فصل: الكلام في أن إتمام الاستطاعة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الفصل في الملل والنحل **


 الكلام في القدر

قال أبو محمد‏:‏ اختلف الناس في هذا الباب فذهبت طائفة إلى أن الإنسان مجبر على أفعاله وأنه لا استطاعة له أصلاً وهو قول جهم بن صفوان وطائفة من الأزارقة وذهبت طائفة أخرى إلى أن الإنسان ليس مجبراً وأثبتوا له قوة واستطاعة بها يفعل ما اختار فعله ثم افترقت هذه الطائفة على فرقتين فقالت إحداهما الاستطاعة التي يكون بها الفعل لا تكون إلا مع الفعل ولا يتقدمه البتة وهذا قول طوائف من أهل الكلام ومن وافقهم كالنجار والأشعري ومحمد بن عيسى برعوت الكاتب وبشر بن غياث المريسي وأبي عبد الله العطوي وجماعة من المرجئة والخوارج وهشام بن الحكم وسليمان بن جرير وأصحابهما وقالت الأخرى أن الاستطاعة التي يكون بها الفعل هي قبل الفعل موجودة في الإنسان وهو قول المعتزلة وطوائف من المرجئة كمحمد بن شيد ومؤنس بن عمران وصالح قية والناسي وجماعة من الخوارج والشيعة ثم افترق هؤلاء على فرق فقالت طائفة إن الاستطاعة قبل الفعل ومع الفعل أيضاً للفعل ولتركه وهو قول بشر بن المعتمر البغدادي وضرار بن عمرو الكوفي وعبد الله بن غطفان ومعمر بن عمرو العطار البصري وغيرهم من المعتزلة وقال أبو الهذيل محمد بن الهذيل العبدي البصري العلاف لا تكون الاستطاعة مع الفعل البتة ولا تكون إلا قبله ولا بد وتفنى مع أول وجود الفعل وقال أبو اسحق بن إبراهيم بن سيار النظام وعلي الإسواري وأبو بكر بن عبد الرحمن بن كيسان الأصم ليست الاستطاعة شيئاً غير نفس المستطيع وكذلك أيضاً قالوا في العجز أنه ليس شيئاً غير العاجز إلا النظام فإنه قال هو آفة دخلت على المستطيع‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فأما من قال بالإجبار فإنهم احتجوا فقالوا لما كان الله تعالى فعالاً وكان لا يشبهه شيء من خلقه وجب أن لا يكون أحد فعالاً غيره وقالوا أيضاً معنى إضافة الفعل إلى الإنسان إنما هو كما تقول مات زيد وإنما أماته الله تعالى وقام البناء وإنما أقامه الله تعالى‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وخطأ هذه المقالة ظاهر بالحس والنص وباللغة التي بها خاطبنا الله تعالى وبها نتفاهم فأما النص فإن الله عز وجل قال في غير موضع من القرآن ‏"‏ جزاء بما كانوا يعملون لم تقولون ما لا تفعلون وعملوا الصالحات ‏"‏ فنص تعالى على أننا نعمل ونفعل ونصنع وأما الحس فإن بالحواس وبضرورة العقل وببديهية علمنا يقيناً علماً لا يخالج فيه الشك أن بين الصحيح الجوارح وبين من لا صحة بجوارحه فرقاً لائحاً لجوارحه لأن الصحيح الجوارح يفعل القيام والقعود وسائر الحركات مختاراً لها دون مانع والذي لا صحة لجوارحه لو رام ذلك جهده لم يفعله أصلاً ولا بيان أبين من هذا الفرق والمجبر في اللغة هو الذي يقع الفعل منه بخلاف اختياره وقصده فأما من وقع فعله باختياره وقصده فلا يسمى في اللغة مجبراً وإجماع الأمة كلها على لا حول ولا قوة إلا بالله مبطل قول المجبرة ووجب أن لنا حولاً وقوة ولكن لم يكن لنا ذلك إلا بالله تعالى ولو كان ما ذهب إليه الجهمية لكان القول لا حول ولا قوة إلا بالله لا معنى له وكذلك قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين ‏"‏ فنص تعالى على أن لنا مشيئة إلا أنها لا تكون منا إلا أن يشاء الله كونها وهذا نص قولنا والحمد لله رب العالمين‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ومن عرف عناصر الأشياء من الواجب والممتنع والممكن أيقن بالفرق بين صحيح الجوارح وغير صحيحها لأن الحركة الاختيارية بأول الحس هي غير الاضطرارية وإن الفعل الاختياري من ذي الجوارح المؤوفة وهو من ذي الجوارح الصحيحة ممكن وإننا بالضرورة نعلم أن المقعد لو رام القيام جهده لما أمكنه ونقطع يقيناً أنه لا يقوم وأن الصحيح الجوارح لا ندري إذا رأيناه قاعداً يقوم أم يتكئ أم يتمادى على قعوده وكل ذلك منه ممكناً وأما من طريق اللغة فإن الإجبار والاضطرار والغلبة أسماء مترادفة وكلها واقع على معنى واحد لا يختلف وقوع الفعل ممن لا يؤثره ولا يختاره ولا يتوهم منه خلاف البتة وأما من آثر ما يظهر منه من الحركات والاعتقاد ويختاره ويميل إليه هواه فلا يقع عليه اسم إجبار ولا اضطرار لكنه مختار والفعل منه مراد متعمد مقصود ونحو هذه العبارات عن هذا المعنى في اللغة العربية التي نتفاهم بها فإن قال قائل فلم أبيتم ها هنا من إطلاق لفظة الاضطرار و أطلقتموها في المعارف فقلتم أنها باضطرار وكل ذلك عندكم خلق الله تعالى في الإنسان فالجواب أن بين الأمرين فرقاً بيناً وهو أن الفاعل متوهم منه ترك فعله وممكن ذلك منه وليس ذلك ما عرفه يقيناً ببرهان لأنه لا يتوهم البتة انصرافه عنه ولا يمكنه ذلك أصلاً فصح أنه مضطر إليها وأيضاً فقد أثنى الله عز وجل على قوم دعوه فقالوا‏:‏ ‏"‏ ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به ‏"‏ وقد علمنا أن الطاقة والاستطاعة والقدرة والقوة في اللغة العربية ألفاظ مترادفة كلها واقع على معنى واحد وهذه صفة من يمكن عنه الفعل باختياره أو تركه باختياره ولا شك في أن هؤلاء القوم الذين دعوا هذا الدعاء قد كلفوا شيئاً من الطاعات والأعمال واجتناب المعاصي فلولا أن ها هنا أشياء لهم بها طاقة لكان هذا الدعاء حمقاً لأنهم كانوا يصيرون داعين الله عز وجل في أن لا يكلفهم ما لا طاقة لهم به وهم لا طاقة لهم بشيء من الأشياء فيصير دعاءهم في أن لا يكلفوا ما قد كلفوه وهذا محال من الكلام وأما احتجاجهم بأن الله تعالى لما كان فعالاً وجب أن لا يكون فعال غيره فخطأ من القول لوجوه أحدها أن النص قد ورد بأن للإنسان أفعالاً وأعمالاً قال تعالى‏:‏ ‏"‏ كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون ‏"‏ فأثبت الله لهم الفعل وكذلك نقول أن الإنسان يصنع لأن النص قد جاء بذلك ولولا النص ما أطلقنا شيئاً من هذا وكذلك لما قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏ وفاكهة مما يتخيرون ‏"‏ علمنا أن للإنسان اختياراً لأن أهل الدنيا وأهل الجنة سواء في أنه تعالى خالق أعمال الجميع على أن الله تبارك وتعالى قال ‏"‏ وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة ‏"‏ فعلمنا أن الاختيار الذي هو فعل الله تعالى وهو منفي عن سواه وهو غير الاختيار الذي أضافه إلى خلقه ووصفهم به ووجدنا هذا أيضاً حساً لأن الاختيار الذي توحد الله تعالى به هو أن يفعل ما شاء كيف شاء وإذا شاء وليست هذه صفة شيء من خلقه وأما الاختيار الذي أضافه الله تعالى إلى خلقه فهو ما خلق فيهم من الميل إلى شيء ما و الإيثار له على غيره فقط وهنا غاية البيان وبالله تعالى التوفيق‏.‏

ومنها أن الاشتراك في الأسماء لا يقع من أجله التشابه ألا ترى انك تقول الله الحي والإنسان حي والإنسان حليم كريم عليم والله تعالى حليم كريم عليم فليس هذا يوجب اشتباهاً بلا خلاف وإنما يقع الاشتباه بالصفات الموجودة في الموصوفين والفرق بين الفعل الواقع من الله عز وجل والفعل الواقع منا هو أن الله تعالى اخترعه وجعله جسماً أو عرضاً أو حركة أو سكوناً أو معرفة أو إرادة أو كراهية وفعل عز وجل كل ذلك فينا بغير معاناة منه وفعل تعالى لغير علة وأما نحن فإنما كان فعلاً لنا لأنه عز وجل خلقه فينا وخلق اختيارنا له وأظهره عز وجل فينا محمولاً لاكتساب منفعة أو لدفع مضرة ولم نخترعه نحن وأما من قال بالاستطاعة قبل الفعل فعمدة حجتهم إن قالوا لا يخلو الكافر من أحد أمرين إما أن يكمن مأموراً بالإيمان أو لا يكون مأموراً به فإن قلتم أنه غير مأمور بالإيمان فهذا كفر مجرد وخلاف للقرآن والإجماع وإن قلتم هو مأمور بإيمان وهكذا تقولون فلا يخلو من أحد وجهين إما أن يكون أمر وهو يستطيع ما أمر به فهذا قولنا لا قولكم أو يكون أمر وهو لا يستطيع ما أمر به فقد نسبتم إلى الله عز وجل تكليف ما لا يستطاع ولزمكم أن تجيزوا تكليف الأعمى أن يرى والمقعد أن يجري أو يطلع إلى السماء وهذا كله جور وظلم والجور والظلم منفيان عن الله عز وجل ولا تخلو تلك الاستطاعة من أن يكون المرء أعطيها والفعل موجود أو أعطيها والفعل غير موجود فإن كان أعطيها والفعل موجود فلا حاجة به إليها إذ قد وجد الفعل منه الذي يحتاج إلى الاستطاعة ليكون ذلك الفعل بها وإن كان أعطيها والفعل غير موجود فهذا قولنا أن الاستطاعة قبل الفعل قالوا والله تعالى يقول‏:‏ ‏"‏ ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ‏"‏ قالوا فلو لم تتقدم الاستطاعة الفعل لكان الحج لا يلزم أحداً قبل ان يحج وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين ‏"‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً ‏"‏ فلو كانت الاستطاعة للصوم لا تتقدم للصوم ما لزمت أحداً الكفارة به وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ يحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم أنهم لكاذبون ‏"‏ فصح أن استطاعة الخروج موجودة مع عدم الخروج وقال تعالى ‏"‏ فاتقوا الله ما استطعتم ‏"‏ ولهم أيضاً في خلق الأفعال اعتراض نذكره إنشاء الله تعالى وبالله التوفيق والحمد لله رب العالمين‏.‏

 باب الاستطاعة

قال أبو محمد‏:‏ إن الكلام على حكم لفظة قبل تحقيق معناها ومعرفة المراد بها وعن أي شيء يعبر بذكرها طمس للوقوف على حقيقتها فينبغي أولاً أن نقف على معنى الاستطاعة فإذا تكلمنا عليه وقررنا بحول الله تعالى وقوته سهل الإشراف على صواب هذه الأقوال من خطئها بعون الله تعالى وتأييده فنقول وبالله تعالى نتأيد‏.‏

إن من قال أن الاستطاعة هي المستطيع قول في غاية الفساد ولو كان لقائله أقل علم باللغة العربية ثم بحقائق الأسماء والمسميات ثم بماهية الجواهر والأعراض لم يقل هذا السخف أما اللغة فإن الاستطاعة إنما هي مصدر استطاع يستطيع استطاعة والمصدر هو فعل الفاعل وصفته كالضرب الذي هو فعل الضارب والحمرة التي هي صفة الأحمر والاحمرار الذي هو صفة المحمر وما أشبه هذا والصفة والفعل عرضان بلا شك في الفاعل منا وفي الموصوف والمصادر هي أحداث المسمين بالأسماء بإجماع من أهل كل لسان فإذا كانت الاستطاعة في اللغة التي بها نتكلم نحن وهم إنما هي صفة في المستطيع فبالضرورة نعلم أن الصفة هي غير الموصوف لأن الصفات تتعاقب عليه فتمضي صفة وتأتي أخرى فلو كانت الصفة هي الموصوف لكان الماضي من هذه الصفات هو الموصوف الباقي ولا سبيل إلى غير هذا البتة فإذ لا شك في أن الماضي هو غير الباقي فالصفات هي غير الموصوف بها وما عدا هذا فهو من المحال والتخليط فإن قالوا أن الاستطاعة ليست مصدر استطاع ولا صفة المستطيع كابروا وأتوا بلغة جديدة غير اللغة التي نزل بها القرآن والتي لفظة الاستطاعة التي فيها نتنازع إنما هي كلمة من تلك اللغة ومن أحال شيئاً من الألفاظ اللغوية عن موضوعها في اللغة بغير نص محيل لها ولا بإجماع من أهل الشريعة فقد فارق حكم أهل العقول والحياء وصار في نصاب من لا يتكلم معه ولا يعجز أحد أن يقول الصلاة ليست ما تعنون بها وإنما هي أمر كذا والماء هو الخمر وفي هذا بطلان الحقائق كلها وأيضاً فإننا نجد المرء مستطيعاً ثم نراه غير مستطيع لخدر عرض في أعضائه أو لتكتيف وضبط أو لإغماء وهو بعينه قائم لم ينتقص منه شيء فصح بالضرورة أن الذي عدم من الاستطاعة هو غير المستطيع الذي كان ولم يعدم هذا أمر يعرف بالمشاهدة والحس وبهذا أيقنا أن الاستطاعة عرض من الأعراض تقبل الأشد الأضعف فنقول استطاعة أشد من استطاعة واستطاعة أضعف من استطاعة وأيضاً فأن الاستطاعة لها ضد وهو العجز والأضداد لا تكون إلا أعراضاً تقتسم طرفي البعد كالخضرة والبياض والعلم والجهل والذكر والنسيان وما أشبه هذا وهذا كله أمر يعرف بالمشاهدة ولا ينكره إلا أعمى القلب والحواس ومعاند مكابر للضرورة والمستطيع جوهر والجوهر لا ضد له فصح بالضرورة إن الاستطاعة هي غير المستطيع بلا شك وأيضاً فلو كانت الاستطاعة هي المستطيع لكان العجز أيضاً هو العاجز والعاجز هو المستطيع بالأمس فعلى هذا يجب أن العجز هو المستطيع فإن تمادوا على هذا لزمهم أن العجز عن الأمر هو الاستطاعة عليه وهذا محال ظاهر فإن قالوا أن العجز غير المستطيع هو آفة دخلت على المستطيع سئلوا عن الفرق الذي من أجله قالوا أن الاستطاعة هي المستطيع ومنعوا أن يكون العجز هو العاجز ولا سبيل لوجود فرق في ذلك وبهذا نفسه يبطل قول من قال أن الاستطاعة هي بعض المستطيع سواء بسواء لأن العرض لا يكون بعضاً للجسم وأما من قال أن الاستطاعة كل ما توصل به إلى الفعل كالإبرة والدلو والحبل وما أشبه ذلك فقول فاسد تبطله المشاهدة لأنه قد توجد هذه الآلات وتعدم صحة الجوارح فلا يمكن الفعل فإن قالوا قد تعدم هذه الآلات وتوجد صحة الجوارح ولا يمكن الفعل قلنا صدقتم وبوجود هذه الآلات تم الفعل إلا أن لفظة الاستطاعة التي في معناها نتنازع هي لفظة قد وضعت في اللغة التي بها نتفاهم ونعبر عن مرادنا على عرض في المستطيع فليس لأحد أن يصرف هذه اللفظة عن موضوعها في اللغة برأيه من غير نص ولا إجماع ولو جاز هذا لبطلت الحقائق ولم يصح تفاهم أبداً وقد علمنا يقيناً أن لفظة الاستطاعة لم تقع قط في اللغة التي بها نتفاهم على حبل ولا على مهماز ولا على إبرة فإن قالوا قد صح عن أئمة اللسان كابن عباس وابن عمرو رضي الله عنهما إن الاستطاعة زاد وراحلة قيل لهم نعم قد صح هذا ولا خلاف بين أحد له فهم باللغة أنهما عنيا بذلك القوة على وجود زاد وراحلة وبرهان على ذلك أن الزاد والراحلة كثير في العالم وليس كونهما في العالم موجباً عندهما فرض الحج على ما لا يجدهما فصح ضرورة أنهما عنيا بذلك القوة على إحضار الزاد والراحلة والقوة على ذلك عرض كما قلنا وبالله تعالى التوفيق وهكذا القول أيضاً أن ذكروا قول الله عز وجل‏:‏ ‏"‏ وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم ‏"‏ لأن هذا هو نص قولنا أن القوة عرض ورباط الخيل عرض فسقط هذا القول والحمد لله رب العالمين فإذا قد سقطت هذه الأقوال كلها وصح أن الاستطاعة عرض من الأعراض فواجب علينا معرفة ما تلك الأعراض فنظرنا ذلك بعون الله عز وجل وتأييده فوجدنا بالضرورة الفعل لا يقع باختيار الأمن صحيح الجوارح التي يكون بها ذلك الفعل يقيناً أن سلامة الجوارح وارتفاع الموانع استطاعة ثم نظرنا سالم الجوارح لا يفعل مختاراً إلا حتى يستضيف إلى ذلك إرادة الفعل فعلمنا أن الإرادة أيضاً محركة للاستطاعة ولا نقول أن الإرادة استطاعة لأن كل عاجز عن الحركة فهو مريد لها وهو غير مستطيع وقد علمنا ضرورة أن العاجز عن الفعل فليس فيه استطاعة للفعل لأنهما ضدان والضدان لا يجتمعان معاً ولا يمكن أيضاً أن تكون الإرادة بعض الاستطاعة لأنه كان يلزم من ذلك أن في تعاجز المريد استطاعة ما لأن بعض الاستطاعة استطاعة وبعض العجز عجز ومحال أن يكون في العاجز عن الفعل استطاعة له البتة فالاستطاعة ليست عجزاً فمن استطاع على شيء وعجز عن أكثر من ففيه استطاعة على ما يستطيع عليه هي غير استطاعة التي فيه على ما استطاع عليه وبالله تعالى التوفيق ثم نظرنا فوجدنا السالم الجوارح المريد للفعل قد يعترضه دون الفعل مانع لا يقدر معه على الفعل أصلاً فعلمنا أن هاهنا شيئاً آخر به تتم الاستطاعة ولابد وبه يوجد الفعل فعلمنا ضرورة هذا الشيء إذ هو تمام الاستطاعة ولا تصح الاستطاعة إلا به فهو باليقين قوة إذ الاستطاعة قوة وأن ذلك الشيء قوة بلا شك فقد علمنا أنه ما أتى به من عند الله تعالى لأنه تعالى مؤتي القوى إذ لا يمكن ذلك لأحد دونه عز وجل فصح ضرورة أن الاستطاعة صحة الجوارح مع ارتفاع الموانع وهذان الوجهان قبل الفعل وقوة أخرى من عند الله عز وجل وهذا الوجه مع الفعل باجتماعهما يكون الفعل وبالله تعالى التوفيق ومن البرهان على صحة هذا القول إجماع الأمة كلها على سؤال الله تعالى التوفيق والاستعاذة به من الخذلان فالقوة التي ترد من الله تعالى على العبد فيفعل بها الخير تسمى بالإجماع توفيقاً وعصمة وتأييداً والقوة التي ترد من الله تعالى فيفعل العبد بها الشر تسمى بالإجماع خذلاناً والقوة التي ترد من الله تعالى على العبد فيفعل بها ما ليس طاعة ولا معصية تسمى عوناً أو قوة أو حولاً وتبين من صحة هذا صحة قول المسلمين لا حول ولا قوة إلا بالله والقوة لا تكون لأحد البتة فعل إلا بها فصح أنه لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وكذلك يسمى تيسيراً قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كل ميسر لما خلق له وقد وافقنا جميع المعتزلة على أن الاستطاعة فعل الله عز وجل وأنه لا يفعل أحد خيراً ولا شراً إلا بقوة أعطاه الله تعالى إياها إلا أنهم قالوا يصلحوا بها الخير والشر معاً قال أبو محمد‏:‏ فجملة القول في هذا بأن عناصر الأخبار ثلاثة وهو ممتنع أو واجب أو ممكن بينهما هذا أمرٌ بضرورة الحس والتمييز فإذا الأمر كذلك فإن عدمت صحة الجوارح كان له‏.‏

مانع إلى الفعل وأما الصحيح الجوارح المرتفع الموانع فقد يكون منه الفعل وقد لا يكون فهذه هي الاستطاعة الموجودة قبل الفعل برهان ذلك قول الله عز وجل حكاية عن القائلين‏:‏ ‏"‏ لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم أنهم لكاذبون ‏"‏ فأكذبهم الله في إنكارهم استطاعة الخروج قبل الخروج وقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً ‏"‏ فلو لم تكن هنا استطاعة قبل فعل المرء الحج لما لزم الحج إلا من حج فقط ولما كان أحد عاصياً بترك الحج لأنه لم يكن مستطيعاً للحج حتى يحج فلا حج عليه ولا هو مخاطب بالحج وقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً ‏"‏ فلو لم يكن على المظاهر العائد لقوله استطاعته على الصيام قبل أن يصوم لما كان مخاطباً بوجوب الصوم عليه إذا لم يجد الرقبة أصلاً ولكان حكمه مع عدم الرقبة وجوب الإطعام فقط وهذا باطل وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن بايعه فمن لم يستطع فقاعداً فمن لم يستطع فعلى جنب وهذا إجماع متيقن لاشك فيه فلو لم يكن الناس مستطيعين للقيام قبل القيام لما كان أحد مأموراً بالصلاة قبل أن يصليها كذلك ولكان معذوراً أن صلى قاعداً وعلى جنب بكل وجه لأنه إذا صلى كذلك لم يكن مستطيعاً للقيام وهذا باطل وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إذا أمرتكم بشيء فأتوا به ما استطعتم ‏"‏ فلو لم يكن هاهنا استطاعة لشيء مما أمرنا به أن نفعله لما لزمنا شيء مما أمرنا به مما لم نفعله ولكنا غير عصاة بالترك لأننا لم نكلف بالنص إلا ما استطعنا‏.‏

وقوله صلى الله عليه وسلم أتستطيع أن تصوم شهرين قال فلو لم يكن أحد مستطيعاً للصوم إلا حتى يصوم لكان هذا السؤال منه عليه السلام محالاً وحاشى له من ذلك ومما يتبين صحة هذا وأن المراد في كل ما ذكر ناصحة الجوارح وارتفاع الموانع قول الله تعالى‏:‏ ‏"‏ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ ‏"‏ فنص تعالى على أن في عدم السلامة بطلان الاستطاعة وأن وجود السلامة بخلاف ذلك فصح ان سلامة الجوارح استطاعة وإذا صح هذا فبيقين ندري أن سلامة الجوارح يكون بها الفعل وضده والعمل وتركه والطاعة والمعصية لأن كل هذا يكون بصحة الجوارح فإن قال قائل فإن سلامة الجوارح عرض والعرض لا يبقى وقتين قيل له هذه دعوى بلا برهان والآيات المذكورات مبطلة لهذه الدعوى وموجبة أن هذه الاستطاعة من سلامة الجوارح وارتفاع الموانع موجودة قبل الفعل ثم لو كان ما ذكرتم ما كان فيه دفع لما قاله عز وجل من ذلك ثم وجدنا الله تعالى قد قال‏:‏ ‏"‏ وكانوا لا يستطيعون سمعاً ‏"‏ وقال تعالى حاكيا قول الخضر لموسى عليه السلام‏:‏ ‏"‏ إنك لن تستطيع معي صبراً ‏"‏ وقال‏:‏ ‏"‏ ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبراً ‏"‏ وعلمنا أنه كلام الله تعالى لا يتعارض ولا يختلف قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏ ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً ‏"‏ فيقنا أن الاستطاعة التي أثبتها الله تعالى قبل الفعل هي غير الاستطاعة التي نفاها مع الفعل ولا يجوز غير ذلك البتة فإذ ذلك كذلك فالاستطاعة كما قلنا شيئان أحدهما قبل الفعل وهو سلامة الجوارح وارتفاع الموانع والثاني لا يكون إلا مع الفعل وهو القوة الواردة من الله تعالى بالعون والخذلان وهو خلق الله تعالى للفعل في من ظهر منه وسمي من أجل ذلك فاعلاً لما ظهر منه إذ لا سبيل إلى وجوه معنى غير هذا البتة فهذا هو حقيقة الكلام في الاستطاعة بما جاءت به نصوص القرآن والسنن والإجماع وضرورة الحس وبديهة العقل فعلى هذا التقسيم بين الكلام في هذا الباب فإذا نفينا وجود الاستطاعة قبل الفعل فإنما نعني بذلك الاستطاعة التي بها يقع الفعل ويوجد واجباً ولا بد وهي خلق الله تعالى للفعل في فاعله وإذا أثبتنا الاستطاعة قبل الفعل فإنما نعني بها صحة الجوارح وارتفاع الموانع التي يكون الفعل بها ممكناً متوهماً لا واجباً ولا ممتنعاً وبها يكون المرء مخاطباً مكلفاً مأموراً منهياً وبعد مهما يسقط عنه الخطاب والتكليف و يصير الفعل منه ممتنعاً ويكون عاجزا عن الفعل‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فإذ قد تبين ما الاستطاعة فنقول بعون الله عز وجل فيما اعترضت به المعتزلة الموجبة للاستطاعة جملة قبل الفعل ولا بد فنقول وبالله تعالى التوفيق أنهم قالوا أخبرونا عن الكافر المأمور بالإيمان أهو مأمور بما لا يستطيع أم بما يستطيع فجوابنا وبالله تعالى نتأيد إننا قد بينا آنفاً أن صحة الجوارح وارتفاع الموانع استطاعة وحامل هذه الصفة مستطيع بظاهر حاله من هذا الوجه وغير مستطيع ما لم يفعل الله عز وجل فيه ما به يكون تمام استطاعته ووجود الفعل فهو مستطيع من وجه غير مستطيع من وجه آخر وهذا مع أنه نص القرآن كما أوردنا فهو أيضاً مشاهد كالبناء المجيد فهو مستطيع بظاهر حاله ومعرفته بالبناء غير مستطيع للآلات التي لا يوجد البناء إلا بها وهكذا في جميع الأعمال وأيضاً فقد يكون المرء عاصياً لله تعالى في وجه مطيعاً له في آخر مؤمناً بالله كافراً بالطاغوت فإن قالوا فقد نسبتم لله تكليف ما لا يستطاع قلنا هذا باطل ما نسبنا إليه تعالى إلا ما أخبر به عن نفسه أنه لا يكلف أحد إلا ما يستطيع بسلامة جوارحه وقد يكلفه ما لا يستطيع في علم الله تعالى لان الاستطاعة التي بها يكون الفعل ليست فيه بعد ولا يجوز أن يطلق على الله تعالى أحد القسمين دون الآخر وأما قولهم أن هذا كتكليف المقعد الجري والأعمى النظر وإدراك الألوان والارتفاع إلى السماء فإن هذا باطل لأن هؤلاء ليس فيهم شيء من قسمى الاستطاعة فلا استطاعة لهم أصلاً وأما الصحيح الجوارح ففيه أحد قسمى الاستطاعة وهو سلامة الجوارح ولولا أن الله عز وجل آمننا بقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ ما جعل عليكم في الدين من حرج ‏"‏ لكان غير منكر ان يكلف الله تعالى الأعمى إدراك الألوان والمقعد الجري والطلوع إلى السماء ثم يعذبهم عند عدم ذلك منهم ولله تعالى أن يعذب من شاء دون ان يكلفه وأن ينعم من شاء دون أن يكلفه كما رزق من شاء العقل وحرمه الجماد والحجارة وسائر الحيوان وجعل عيسى بن مريم نبياً في المهد حين ولادته وشد على قلب فرعون فلم يؤمن قال تعالى‏:‏ ‏"‏ لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ‏"‏ وليس في بداية العقول حسن ولا قبيح لعينه البتة وقالت المعتزلة متى أعطي الإنسان الاستطاعة أقبل وجود الفعل فإن كان قبل وجود الفعل قالوا فهذا قولنا وإن كان حين وجود الفعل فما حاجتنا إليها فجوابنا وبالله تعالى التوفيق إن الاستطاعة قسمان كما قلنا فأحدهما قبل الفعل وهو سلامة الجوارح وارتفاع الموانع والثاني مع الفعل وهو خلق الله للفعل في فاعله ولولاهما لم يقع الفعل كما قال الله عز وجل ولو كانت الاستطاعة لا تكون قبل الفعل ولا بد ولا تكون مع الفعل أصلاً كما زعم أبو الهذيل لكان الفاعل إذا فعل عديم الاستطاعة وفاعلاً فعلاً لا استطاعة له على فعله حين فعله وإذ لا استطاعة له عليه فهو عاجز عنه فهو فاعل عاجز عما يفعل معاً وهذا تناقض ومحال ظاهر‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ولهم الزامات سخيفة هي لازمة لهم كما تلزم غيرهم سواء بسواء منها قولهم متى أحرقت النار العود أفي حال سلامته أم وهو غير محترق فإن كانت أحرقته في حال سلامته فهو إذاً محرق غير محرق فإن كانت أحرقته وهو محرق فما الذي فعلت فيه وكسؤالهم متى كسر المرء العود أكسره وهو صحيح فهو إذاً مكسور صحيح أو كسره وهو مكسور فما الذي أحدث فيه وكسؤالهم متى أعتق المرء عبده أفي حال رقه فهو حر عبد أو في حال عتقه فأي معنى لعتقه إياه ومتى طلق المرء زوجته أطلقها وهي غير مطلقة فهي مطلقة لا مطلقة معاً أم طلقها وهي مطلقة فما الذي أثر فيها طلاقه ومتى مات المرء في حياته مات أم وهو ميت ومثل هذا كثير‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وكل هذه سفسطة وسؤالات سخيفة مموهة والحق فيها أن تفريق النار أجزاء ما عملت فيه هو المسمى إحراق وليس للإحراق شيء غير ذلك فقولهم هل أحرقت وهو محرق تخليط لأن فيه إيهاماً أن الإحراق غير الإحراق وهذه سخافة وكذلك كسر العود إنما هو إخراجه عن حال الصحة والكسر نفسه هو حال العود حينئذ وكذلك إخراج العبد من الرق إلى عتقه هو عتقه و لا مزيد ليست له حال أخرى وكذلك خروج المرأة من الزوجية إلى الطلاق هو تطليقها نفسه وكذلك فراق الروح للجسد وهو الإماتة والموت نفسه ولا مزيد وليست ها هنا حال أخرى وقع الفعل فيها وبالله تعالى التوفيق‏.‏

 الكلام في أن إتمام الاستطاعة

لا يكون إلا مع الفعل لا قبله قال أبو محمد‏:‏ يقال لمن قال أن الاستطاعة كلها ليست إلا قبل الفعل وأنها قبل الفعل بتمامها وتكون أيضاً مع الفعل أخبرونا عن الكافر هل يقدر قبل أن يؤمن في حال كفره على الإيمان قدرة تامة أم لا وعن تارك الصلاة هل يقدر قدرة تامة على الصلاة في حال تركه وعن الزاني هل يقدر في حال زناه على ترك الزنى بأن لا يكون منه زنى أصلاً أم لا وبالجملة فالأوامر كلها إنما هي أمر بحركة أو أمر بسكون أو أمر باعتقاد إثبات شيء ما أو أمر باعتقاد إبطال شيء ما وهذا كله يجمعه فعل أو ترك فأخبرونا هل يقدر الساكن المأمور بالحركة على الحركة حال السكون أو يقدر المتحرك المأمور بالسكون على السكون في حال الحركة وعن معتقد إ بطال شيء ما وهو مأمور باعتقاد إثباته هل يقدر في حال اعتقاده إبطاله على اعتقاد إثباته أم لا وعن معتقد إثبات شيء ما وهو مأمور باعتقاد إبطاله هل يقدر في حال اعتقاده إثباته على اعتقاد إبطاله أم لا وعن المأمور بالترك وهو فاعل ما أمر بتركه أيقدر على تركه في حال فعله فيكون فاعلاً لشيء تاركاً لذلك الشيء معاً أم لا فإن قالوا نعم هو قادر على ذلك كابروا العيان وخالفوا المعقول والحس وأجازوا كل طامة من كون المرء قاعداً قائماً معاً ومؤمناً بالله كافراً به معاً وهذا أعظم ما يكون من المحال الممتنع وإن قالوا أنه لا يقدر قدرة تامة يكون بها الفاعل لشيء هو فاعل لخلافه قالوا الحق ورجعوا إلى أنه لا يستطيع أحد استطاعة تامة يقع بها الفعل إلا حتى يفعله وكل جواب أجابوا به ها هنا فإنما هو إيهام ولواذ ومدافعة بالراح لأنه إلزام ضروري حسي متيقن لا محيد عنه وبالله تعالى التوفيق فإن قالوا لسنا نقول أنه يقدر أن يجمع بين الفعلين المتضادين معا ولكننا قلنا أنه قادر على أن يترك ما هو فيه ويفعل ما أمر به قيل لهم هذا هو نفسه الذي أردنا منكم وهو أنه لا يقدر قدرة تامة ولا يستطيع استطاعة تامة على فعل ما دام فاعلاً لما يمانعه فإذا ترك كل ذلك وشرع فيما أمر به فحينئذ تمت قدرته واستطاعته لابد من ذلك وهذا هو نفس ما موهوا به في سؤالهم لنا هل أمر الله تعالى العبد بما يستطيع قبل أن يفعله أم بما لا يستطيع حتى يفعله وهذا لهم لازم لأنهم شنعوه وعظموه وأنكروه ونحن لا ننكره ولا نرى ذلك إلزاماً صحيحاً فقبحه عائد عليهم وإنما يلزم الشيء من يصححه وبالله تعالى التوفيق‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وقد أجاب في هذه المسألة عبد الله بن أحمد الكعبي البلخي أحد رؤساء الأصلح من المعتزلة بأن قال إننا لا نختلف في أن الله عز وجل قادر على تسكين المتحرك وتحريك الساكن وليس يوصف بالقدرة على أن يجعله ساكناً متحركاً معاً‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وليس كما قال الجاهل الملحد فيما وصف الله تعالى به بل الله تعالى قادر على أن يجعل الشيء ساكناً متحركاً معاً في وقت واحد من وجه واحد ولكن كلام البلخي هذا لازم لمن التزم هذه الكفرة الصلعاء من أن الله تعالى لا يوصف بالقدرة على المحال ويقال لهم لم لا يوصف بالقدرة على ذلك ألأن له قدرة على ذلك ولا يوصف بها أم لأنه لا قدرة له على ذلك ولا محيد لهم عن هذا وهذه طائفة جعلت قدرة الله تعالى متناهية بل قطعوا قطعاً بأنه تعالى لا يقدر على الشيء حتى يفعله وهذا كفر مجرد لا خفاء به ونعوذ بالله من الخذلان ‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ويقال للمعتزلة أيضا أنتم تقرون أيضاً معنا بأن الله تعالى لم يزل عليماً بأن كل كائن فإنه سيكون على ما هو عليه إذا كان ولم يزل الله تعالى يعلم أن فلاناً سيطاء فلانة في وقت كهذا فتحمل منه بولد يخلقه الله تعالى من منيهما الخارج منهما عند جماعه إياها وأنه يعيش ثمانين سنة ويملك ويفعل ويصنع فإذا قلتم أن ذلك الفلان يقدر قدرة تامة على ترك ذلك الوطأ الذي لم يزل الله تعالى يعلم أنه سيكون وأنه يخلق ذلك الولد منه فقد قطعتم بأنه قادر على أن يمنع الله من خلق ما قد علم أنه سيخلقه وأنه قادر قدرة تامة على إبطال علم الله عز وجل وهذا كفر ممن أجازه فإن قال قائل فإنكم أنتم تطلقون أن المرء مستطيع قبل الفعل لصحة جوارحه فهذا يلزمكم قلنا هذا لا يلزمنا لأننا لم نطلق أن له قدرة تامة على ذلك أصلاً بل قلنا أنه لا يقدر على ذلك قدرة تامة البتة ومعنى قولنا أنه مستطيع بصحة جوارحه أي أنه متوهم منه ذلك لو كان ونحن لم نطلق الاستطاعة إلا على هذا الوجه حيث أطلقها الله عز وجل فإن قالوا أن الله تعالى قادر على كل ذلك ولا يوصف بالقدرة على فسخ علمه الذي لم يزل قلنا وهذا أيضاً مما تكلمنا فيه آنفاً بل الله تعالى قادر على كل ذلك بخلاف خلقه على ما قد مضى كلامنا فيه وبالله تعالى التوفيق‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وقد نص الله تعالى على ما قلنا بقوله عز وجل‏:‏ ‏"‏ سيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم أنهم لكاذبون ‏"‏ إلى قوله‏:‏ ‏"‏ ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين ‏"‏ فأكذبهم الله تعالى في نفيهم عن أنفسهم الاستطاعة التي هي صحة الجوارح وارتفاع الموانع ثم نص تعالى على أنه قال اقعدوا مع القاعدين وهذا أمر تكوين لا أمر بالقعود لأنه تعالى ساخط عليهم لقعودهم وقد نص تعالى على أنه‏:‏ ‏"‏ إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون ‏"‏ فقد ثبت يقيناً أنهم مستطيعون بظاهر الأمر بالصحة في الجوارح وارتفاع الموانع وإن الله تعالى كون فيهم قعودهم فبطل أن يتم استطاعتهم لخلاف فعلهم الذي ظهر منهم وقال عز وجل‏:‏ ‏"‏ مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا ‏"‏ فبين عز وجل بياناً جلياً أن من أعطاه الهدى اهتدى ومن أضله فلا يهتدي فصح يقيناً أن بوقوع الهدى له من الله تعالى وهو التوفيق يفعل العبد ما يكون به مهتدياً وأن بوقوع الأضلال من الله تعالى وهو الخذلان وخلق ضلال العبد يفعل المرء ما يكون به ضالاً فإن قال قائل معنى هذا من سماه الله مهتدياً ومن سماه ضالاً قيل له هذا باطل لأن الله تعالى نص على أن من أضله الله فلن تجد له ولياً مرشداً فلو أراد الله تسميته كما زعمتم لكان هذا القول منه عز وجل كذباً لأن كل ضال فله أولياء على ضلاله يسمونه مهتدياً وراشداً وحاشا لله من الكذب فبطل تأويلهم الفاسد وصح قولنا والحمد لله رب العالمين‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وقال الله تعالى مخبراً عن الخضر الذي آتاه الله تعالى العلم والحكمة والنبوة حاكياً عن موسى عليه السلام وفتاه‏:‏ ‏"‏ فوجدا عبداً من عبادنا آتيناه رحمه من عندنا وعلمناه من لدنا علماً ‏"‏ وقال تعالى مخبراً عنه ومصدقاً عنه وما فعلته عن أمري فصح أن كل ما قال الخضر عليه السلام فمن وحي الله عز وجل ثم أخبر عز وجل بأن الخضر قال لموسى عليه السلام‏:‏ ‏"‏ أنك لن تستطيع معي صبراً ‏"‏ فلم ينكر الله تعالى كلامه ذلك ولا أنكره موسى عليه السلام لكن أجابه بقوله‏:‏ ‏"‏ ستجدني إن شاء الله صابراً ولا أعصي لك أمراً ‏"‏ فلم يقل له موسى عليه السلام إني مستطيع للصبر بل صدق قوله في ذلك إذا أقره ولم ينكره ورجا أن يجد الله له استطاعه على الصبر فيصبر ولم يوجبه موسى عليه السلام أيضاً لنفسه إلا أن يشاء الله تعالى ثم كرر عليه الخضر بعد ذلك مرات أنه غير مستطيع للصبر إذ لم يصبر فلم ينكر ذلك موسى عليه السلام فهذه شهادة ثلاثة أنبياء محمد وموسى والخضر صلى الله عليه وسلم وأكبر من شهادتهم شهادة الله عز وجل بتصديقهم في ذلك إذ قد نصه الله تعالى علينا غير منكر له بل مصدقاً لهم وهذا لا يرده إلا مخذول وقال عز وجل‏:‏ ‏"‏ وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضاً الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري وكانوا لا يستطيعون سمعاً ‏"‏ فنص تعالى نصاً جلياً على أنهم كانوا لا يستطيعون السمع الذي أمروا به وأنهم مع ذلك كانت أعينهم في غطاء عن ذكر الله عز وجل ومع ذلك استحقوا على ذلك جهنم وكانوا في ظاهر الأمر مستطيعين بصحة جوارحهم وهذا نص قولنا بلا تكلف والحمد لله رب العالمين على هداه لنا وتوفيقه إيانا لا إله إلا هو وقال تعالى ‏"‏‏:‏ إذ يقول الظالمون إن تتبعون إلا رجلاً مسحوراً انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا ‏"‏ فنفى الله عز وجل استطاعة شيء من السبل غير سبيل الضلال وحده وفي هذا كفاية لمن عقل وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ‏"‏ فنص تعالى على إن من لم يأذن له في الإيمان لم يؤمن وإن من أذن له في الإيمان آمن وهذا الأذن هو التوفيق الذي ذكرنا فيكون به الإيمان ولا بد وعدم الأذن هو الخذلان الذي ذكرنا نعوذ بالله منه وقال تعالى حاكياً عن يوسف عليه السلام ومصدقاً له إذ يقول‏:‏ ‏"‏ وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن ‏"‏ فنص تعالى على أن رسوله صلى الله عليه وسلم إن لم يعنه بصرف الكيد صبا وجهل وأنه تعالى صرف الكيد عنه فسلم وهذا نص جلي على أنه إذا وفقه اعتصم واهتدى وقال تعالى حاكياً عن إبراهيم خليله ورسوله صلى الله عليه وسلم ومصدقاً له‏:‏ ‏"‏ لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين ‏"‏ فهذا نص على أن من أعطاه الله عز وجل قوة الإيمان آمن واهتدى وأن من منعه تلك القوة كان من الضالين وهذا نص قولنا والحمد لله رب العالمين وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ واصبر وما صبرك إلا بالله ‏"‏ فنص تعالى على أنه أمره بالصبر ثم اخبره أنه لا صبر له إلا بعون الله تعالى فإذا أعانه بالصبر صبر وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل وهذا نص جلي على أن من أضله الله تعالى بالخذلان له فلا يكون مهتدياً وقال تعالى وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجاباً مستوراً وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً ‏"‏ فهذا نص لا إشكال فيه على أن الله عز وجل منعهم أن يفقهوه فإن قال قائل إنما قال تعالى أنه يفعل ذلك بالذين لا يؤمنون ولذلك قال تعالى‏:‏ ‏"‏ وما يضل به إلا الفاسقين ‏"‏ وكذلك يطبع الله على قلوب الكافرين ‏"‏ قيل له وبالله تعالى التوفيق لو صح لك هذا التأويل لكان حجة عليك لأنه تعالى قد منعهم للتوفيق وسلط عليهم الخذلان وأضلهم وطبع على قلوبهم فاجعله كيف شئت فكيف وليس ذلك على ما تأولت ولكن الآيات ظواهرها وعلى ما يقتضيه لفظها دون تكلف هو أن الله تعالى لما أضلهم صاروا ضالين فاسقين حين أضلهم لا قبل أن يضلهم وكذلك إنما صاروا لا يؤمنون حين جعل بينهم وبينه حجاباً وحين جعل على قلوبهم أكنة وفي آذانهم الوقر لا قبل ذلك وإنما صاروا كافرين حين طبع على قلوبهم لا قبل ذلك وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً ‏"‏ فنص تعالى على أنه لولا أن ثبت نبيه صلى الله عليه وسلم بالتوفيق لركن إليهم فإنما يثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ثبته الله عز وجل لا قبل ذلك ولو لم يعطه التثبيت وخذله لركن إليهم وضل واستحق العذاب على ذلك ضعف الحياة وضعف الممات فتباً لكل مخذول يظن في نفسه الخسيسة أنه مستغن عما افتقر إليه محمد صلى الله عليه وسلم من توفيق الله وتثبيته وإنه قد استوفى من الهدى ما لا مزيد عليه وإنه ليس عند ربه أفضل مما أعطاه بعد ولا أثر وقد أمرنا عز وجل أن نقول‏:‏ ‏"‏ إياك نعبد وإياك نستعين اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ‏"‏ فنص الله تعالى على أمرنا بطلب العون منه وهذا نص قولنا والحمد لله رب العالمين فلو لم يكن ها هنا عون خاص من آتاه الله إياه اهتدى ومن حرمه إياه وخذله ضل لما كان لهذا الدعاء معنى لأن الناس كلهم كانو يكونون معانين منعماً عليهم مهديين وهذا بخلاف النص المذكور وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم ‏"‏ فنص تعالى على أنه ختم على قلوب الكافرين وإن على سمعهم وأبصارهم غشاوة حائلة بينهم وبين قول الحق فمن هو الجاعل هذه الغشاوة على سمعهم وعلى أبصارهم إلا الذي ختم على قلوبهم عز وجل وهذا هو الخذلان الذي ذكرنا ونعوذ بالله منه وهذا نص على أنهم لا يستطيعون الإيمان ما دام ذلك الختم وعلى قلوبهم والغشاوة على أبصارهم وأسماعهم فلو أزالها تعالى لآمنوا ألا أن يعجزوا ربهم عز وجل على إزالة ذلك فهذا خروج عن الإسلام وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا ‏"‏ فنص تعالى كما ترى على أنه من لم يتفضل عليه ولم يرحمه اتبع الشيطان ضرورة فصح ان التوفيق به يكون الإيمان وإن الخذلان به يكون الكفر والعصيان وهو اتباع الشيطان ومعنى قوله تعالى ألا قليلاً على ظاهره وهو استثناء من المنعم عليهم المرحومين الذين لم يتبعوا الشيطان برحمة الله تعالى لهم أي لاتبعتم الشيطان إلا قليلا لم يرحمهم الله فاتبعوا الشيطان إذ رحمكم أنتم فلم تتبعوه وهذا نص قولنا ولله تعالى الحمد وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا أتريدون أن تهدوا من أضل الله ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلاً وهذا نص مت قلناه أن من أضله الله تعالى لا سبيل له إلى الهدى وأن الضلال وقع مع الإضلال من الله تعالى للكافر والفاسق وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ‏"‏ فأخبر تعالى أن عنده هدى يهدي به من يشاء من عباده فيكون مهتدياً وهذا تخصيص ظاهر كما ترى وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء ‏"‏ فهذا نص ما قلنا وإن الله تعالى قد نص قائلاً لنا أن من أراد هداه شرح صدره للإسلام فآمن بلا شك وإن من أراد ضلاله ولم يرد هداه ضيق صدره وأحرجه حتى يكون كمريد الصعود إلى السماء فهذا لا يؤمن البتة ولا يستطيع وهو في ظاهره مستطيع بصحة جوارحه‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ إن الضال لمن ضل بعد ما ذكرنا من النصوص التي لا تحتمل تأويلاً ومن شهادة خمسة من الأنبياء إبراهيم وموسى ويوسف والخضر ومحمد عليهم السلام بأنهم لا يستطيعون فعلاً لشيء من الخير إلا بتوفيق الله تعالى لهم وإنهم إن لم يوفقهم ضلوا جميعاً مع ما أوردنا من البراهين الضرورية المعروفة بالحس وبديهة العقل‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ومن عرف تراكيب الأخلاق المحمودة والمذمومة علم أنه لا يستطيع أحد غير ما يفعل مما خلقه الله عز وجل فيه فتجد الحافظ لا يقدر على تأخر الحفظ والبليد لا يقدر على الحفظ والفهيم لا يقدر على الغباوة والغبي لا يستطيع ذكاء الفهم والحسود لا يقدر على ترك الجسد والنزيه النفس لا يقدر على الحسد والحريص لا يقدر على ترك الحرص والبخيل لا يقدر على البذل والجبان لا يقدر على الشجاعة والكذاب لا يقدر على ضبط نفسه عن الكذب كذلك يوجدون من طفولتهم والسيء الخلق لا يقدر على الحلم والحي لا يقدر على القحة والوقح لا يقدر على الحياة والعي لا يقدر على البيان والطيوش لا يقدر على الصبر والغضوب لا يقدر على الحلم والصبور لا يقدر على الطيش والحليم لا يقدر على الغضب والعزيز النفس لا يقدر على المهانة والمهين لا يقدر على عزة النفس وهكذا في كل شيء فصح أنه لا يقدر أحد إلا على ما يفعل بما يتم الله تعالى فيهم القوة على فعله وإن كان خلاف ذلك متوهماً منهم بصمة البنية وعدم المانع‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ والملائكة والحوار العين والجن وجميع الحيوان كله في الاستطاعة سواء كما ذكرنا ولا فرق بين شيء في ذلك كله وكلهم قد خلق الله عز وجل فيهم الاستطاعة الظاهرة بصحة الجوارح ولا يكون منهم فعل إلا بعون وارد من الله تعالى إذا ورد كان الفعل معه ولا بد قد خلق الله عز وجل فيهم اختياراً وإرادة وحركة وسكوناً هم أفعالهم على غيرها والملائكة وحور العين معصومون لم يخلق الله تعالى فيهم معصية أصلاً لا طاعة ولا معصية وأما الذي يقدر على كل ما يفعل وما لا يفعل ولم يزل قادراً على كل ما يخطر بالقلب فهو واحد لا شريك له وهو الله عز وجل ليس كمثله شيء ولم يكن له كفواً أحد وبالله تعالى التوفيق‏.‏

 الكلام في الهدى والتوفيق

قال أبو محمد‏:‏ احتجت المعتزلة بقول الله عز وجل ‏"‏ وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى ‏"‏ وبقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً إنا أعتدنا للكافرين سلاسلا وأغلالاً وسعيراً ‏"‏‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا حق وقد قال تعالى‏:‏ ‏"‏ ولقد بعثنا في كل أمة رسولا ً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة ‏"‏ فأخبر تعالى أن الذين هدى بعض الناس لا كلهم وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل ‏"‏ وهي قراة مشهورة عن عاصم بفتح الياء من يهدي وكسر الدال فأخبر تعالى أن في الناس من لم يهده وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ من يضلل الله فلا هادي له ‏"‏ فأخبر تعالى أن الذين أضل فلم يهدهم وقال تعالى ‏"‏ فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء ‏"‏ فأخبر تعالى أن الذين هدى غير الذي أضل ومثل هذا كثير وكل ذلك كلام الله عز وجل وكله حق لا يتعارض ولا يبطل بعضه بعضاً قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏ ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً ‏"‏ فصح يقيناً أن كل ما أوردنا من الآيات فكلها متفق لا مختلف فنظرنا في الآيات المذكورة فوجدناها ظاهرة لائحة وهو أن الله تعالى أخبر أنه هدى ثمود فلم يهتدوا وهدى الناس كلهم السبيل ثم هم بعد إما شاكر وإما كفور وأخبر تعالى في الآيات الأخر أنه هدى قوماً فاهتدوا ولم يهد آخرين فلم يهتدوا فعلمنا ضرورة أن الهدى الذي أعطاه الله عز وجل جميع الناس هو غير الذي أعطاه بعضهم ومنعه بعضهم فلم يعطهم إياه هذا أمر معلوم بضرورة العقل وبديهته فإذ لا شك في ذلك فقد لاح الأمر وهو أن الهدى في اللغة العربية من الأسماء المشتركة وهي التي يقع الاسم منها على مسميين مختلفين بنوعهما فصاعداً فالهدى يكون بمعنى الدلالة تقول هديت فلاناً الطريق بمعنى أريته إياه ووقفته عليه وأعلمته إياه سواء سلكه أو تركه وتقول فلان هاد بالطريق أي دليل فيه فهذا الهدى الذي هداه الله ثمود وجميع الجن والملائكة وجميع الأنس كافرهم ومؤمنهم لأنه تعالى دلهم على الطاعات والمعاصي وعرفهم ما يسخط مما يرضي فهذا معنى ويكون الهدى بمعنى التوفيق والعون على الخير والتيسير له وخلقه لقبول الخير في النفوس فهذا هو الذي أعطاه الله عز وجل الملائكة كلهم والمهتدين من الأنس والجن ومنعه الكفار من الطائفتين والفاسقين فيما فسقوا فيه ولو أعطاهم إياه تعالى لما كفروا ولا فسقوا وبالله تعالى التوفيق ومما يبين هذا قوله تعالى في الآيات المذكورة‏:‏ ‏"‏ إنا هديناه السبيل ‏"‏ فبين تعالى أن الذي هداهم له فهو الطريق فقط وكذلك أيضاً قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ ألم نجعل له عينين ولساناً وشفتين وهديناه النجدين ‏"‏ فهذا نص قولنا والحمد لله رب العالمين وكذلك قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ‏"‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ ولو شاء الله لجمعهم على الهدى ‏"‏ وهذا بلا شك غير ما هدى جميعهم عليه من الدلالة والتبيين للحق من الباطل‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وقوله تعالى أن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقاً إلا طريق جهنم‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ فهذا نص جلي على ما قلنا وبيان أن الدلالة لهم على طريق جهنم يحملون فيه إليها هدى لهم إلى تلك الطريق ونفى عنهم تعالى في الآخرة كل هدى إلى شيء من الطرق إلا طريق جهنم ونعوذ بالله من الضلال‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وقال بعض من يتعسف القول بلا علم أن قول الله عز وجل ‏"‏ وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى ‏"‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ إنا هديناه السبيل ‏"‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ وهديناه النجدين ‏"‏ إنما أراد تعالى بكل ذلك المؤمنين خاصة‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا باطل لوجهين أحدهما تخصيص الآيات بلا برهان وما كان هكذا فهو باطل والثاني أن نص الآيات يمنع من التخصيص ولا بد وهو أن الله تعالى قال‏:‏ ‏"‏ وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى ‏"‏ فرد تعالى الضمير في فاستحبوا العمى على الهدى إلى المهديين أنفسهم فصح أن الذين هدوا لم يهتدوا وأيضاً فإن الله تعالى قال لرسوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء ‏"‏ وقال له تعالى‏:‏ ‏"‏ وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم ‏"‏ فصح يقيناً أن الهدى الواجب على النبي صلى الله عليه وسلم هو الدلالة وتعليم الدين وهو غير الهدى الذي ليس هو عليه وإنما هو لله تعالى وحده فإن ذكر ذاكر قول الله عز وجل‏:‏ ‏"‏ ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون ‏"‏ فليس هذا على ما ظنه من لا ينعم النظر من أن الله وحده لو أسمعهم لم يسمعوا بذلك بل ظاهر الآية مبطل لهذا الظن لأنه تعالى قال‏:‏ ‏"‏ ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم ‏"‏ فصح يقيناً أن من علم الله تعالى فيه خيراً أسمعه وثبت أن فيه خيراً ثم قال تعالى‏:‏ ‏"‏ لتولوا وهم معرضون ‏"‏ لو أسمعهم لم يسمعوا فصح يقيناً أنه أراد بلا شك أنه لو أسمعهم لتولوا عن الكفر وهم معرضون عنه لا يجوز غير هذا أصلاً لأنه تعالى قد نص على أن إسماعه لا يكون إلا لمن علم فيه خيراً ومن المحال الباطل أن يكون من علم الله تعالى فيه خيراً يتولى عن الخير ويعرض عنه فبطل ما حرفوه بظنونهم من كلام الله عز وجل وكذلك قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً ‏"‏ فإنه تعالى قسم من هدى السبيل قسمين كفوراً وشاكراً فصح ان الكفور أيضاً هدى السبيل فبطل ما توهموه من الباطل ولله تعالى الحمد وصح ما قلنا‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وقد تلونا من كلام الله تعالى في الباب الذي قبل هذا والباب الذي قبله متصلاً به نصوص كثيرة بأن الله تعالى أضل من شاء من خلقه وجعل صدورهم ضيقة حرجة فإن اعترضوا بقول الله تعالى عن الكفار أنهم قالوا‏:‏ ‏"‏ وما أضلنا إلا المجرمون ‏"‏ فلا حجة لهم في هذه الوجوه أحدها أنه قول كفار قد قالوا الكذب وحكى الله تعالى حينئذ ‏"‏ والله ربنا ما كنا مشركين انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون ‏"‏ فإن أبوا إلا الاحتجاج بقول الكفار فليجعلوه إلى جنب قول إبليس‏:‏ ‏"‏ رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ‏"‏ والوجه الثاني أننا لا ننكر إضلال المجرمين وإضلال إبليس لهم ولكنه إضلال آخر ليس إضلال الله تعالى لهم والثالث أنه لا عذر لأحد في أن الله تعالى أضله ولا لوم على الخالق تعالى في ذلك وأما من أضل آخر من دون الله تعالى فهو ملوم وقد فسر الله تعالى إضلاله لمن يضل كيف هو وفسر تعالى ذلك الإضلال تفسيراً أغنانا به عن تفسير الخلعاء العيارين كالنظام والعلاف وثمامة وبشر بن المعتمر والجاحظ والناشي وما هنالك من الأحزاب ومن تبعهم من الجهال فبين تعالى في نص القرآن أن إضلاله لمن أضل من عباده إنما هو أن يضيق صدره عن قبول الإيمان وأن يحرجه حتى لا يرغب في تفهمه والجنوح إليه ولا يصبر عليه ويوعر عليه الرجوع إلى الحق حتى يكون كأنه يتكلف في ذلك الصعود إلى السماء وفسر ذلك أيضاً عز وجل في آيه أخرى قد تلوناها آنفاً بأنه يجعل أكنه على قلوب الكافرين يحول بين قلوبهم وبين تفهم القرآن والإصاخة لبيانه وهداه وإن يفقهوه وإنه جعل تعالى بينهم وبين قول الرسول صلى الله عليه وسلم حجاباً مانعاً لهم من الهدى وفسره أيضاً تعالى بأنه ختم على قلوبهم وطبع عليها فامتنعوا بذلك من وصول الهدى إليها وفسر تعالى إضلال من دونه فقال تعالى أنه جعلهم أئمة يدعون إلى النار وفسر تعالى أيضاً القوة التي أعطاها المؤمنين وحرمها الكافرين بأنها تثبيت على قبول الحق وأنه تعالى يشرح صدورهم لفهم الحق واعتقاده والعمل به وأنه صرف لكيد الشيطان ولفتنته عنهم نسأل الله أن يمدنا بهذه العطية وأن يصرف عنا الإضلال بمنه وإن لا يكلنا إلى أنفسنا فقد خاب وخسر من ظن في نفسه أنه قد استكمل القوى حتى استغنى عن أن يزيده الله تعالى توفيقاً وعصمة ولم يحتج إلى خالقه في ان يصرف عنه فتنته ولا كيده لاسيما من جعل نفسه أقوى على ذلك من خالقه تعالى ولم يجعل عند خالقه قوه يصرف بها عنه كيد الشيطان نعوذ بالله مما امتحنهم به ونبرأ إلى الله خالقنا تعالى من الحول والقوة كلها إلا ما أتانا منها متفضلاً علينا وأما كل ما جاء في القرآن من إضلال الشياطين للناس وإنسائهم إياهم ذكر الله تعالى وتزيينهم لهم ووسوستهم وفعل بعض الناس ذلك ببعض فصحيح كما جاء في القرآن دون تكلف وهذا كله إلقاء لما ذكرنا في قلوب الناس وهو من الله تعالى خلق لكل ذلك في القلوب وخالق لأفعال هؤلاء المضلين من الجن والإنس وكذلك قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ حسداً من عند أنفسهم ‏"‏ لأنه فعل أضيف إلى النفس لظهوره منها وهو خلق الله تعالى فيها فإن ذكروا قول الله تعالى‏:‏ ‏"‏ وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون فهو كما قال لك عز وجل وهو حجة على المعتزلة لأن الله تعالى أخبر أنه لا يضل قوماً حتى يبين لهم ما يتقون وما يلزمهم ‏"‏ وصدق الله عز وجل لأن المرء قبل أن يأتيه خبر الرسول غير ضال بشيء مما يفعل اصلاً فإنما سمى الله تعالى فعله في العبد إضلالاً بعد بلوغ البيان إليه لا قبل ذلك وبالله التوفيق فصح بهذه الآية أنه تعالى يضلهم بعد ان يبين لهم وقد فسر بعضهم الإضلال بأنه منع اللطف الذي يقع به الإيمان فقط‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ونصوص القرآن تزيد على هذا المعنى زيادة لا شك فيها وتوجب أن الإضلال معنى زايد أعطاه الله للكفار والعصاة وهو ما ذكرنا من تضييق الصدور وتحريجها والختم على القلوب والطبع عليها وأكنانها عن أن يفقهوا الحق فإن قالوا إن هذا فعل النفوس كلها إن لم يمدها الله تعالى بتوفيق قلنا لهم من خلقها هذه الخلقة المفسدة إن لم يؤيدها بالتوفيق فإن قالوا الله تعالى هو خلقها كذلك أقروا بأن الله تعالى أعطاها هذه البلية وركب فيها هذه الصفة المهلكة فإن فروا إلى قول معمر والجاحظ أن هذا كله فعل الطبيعة لم يتخلصوا من سؤالنا وقلنا لهم فمن خلق النفس وخلق فيها هذه الطبيعة الموجبة لهذه الأفاعيل فإن قالوا الله سبحانه وتعالى أقروا بأن الله تعالى أعطاها هذه الصفة المهلكة لها إن لم يمدها بلطف وتوفيق وكذلك إن قالوا أن النفس هي فعلت الطبيعة الموجبة لهذه المهالك كانوا مع خروجهم من الإسلام بهذا القول محيلين أيضاً محالاً ظاهراً لأن النفس لو فعلت هي طبيعتها لكانت إما مختارة لفعلها وإما مضطرة إلى فعلها على ما هي عليها فإن كانت مختارة فقد يجب أن تقع طبيعتها مراراً بخلاف مالا توجد إلا عليه وإن كانت مضطرة فمن خلقها مضطرة إلى هذا الفعل فلا بد من انه الله تعالى فرجعوا ضرورة إلى أن الله تعالى هو الذي أعطاها هذه الصفة المهلكة التي بها كانت المعصية مع أنه لم يقل أحد من المسلمين أن النفس أحدثت طبيعتها مع أنه أيضاً قول يبطله الحس والمشاهدة وضرورة العقل‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وأما القائلون بالأصلح من المعتزلة فإنهم انقطعوا هاهنا وقالوا لا ندري ما معنى الإضلال ولا معنى الختم على قلوبهم ولا الطبع عليها وقال بعضهم معنى ذلك أن الله تعالى سماهم ضالين وحكم انهم ضالون وقال بعضهم معنى أضلهم أتلفهم كما تقول ضللت بعيري وهذه كلها دعاوي بلا برهان‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ لم نجد لهم تأويلاً أصلاً في قول الله عز وجل حكاية عن موسى عليه السلام أنه قال‏:‏ ‏"‏ إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء ‏"‏‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذا هو الإضلال حقاً وهو أن يحملهم اللجاج والعمى في لزوم أصل قد ظهر فساده وتقليد من لا خير فيه من أسلافهم على أن يدعوا أنهم لا يعرفون ما معنى الضلال والختم والطبع والأكنة على القلوب وقد فسر الله كل ذلك تفسيراً جلياً وأيضاً فإنها ألفاظ عربية معروفة المعاني في اللغة التي نزل بها القرآن فلا يحل لأحد صرف لفظة معروفة المعنى في اللغة عن معناها التي وضعت له في اللغة التي بها خاطبنا الله تعالى في القرآن إلى معنى غير ما وضعت له إلا أن يأتي نص قرآن أو كلام عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو إجماع من علماء الأمة كلها على أنها مصروفة عن ذلك المعنى إلى غيره أو يوجب صرفها ضرورة حس أو بديهة عقل فيوقف حينئذ عند ما جاء من ذلك ولم يأت في هذه الألفاظ التي أضلهم الله تعالى فيها وخيرهم الشيطان عن فهمها نص ولا إجماع ولا ضرورة بأنها مصروفة عن موضعها في اللغة بل قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ كل ميسر لما خلق له ‏"‏ فبين عليه السلام أن الهدى والتوفيق هو تيسير الله تعالى المؤمن للخير الذي له خلقه وأن الخذلان تيسرة الفاسق للشر الذي له خلقه وهذا موافق للغة والقرآن والبراهين الضرورية العقلية ولما عليه الفقهاء والأئمة المحدثون من الصحابة والتابعين ومن بعدهم وعامة المسلمين حاشا من أضله الله على علم من أتباع العيارين الخلعاء كالنظام وثمامة والعلاف والجاحظ‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ ونبين هذا أيضاً بياناً طبيعياً ضرورياً لا خفاء به بعون الله تعالى وتأييده على من له أدنى بصر بالنفس وأخلاقها وقدرة الله تعالى في اختراعها فنقول وبالله تعالى التوفيق إن الله عز وجل خلق نفس الإنسان مميزة عاقلة عارفة بالأشياء على ما هي عليه فهمه بما تخاطب به وجعلها مأمورة منهية فعالة منعمة معذبة ملتذة آلمة حساسة وخلق فيها قوتين متعاديتين متضادتين في التأثير وهما التمييز والهوى كل واحدة منهما تريد الغلبة على آثار النفس فالتمييز هو الذي خص به نفس الإنسان والجن والملائكة دون الحيوان الذي لا يكلف والذي ليس ناطقاً و الهوى هو الذي يشاركها فيه نفوس الجن والحيوان الذي ليس ناطقاً من حب اللذات والغلبة‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ وهذه القوة في كل الحيوان حاشا الملائكة فإنما فيها قوة التمييز فقط ولذلك لم يقع منها معصية أصلاً بوجه من الوجوه فإذا عصم الله النفس غلب التمييز بقوة من عنده هي له مدد وعون فجرت أفعال النفس على ما رتب الله عز وجل في تمييزها من فعل الطاعات وهذا هو الذي يسمى العقل وإذا خذل جل وعز النفس أمد الهوى بالقوة هي الإضلال فجرت أفعال النفس على ما رتب الله عز وجل في هواها من الشهوات وحب الغلبة والحرص والبغي والحسد وسائر الأخلاق الرذلة والمعاصي وقد قامت البراهين على أن النفس مخلوقة وكذلك جميع قواها المنتجة عن قوتيها الأولتين التمييز والهوى كل ذلك مخلوق مركب في النفس مرتب على ما هو عليه فيها كل جار على طبيعته المخلوقة لجري كيفياته بها على ما هي عليه فإذا قد صح أن كل ذلك خلق الله تعالى فلا مغلب لبعض ذلك على بعض إلا خالق الكل وحده لا شريك له وقد نص الله تعالى على ذم النفس جملة إلا من رحمها الله تعالى وعصمها قال عز وجل‏:‏ ‏"‏ إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي ‏"‏ فأخبر عز وجل بنص ما قلنا فصح أن المرحومة المستثناة لا تأمر بالسوء وبالله تعالى التوفيق قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏ وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى ‏"‏ وذم الله تعالى الهوى في غير ما موضع من كتابه وهذا نص ما قلنا وحسبنا الله ونعم الوكيل‏.‏