى بوادِره على الأقرآن

وقد نبه على ذلك ابن جنيّ في إعراب هذا البيت من (ديوان الحماسة)، وذَكَر أن أبا عليّ الفارسي نحا غير هذا الوجه ولم يبيّنه.
وحاصل نظم الكلام يرجع إلى معنى: أنه حصل فعل فكان حصوله على صفة خاصة أو طريقة خاصة.
ويجوز أن يكون فعل {كذبت} مستعملًا في معنى: إنهم اعتقدوا كذبه، فتفريع {فكذّبوا عبدنا} عليه تفريع تصريحهم بتكذيبه على اعتقادهم كذبه.
فيكون فعل {كذبوا} مستعملًا في معنى غير الذي استعمل فيه فعل {كذبت}، والتفريع ظاهر على هذا الوجه.
وهذا الوجه يتأتّى في قوله تعالى: {وكذب الذين من قبلهم وما بلغوا معشار ما آتيناهم فكذبوا رسلي} في سورة سبأ (45).
ويجوز أن يكون قوله: {كذبت قبلهم قوم نوح} إخبارًا عن تكذيبهم بتفرد الله بالإِلهية حين تلقوه من الأنبياء الذين كانوا قبل نوح ولم يكن قبله رسول وعلى هذا الوجه يكون التفريع ظاهرًا.
و {ازدجر} معطوف على {قالوا} وهو افتعل من الزجر.
وصيغة الافتعال هنا للمبالغة مثلها: افتقر واضطر.
ونكتة بناء الفعل للمجهول هنا التوصل إلى حذف ما يسند إليه فعل الازدجار المبني للفاعل وهو ضمير {قوم نوح}، فعدل على أن يقال: وازدجروه، إلى قوله: {وازدجر} مُحاشاة للدّال على ذات نوح وهو ضمير من أن يقع مفعولًا لضميرهم.
ومرادهم أنهم ازدجروه، أي نهوه عن ادعاء الرسالة بغلظة قال تعالى: {قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين} [الأعراف: 66] وقال: {قالوا لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين} [الشعراء: 116] وقال: {وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه} [هود: 38].
{فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10)}.
تفريع على {كذبت قبلهم قوم نوح} [القمر: 9] وما تفرع عليه.
والمغلوب مجاز، شبه يأسه من إجابتهم لدعوته بحال الذي قاتل أو صارع فغلبه مقاتله، وقد حكى الله تعالى في سورة نوح كيف سلك مع قومه وسائل الإقناع بقبول دعوته فأعيته الحيل.
و {أنى} بفتح الهمزة على تقدير باء الجر محذوفة، أي دعا بأني مغلوب، أي بمضمون هذا الكلام في لغته.
وحذف متعلق {فانتصر} للإِيجاز وللرعي على الفاصلة والتقدير: فانتصر لي، أي انصرني.
وجملة {ففتحنا أبواب السماء} إلى آخرها مفرعة على جملة {فدعا ربه}، ففهم من التفريع أن الله استجاب دعوته وأن إرسال هذه المياه عقاب لقوم نوح.
وحاصل المعنى: فأرسلنا عليهم الطوفان بهذه الكيفية المحكمة السريعة.
وقرأ الجمهور {ففتحنا} بتخفيف التاء.
وقرأه ابن عامر بتشديدها على المبالغة.
والفتح بمعنى شدة هطول المطر.
وجملة {ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر} مركب تمثيلي لهيئة اندفاق الأمطار من الجو بهيئة خروج الجماعات من أبواب الدار على طريقة:
وسالتْ بأعناق المطيّ الأباطح

والمنهمر: المنصب، أي المصبوب يقال: عمرَ الماء إذا صبه، أي نازل بقوة.
والتفجير: إسالة الماء، يقال: تفجر الماء، إذا سال، قال تعالى: {حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعًا} [الإسراء: 90].
وتعدية {فجّرنا} إلى اسم الأرض تعدية مجازية إذ جعلت الأرض من كثرة عيونها كأنها عين تتفجر.
وفي هذا إجمال جيء من أجله بالتمييز له بقوله: {عيونًا} لبيان هذه النسبة، وقد جعل هذا ملحقًا بتمييز النسبة لأنه محول عن المفعول إذ المعنى: وفجرنا عيون الأرض، وهو مثل المحول عن الفاعل في قوله تعالى: {واشتعل الرأس شيبًا} [مريم: 4]، أي شيب الرأس إذ لا فرق بينهما، ونكتة ذلك واحدة.
قال في (المفتاح): إسناد الاشتعال إلى الرأس لإِفادة شُمول الاشتعاللِ الرأسَ إذ وزان اشتعل شيبُ الرأس، واشتعل الرأس شيبًا وزان اشتعلت النار في بيتي واشتعل بيتي نارًا. اهـ.
والتقاء الماء: تجمع ماءِ الأمطار مع ماء عيون الأرض فالإلتقاء مستعار للاجتماع، شبه الماء النازل من السماء والماء الخارج من الأرض بطائفتين جاءت كل واحدة من مكان فالتقتا في مكان واحد كما يلتقي الجيشان.
والتعريف في {الماء} للجنس.
وعلم من إسناد الإلتقاء أنهما نوعان من الماء ماء المطر وماء العيون.
و {على} من قوله: {على أمر} يجوز أن تكون بمعنى (في) كقوله تعالى: {ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها} [القصص: 15]، وقول الفرزدق:
على حالةٍ لو أن في البحر حاتمًا ** على جوده لضنَّ بالماء حاتم

والظرفية مجازية.
ويجوز أن تكون {على} للاستعلاء المجازي، أي ملابسًا لأمر قد قدر ومتمكنًا منه.
ومعنى التمكن: شدة المطابقة لما قُدر، وأنه لم يحد عنه قيد شَعَرة.
والأمر: الحال والشأن وتنوينه للتعظيم.
ووصف الأمر بأنه {قد قدر}، أي أتقن وأحكم بمقدار، يقال: قدَره بالتخفيف إذا ضبطه وعينه كما قال تعالى: {إنا كل شيء خلقناه بقدر} [القمر: 49] ومحل {على أمر} النصب على الحال من الماء.
واكتفي بهذا الخبر عن بقية المعنى، وهو طغيان الطوفان عليهم اكتفاء بما أفاده تفريع {ففتحنا أبواب السماء} كما تقدم انتقالا إلى وصف إنجاء نوح من ذلك الكرب العظيم، فجملة {وحملناه} معطوفة على التفريع عطف احتراس.
والمعنى: فأغرقناهم ونجَّيْناه.
و {ذات ألواح ودُسُر} صفة السفينة، أقيمت مقام الموصوف هنا عوضًا عن أن يقال: وحملناه على الفلك لأن في هذه الصفة بيان متانة هذه السفينة وإحكام صنعها.
وفي ذلك إظهار لعناية الله بنجاة نوح ومن معه فإن الله أمره بصنع السفينة وأوحى إليه كيفية صنعها ولم تكن تعرف سفينة قبلها، قال تعالى: {وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون واصنع الفلك بأعيننا ووحينا} [هود: 36، 37]، وعادة البلغاء إذا احتاجوا لذكر صفة بشيء وكان ذكرها دالًا على موصوفها أن يستغنوا عن ذكر الموصوف إيجازًا كما قال تعالى: {أن اعمل سابغات} [سبأ: 11]، أي دروعًا سابغات.
والحمل: رفع الشيء على الظهر أو الرأس لنقله {وتحمل أثقالكم} [النحل: 7] وله مجازات كثيرة.