فصل: وجه إعراب قوله تعالى: {سَوَاءٌ}:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.وجه إعراب قوله تعالى: {سَوَاءٌ}:

في ارتفاع سواء قولان: أحدهما: أن ارتفاعه على أنه خبر لأن و{ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ} في موضع الرفع به على الفاعلية، كأنه قيل، إن الذين كفروا مستو عليهم إنذارك وعدمه كما تقول: إن زيدًا مختصم أخوه وابن عمه.
الثاني: أن تكون أنذرتهم أم لم تنذرهم في موضع الابتداء وسواء خبره مقدمًا بمعنى سواء عليهم إنذارك وعدمه والجملة خبر لأن، واعلم أن الوجه الثاني أولى؛ لأن {سواء} اسم، وتنزيله بمنزلة الفعل يكون تركًا للظاهر من غير ضرورة وأنه لا يجوز، وإذا ثبت هذا فنقول: من المعلوم أن المراد وصف الإنذار وعدم الإنذار بالاستواء، فوجب أن يكون سواء خبرًا فيكون الخبر مقدمًا.
وذلك يدل على أن تقديم الخبر على المبتدأ جائز، ونظيره قوله تعالى: {سَوَاء محياهم ومماتهم} [الجاثية: 21] وروى سيبويه قولهم: تميمي أنا، ومشنوء من يشنؤك أما الكوفيون فإنهم لا يجوزونه واحتجوا عليه من وجهين:
الأول: المبتدأ ذات، والخبر صفة، والذات قبل الصفة بالاستحقاق، فوجب أن يكون قبلها في اللفظ قياسًا على توابع الإعراب والجامع التبعية المعنوية.
الثاني: أن الخبر لابد وأن يتضمن الضمير، فلو قدم الخبر على المبتدأ لوجد الضمير قبل الذكر، وأنه غير جائز، لأن الضمير هو اللفظ الذي أشير به إلى أم معلوم، فقبل العلم به امتنعت الإشارة إليه، فكان الإضمر قبل الذكر محالًا، أجاب البصريون على الأول بأن ما ذكرتم يقتضي أن يكون تقدم المبتدأ أولى، لا أن يكون واجبًا وعن الثاني: أن الإضمار قبل الذكر واقع في كلام العرب، كقولهم: في بيته يؤتى الحكم قال تعالى: {فَأَوْجَسَ في نَفْسِهِ خِيفَةً موسى} [طه: 67] وقال زهير:
فمن يلق يومًا على علاته هرما ** يلق السماحة منه والندى خلقا

والله أعلم. اهـ.

.قال مجد الدين الفيروزابادي:

بصيرة في كفر:
كَفَر الشيء وكفَّره: غطَّاه، يقال: كفر السّحابُ السّماءَ، وكَفَر المتاعَ في الوعاء، وكَفَر الليلُ بظلامه.
وليل كافر.
ولبِس كافرَ الدُّروع، وهو ثوب يلبس فوقها.
وكفرت الريحُ الرسْمَ، والفَلاَّحُ الحَبَّ، ومنه قيل للزُّراع الكُفَّار.
وفارس مكفَّر ومتكفِّر.
وكفَّر نفسه بالسّلاح.
قال ابن مفرّغ:
حَمَى جارَهُ عَمْرُو بن عَمْرِو بن مَرْثد ** بأَلْفَىْ كَمِىٍّ في السلاح مُكَفَّرِ

وتكفَّرْ بثوبك: اشتمِل به.
وطائر مكفَّر: مغطَّى بالريش، قال:
فأُبت إِلى قوم تُريح نساؤهم ** عليها ابنَ عِرْس والأِوزّ المكفَّرا

وغابت الشمس في الكافر، أَى البحر.
ورجل مكفَّر: محسان لا تُشكر نعمته.
وكَفَّر العِلجُ للملك تكفيرا: أَومأ له بالسّجود.
وخرج نَوْرُ العِنب من كافوره وكُفُرَّاه: من طَلْعه.
والكَفْر: القرية، وفى الحديث: «أَهل الكُفُور أَهل القبور، وليُفتحنَّ الشَّام كَفْرًا كَفْرًا».
وأَكفره وكفَّره: نسبه إِلى الكُفر.
وكفَّر اللهُ خطاياك.
وأَعظم الكُفْر جحود الوحدانيّة أَو النبوَّة أَو الشريعة، والكافر متعارَف مطلقا فيمن يجحد الجميع.
والكُفْران في جحود النِّعمة أَكثر استعمالًا، والكُفْر في الدِّين، والكُفُور فيهما.
ويقال فيهما: كَفَر فهو كافر.
قال تعالى في الكفران: {لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} وقوله: {وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} أَى تحرَّيت كُفران نعمتى.
ولمَّا كان الكفران جحود النعمة صار يستعمل في الجحود: {وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} أَى جاحد وساتر.
وقد يقال: كَفَرَ لمن أَضلَّ بالشريعة، وترك ما لزمه من شكر الله تعالى عليه، قال تعالى: {مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ} ويدلّ على ذلك مقابلته بقوله: {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ}.
وقوله: {وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} أَى لا يكونوا أَئمة في الكفر فيقتدى بكم.
وقال: {وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذلك فَأُوْلَائِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} وعنى بالكافر الساتر للحقّ، فلذلك جعله فاسقًا، ومعلوم أَن الكفر المطلق هو أَعظم من الفسق، ومعناه: من جحد حقَّ الله فقد فسق عن أَمر ربه بظلمه.
ولمَّا جُعل كلُّ فعل محمود من الإِيمان جعل كلُّ مذموم من الكفر.
وقال في السّحر: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَاكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ} وقال: {وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} إِلى قوله: {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}.
والكَفُور: المبالِغ في كفران النعمة، قال تعالى: {إِنَّ الإِنْسَانَ لَكَفُورٌ} فإِن قيل: كيف وَصَف الإِنسان بالكَفُور هاهنا، ولم يرض حتى أَدخل عليه إِنَّ وكل ذلك تأكيد، وقال في موضع آخر: {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ}؟ قيل: {إِنَّ الإِنْسَانَ لَكَفُورٌ} تنبيه على ما ينطوى عليه الإِنسان من كفران النعمة، وقلَّة ما يقوم بأَداءِ الشكر، وعلى هذا قوله تعالى: {قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}.
وقوله: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} تنبيه أَنَّه عرَّفه الطَّريقين؛ كما قال: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَينِ} فمِن سالك سبيل الشكر، ومن سالك سبيل الكفر.
والكَفَّار أَبلغ من الكَفُور، كقوله: {كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ}.
وقد أَجرى الكَفَّار مُجرى الكَفُور في قوله: {إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ}.
والكُفَّار في جمع الكافر المضادّ للمؤْمن أَكثر استعمالًا، كقوله: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ}.
والكَفَرَة في جمع كافر النعمة أَكثر استعمالًا؛ كقوله: {أُوْلَائِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ} أَلا ترى أَنه وَصف الكفرة بالفجرة، والفجرة قد يقال للفسّاقِ من المسلمين.
وقوله: {جَزَاءً لِّمَن كَانَ كُفِرَ} أَى الأَنبياء ومن يجرى مَجراهم ممّن بذلوا النصح في دين الله فلم يُقبل منهم.
وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ} قيل عُنى بقوله آمنوا أَنهم آمنوا بموسى عليه السلام، {ثم كفروا} بمن بعده.
وقيل: آمنوا ثم كفروا بموسى إِذ لم يؤْمنوا بغيره.
قيل: هو ما قال: {وَقَالَتْ طَّائفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُواْ بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ} ولم يرد أَنهم آمنوا مرّتين، بل ذلك إِشارة إِلى أَحوال كثيرة.
وقيل: كما يصعد الإِنسان في الفضائل في ثلاث درجات، يتسكع في الرذائل في ثلاث دَرَكات، فالآية إِشارة إِلى ذلك.
ويقال: كفر فلان: إِذا اعتقد الكفر، ويقال: كفر: إِذا أَظهر الكفر وإِن لم يعتقد، لذلك قال: {مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ}.
ويقال: كفر فلان بالشيطان: إِذا كفر بسببه.
وقد يقال ذلك أَيضا إِذا آمن وخالف الشيطان، كقوله: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيْؤْمِن بِاللَّهِ}.
وقد يعبر عن التبرىّ بالكفر، نحو: {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ}.
وقوله: {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} أَى أَعجب الزُّرَّاعَ بدلالة قوله: {يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} ولأَن الكافر لا اختصاص له بذلك.
وقيل: عنى الكُفَّار، وخصّهم لكونهم معجَبين بالدنيا وزخارفها، وراكنين إِليها.
والكَفَّارة: ما يغطّى الإِثم، ومنه كفَّارة اليمين والقتل والظهار.
والتكفير: ستر الذنب وتغطيته، قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} أَى سترناها حتى تصير كأَن لم تكن، أَو يكون المعنى نُذْهبها ونُزِيلها، من باب التمريض لإِزالة المرض، والتقْذية لإِذهاب القَذَى، وإِلى هذا يشير قوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذلك}.
والكافور والقافور: طِيب أَبيض يوجد في أَجواف القَصَب المعروف ببلاد الهند، وهو أَنواع، قال تعالى: {كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا}. اهـ.

.فوائد بلاغية:

قال في إشارات الإعجاز:
{إنًّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءَاَنْذَرْتَهُمْ اَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لايُؤْمِنُونَ}.
وجه النظم:
اعلم! أن للذات الأحديِّ في عالم صفاته الأزلية تجلِّيَيْن جلاليّ وجماليّ. فبتجليهما في عالم صفات الأفعال يتظاهر اللطف والقهر والحسن والهيبة. ثم بالانعطاف في عالم الأفعال يتولد التحلية والتخلية والتزيين والتنزيه. ثم بالانطباع في العالم الأُخروي من عالم الآثار يتجلى اللطف جنة ونورًا، والقهر جهنم ونارًا. ثم بالانعكاس في عالم الذكر ينقسم الذكر إلى الحمد والتسبيح. ثم بتمثلهما في عالم الكلام يتنوع الكلام إلى الأمر والنهي. ثم بالارتسام في عالم الإرشاد يقسمانه إلى الترغيب والترهيب والتبشير والإنذار. ثم بتجليهما على الوجدان يتولد الرجاء والخوف.. وهكذا. ثم إن من شأن الإرشاد إدامة الموازنة بين الرجاء والخوف، ليدعو الرجاء إلى أن يسعى بصرف القوى، والخوف إلى أن لايتجاوز بالاسترسال فلا ييأس من الرحمة فيقعد ملومًا، ولا يأمن العذاب فيتعسف ولا يبالي. فلهذه الحكمة المتسلسلة ما رغّب القرآن إلاّ وقد رهَّب، وما مدح الابرار إلا وقرنه بذمّ الفجار.
إن قلت: فلِمَ لم يعطف هنا كما عطف في {إنَّ الأبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وإن الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ}؟
قيل لك: أن حسن العطف ينظر إلى حسن المناسبة، وحسن المناسبة يختلف باختلاف الغرض المسوق له الكلام. ولما اختلف الغرض هنا وهنالك، لم يستحسن العطف هنا؛ إذ مدحُ المؤمنين منجر ومقدمة لمدح القرآن، ونتيجة له، وسيق له.
وأما ذم الكافرين فللترهيب لا يتصل بمدح القرآن.
ثم انظر إلى اللطائف المندمجة في نظم أجزاء هذه الآية!
فأولا: استأنس بإنّ والذين فإنهما أجْوَلُ وأسْيَرُ ما يصادفك في منازل التنزيل. ولأمر مّا أكثر القرآنُ من ذكرهما؛ إذ معهما من جوهر البلاغة نكتتان عامتان غير ما تختص كل موقع.
أما إنّ فإن من شأنها أن تثقب السطح نافذة إلى الحقيقة، وتوصل الحكم إليها؛ كأنها عرق الدعوى اتصلت بالحق. مثلا: إن هذا كذا.. أي الحكمُ وهذه الدعوى ليست خيالية ولا مبتدعة ولا اعتبارية ولا مستحدثة؛ بل هي من الحقائق الجارية الثابتة. وما يقال من أن {إنّ} للتحقيق فعنوان لهذه الحقيقة والخاصية. والنكتة الخصوصية هنا هي أن {إن} الذي شأنه رد الشك والإنكار مع عدمهما في المخاطب للإشارة إلى شدة حرص النبي عليه السلام على ايمانهم.
وأما الذين فاعلم! أن الذي من شأنه الإشارة إلى الحقيقة الجديدة التي أحس بها العقل قبل العين، وأخذت في الانعقاد ولم تشتد، بل تتولد من امتزاج أشياء وتآخذ أسباب مع نوع غرابة. ولهذا ترى من بين وسائط الإشارة والتصوير في الانقلاب المجدد للحقائق لفظ الذي أسيرَ على الألسنة وأكثر دورانا. فلما أن تجلى مؤسس الحقائق وهو القرآن، اضمحل أنواعٌ ونقضت فصولُها وتشكلت أنواع اُخر وتولدت حقائق اخرى. اما ترى زمان الجاهلية كيف تشكلت الأنواع على الروابط الملّية وتولدت الحقائق الاجتماعية على العصبيات القومية؟ فلما أن جاء القرآن قطع تلك الروابط وخرب تلك الحقائق فأسس بدلاَ عنها أنواعًا، فصولها الروابط الدينية. فتأمل!.. فلما أشرق القرآن على نوع البشر تزاهر بضيائه وأثمر بنوره قلوب فتحصلت حقيقة نورانية هي فصل نوع المؤمنين. ثم لخبث بعض النفوس تعفنت في مقابلة الضياء تلك النفوسُ فتولدت حقيقة سمّية هي خاصة نوع مَن كفر.
وأيضا بين {الذين} و{الذين} تناسب.
اعلم! أن الموصول كالألف واللام يستعمل في خمسة معان أشهرها العهد. ف {الذين} هنا إشارة إلى صناديد الكفر أمثال أبي جهل وأبي لهب وأُمية بن خلف وقد ماتوا على الكفر. فعلى هذا في الآية إخبار عن الغيب. وأمثال هذا لمعاتٌ يتولد منها نوعٌ من الإعجاز من الأنواع الأربعة للإعجاز المعنوي.
وأما لفظ كفروا فاعلم! أن الكفر ظلمة تحصل من انكار شيء مما عُلِمَ ضرورةً مجئ الرسول عليه السلام به.
إن قلت: إن القرآن من الضروريات وقد اختلف في معانيه؟
قيل لك: إن في كل كلام من القرآن ثلاث قضايا:
إحداها: هذا كلام الله.
والثانية: معناه المراد حق؛ وإنكار كلٍّ من هاتين كفر.
والثالثة: معناه المراد هذا؛ فإن كان مُحْكَمًا أو مفسرًا فالإيمان به واجب بعد الاطلاع، والإنكار كفر. وأن كان ظاهرًا، أو نصًا يحتمل معنى آخر، فالانكار بناء على التأويل- دون التشهّي- ليس بكفر. ومثل الآية الحديث المتواتر؛ إلا أن في إنكار القضية الأولى من الحديث تأملا.
إن قلت: الكفر جهل وفي التنزيل {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ اَبْنَاءهُمْ} فما التوفيق؟
قيل لك: إن الكفر قسمان:
جهليّ ينكِر لأنه لا يعلم. والثاني جحودي تمردي يعرف لكن لا يقبل، يتيقّن لكن لا يعتقد، يصدِّق لكن لا يذعن وجدانُه. فتأمل!
إن قلت: هل في قلب الشيطان معرفة؟
قيل لك: لا، إذ بحكم صنعته الفطرية يشتغل قلبُه دائما بالإضلال ويتصور عقلُه دائمًا الكفر للتلقين فلا ينقطع هذا الشغل، ولا يزول ذلك التصور عن عقله حتى تتمكن فيه المعرفة.
إن قلت: الكفر صفة القلب فكيف كان شدّ الزُنّار- وقد قيس عليه الشَّوْقَة- كفرًا؟
قيل لك: إن الشريعة تعتبر بالأمارات على الأمور الخفية حتى أقامت الأسباب الظاهرية مقام العلل. ففي شد الزُنَّار المانع بعضُ نوعه عن إتمام الركوع، وإلباس الشَوْقَة المانعة عن تمام السجود علامة الاستغناء عن العبودية، والتشبه بالكفرة المومِئ باستحسان مسلكهم وملّيتهم. فما دام لم يُقطَع بانتفاء الأمر الخفي يُحكَم بالأمر الظاهر.
إن قلت: إذا لم يُجدِ الإنذار فلِمَ التكليف؟
قيل لك: لإلزام الحجة عليهم.
إن قلت: الإخبار عن تمردهم يستلزم امتناع إيمانهم فيكون التكليف بالمحال؟
قيل لك: أن الاخبار وكذا العلم والارادة لا تتعلق بكفرهم مستقلا مقطوعًا عن السبب، بل إنما تتعلق بكفرهم باختيارهم. كما يأتيك تفصيله. ومن هنا يقال: الوجوب بالاختيار لا ينافي الاختيار.
إن قلت: إيمانهم بعدم إيمانهم محال عقليّ يشبه الجذر الأصم الكلاميّ؟
قيل لك: إنهم ليسوا مكلفين بالتفصيل حتى يلزم المحال.
ثم في إيراد {كفروا} فعلًا ماضيًا، إشارة إلى أنهم اختاروا الكفر بعد تبين الحق فلذا لا يفيد الإنذار.
وأما {سواء} فمجاز عن: انذارك كعدم الانذار في عدم الفائدة أو في صحة الوقوع أي لاموجب للانذار ولا لعدمه.
وأما {عليهم} ففيه إيماء إلى أنهم أخلدوا إلى الأرض فلا يرفعون رؤوسهم ولا يصغون إلى كلام آمرهم.. وفيه أيضا رمز إلى أنه ليس سواء عليك، لأن لك الخير في التبليغ؛ إذ {مَا عَلَى الرَّسُولِ إلاّ البَلاغُ}.
مغلطة الجذر الأصم هي هذه: قيل أن اجتماع النقيضين واقع، لأنه لو قال قائل كل كلامي في هذه الساعة كاذب والحال أنه لم يقل في تلك الساعة غير هذا الكلام، فلا يخلو من أن يكون هذا الكلام، صادقًا أوكاذبًا. وعلى التقديرين يلزم اجتماع النقيضين. اما إذا كان صادقًا فيلزم كذب كلامه في تلك الساعة، وهذا الكلام مما تكلم به في تلك الساعة ولم يتكلم بغيره؛ فيلزم كذب كلامه. والتقدير إنه صادق فيلزم اجتماع النقيضين وإن كان كاذبًا يلزم ايضًا اجتماع النقيضين لأنه يلزم أن يكون بعض أفراد كلامه صادقًا في تلك الساعة لكن ما وجد عنه في تلك الساعة سوى هذا الكلام فيلزم صدقه، والمفروض كذبه فيلزم اجتماع النقيضين. وهذه المغلطة مشهورة تحير جميع العلماء في حلّها.
وأما {أأنذرتهم أم لم تنذرهم} فالهمزة وأمْ هنا في حكم سواء حرفي، تأكيد لسواء الأول. أو تأسيس نظرًا إلى اقتسامهما المعنيين المذكورين للمساواة.
إن قلت: فلِمَ عبّر عن المساواة بصورة الاستفهام؟
قيل لك: إذا أردت أن تنبه المخاطب على عدم الفائدة في فعل نفسه بوجه لطيف مقنع لابد أن تستفهم ليتوجه ذهنُه إلى فعله فينتقل منه إلى النتيجة فيطمئن.. ثم العلاقة بين الاستفهام والمساواة تضمنه لها؛ إذ السائل يتساوى في علمه الوجود والعدم.. وأيضا كثيرا مايكون الجواب هذه المساواة الضمنية.
إن قلت: لِمَ عبّر عن الإنذار في {أنذرتهم} بصورة الماضي؟
قيل لك: لينادي يا محمد قد جرَّبْتَ فقس!
إن قلت: لِمَ ذكر {ام لم تنذرهم} مع أن عدم فائدة عدم الإنذار ظاهر؟
قيل لك: كما قد ينتج الإنذار إصرارًا، كذلك قد يجدي السكوت إنصاف المخاطب.
إن قلت: لِمَ أنذر بالترهيب فقط مع أنه بشير نذير؟
قيل لك: إذ الترهيب هو المناسب للكفر، ولأن دفع المضار أولى من جلب المنافع وأشد تأثيرًا، ولأن الترهيب هنا يهز عِطف الخيال ويوقظه لأن يتلقى ويجتني بعد قوله: {لا يؤمنون} أبشّرتهم أم لم تبشرهم.
ثم اعلم! كما أن لكل حكمٍ معنى حرفيًا ومقصدا خفيًا؛ كذلك لهذا الكلام معان طيارة ومقصد سيق له هو تخفيف الزحمة، وتهوين الشدة عن النبي عليه السلام، وتسليته بتأسّيه بالرسل السالفين. إذ خوطب أكثرهم بمثل هذا الخطاب، حتى قال نوح بعده {لا تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الْكَافِرينَ دَيَّارًا}. ثم لأن آيات القرآن كالمرايا المتناظرة، وقصص الأنبياء كالهالة للقمر تنظر إلى حال النبي عليه السلام؛ كان كأن هذا الكلام يقول: هذا قانون فطريّ إلهيّ يجب الانقياد له.
واعلم بعد هذا التحليل!
أن مجموع هذه الآية إلى {ولهم عذاب عظيم} سيقت: مشيرةً بعقودها إلى تقبيح الكفر وترذيله، والتنفير منه والنهي الضمني عنه، وتذليل أهله، والتسجيل عليهم، والترهيب عنه، وتهديدهم.. منادية بكلماتها بأن في الكفر مصائب عظيمة، وفوات نِعَم جسيمة، وتولد آلام شديدة، وزوال لذائذ عالية.. مصرحةً بجملها بأن الكفر أخبث الأشياء وأضرها.
إذ أشار بلفظ {كفروا} بدل لم يؤمنوا إلى أنهم بعدم الإيمان وقعوا في ظلمة الكفر الذي هو مصيبة تفسد جوهر الروح وأيضا هو معدن الآلام.
وبلفظ {لا يؤمنون} بدل لا يتركون الكفر إلى أنهم مع تلك الخسارة سقط من أيديهم الإيمان الذي هو منبع جميع السعادات.
وبلفظ {ختم الله على قلوبهم} إلى أن القلب والوجدان- الذي حياته وفرحه وسروره وكمالاته بتجلي الحقائق الإلهية بنور الإيمان- بعدما كفروا صار كالبناء الموحش الغير المعمور المشحون بالمضرات والحشرات، فأُقْفِل وأُمْهِر على بابه ليُجتَنب، وتُرك مفوضًا للعقارب والأفاعي.
وبلفظ {وعلى سمعهم} إلى فوات نعمة عظيمة سمعية بسبب الكفر؛ إذ السمع من شأنه- إذا استقر خلف صماخه نورُ الإيمان واستند إليه- الاحتساس بنداء كل العالم وفهم أذكارها، وسمع صياح الكائنات وتفهم تسبيحاتها.. حتى إن السمعَ ليسمعُ من ترنمات هبوب الريح، ومن نعرات رعد الغيم، ومن نغمات أمواج البحر، ومن صرخات دقدقة الحجر، ومن هزجات نزول المطر، ومن سجعات غناء الطير كلامًا ربانيًا، ويفهم تسبيحا علويا، كأن الكائنات موسيقية عظيمة له، تهيّج في قلبه حزنًا علويًا وعشقًا روحانيًا فيحزن بتذكر الأحباب والأنيس فيكون الحزن لذة؛ لا بعدم الأحباب فيكون غمًا.. وإذا أظلم ذلك السمع بالكفر صار أصم من تلك الأصوات اللذيذة، ولايسمع من الكائنات إلا نياحات المأتم ونعيات الموت، فلا يلقي في القلب إلا غم اليتمة- أى عدم الأحباب- ووحشة الغربة- أى عدم المالك والمتعهد- فبناء على هذا السر أحل الشرع بعض الأصوات وهو ماهيّج عشقًا علويًا وحزنًا عاشقيًا، وحرّم بعضها وهو ما انتج اشتهاء نفسيًا وحزنًا يتميًا، وما لم يُرِكَ الشرع فمَيِّزْه بتأثيره في روحك ووجدانك.
وبكلمة {وَعلى أبصارهم غشاوة} إلى زوال نعمة جسيمة بسبب الكفر؛ إذ البصر من شأنه إذا استضاء نوره واتصل بنور الإيمان الساكن خلف شُبيكته ممدًا ومحركًا له كان كل الكائنات كجنة مزينة بالزهر والحور، ويصير نور العين نحلا تطير عليها فتجتنى من تلك الأزاهير عصارة العبرة والفكرة والأنسية والاستيناس والتحبب والتهنئة، فتأخذ حميلتها فتتخذ في الوجدان شهد الكمالات.. وإذا أظلم- العياذ بالله- ذلك البصرُ بالكفر طمس، وصارت الدنيا في نظره سجنًا، وتسترت عنه الحقائق وتوحشت عليه الكائنات وتلقى إلى قلبه آلامًا تحيط بوجدانه من الرأس إلى القدم.
وبلفظ {ولهم عذاب عظيم} إلى ثمرة شجرة زقوم الكفر في العالم الأخروي من عذاب جهنم ومن نكال الغضب الإلهي. هذا.
وأما {لا يؤمنون} فتأكيد ل {سواء} ينص على جهة المساواة. اهـ.