فصل: غزوة تبوك وأهم ما في هذه الغزوة من عبر ودروس هو ما نوجز الكلام عنه:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: السيرة النبوية دروس وعبر



.تحطيم الأصنام:

كان إبراهيم عليه السلام- وهو أبو الأنبياء بعد نوح- ممن حارب الوثنية في قومه، حتى حاول قومه إحراقه بالنار. كما يحكي القرآن الكريم، ولما جاء إلى مكة أودع ولده إسماعيل عليه السلام فيها مع أمه، فلما شب إسماعيل عليه السلام بنيا الكعبة معاً لتكون بيتاً يعبد الله عنده، ويحج الناس إليه، وتكاثر ولد إسماعيل- وهم العرب المستعربة، كما يسميهم المؤرخون- واستمروا لا يعرفون عبادة الأوثان والأصنام، ثم كان من عبادتهم أنه كان لا يظعن من مكة ظاعن، إلا احتمل معه حجراً من حجارة الحرم، تعظيماً للحرم، وصبابة بمكة، فحيثما حلوا وضعوه وطافوا به كطوافهم بالكعبة، تيمناً منهم بها، وحباً منهم للحرم، وشوقاً إليه، واستمروا كذلك حتى أدخل فيهم عمرو بن لحي عبادة الأوثان- وكان ذلك قبل البعثة النبوية بخمسمائة سنة على ما يقولون- فهو أول من غيّر دين إسماعيل عليه السلام، وكان من أمره أن تولى حجابة البيت بعد إجلاء جرهم عن مكة وما حولها، ثم مرض مرضاً شديداً، فقيل له: إن بالبلقاء من الشام حمة- وهي التي يقال لها الحَمة الآن- إن أتيتها برأت، فأتاها فاستحم بها فبرأ، ووجد أهلها يعبدون الأصنام فقال: ما هذه؟ فقالوا: نستسقي بها المطر، ونستنصر بها على العدو، فسألهم أن يعطوه منها، ففعلوا، فقدم بها مكة، ونصبها حول الكعبة، وانتشرت بعد ذلك عبادة الأصنام في جزيرة العرب، حتى كان لأهل كل دار في مكة صنم يعبدونه في دارهم، فإذا أراد أحدهم السفر، كان آخر ما يصنع في منزله أن يتمسح به، وإذا قدم من سفره، كان أول ما يصنع إذا دخل منزله أن يتمسح به أيضاً.
ثم أولعت العرب بعبادة الأصنام، فمنهم من اتخذ بيتاً، ومنهم من اتخذ صنماً، ومن لم يقدر عليه ولا على بناء بيت، نصب حجراً أمام الحرم، وأمام غيره مما استحسن، ثم طاف به كطوافه بالبيت، وكان الرجل إذا سافر فنزل منزلاًَ، أخذ أربعة أحجار فنظر إلى أحسنها فاتخذه رباً، وجعل ثلاث أثافي لقدره، وإذا ارتحل تركه، فإذا نزل منزلاً آخر فعل مثل ذلك.
وكانت للعرب ثلاثة أصنام كبرى تعظمها، وتحج إليها، وتنحر لها الذبائح: أقدمها مناة وكان منصوباً على ساحل البحر من ناحية المشلل بقديد، بين المدينة ومكة، وكانت العرب جميعاً تعظمه، وأشدهم إعظاماً له الأوس والخزرج، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لفتح مكة في السنة الثامنة للهجرة، أرسل إليه عليًّا رضي الله عنه، فهدمه، وأخذ ما كان له، وأقبل به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فكان فيما أخذ: سيفان، كان الحارث بن أبي شمر الغساني ملك غسان أهداهما له، والحارث هذا هو الذي قتل شجاع بن وهب الأسدي رضي الله عنه حين سلمه كتاب النبي صلى الله عليه وسلم يدعوه للإسلام، ولم يقتل للنبي صلى الله عليه وسلم رسول غيره.
وثانيهما اللات وكانت بالطائف، وهي صخرة مربعة، وكانت قريش وجميع العرب تعظمها، فلما جاء وفد ثقيف بعد عودة النبي صلى الله عليه وسلم من فتح مكة إلى المدينة، طلب وفدها منه عليه الصلاة والسلام أن يدع لهم اللات ثلاث سنين لا يهدمها، فأبى ذلك عليهم، فما برحوا يسألونه سنة سنة وهو يأبى عليهم، حتى سألوا شهراً واحداً، فأبى عليهم.
قال ابن هشام: وإنما يريدون بذلك فيما يظهرون أن يسلموا بتركها من سفهائهم، ونسائهم، وذراريهم، ويكرهون أن يروعوا قومهم بهدمها حتى يدخلهم الإسلام، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يبعث أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة فيهدماها، فلما أخذ المغيرة يضربها بالمعول، خرج نساء ثقيف حسراً يبكين عليها ويقلن:
لتُبكينَّ دُفَّاع

أسلمها الرُّضَّاع

لم يُحسنوا المِصَاع

يردن بذلك: واحسرتا على التي كانت تدافع عنا أعداءنا، وتدفع عنا البلاء، قد أسلمها اللئام للهدم، فلم يدافعوا عنها، ولم يجالدوا بالسيوف في سبيلها.
وثالثتها العزى كانت عن يمين المسافر من مكة إلى العراق، وكانت قريش تخصها بالإعظام، فلما نزل القرآن يندد بها وبغيرها من الأصنام، اشتد ذلك على قريش، ولما مرض أو أحيحة وهو سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف مرضه الذي مات فيه، دخل عليه أبو لهب يعوده، فوجده يبكي، فقال: ما يبكيك يا أبا أحيحة؟ أمن الموت تبكي ولا بد منه؟ قال: لا، ولكني أخاف ألا تعبد العزى بعدي! قال أبو لهب: والله ما عبدت حياتك لأجلك، ولا تترك عبادتها بعدك لموتك، فقال أبو أحيحة: الآن علمت أن لي خليفة!.. وأعجبه شدة نصبه في عبادتها.
فلما كان عام الفتح دعا النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد، وأمره أن ينطلق بهدمها، فلما جاءها خالد، قال سادنها ديبة بن حرمي الشيباني:
أعُزاء شدِّي شدة لا تكذبي ** على خالد أَلقي الخمار وشمري

فانك إلا تقتلي اليوم خالدا ** تبوئي بذلٍّ عاجل وتنصرَّي

فقال خالد:
يا عُزَّ كفرانك لا غفرانك** إني رأيت الله قد أهانك

وقد زعموا أنها كنت حبشية، نافشة شعرها، واضعة يدها على عاتقها في داخل شجرة كان قد قطعها خالد، فبرزت له بهذا الشكل، فضربها ففلق رأسها، فإذا هي حممة (أي كالفحم) فلما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأداء مهمته، قال عليه الصلاة والسلام: تلك العزى، ولا عزى بعدها للعرب، أما إنها لن تعبد بعد اليوم. تلك هي أشهر أصنام العرب في الجاهلية، وهي التي ذكرها القرآن الكريم بقوله: {أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى} [النجم: 19- 20].
ولما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت الحرام يوم فتح مكة، رأى صور الملائكة وغيرهم، فرأى إبراهيم عليه السلام مصوراً في يده الأزلام يستقسم بها، فقال: قاتلهم الله جعلوا شيخنا يستقسم بالأزلام، ما شأن إبراهيم والأزلام؟ {وما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين}، [آل عمران: 68] ثم أمر بتلك الصور كلها، فطمست.
قال ابن عباس: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح على راحلته، فطاف عليها، وحول البيت أصنام مشدودة بالرصاص، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يشير بقضيب في يده إلى الأصنام ويقول: {جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً} [الإسراء: 81] فما أشار إلى صنم منها في وجهه إلا وقع لقفاه، ولا أشار إلى قفاه إلا وقع لوجهه، حتى ما بقي منها صنم إلا وقع.
ولم تمض على فتح مكة إلا شهور، حتى كانت أصنام جزيرة العرب كلها قد سقطت عن عروشها، وكفر بها عبَّادها، وأصبح من كان يعبدها بالأمس يخجل من تفاهة رأيه إذ كان يعبد حجراً لا يضر ولا ينفع ولا يغني عن حوادث الدهر شيئاً.
لقد قامت رسالة الإسلام أول ما قامت على التشهير بهذه الأصنام الآلهة، والتشنيع على عبادتها والدعوة إلى دين الفطرة: عبادة الله خالق الكون ورب العالمين، وقاومت جزيرة العرب وفي مقدمتها قريش هذه الدعوة، ورأت فيها عجباً عجاباً {أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب} [ص:5].
وماجت جزيرة العرب واضطربت لهذا الدين الجديد، وحاولت وأْده والقضاء على رسوله بكل وسيلة، ولكن النصر كان أخيراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نضال استمر إحدى وعشرين سنة،
فافتتح عاصمة الوثنية، وحطم آلهتها، وهزم جيوشها، وتغلب على مؤامرات زعمائها، هل يصدق العقل آن ذلك كله قد تم خلال هذه الفترة القصيرة، ولم يكن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ابتدأ هذه الدعوة إنسان لولا أن يكون الله من ورائها، يهيئ كتائبها، ويوجه معاركها؟ {وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى} [الأنفال: 17].
لقد أنهى محمد بن عبد الله مأساة العرب الفكرية التي استمرت زهاء خمسمائة عام أو تزيد، وحرر العقل العربي من أغلال الوثنية وخرافاتها، وأنقذ الكرامة العربية من مهانة الوثنية وحقارتها، وفتح أبواب الخلود للعرب يدخلون منه ثم لا يخرجون، ولقد صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: لا عزى بعدها للعرب، إما إنها لن تعبد بعد اليوم فقد ودعت جزيرة العرب حياة الوثنية إلى الأبد، وبلغ العقل العربي سن الرشد، فلم يعد يرضى بعودته إلى طفولته: طفولة الوثنية التي تحمل صاحبها على أن يضع جبهته عند أقدام حجارة صماء بكماء، ولقد قامت بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم حروب وفتن، وادعى النبوة من ادعاها، وعارض القرآن من عارضه، ولكنا لم نسمع أن عربياً واحداً فكر في العودة إلى الوثنية وآلهتها، ذلك أن الراشد لن يعود طفلاً، وكل ذلك إنما تم بفضل محمد صلى الله عليه وسلم ورسالته، فله على كل عربي إلى انتهاء الدنيا فضل الإنقاذ والتحرير، ثم فضل زيادة الهدى لشعوب الأرض من اتبع الهدى ومن أعرض عنه، وجل الله حين يقول: {هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكّيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين} [الجمعة: 2].

.غزوة تبوك وأهم ما في هذه الغزوة من عبر ودروس هو ما نوجز الكلام عنه:

أولاً- كان سبب هذه الغزوة أن الروم قد جمعت جموعاً كثيرة بالشام، وأن هرقل قد رزق أصحابه سنة، وانضمت إليه من القبائل العربية، لخم، وجذام، وغسان، وعاملة، ثم قدموا طلائعهم إلى البلقاء- كورة من أعمال دمشق بين الشام ووادي القرى، فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ندب الناس للخروج إلى تبوك، ودعاهم إلى التأهب والاستعداد، ودعا الأغنياء إلى البذل والإنفاق.
وهذا يفسر لنا طبيعة الحرب في الإسلام، فهي ليست عدوانية، ولا استفزازية، ولكنها للدفاع عن الدين والبلاد، وردع المعتدين، ومنعهم عن الأذى والفساد، وهذا ما صرحت به آيات كثيرة من القرآن الكريم، وقد تكلمنا عن أسباب مشروعية الحرب في الإسلام، وأهدافه، وطرائقه، في مذكرات السنة الأولى. وفي خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك بعد تأهب الروم وجمعهم للجموع تأييد لما قلناه هناك.
وفي انضمام بعض القبائل العربية إلى الروم ضد المسلمين، دليل على أنهم كانوا بعيدين عن فهم الإسلام ورسالته التحريرية للناس عامة وللعرب خاصة، ولو كانوا يعلمون ذلك لأبوا أن يكونوا أعواناً للروم على أبناء قومهم من العرب المسلمين.
ثانياً- لقد كانت دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم للتأهب في وقت عسر وحر وموسم لجني الثمار، فأما المؤمنون الصادقون، فقد سارعوا إلى تلبيتهم للرسول غير عابئين بمشقة ولا حرمان، وأما المنافقون، فقد تخلفوا، وأخذوا يعتذرون بشتى الأعذار، وهكذا يتبين المخلصون من المنافقين في أيام الشدائد، وينكشف أمر الأدعياء في أيام المحن، وقد قال الله تعالى: {الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمنّ الله الذين صدقوا وليعلمنّ الكاذبين} [العنكبوت: 1- 3].
وإنما تقوم الدعوات، وتنهض الأمم بتطهير صفوفها من المنافقين والمخادعين، ولا يثبت للشدة إلا كل صادق العزيمة، مخلص النية، ثابت المبدأ، وكثيراً ما عوق الضعاف والمخادعون سير دعوات الإصلاح في الأمة، وحالوا بينها وبين النصر، أو أخروها ولو إلى حين، ولقد تخلص جيش العسرة في غزوة تبوك من أمثال هؤلاء بفضل افتضاح أمرهم، وانكشاف ضعف إيمانهم، وخور عزائمهم، وإن جيشاً متراص الصف، متحد الكلمة، قوي الإيمان، صادق العهد، أجدى للأمة- ولو كان قليل العدد- وأدعى لاكتساب النصر من جيش كثير العدد، متفاوت الفكرة والقوة والثبات {كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين} [البقرة: 249].
ثالثاً- أن في مسارعة الموسرين من الصحابة إلى البذل والإنفاق، كأبي بكر، وعمر، وعثمان، وغيرهم، دليلاً على ما يفعله الإيمان في نفوس المؤمنين من مسارعة إلى فعل الخير ومقاومة لأهواء النفس وغرائزها، مما تحتاج إليه كل أمة، وكل دعوة، لضمان النصر على أعدائها، وتأمين الموارد اللازمة لها، وهذا ما نجد أمتنا اليوم أشد الحاجة إليه، فالأعداء كثر، والأعباء ثقيلة، والمعركة رهيبة، والعدو قوي ماكر، فلا نستطيع التغلب عليه إلا بمزيد من التضحيات في الأموال والأنفس والأهواء والشهوات، ولا يحقق ذلك إلا الدين الصحيح المفهوم على حقيقته الذي يربي النفوس على احتساب الإنفاق والتعب في سبيل الأمة جهاداً يثيب الله عليه كما يثيب المجاهدين في ميادين النضال.
وخير ما يفعله المصلحون وزعماء النهضات، هو غرس الدين في نفوس الناس غرساً كريماً، وكل مقاومة للدين، أو دعوة إلى التحرر منه، أو تظاهر بالاستخفاف من شأنه، جريمة وطنية تؤدي إلى أسوأ النتائج، وأخطر الآثار، كذلك علمنا الله، وكذلك أثبت لنا التاريخ في الماضي، وأثبتت التجربة في الحاضر، وكل إنكار لهذه الحقيقة مغالطة لا يلجأ إليها إلا الذين لم تخلص للحق نفوسهم، ولم تتفتح للخير أفئدتهم، ولم تتحل بالسمو والنبل طباعهم.
رابعاً- وفي قصة الذين جاءوا إلى رسول الله يطلبون أن يأخذهم معه إلى الجهاد، فردهم لأنه لم يجد ما يحملهم عليه. فولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً على حرمانهم من شرف الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. في هذه القصة التي حكاها الله في كتابه أروع الأمثلة على صنع الإيمان للمعجزات، فطبيعة الإنسان أن يفرح لنجاته من الأخطار، وابتعاده عن الحروب، ولكن هؤلاء المؤمنين الصادقين بكوا من أجل ذلك، إذ اعتبروا أنفسهم قد فاتهم حظ كبير من ثواب الله والتعرض للشهادة في سبيله، فأي مبدأ يعمل في النفوس كما فعل الإيمان في نفوس هؤلاء؟ وأي خسارة تلحق بالأمة حين تخلو من أمثال هؤلاء؟
خامساً- وفي قصة الثلاثة الذين تخلفوا عن الجهاد إيثاراً للراحة على التعب، والظل على الحر، والإقامة على السفر، مع أنهم مؤمنون صادقون، درس اجتماعي من أعظم الدروس، فقد استيقظ الإيمان في نفوسهم بعد قليل، فعلموا أنهم ارتكبوا بتخلفهم عن رسول الله والمؤمنون إثماً كبيراً، ومع هذا فلم يعفهم ذلك من العقوبة، وكانت عقوبتهم قاسية رادعة، فقد عزلوا عن المجتمع عزلاً تاماً، ونهي الناس- حتى زوجاتهم- عن كلامهم والتحدث إليهم، ولما علم الله منهم صدق التوبة، وبلغ منهم الندم والألم والحسرة مداه، تاب الله عليهم، فلما بشروا بذلك كانت فرحتهم لا تقدر، حتى انسلخ بعضهم عن ماله وثيابه شكراً لله على نعمة الرضا والغفران.
إن مثل هذه الدروس تمنع المؤمن الصادق في إيمانه عن أن يتخلف عن عمل يقتضيه الواجب أو يرضى لنفسه بالراحة والناس يتعبون،
والنعيم والناس يبتئسون، وتلك هي طبيعة الإيمان: أن تشعر دائماً وأبداً أنك فرد من جماعة، وجزء من كل، وأن ما يصيب الجماعة يصيبك، وما يفيدها يفيدك، وأن النعيم لا معنى له مع شقاء الأمة وبؤسها، والراحة لا لذة لها مع تعب الناس وعنائهم، وأن التخلف عن الواجب نقص في الإيمان، وخلل في الدين، وإثم لا بد فيه من التوبة والإنابة.
كما تعطينا القصة درساً بأن العقيدة فوق القرابة، وأن تنفيذ النظام المشروع مقدم على طاعة الهوى والعاطفة، وأن القرابة لا تغني شيئاً إزاء غضب الله ومقته {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} [النور: 63].