فصل: ذكر قتل أرسلان أرغون

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ **


  ذكر قتل أرسلان أرغون

في هذه السنة في المحرم قتل أرسلان أرغون بن ألب أرسلان أخو السلطان ملكشاه بمرو وكان قد ملك خراسان‏.‏

وسبب قتله أنه كان شديدًا على غلمانه كثير الإهانة لهم والعقوبة وكانوا يخافونه خوفًا عظيمًا فاتفق أنه الآن طلب غلامًا له فدخل عليه وليس معه أحد فأنكر عليه تأخره عن الخدمة فاعتذر فلم يقبل عذره وضربه فأخرج الغلام سكينًا معه وقتله وأخذ الغلام فقيل له‏:‏ لم فعلت هذا فقال‏:‏ لأريح الناس من ظلمه‏.‏

وكان سبب ملكه خراسان أنه كان له أيام أخيه ملكشاه من الإقطاع ما مقداره سبعة آلاف دينار وكان معه ببغداد لما مات فسار إلى همذان في سبعة غلمان واتصل به جماعة فسار إلى نيسابور فلم يجد فيها مطمعًا فتمم إلى مرو وكان شحنة مرو أمير اسمه قودن من مماليك ملكشاه وهو الذي كان سبب تنكر السلطان ملكشاه على نظام الملك وقد تقدم ذلك في قتل نظام الملك فمال إلى أرسلان أرغون وسلم البلد إليه فأقبلت العساكر إليه وقصد بلخ وبها فخر الملك بن نظام الملك فسار عنها ووزر لتاج الدولة تتش على ما ذكرناه‏.‏

وملك أرسلان أرغون بلخ وترمذ ونيسابور وعامة خراسان وأرسل إلى السلطان بركيارق وإلى وزيره مؤيد الملك بن نظام الملك يطلب أن يقر عليه خراسان كما كانت لجده داود ما عدا نيسابور ويبذل الأموال ولا ينازع في السلطنة‏.‏

فسكت عنه بركيارق لاشتغاله بأخيه محمود وعمه تتش فلما عزل السلطان بركيارق مؤيد الملك عن وزارته ووليها أخوه فخر الملك واستولى على الأمور مجد الملك البلاساني قطع أرسلان أرغون مراسلة بركيارق وقال‏:‏ لا أرضى لنفسي مخاطبة البلاساني فندب بركيارق حينئذ عمه بوربرس بن ألب أرسلان وسيره في العساكر لقتاله‏.‏

وكان قد اتصل بأرسلان عماد الملك أبو القاسم بن نظام الملك ووزر له فلما وصلت العساكر إلى خراسان لقيهم أرسلان أرغون وقاتلهم وانهزم منهم وسار منهزمًا إلى بلخ وأقام بوربرس والعساكر التي معه بهراة‏.‏

ثم جمع أرغون عساكر جمة وسار إلى مرو فحصرها أيامًا وفتحها عنوة وقتل فيها وأكثر وقلع أبواب سورها وهدمه فسار إليه بوربرس من هراة فالتقيا وتصافا فانهزم بوربرس سنة ثمان وثمانين‏.‏

وسبب هزيمته أنه كان معه من جملة العساكر التي سيرها معه بركيارق أمير آخر ملكشاه وهو من أكابر الأمراء والأمير مسعود بن تاجر وكان أبوه مقدم عسكر داود جد ملكشاه ولمسعود منزلة كبيرة ومحل عظيم عند الناس كافة وكان بين أمير آخر وبين أرسلان مودة قديمة فأرسل إليه أرسلان أرغون يستميله ويدعوه إلى طاعته فأجابه إلى ذلك‏.‏

ثم إن مسعود بن تاجر قصد أمير آخر زائرًا له ومعه ولده فأخذهما وقتلهما فضعف أمر بوربرس وانهزم من أرسلان أرغون وتفرق عسكره وأسر وحمل إلى أرسلان أرغون وهو أخوه فحبسه بترمذ ثم أمر به فخنق بعد سنة من حبسه وقتل أكابر عسكر خراسان ممن كان يخافه ويخشى تحكمه عليه وصادر وزيره عماد الملك بثلاثمائة ألف دينار وقتله وخرب أسوار مدن خراسان منها‏:‏ سور سبزوار وسور مرو الشاهجان وقلعة سرخس وقهندز نيسابور وسور شهرستان وغير ذلك خربه جميعه سنة تسع وثمانين ثم إنه قتل هذه السنة كما ذكرنا‏.‏

  ذكر استيلاء عسكر مصر على مدينة صور

في هذه السنة في ربيع الأول وصل عسكر كثير من مصر إلى ثغر صور بساحل الشام فحصرها وملكها‏.‏

وسبب ذلك أن الوالي بها ويعرف بكتيلة أظهر العصيان على المستعلي صاحب مصر والخروج عن طاعته فسير إليه جيشًا فحصروه بها وضيقوا عليه وعلى من معه من جندي وعامي ثم افتتحها عنوة بالسيف وقتل بها خلق كثير ونهب منها المال الجزيل وأخذ الوالي أسيرًا بغير أمان وحمل إلى مصر فقتل بها‏.‏

  ذكر ملك بركيارق خراسان وتسليمها إلى أخيه سنجر

كان بركيارق قد جهز العساكر مع أخيه الملك سنجر وسيرها إلى خراسان لقتال عمه أرسلان أرغون وجعل الأمير قماج أتابك سنجر ورتب في وزارته أبا الفتح علي بن الحسين الطغرائي فلما وصلوا إلى الدامغان بلغهم خبر قتله فأقاموا حتى لحقهم السلطان بركيارق وساروا إلى نيسابور فوصل إليها خامس جمادى الأولى من السنة وملكها بغير قتال وكذلك سائر البلاد الخراسانية وساروا إلى بلخ‏.‏

وكان عسكر أرسلان أرغون قد ملكوا بعد قتله ابنًا له صغيرًا عمره سبع سنين فلما سمعوا بوصول السلطان أبعدوا إلى جبال طخارستان وأرسلوا يطلبون الأمان فأجابهم إلى ذلك فعادوا ومعهم ابن أرسلان أرغون فأحسن السلطان لقاءه وأعطاه ما كان لأبيه من الإقطاع أيام ملكشاه وكان وصوله إلى السلطان في خمسة عشر ألف فارس فما انقضى يومهم حتى فارقوه واتصلت كل طائفة منهم بأمير تخدمه وبقي وحده مع خادم لأبيه فأخذته والدة السلطان بركيارق إليها وأقامت له من يتولى خدمته وتربيته‏.‏

وسار بركيارق إلى ترمذ فسلمت إليه وأقام عند بلخ سبعة أشهر وأرسل إلى ما وراء النهر فأقيمت له الخطبة بسمرقند وغيرها ودانت له البلاد‏.‏

  ذكر خروج أمير أميران بخراسان مخالفًا

في هذه السنة لما كان السلطان بركيارق بخراسان خالف عليه أمير اسمه محمد بن سليمان ويعرف بأمير أميران وهو ابن عم ملكشاه وتوجه إلى بلخ واستمد من صاحب غزنة فأمده بجيش كثير وفيلة وشرط عليه أن يخطب له في جميع ما يفتحه من خراسان فقويت شوكته ومد يده في البلاد فسار إليه الملك سنجر بن ملكشاه جريدة ولا يعلم به أمير أميران فكبسه فجرى بينهما قتال ساعة ثم أسر وحمل إلى بين يدي سنجر فأمر به فكحل‏.‏

  ذكر عصيان الأمير قودن ويارقطاش على السلطان

واستعمال حبشي على في هذه السنة عصى يارقطاش وقدون على السلطان بركيارق‏.‏

وسبب ذلك أن الأمير قودن كان قد صار في جملة الأمير قماج فتوفي والسلطان بمرو فاستوحش قودن وأظهر المرض وتأخر بمرو بعد مسير السلطان إلى العراق وكان من جملة أمراء السلطان أمير اسمه اكنجي وقد ولاه السلطان خوارزم ولقبه خوارزمشاه فجمع عساكره وسار في عشرة آلاف فارس ليلحق السلطان فسبق العسكر إلى مرو في ثلاثمائة فارس وتشاغل بالشرب فاتفق قودن وأمير آخر اسمه يارقطاش على قتله فجمعا خمسمائة فارس وكبسوه وقتلوه وساروا إلى خوارزم وأظهروا أن السلطان قد استعملهما عليها فتسلماها‏.‏

وبلغ الخبر إلى السلطان فتم المسير إلى العراق لما بلغه من خروج الأمير أنر ومؤيد الملك عن طاعته وأعاد أمير داذ حبشي بن التونتاق في جيش إلى خراسان لقتالهما فسار إلى هراة وأقام ينتظر اجتماع العساكر معه فعاجلاه في خمسة عشر ألفًا فعلم أمير داذ أنه لا طاقة له بهما فعبر جيحون فسارا إليه وتقدم يارقطاش ليلحقه قودن فعاجله يارقطاش وحده وقاتله فانهزم يارقطاش وأخذ أسيرًا‏.‏

وبلغ الخبر إلى قودن فثار به عسكره ونهبوا خزائنه وما معه فبقي في سبعة نفر فهرب إلى بخارى فقبض عليه صاحبها ثم أحسن إليه وبقي عنده وسار من هناك إلى الملك سنجر ببلخ فقبله أحسن قبول وبذل له قودن أن يكفيه أموره ويقوم بجمع العساكر على طاعته فقدر أنه مات عن قريب وأما يارقطاش فبقي أسيرًا إلى أن قتل أمير داذ وكان من أمره ما نذكره إن شاء الله تعالى‏.‏

  ذكر ابتداء دولة محمد بن خوارزمشاه

في هذه السنة أمر بركيارق الأمير حبشي بن التونتاق على خراسان كما ذكرنا فلما صفت له وقتل قودن كما ذكرنا قبل ولي خوارزم الأمير محمد بن أنوشتكين وكان أبوه أنوشتكين مملوك أمير من السلجوقية اسمه بلكباك قد اشتراه من رجل من غرشستان فقيل له أنوشتكين غرشحه فكبر وعلا أمره وكان حسن الطريقة كامل الأوصاف وكان مقدمًا مرجوعًا إليه وولد له ولد سماه محمدًا وهو هذا وعلمه وخرجه وأحسن تأديبه وتقدم بنفسه وبالعناية الأزلية‏.‏

فلما ولي أمير داذ حبشي خراسان كان خوارزمشاه اكنجي قد قتل وقد تقدم ذكره ونظر الأمير حبشي فيمن يوليه خوارزم فوقع اختياره على محمد بن أنوشتكين فولاه خوارزم ولقبه خوارزمشاه فقصر أوقاته على معدلة ينشرها ومكرمة يفعلها وقرب أهل العلم والدين ولما ملك السلطان سنجر خراسان أقر محمدًا خوارزمشاه على خوارزم وأعمالها فظهرت كفايته وشهامته فعظم سنجر محله وقدره‏.‏

ثم إن بعض ملوك الأتراك جمع جموعًا وقصد خوارزم ومحمد غائب عنها وكان طغرلتكين بن اكنجي الذي كان أبوه خوارزمشاه قبل عند السلطان سنجر فهرب منه والتحق بالأتراك على خوارزم فلما سمع خوارزمشاه محمد الخبر بادر إلى خوارزم وأرسل إلى سنجر يستمده وكان بنيسابور فسار في العساكر إليه فلم ينتظره محمد فلما قارب خوارزم هرب الأتراك إلى منقشلاغ وطغرلتكين أيضًا رحل إلى حندخان وكفي خوارزمشاه شرهم‏.‏

ولما توفي خوارزمشاه ولي بعده ابنه إتسز فمد ظلال الأمن وأفاض العدل وكان قد قاد الجيوش أيام أبيه وقصد بلاد الأعداء وباشر الحروب فملك مدينة منقشلاغ‏.‏

ولما ولي بعد أبيه قربه السلطان سنجر وعظمه واعتضد به واستصحبه معه في أسفاره وحروبه فظهرت منه الكفاية والشهامة فزاده تقدمًا وعلوًا وهو ابتداء ملك بيت خوارزمشاه تكش وابنه محمد الذي ظهرت التتر عليه على ما نذكره إن شاء الله تعالى‏.‏

  ذكر الحرب بين رضوان وأخيه دقاق

في هذه السنة سار الملك رضوان إلى دمشق وبها أخوه دقاق عازمًا على أخذها منه فلما قاربها ورأى حصانتها وامتناعها علم عجزه عنها فرحل إلى نابلس وسار إلى القدس ليأخذه فلم يمكنه وانقطعت العساكر عنه فعاد ومعه باغي سيان صاحب أنطاكية وجناح الدولة‏.‏

ثم إن باغي سيان فارق رضوان وقصد دقاق وحسن له محاصرة أخيه بحلب جزاء لما فعله فجمع عساكر كثيرة وسار ومعه باغي سيان فأرسل رضوان رسولًا إلى سقمان بن أرتق وهو بسروج يستنجده فأتاه في خلق كثير من التركمان فسار نحو أخيه فالتقيا بقنسرين فاقتتلا فانهزم دقاق وعسكره ونهبت خيامهم وجميع مالهم وعاد رضوان إلى حلب ثم اتفقا على أن يخطب لرضوان بدمشق قبل دقاق وبأنطاكية وقيل كانت هذه الحادثة سنة تسع وثمانين‏.‏

  ذكر الخطبة للعلوي المصري بولاية رضوان

في هذه السنة خطب الملك رضوان في كثير من ولايته للمستعلي بأمر الله العلوي صاحب مصر‏.‏

وسبب ذلك أنه كان عنده الأمير جناح الدولة وهو زوج أمه فرأى من رضوان تغيرًا فسار إلى حمص وهي له فلما رأى باغي سيان بعده عن رضوان صالحه وقدم إليه بحلب ونزل بظاهرها‏.‏

وكان لرضوان منجم يقال له الحكيم أسعد وكان يميل إليه فقدمه بعد مسير جناح الدولة فحسن له مذاهب العلويين المصريين وأتته رسل المصريين يدعونه إلى طاعتهم ويبذلون له المال وإنفاذ العساكر إليه ليملك دمشق فخطب لهم بشيزر وجميع الأعمال سوى أنطاكية وحلب والمعرة أربع جمع ثم حضر عنده سقمان بن أرتق وباغي سيان صاحب أنطاكية فأنكرا ذلك واسعظماه فأعاد الخطبة العباسية في هذه السنة وأرسل إلى بغداد يعتذر مما كان منه‏.‏

وسار باغي سيان إلى أنطاكية فلم يقم بها غير ثلاثة أيام حتى وصل الفرنج إليها وحصروها وكان ما نذكره إن شاء الله تعالى‏.‏

  ذكر عدة حوادث

في هذه السنة كانت فتنة عظيمة بخراسان بين أهل سبزوار وأهل خسروجرد وقتال عظيم فقتل بينهم جماعة كثيرة وانهزم أهل خسروجرد‏.‏

وفيها قتل عثمان وكيل دار نظام الملك وكان سبب قتله أنه كان كاتب صاحب غزنة بالأخبار من قبل السلطان فأخذ وحبس بترمذ مدة ثم اطلع عليه وهو في الحبس أنه كان يكاتبه أيضًا فقتل‏.‏

وفي صفر منها قتل عبد الرحمن السميرمي وزير أم السلطان بركيارق قتله باطني غيلة وقتل الباطني بعده‏.‏

وفيها في شعبان ظهر كوكب كبير له ذؤابة وأقام يطلع عشرين يومًا ثم غاب ولم يظهر‏.‏

وفيها توفي النقيب الطاهر أبو الغنائم محمد بن عبد الله وكان دينًا سخيًا كريمًا متعصبًا حنفي المذهب وولي النقابة بعده ولده أبو الفتوح حيذرة‏.‏

وفيها توفي أبو القاسم يحيى بن أحمد السيبي وهو ابن مائة سنة وسنتين وهو صحيح الحواس وكان مقرئًا محدثًا حاضر القلب‏.‏

وفيها قتل أرغش النظامي مملوك نظام الملك بالري وكان قد بلغ مبلغًا عظيمًا بحيث أنه تزوج ابنة ياقوتي عم السلطان بركيارق قتله باطني وقتل قاتله‏.‏

وقتل برسق في شهر رمضان وهو من أكابر الأمراء قتله باطني وكان برسق من أصحاب السلطان طغرلبك وهو أول شحنة كان ببغداد‏.‏

  ذكر ملك الفرنج مدينة أنطاكية

كان ابتداء ظهور دولة الفرنج واشتداد أمرهم وخروجهم إلى بلاد الإسلام واستيلائهم على بعضها سنة ثمان وسبعين وأربعمائة فملكوا مدينة طليطلة وغيرها من بلاد الأندلس وقد تقدم ذكر ذلك‏.‏

ثم قصدوا سنة أربع وثمانين وأربعمائة جزيرة صقلية وملكوها وقد ذكرته أيضًا وتطرقوا إلى أطراف إفريقية فملكوا منها شيئًا وأخذ منهم ثم ملكوا غيره على ما تراه‏.‏

فلما كان سنة تسعين وأربعمائة خرجوا إلى بلاد الشام وكان سبب خروجهم أن ملكهم بردويل جمع جمعًا كثيرًا من الفرنج وكان نسيب رجار الفرنجي الذي ملك صقلية فأرسل إلى رجار يقول له‏:‏ قد جمعت جمعًا كثيرًا وأنا واصل إليك وسائر من عندك إلى إفريقية أفتحها وأكون مجاورًا لك‏.‏

فجمع رجار أصحابه واستشارهم في ذلك وقالوا‏:‏ وحق الإنجيل هذا جيد لنا ولهم وتصبح البلاد بلاد النصرانية‏.‏

فرفع رجله وحبق حبقة عظيمة وقال‏:‏ وحق ديني هذه خير من كلامكم‏!‏ قالوا‏:‏ وكيف ذلك قال‏:‏ إذا وصلوا إلي أحتاج إلى كفلة كثيرة ومراكب تحملهم إلى إفريقية وعساكر من عندي أيضًا فإن فتحوا البلاد كانت لهم وصارت المؤونة لهم من صقلية وينقطع عني ما يصل من المال من ثمن الغلات كل سنة وإن لم يفلحوا رجعوا إلى بلادي وتأذيت بهم ويقول تميم غدرت بي ونقضت عهدي وتنقطع الوصلة والأسفار بيننا وبلاد إفريقية باقية لنا متى وجدنا قوة أخذناها‏.‏

وأحضر رسوله وقال له‏:‏ إذا عزمتم على جهاد المسلمين فأفضل ذلك فتح بيت المقدس تخلصونه من أيديهم ويكون لكم الفخر وأما إفريقية فبيني وبين أهلها أيمان وعهود‏.‏

فتجهزوا وخرجوا إلى الشام وقيل‏:‏ إن أصحاب مصر من العلويين لما رأوا قوة الدولة السلجوقية وتمكنها واستيلاءها على بلاد الشام إلى غزة ولم يبق بينهم وبين مصر ولاية أخرى تمنعهم ودخول أقسيس إلى مصر وحصرها خافوا وأرسلوا إلى الفرنج يدعونهم إلى الخروج إلى الشام ليملكوه ويكونوا بينهم وبين المسلمين والله أعلم‏.‏

فلما عزم الفرنج على قصد بلاد الشام ساروا إلى القسططينية ليعبروا المجاز إلى بلاد المسلمين ويسيروا في البر فيكون أسهل عليهم فلما وصلوا إليها منعهم ملك الروم من الاجتياز ببلاده وقال‏:‏ لا أمكنكم من العبور إلى بلاد الإسلام حتى تحلفوا لي أنكم تسلمون إلي أنطاكية وكان قصده أن يحثهم على الخروج إلى بلاد الإسلام ظنًا منه أنهم أتراك لا يبقون منهم أحدًا لما رأى

فأجابوه إلى ذلك وعبروا الخليج عند القسطنطينية سنة تسعين ووصلوا إلى بلاد قلج أرسلان بن سليمان بن قتلمش وهو قونية وغيرها فلما وصلوا إليها لقيهم قلج أرسلان في جموعه ومنعهم فقاتلوه فهزموه في رجب سنة تسعين واجتازوا في بلاده إلى بلاد ابن الأرمني فسلكوها وخرجوا إلى أنطاكية فحصروها‏.‏

ولما سمع صاحبها باغي سيان بتوجههم إليها خاف من النصارى الذي بها فأخرج المسلمين من أهلها ليس معهم غيرهم وأمرهم بحفر الخندق ثم أخرج من الغد النصارى لعمل الخندق أيضًا ليس معهم مسلم فعملوا فيه إلى العصر فلما أرادوا دخول البلد منعهم وقال لهم‏:‏ أنطاكية لكم تهبونها لي حتى أنظر ما يكون منا ومن الفرنج فقالوا له‏:‏ من يحفظ أبناءنا ونساءنا فقال‏:‏ أنا أخلفكم فيهم فأمسكوا وأقاموا في عسكر الفرنج فحصروها تسعة أشهر وظهر من شجاعة باغي سيان وجودة رأيه وحزمه واحتياطه ما لم يشاهد من غيره فهلك أكثر الفرنج موتًا ولو بقوا على كثرتهم التي خرجوا فيها لطبقوا بلاد الإسلام وحفظ باغي سيان أهل نصارى أنطاكية الذين أخرجهم وكف الأيدي المتطرقة إليهم‏.‏

فلما طال مقام الفرنج على أنطاكية راسلوا أحد المستحفظين للأبراج وهو زراد يعرف بروزبه وبذلوا له مالًا وأقطاعًا وكان يتولى حفظ برج يلي الوادي وهو مبني على شباك في الوادي فلما تقرر الأمر بينهم وبين هذا الملعون الزراد جاؤوا إلى الشباك ففتحوه ودخلوا منه وصعد جماعة كثيرة بالحبال فلما زادت عدتهم على خمسمائة ضربوا البوق وذلك عند السحر وقد تعب الناس من كثرة السهر والحراسة فاستيقظ باغي سيان فسأل عن الحال فقيل‏:‏ إن هذا البوق من القلعة ولا شك أنها قد ملكت ولم يكن من القلعة وإنما كان من ذلك البرج فدخله الرعب وفتح باب البلد وخرج هاربًا في ثلاثين غلامًا على وجهه فجاء نائبه في حفظ البلد فسأل عنه فقيل إنه هرب فخرج من باب آخر هاربًا وكان ذلك معونة للفرنج ولو ثبت ساعة لهلكوا‏.‏

ثم إن الفرنج دخلوا البلد من الباب ونهبوه وقتلوا من فيه من المسلمين وذلك في جمادى الأولى‏.‏

وأما باغي سيان فإنه لما طلع عليه النهار رجع إليه عقله وكان كالولهان فرأى نفسه وقد قطع عدة فراسخ فقال لمن معه‏:‏ أين أنا فقيل‏:‏ على أربعة فراسخ من أنطاكية فندم كيف خلص سالمًا ولم يقاتل حتى يزيلهم عن البلد أو يقتل وجعل يتلهف ويسترجع على ترك أهله وأولاده والمسلمين فلشدة ما لحقه سقط عن فرسه مغشيًا عليه فلما سقط إلى الأرض أراد أصحابه أن يركبوه فلم يكن فيه مسكة قد قارب الموت فتركوه وساروا عنه واجتاز به إنسان أرمني كان وكان الفرنج قد كاتبوا صاحب حلب ودمشق بأننا لا نقصد غير البلاد التي كانت بيد الروم لا نطلب سواها مكرًا منهم وخديعة حتى لا يساعدوا صاحب أنطاكية‏.‏

  ذكر مسير المسلمين إلى الفرنج

وما كان منهم لما سمع قوام الدولة كربوقا بحال الفرنج وملكهم أنطاكية جمع العساكر وسار إلى الشام وأقام بمرج دابق واجتمعت معه عساكر الشام تركها وعربها سوى من كان بحلب فاجتمع معه دقاق بن تتش وطغتكين أتابك وجناح الدولة صاحب حمص وأرسلان تاش صاحب سنجار وسليمان بن أرتق وغيرهم من الأمراء ممن ليس مثلهم‏.‏

فلما سمعت الفرنج عظمت المصيبة عليهم وخافوا لما هم فيه من الوهن وقلة الأقوات عندهم وسار المسلمون فنازلوهم على أنطاكية وأساء كربوقا السيرة فيمن معه من المسلمين وأغضب الأمراء وتكبر عليهم ظنًا منه أنهم يقيمون معه على هذه الحال فأغضبهم ذلك وأضمروا له في أنفسهم الغدر إذا كان قتال وعزموا على إسلامه عند المصدوقة‏.‏

وأقام الفرنج بأنطاكية بعد أن ملكوها اثني عشر يومًا لي لهم ما يأكلونه وتقوت الأقوياء بدوابهم والضعفاء بالميتة وورق الشجر فلما رأوا ذلك أرسلوا إلى كربوقا يطلبون منه الأمان ليخرجوا من البلد فلم يعطهم ما طلبوا وقال‏:‏ لا تخرجون إلا بالسيف‏.‏

وكان معهم من الملوك بردويل وصنجيل وكندفري والقمص صاحب الرها وبيمنت صاحب أنطاكية وهو المقدم عليهم‏.‏

وكان معهم راهب مطاع فيهم وكان داهية من الرجال فقال لهم‏:‏ إن المسيح عليه السلام كان له حربة مدفونة بالقسيان الذي بأنطاكية وهو بناء عظيم فإن وجدتموها فإنكم تظفرون وإن لم تجدوها فالهلاك متحقق‏.‏

وكان قد دفن قبل ذلك حربة في مكان فيه وعفى أثرها وأمرهم بالصوم والتوبة ففعلوا ذلك ثلاثة أيام فلما كان اليوم الرابع أدخلهم الموضع جميعهم ومعهم عامتهم والصناع منهم وحفروا في جميع الأماكن فوجدوها كما ذكر فقال لهم‏:‏ أبشروا بالظفر فخرجوا في اليوم الخامس من الباب متفرقين من خمسة وستة ونحو ذلك فقال المسلمون لكربوقا‏:‏ ينبغي أن تقف على الباب فتقتل كل من يخرج فإن أمرهم الآن وهم متفرقون سهل‏.‏

فقال‏:‏ لا تفعلوا‏!‏ أمهلوهم حتى يتكامل خروجهم فنقتلهم‏.‏

ولم يمكن من معاجلتهم فقتل قوم من المسلمين جماعة من الخارجين فجاء إليهم هو بنفسه ومنعهم ونهاهم‏.‏

فلما تكامل خروج الفرنج ولم يبق بأنطاكية أحد منهم ضربوا مصافًا عظيمًا فولى المسلمون منهزمين لما عاملهم به كربوقا أولًا من الاستهانة بهم والإعراض عنهم وثانيًا من منعهم عن قتل الفرنج وتمت الهزيمة عليهم ولم يضرب أحد منهم بسيف ولا طعن برمح ولا رمى بسهم وآخر من انهزم سقمان بن أرتق وجناح الدولة لأنهما كانا في الكمين وانهزم كربوقا معهم‏.‏

فلما رأى الفرنج ذلك ظنوه مكيدة إذ لم يجر قتال ينهزم من مثله وخافوا أن يتبعوهم وثبت جماعة من المجاهدين وقاتلوا حسبة وطلبًا للشهادة فقتل الفرنج منهم ألوفًا وغنموا ما في العسكر من الأقوات والأموال والأثاث والدواب والأسلحة فصلحت حالهم وعادت إليهم قوتهم‏.‏

  ذكر ملك الفرنج معرة النعمان

لما فعل الفرنج بالمسلمين ما فعلوا ساروا إلى معرة النعمان فنازلوها وحصروها وقاتلهم أهلها قتالًا شديدًا ورأى الفرنج منهم شدة ونكاية ولقوا منهم الجد في حربهم والاجتهاد في قتالهم فعملوا عند ذلك برجًا من خشب يوازي سور المدينة ووقع القتال عليه فلم يضر المسلمين ذلك فلما كان الليل خاف قوم من المسلمين وتداخلهم الفشل والهلع وظنوا أنهم إذا تحصنوا ببعض الدور الكبار امتنعوا بها فنزلوا من السور وأخلوا الموضع الذي كانوا يحفظونه فرآهم طائفة أخرى ففعلوا كفعلهم فخلا مكانهم أيضًا من السور‏.‏

ولم تزل ننبع طائفة منهم التي تليها في النزول حتى خلا السور فصعد الفرنج إليه على السلاليم فلما علوه تحير المسلمون ودخلوا دورهم فوضع الفرنج فيهم السيف ثلاثة أيام فقتلوا ما يزيد على مائة ألف وسبوا السبي الكثير وملكوه وأقاموا أربعين يومًا‏.‏

وساروا إلى عرقة فحصروها أربعة أشهر ونقبوا سورها عدة نقوب فلم يقدروا عليها وراسلهم منقذ صاحب شيزر فصالحهم عليها وساروا إلى حمص وحصروها فصالحهم صاحبها جناح الدولة وخرجوا على طريق النواقير إلى عكا فلم يقدروا عليها‏.‏

  ذكر الحرب بين الملك سنجر ودولتشاه

كان دولتشاه من أبناء الملوك السلجوقية فاجتمع عليهم جمع من عساكر بيغو أخي طغرلبك وكانوا بطخارستان فأخذوا ولوالج وكمنج فسار إليهم السلطان سنجر وعساكره‏.‏

فوصل إلى بلخ فدخلها في رجب من هذه السنة وخرج منها لقتال دولتشاه فلم يكن له من الجموع ما ثبت مقابل عسكر سنجر فقاتلوا شيئًا من قتال وانهزموا وأخذوا دولتشاه أسيرًا وأحضر عند سنجر فعفا عنه من القتل وحبسه ثم بعد ذلك كحله وسير سنجر جيشًا إلى مدينة ترمذ فملكوها وأسلمها إلى طغرلتكين‏.‏

في هذه السنة فتح تميم بن المعز بن باديس صاحب إفريقية جزيرة جربة وجزيرة قرقنة ومدينة تونس وكان بإفريقية غلاء شديد هلك فيه كثير من الناس‏.‏

وفيها أرسل الخليفة رسولًا إلى السلطان بركيارق مستنفرًا على الفرنج ومبالغًا في تعظيم الأمر وتداركه قبل أن يزداد قوة‏.‏

و في هذه السنة في شعبان توفي أبو الحسن أحمد بن عبد القادر بن محمد بن يوسف ومولده سنة اثنتي عشرة وأربعمائة وكان فاضلًا في الحديث‏.‏

وفيها توفي أبو الفضل عبد الوهاب بن أبي محمد التميمي الحنبلي وكان فاضلًا فصيحًا‏.‏

وفيها في شوال توفي طراد بن محمد الزينبي وهو عالي الإسناد في الحديث وولي نقابة العباسيين من بعده ابنه شرف الدين علي بن طراد‏.‏

وفيها في ذي القعدة توفي أبو الفتح المظفر بن رئيس الرؤساء أبي القاسم بن المسلمة وكان بيته مجمع الفضلاء وأهل الدين ومن جملة من كان عنده إلى أن توفي الشيخ أبو إسحاق الشيرازي‏.‏

وفيها توفي أبو الفرج سهل بن بشر بن أحمد الاسفراييني وهو من أعيان المحدثين‏.‏