كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وذكر القتبي: أن مما أخذ عليه أيضا أو كفر به أو قارب، قوله في محمد الأمين، تشبيهه إياه بالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم حيث قال:
تنازع الأحمدان الشبه فاشتبها ** خلقا كما قد الشراكان

وقد أنكروا أيضا قوله:
كيف لابد فيك من ** أمل من رسول من نفره

لأن حق الرسول صلّى الله عليه وسلّم وموجب تعظيمه، وأناقة منزلته، أن يضاف إليه ولا يضاف، فالحكم في أمثال هذا ما بسطناه في طريق الفتيا على هذا المنهج جاءت فتيا إمام مذهبنا مالك بن أنس وأصحابه، ففي (النوادر) من رواية ابن أبي مريم عنه في رجل عيّر رجلا بالفقر، فقال: تعيرني بالفقر وقد رعى النبي صلّى الله عليه وسلّم الغنم؟ فقال مالك: قد عرض بذكر النبي صلّى الله عليه وسلّم في غير موضعه، أرى أن يؤدب، قال: ولا ينبغي لأهل الذنوب إذا عوتبوا أن يقولوا: قد أخطأت الأنبياء قبلنا.
وقال عمر بن عبد العزيز- رحمه الله- لرجل: انظر لنا كاتبا يكون أبوه عربيا، فقال كاتب له: قد كان أبو النبي كافرا! فقال: جعلت هذا مثلا؟
فعزله وقال: لا تكتب لي أبدا، وقد كره سحنون أن يصلّى على النبي صلّى الله عليه وسلّم عند التعجب إلا على طريق الثواب والاحتساب توقيرا له وتعظيما كما أمرنا الله تعالى.
وسأل القابسيّ عن رجل قال لرجل قبيح: كأنه وجه نكير، ولرجل عبوس: كأنه وجه مالك الغضبان! فقال أبي شيء أراد بهذا؟ ونكير أحد فتاني القبر، وهما ملكان، فما الّذي أراد؟ أروع دخل عليه حين رآه من وجهه؟ أم خاف النظر إليه لدمامة خلقه؟ قال: فإن قال هذا فهو شديد لأنه جرى مجرى التحقير والتهوين، فهو أشد عقوبة، وليس فيه تصريح بالسب للملك، وإنما السبّ واقع على المخاطب، وفي الأدب بالسوط والسجن نكال للسفهاء.
قال وأما ذكر مالك وخازن النار فقد جفا الّذي ذكره عند ما أنكر حاله من عبوس الآخر، إلا أن يكون المعبس له يد فمرهب الملك بعبسته، فيشبه القائل على طريق الذم لهذا في فعله ولزومه في ظلمه صفة لمالك الملك لربه في فعله، فيقول: كأنه للَّه يغضب مالك فيكون أخف، وما كان ينبغي له التعرض لمثل هذا، ولو كان أثنى على العبوس بعبسته، واحتج بصفة مالك كان أشد، ويعاقب المعاقبة الشديدة، وليس في هذا ذم للملك على قصد ذمه يقتل.
وقال أبو الحسن أيضا في شاب معروف بالخير، قال لرجل شيئا، فقال له: اسكت فإنك أمي، فقال الشاب: أليس كان النبي صلّى الله عليه وسلّم أميا؟ فشنع عليه مقاله، وكفره الناس، وأشفق الشاب مما قال، وأظهر الندم عليه، فقال أبو الحسن: أما إطلاق الكفر عليه فخطأ، لكنه مخطئ في استشهاده فصفة النبي صلّى الله عليه وسلّم أميا آية له، وكون هذا أميا نقيصة فيه، وجهالة، ومن جهالته احتجاجه بصفة النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولكنه إذا استغفر وتاب واعترف ولجأ إلى الله فيترك، لأن قوله لا ينتهى إلى حدّ القتل وما طريقه الأدب، فطوع فاعله بالندم عليه يوجب الكف عنه.
ونزلت أيضا مسألة استفتى فيها بعض قضاه الأندلس شيخنا القاضي أبا محمد بن منصور- رحمه الله- في رجل تنقصه آخر بشيء فقال له: إنما تريد نقصي بقولك وأنا بشر، وجميع البشر يلحقهم النقص، حتى النبي صلّى الله عليه وسلّم! فأفتاه بإطالة سجنه وإيجاع أدبه، إذ لم يقصد السب، وكان بعض فقهاء الأندلس أفتى بقتله.
الوجه السادس: أن يقول القائل ذلك حاكيا عن غيره، وآثرا له عن سواه، فهذا ينظر في صورة حكايته، وقرينة مقالته، ويختلف الحكم باختلاف ذلك على أربعة وجوه: الوجوب، والندب، والكراهة، والتحريم، فإن كان أخبر به على وجه الشهادة، والتعريف بقائله، والإنكار والإعلام بقوله، والتنفير منه، والتجريح له: فهذا مما ينبغي امتثاله ويحمد فاعله.
وكذلك إن حكاه في كتاب أو في مجلس على طريق الرد له والنقص على قائله، والفتيا بما يلزمه، وهذا منه ما يجب، ومنه ما يستحب، بحسب حالات الحاكي لذلك، والمحكي عنه، فإنه كان القائل لذلك ممن تصدى لأن يؤخذ عنه العلم، أو رواية الحديث، أو يقطع بحكمه، أو شهادته، أو فتياه في الحقوق، وجب على سامعه الإشادة بما سمع منه، والتنفير للناس عنه والشهادة عليه بما قاله، ووجب على من بلغه ذلك من أئمة المسلمين إنكاره وبيان كفره، وفساد قوله، لقطع ضرره عن المسلمين، وقياما بحق سيد المرسلين صلّى الله عليه وسلّم، وكذلك إن كان ممن يعظ العامة، أو يؤدب الصبيان، فإن من هذه سريرته لا يؤمن على إلقاء ذلك في قلوبهم، فيتأكد في هؤلاء الإيجاب لحق النبي صلّى الله عليه وسلّم ولحق شريعته.
وإن لم يكن القائل بهذه السبيل فالقيام بحق النبي صلّى الله عليه وسلّم واجب، وحماية عرضه متعين، ونصرته على الأذى حيا وميتا، مستحق على كل مؤمن، ولكنه إذا قام بهذا من ظهر به الحق وفصلت به القضية، وبان به الأمر، سقط عن الباقي الفرض، وبقي الاستحباب في تكثير الشهادة، والتحذير منه.
وقد أجمع السلف على بيان حال المتهم في الحديث، فكيف، بمثل هذا؟
وقد سئل أبو محمد بن أبي زيد عن الشاهد يسمع مثل هذا في حق الله تعالى أيسعه أن يؤدي شهادته؟ قال: إن رجا نفاذ الحكم بشهادته فليشهد، وكذلك إن علم أن الحاكم لا يرى القتل بما يشهد به ويرى الاستتابة والأدب فليشهد، ويلزمه ذلك، وأما الإباحة لحكاية قوله لغير هذين المقصدين، فلا أرى لها مدخلا في هذا الباب، فليس التفكه بعرض النبي صلّى الله عليه وسلّم والتمضمض بسوء ذكره لأحد لا ذاكرا ولا آثرا لغير غرض شرعي بمباح، وأما للأغراض المتقدمة فمتردد بين الإيجاب والاستحباب، وقد حكى الله تعالى مقالات المفترين عليه وعلى رسله في كتابه على وجه الإنكار لقولهم، والتحذير من كفرهم، والوعيد عليه، والرد عليهم بما تلاه الله علينا في محكم كتابه، وكذلك وقع من أمثاله في أحاديث النبي صلّى الله عليه وسلّم الصحيحة على الوجوه المتقدمة، وأجمع السلف والخلف من أئمة الهدى على حكايات مقالات الكفرة والملحدين في كتبهم ومجالسهم، ليبيّنوها للناس، وينقضوا شبهها عليهم وإن كان ورد لأحمد بن حنبل رحمه الله إنكار لبعض هذا على الحارث بن أسد، فقد صنع أحمد مثله في رده على الجهمية، والقائلين بالمخلوق، وهذه الوجوه السابقة الحكاية عنها، وأما ذكرها على هذا من حكاية سبه صلى الله عليه وسلم والإزراء بمنصبه على وجه الحكايات والأسمار والطرف، وأحادث الناس، ومقالاتهم في الغث والسمين، ومضاحك المجان، ونوارد السخفاء، والخوض في قيل وقال: وما لا يعني، فكل هذا ممنوع وبعضه أشد في المنع والعقوبة من بعض، فما كان من قائله الحاكي له على غير قصد أو معرفة بمقدار ما حكاه أو يكن الكلام من البشاعة حيث هو ولم يظهر على حاكيه استحسانه واستصوابه، ونهى عن العودة إليه، وإن قوّم ببعض الأدب فهو مستوجب له، وإن كان لفظه من البشاعة حيث هو كان الأدب أشدّ.
وقد حكي أن رجلا سأل مالكا رحمه الله عمن يقول: القرآن مخلوق، فقال مالك: كافر فاقتلوه، فقال إنما حكيته عن غيري. فقال مالك: إنما سمعناه منك، وهذا من مالك- رحمه الله- على طريق الزجر والتغليظ بدليل أنه لم ينفذ قتله، وإن أتاهم هذا الحاكي فيما حكاه أنه اختلقه ونسبه إلى غيره، أو كانت تلك عادة له، أو ظهر استحسانه لذلك، أو كان مولعا بمثله، والاستخفاف له، أو التحفظ لمثله، وطلبه، ورواية أشعار هجوه صلى الله عليه وسلم، وسبّه، فحكم هذا حكم الساب نفسه، يؤاخذ بقوله، ولا ينفعه نسبته إلى غيره، فيبادر بقتله، وتعجل إلى الهاوية أمه.
وقد قال أبو عبيد القاسم بن سلام في من حفظ شطر بيت مما هجي به النبي صلى الله عليه وسلّم: فهو كفر، وقد ذكر بعض من ألف في الإجماع، إجماع المسلمين على تحريم رواية ما هجي به النبي صلّى الله عليه وسلّم وكتابته، وقراءته، وتركه متى وجد دون محو.
ورحم الله أسلافنا المتقين المحرزين لدينهم، فقد أسقطوا من أحاديث المغازي والسير ما كان هذا سبيله، وتركوا روايته، إلا أشياء ذكروها يسيرة وغير مستبشعة على نحو الوجوه الأول، ليروا نقمة الله من قائلها، وأخذه المفترى عليه بذنبه.
الوجه التاسع: أن يذكر ما يجوز على النبي صلّى الله عليه وسلّم أو يختلف في جوازه عليه وما يطرأ من الأمور البشرية به، ويمكن إضافتها إليه، أو يذكر ما امتحن به وصبر في ذات الله تعالى على شدته من مقاساة أعدائه، وأذاهم له ومعرفة ابتداء حاله وسيرته، وما لقيه من بؤس زمنه، ومر عليه من معاناة عيشه، كل ذلك على طريق الرواية ومذاكرة العلم ومعرفة ما صحت منه العصمة للأنبياء وما يجوز عليهم، فهذا من خرج عن هذه الفنون الستة، إذ ليس فيه غمص ولا نقص، ولا إزراء ولا استخفاف ولا في ظاهر اللافظ ولا في مقصد اللفظ، لكن يجب أن يكون الكلام فيه مع أهل العلم، وفهم طلبة الدين ممن يفهمون مقاصده، ويحققون فوائده ويجنب ذلك من عساه لا يفقه، أو يخشى به فتنته، فقد كره بعض السلف تعليم النساء سورة يوسف، لما انطوت عليه من تلك القصص، لضعف معرفتهن، ونقص عقولهنّ وإداركهن، فقد قال صلّى الله عليه وسلّم مخبرا عن نفسه باستئجاره لرعاية الغنم في ابتداء حاله، فقال: ما من نبي إلا وقد رعى الغنم. وأخبرنا الله تعالى بذلك عن موسى عليه السلام، وهذا لا غضاضة فيه جملة واحدة، لمن ذكره على وجهه، بخلاف من قصد به الغضاضة والتحقير بل كانت عادة جميع العرب ترى في ذلك للأنبياء حكمة بالغة، وتدريج للَّه تعالى إلى كرامته وتدريب برعايتها لسياسة أممهم من خليقته، بما سبق لهم من الكرامة في الأزل، ومتقدم العلم، وكذلك ذكر الله تعالى يتمه وعيلته على طريق المنة عليه، والتعريف بكرامته له، فذكر الذاكر لها على وجه تعريف حاله والخبر عن مبتدئه، والتعجب من منح الله تعالى قبله، وعظيم منته عنده، ليس فيه غضاضة بل فيه دلالة على نبوته، وصحة دعوته، إذ أظهره الله تعالى بعد هذا على صناديد العرب ومن ناوأه من أشرافهم، شيئا فشيئا، ونمى أمره حتى قهرهم، وتمكن من ملك مقاليدهم، واستباحة ممالك كثير من الأمم غيرهم، بإظهار الله، تعالى له، وتأييده بنصره وبالمؤمنين، وألف بين قلوبهم، وإمداده بالملائكة المسومين، ولهذا قال هرقل حين سأل أبا سفيان عنه: هل في آبائه من ملك؟ ثم قال: ولو كان في آبائه ملك لقلنا رجل يطلب ملك أبيه! وإذا آليتم من صفته وإحدى علاماته في الكتب المتقدمة، وأخبار الأمم السالفة، وكذا وقع ذكره في كتاب أرمياء، وبهذا وصفه ابن ذي يزن لعبد المطلب، وبحيرا لأبي طالب.
وكذلك إذا وصف بأنه أميّ كما وصفه الله تعالى به، فهي مدحة له، وفضيلة ثابتة فيه، وقاعدة معجزته، إذ معجزته العظمى من القرآن العظيم إنما هي متعلقة بطريق المعارف والعلوم، مع ما منح صلّى الله عليه وسلّم وفضل به من ذلك، ووجود مثل ذلك من رجل لم يقرأ، ولم يكتب ولم يدارس، ولا قن، ومقتضى العجب! ومنتهى العبر، ومعجزة البشر، وليس في ذلك نقيصه إذ المطلوب من الكتابة والقراءة والمعرفة إنما هي آله لها واسطة موصّلة إليها غير مرادة في نفسها فإذا حصلت الثمرة والمطلوب استغنى عن الواسطة والسّبب.
والأمية في غيره نقيصة، لأنها سبب الجهالة وعنوان الغباوة فسبحان من باين أمره من أمر غيره وجعل شرفه فيما فيه محطة سواه، وحياته فيما فيه هلاك من عداه، ففي شق قلبه وإخراج حشوته، كان تمام حياته، وغاية قوة نفسه، وثبات روعه، وهو فيمن سواه منتهى هلاكه وحتم موته وفنائه، وهلم جرّا، إلى سائر ما روي من أخباره وسيره وتقلّله من الدنيا من الملبس، والمطعم والمركب، وتواضعه، ومهنته نفسه في أموره. وخدمة بيته، زهدا ورغبة عن الدنيا، وتسوية بين حقيرها وخطيرها، لسرعة فناء أمورها، وتقلب أحوالها كل هذا من فضائله، ومآثره، وشرفه فمن أورد شيئا منها مورده، وقصد بها مقصده.
ورحم الله مالكا، فلقد كره التحدث بمثل ذلك من الأحاديث الموهمة للتشبيه، والمشكلة المعنى، وقال: ما يدعو الناس إلى التحدث بمثل هذا؟ فقيل له: إن ابن عجلان يحدث بها، فقال: لم يكن من الفقهاء، ليت الناس وافقوه على ترك الحديث بها، وساعدوه على طيها، فأكثرها ليس تحته عمل، وقد حكى عن جماعة من السلف بل عنهم على الجملة أنهم كانوا يكرهون الكلام فيما ليس تحته عمل، والنبي صلّى الله عليه وسلّم أوردها قوما عربا يفهمون كلام العرب على وجهه وتصرفاتهم في حقيقته، ومجازه، واستعارته، وبليغة وإيجازه، فلم تكن في حقهم مشكلة، ثم جاء من غلبت عليه العجمة وداخلته الأمية، فلا يكاد يفهم من مقاصد العرب إلا نصها وصريحها، ولا يتحقق إشاراتها إلى غرض الإيجاز، ووحيها وتبليغها، وتلويحها، فتفرقوا في تأويلها شذر مذر، من آمن منهم ومن كفر.