فصل: ذكر ملك الملثمين بجاية وعودها إلى أولاد عبد المؤمن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ **


  ذكر فتح صلاح الدين حارم

لما ملك صلاح الدين حلب كان بقلعة حارم وهي من أعمال حلب بعض المماليك النورية واسمه سرحك وولاه عليها الملك الصالح عماد الدين فامتنع من تسليمها إلى صلاح الدين فراسله صلاح الدين في التسليم وقال له‏:‏ اطلب من الإقطاع ما أردت ووعده الإحسان فاشتط في الطلب وترددت الرسل بينهما فراسل الفرنج ليحتمي بهم فسمع من معه من الأجناد أنه يراسل الفرنج فخافوا أن يسلمها إليهم فوثبوا عليه وقبضوه وحبسوه وراسلوا صلاح الدين يطلبون منه الأمان والإنعام فأجابهم إلى ما طلبوا وسلموا إليه الحصن فرتب به دزدارًا بعض خواصه‏.‏

وأما باقي قلاع حلب فإن صلاح الدين أقر عين تاب بيد صاحبها كما تقدم وأقطع تل خالد لأمير يقال له داروم الباروقي وهو صاحب تل باشر‏.‏

وأما قلعة إعزاز فإن عماد الدين إسماعيل كان قد خربها فأقطعها صلاح الدين لأمير يقال له دلدرم سلمان بن جندر فعمرها‏.‏

وأقام صلاح الدين بحلب إلى أن فرغ من تقرير قواعدها وأحوالها وديوانها وأقطع أعمالها وأرسل منها فجمع العساكر من جميع بلاده‏.‏

  ذكر القبض على مجاهد الدين وما حصل من الضرر بذلك

في هذه السنة في جمادى الأولى قبض عز الدين مسعود صاحب الموصل على نائبه مجاهد الدين قايماز وكان إليه الحكم في جميع البلاد واتبع في ذلك هوى من أراد المصلحة لنفسه ولم ينظر في مضرة صاحبه‏.‏

وكان الذي أشار بذلك عز الدين محمود زلفندار وشرف الدين أحمد ابن أبي الخير الذي كان أبوه صاحب الغراف وهما من أكابر الأمراء فلما أراد القبض عليه لم يقدم على ذلك لقوة مجاهد الدين فأظهر أنه مريض وانقطع عن الركوب عدة أيام فدخل إليه مجاهد الدين وحده وكان خصيًا لا يمتنع من الخول على النساء فلما دخل عليه قبض عليه وركب لوقته إلى القلعة فاحتوى على الأموال التي لمجاهد الدين وخزائنه وولى زلفندار قلعة الموصل بعد مجاهد الدين وكان تحت حكم مجاهد الدين حينئذ إربل وأعمالها ومعه فيها زين الدين يوسف بن زين الدين علي وهو صبي صغير ليس له من الحكم شيء والحكم والعسكر إلى مجاهد الدين وتحت حكمه أيضًا جزيرة ابن عمر وهي لمعز الدين سنجر شاه بن سيف الدين غازي بن مودود وهو أيضًا صبي والحكم والنواب والعسكر لمجاهد الدين وبيده أيضًا شهرزور وأعمالها ونوابه فيها ودقوقا ونائبه فيها وقلعة عقر الحميدية ونائبه فيها ولم يبق لعز الدين مسعود بعد أن أخذ صلاح الدين البلاد الجزرية سوى الموصل وقلعتها بيد مجاهد الدين وهو على الحقيقة الملك واسمه لعز الدين فلما قبض عليه امتنع صاحب إربل من طاعة عز الدين واستبد وكذلك أيضًا صاحب جزيرة ابن عمر وأرسل الخليفة إلى دقوقا فحصرها وأخذها ولم يحصل لعز الدين مسعود غير شهر زور والعقر وصارت إربل والجزيرة أضر شيء على صاحب الموصل وأرسل صاحبها إلى صلاح الدين بالطاعة له والكون في خدمته‏.‏

وكان الخليفة الناصر لدين الله قد أرسل صدر الدين شيخ الشيوخ ومعه بشير الخادم الخاص إلى صلاح الدين في الصلح مع عز الدين صاحب الموصل وسير عز الدين معه القاضي محيي الدين أبا حامد بن الشهرزوري في المعنى فأجاب صلاح الدين إلى ذلك وقال‏:‏ ليس لكم مع الجزيرة وإربل حديث فامتنع محيي الدين عن ذلك وقال‏:‏ هما لنا فلم يجب صلاح الدين إلى

الصلح إلا بأن تكون إربل والجزيرة معه فلم يتم أمره وقوي طمع صلاح الدين في الموصل بقبض مجاهد الدين فلما رأى صاحب الموصل الضرر بقبض مجاهد الدين قبض على شرف الدين أحمد بن صاحب الغراف وزلفندار عقوبة لهما ثم أخرج مجاهد الدين على ما نذكره إن شاء الله‏.‏

  ذكر غزو بيسان

لما فرغ صلاح الدين من أمر حلب جعل فيها ولده الملك الظاهر غازي وهو صبي وجعل معه الأمير سيف الدين يازكج وكان أكبر الأمراء الأسدية وسار إلى دمشق وتجهز للغزو ومعه عساكر الشام والجزيرة وديار بكر وسار إلى بلد الفرنج فعبر نهر الأردن تاسع جمادى الآخرة من السنة فرأى أهل تلك النواحي فقد فارقوها خوفًا فقصد بيسان فأحرقها وخربها وأغار على ما هناك فاجتمع الفرنج وجاءوا إلى قبالته فحين رأوا كثرة عساكره لم يقدموا عليه فأقام عليهم وقد استندوا إلى جبل هناك وخندقوا عليهم فأحاط بهم وعساكر الإسلام ترميهم بالسهام وتناوشهم القتال فلم يخرجوا وأقاموا كذلك خمسة أيام وعاد المسلمون عنهم سابع عشر الشهر لعل الفرنج يطمعون ويخرجون فيستدرجونهم ليبلغوا منهم غرضًا فلما وأغار المسلمون على تلك الأعمال يمينًا وشمالًا ووصلوا إلى ما لم يكونوا يطمعون في الوصول إليه والإقدام عليه فلما كثرت الغنائم معهم رأوا العود إلى بلادهم بما غنموا مع الظفر أولى فعادوا إلى بلادهم على عزم الغزو‏.‏

  ذكر غزو الكرك وملك العادل حلب

لما عاد صلاح الدين والمسلمون من غزوة بيسان تجهزوا غزو الكرك فسار إليه في العساكر وكتب إلى أخيه العادل أبي بكر بن أيوب وهو نائبه بمصر يأمره بالخروج بجميع العساكر إلى الكرك‏.‏

وكان العادل قد أرسل إلى صلاح الدين يطلب منه مدينة حلب وقلعتها فأجابه إلى ذلك وأمره أن يخرج معه بأهله وماله فوصل صلاح الدين إلى الكرك في رجب ووافاه أخوه العادل في العسكر المصري وكثر جمعه وتمكن من حصره وصعد المسلمون إلى ربضه وملكه وحصر الحصن من الربض وتحكم عليه في القتال ونصب عليه سبعة مجانيق لا تزال ترمي بالحجارة ليلًا ونهارًا‏.‏

وكان صلاح الدين يظن أن الفرنج لا يمكنونه من حصر الكرك وأنهم يبذلون جهدهم في رده عنهم فلم يستصحب معه من آلاف الحصار ما يكفي لمثل ذلك الحصن العظيم والمعقل المنيع فرحل عنه منتصف شعبان وسير تقي الدين ابن أخيه إلى مصر نائبًا عنه ليتولى ما كان أخوه العادل يتولاه واستصحب أخاه العادل معه إلى دمشق وأعطاه مدينة حلب وقلعتها وأعمالها ومدينة منبج وما يتعلق بها وسيره إليها في شهر رمضان من السنة وأحضر ولده الظاهر منها إلى دمشق‏.‏

  ذكر عدة حوادث

في هذه السنة فتح الرباط الذي بنته أم الخليفة بالمأمونية‏.‏

وفيها في ذي الحجة توفي مكرم بن بختيار أبو الخير الزاهد ببغداد‏.‏

روى الحديث وكان كثير البكاء‏.‏

وفي جمادى الآخرة توفي محمد بن بختيار بن عبد الله أبو عبد الله المولد الشاعر ويعرف بالأبله فمن جملة شعره‏:‏ أرق دمعي لا بل أراق دمي ظلمًا بظلم من ريقه الشبم ذو قامة كالقضيب ناضرة وناظر من سقامه سقمي حصلت من وعده على أصدق ال وعد ومن وصله على التهم

 ذكر إطلاق مجاهد الدين من الحبس وانهزام العجم

في هذه السنة في المحرم أطلق أتابك عز الدين صاحب الموصل مجاهد الدين قايماز من الحبس بشفاعة شمس الدين البهلوان صاحب همذان وبلاد الجبل وسيره إلى البهلوان وأخيه قزل يستنجدهما على صلاح الدين فسار إلى قزل أولًا وهو صاحب أذربيجان فلم يمكنه من المضي إلى البهلوان وقال‏:‏ ما تختاره أنا أفعله وجهز معه عسكرًا كثيرًا نحو ثلاثة آلاف فارس وساروا نحو إربل ليحصروها فلما قاربوها أفسدوا في البلاد وخربوها ونهبوا وسبوا وأخذوا النساء قهرًا ولم يقدر مجاهد الدين على منعهم فسار إليهم زين الدين يوسف صاحب إربل في عسكره فلقيهم وهم متفرقون في القرى ينهبون ويحرقون فانتهز الفرصة فيهم بتفرقهم وألقى بنفسه وعسكره على أول من لقيه منهم فهزمهم وتمت الهزيمة على الجميع وغنم الأربليون أموالهم ودوابهم وسلاحهم وعاد العجم إلى بلادهم منهزمين وعاد صاحب إربل إلى بلده مظفرًا غانمًا وعاد مجاهد الدين إلى الموصل فكان يحكي‏:‏ إنني ما زلت أنتظر العقوبة من الله تعالى على سوء أفعال العجم فإنني رأيت منهم ما لم أكن أظنه يفعله مسلم بمسلم وكنت أنهاهم

  ذكر وفاة يوسف بن عبد المؤمن وولاية ابنه يعقوب

في هذه السنة سار أبو يعقوب يوسف بن عبد المؤمن إلى بلاد الأندلس وجاز البحر إليها في جمع عظيم من عساكر المغرب فإنه جمع وحشد الفارس والراجل فلما عبر الخليج قصد غربي البلاد فحصر مدينة شنترين وهي للفرنج شهرًا فأصابه بها مرض فمات منه في ربيع الأول وحمل في تابوت إلى مدينة إشبيلية من الأندلس‏.‏

وكانت مدة ملكه اثنتين وعشرين سنة وشهرًا ومات عن غير وصية بالملك لأحد من أولاده فاتفق رأي قواد الموحدين وأولاد عبد المؤمن على تمليك ولده أبي يوسف يعقوب بن يوسف ابن عبد المؤمن فملكوه من الوقت الذي مات فيه أبوه لئلا يكونوا بغير ملك يجمع كلمتهم لقربهم من العدو فقام في ذلك أحسن قيام وأقام راية الجهاد وأحسن السيرة في الناس‏.‏

وكان دينًا مقيمًا للحدود في الخاص والعام فاستقامت له الدولة وانقادت إليه بأسرها مع سعة أقطارها ورتب ثغور الأندلس وشحنها بالرجال ورتب المقاتلة في سائر بلادها وأصلح أحوالها وعاد إلى مراكش‏.‏

وكان أبوه يوسف حسن السيرة وكان طرقه ألين من طريق أبيه مع الناس يحب العلماء ويقربهم ويشاورهم وهم أهل خدمته وخاصته‏.‏

وأحبه الناس ومالوا إليه وأطاعه من البلاد ما امتنع على أبيه وسلك في جباية الأموال ما كان أبوه يأخذه ولم يتعده إلى غيره واستقامت له البلاد بحسن فعله مع أهلها ولم يزل كذلك إلى أن توفي رحمه الله تعالى‏.‏

  ذكر غزو صلاح الدين الكرك

في هذه السنة في ربيع الآخر سار صلاح الدين من دمشق يريد الغزو وجمع عساكره فأتته من كل ناحية ومن أتاه نور الدين محمد بن قرا أرسلان صاحب الحصن‏.‏

وكتب إلى مصر ليحضر عسكرها عنده على الكرك فنازل الكرك وحصره وضيق على من به وأمر بنصب المجانيق على ربضه واشتد القتال فملك المسلمون الربض وبقي الحصن وهو الربض على سطح جبل واحد إلا أن بينهما خندقًا عظيمًا عمقه نحو ستين ذراعًا فأمر صلاح الدين بإلقاء الأحجار والتراب فيه ليطمه فلم يقدر أحد على الدنو منه لكثرة الرمي عليهم بالسهام من الجرخ والقوس والأحجار من المجانيق فأمر أن يبني بالأخشاب واللبن ما يمكن الرجال يمشون تحته إلى الخندق ولا يصل إليهم شيء من السهام والأحجار ففعل ذلك فصاروا يمشون تحت السقائف وأرسل من فيه من الفرنج إلى ملكهم وفرسانهم يستمدونهم ويعرفونهم عجزهم وضعفهم عن حفظ الحصن فاجتمعت الفرنج عن آخرها وساروا إلى نجدتهم عجلين فلما بلغ الخبر بمسيرهم إلى صلاح الدين رحل عن الكرك إلى طرقهم ليلقاهم ويصاففهم ويعود بعد أن يهزمهم إلى الكرك فقرب منهم وخيم ونزل ولم يمكنه الدنو منهم لخشونة الأرض وصعوبة المسلك إليهم وضيقه فأقام أيامًا ينتظر خروجهم من ذلك المكان ليتمكن منهم فلم يبرحوا منه خوفًا على نفوسهم فلما رأى ذلك رحل عنهم عدة فراسخ وجعل بإزائهم من يعلمه بمسيرهم فساروا ليلًا إلى الكرك فلما علم صلاح الدين ذلك علم أنه لا يتمكن حينئذ ولا يبلغ غرضه فسار إلى مدينة نابلس ونهب كل ما على طريقه من البلاد فلما وصل إلى نابلس أحرقها وخربها ونهبها وقتل فيها وأسر من المسلمين فاستنقذهم ورحل إلى جينين فنهبها وخربها وعاد إلى دمشق ونهب ما على طريه وخربه وبث السرايا في طريقه يمينًا وشمالًا يغنون ويخربون ووصل إلى دمشق‏.‏

  ذكر ملك الملثمين بجاية وعودها إلى أولاد عبد المؤمن

في هذه السنة في شعبان خرج علي بن إسحاق المعروف بابن غانية وهو من أعيان الملثمين الذين كانوا ملوك المغرب وهو حينئذ صاحب جزيرة ميورقة إلى بجاية فملكها وسبب ذلك أنه لما سمع بوفاة يوسف بن عبد المؤمن عمر أسطوله فكان عشرين قطعة وسار في جموعه فأرسى في ساحل بجاية وخرجت خيله ورجاله من الشواني فكانوا نحو مائتي فارس من الملثمين وأربعة آلاف راجل فدخل مدينة بجاية بغير قتال لأنه اتفق أن واليها سار عنها قبل ذلك بأيام إلى مراكش ولم يترك فيها جيشًا ولا ممانعًا لعدم عدو يحفظها منه فجاء الملثم ولم يكن في حسابهم أنه يحدث نفسه بذلك فأرسى بها ووافقه جماعة من بقايا الدولة بين حماد وصاروا معه فكثر جمعه بهم وقويت نفسه فسمع خبره والي بجاية فعاد من طريقه ومعه من الموحدين ثلثمائة فارس فجمع من العرب والقبائل الذين في تلك الجهات نحو ألف فارس فسمع بهم الملثم وبقربهم منه فخرج إليهم وقد صار معه قدر ألف فارس وتواقفوا ساعة فانضاف جميع الجموع التي كانت مع والي بجاية إلى الملثم فانهزم حينئذ والي بجاية ومن معه من الموحدين وساروا إلى مراكش وعاد الملثم إلى بجاية فجمع جيشه وخرج إلى أعمال بجاية فأطاعه جميعهم إلا قسنطينة الهوى فحصرها إلى أن جاء جيش من الموحدين من مراكش في صفر سنة إحدى وثمانين وخمسمائة في البر والبحر وكان بها يحيى وعبد الله أخو علي بن إسحق الملثم فخرجا منها هاربين ولحقا بأخيهما فرحل عن قسنطينة وسار إلى إفريقية‏.‏

وكان سبب إرسال الجيش من مراكش أن والي بجاية وصل إلى يعقوب بن يوسف صاحب المغرب وعرفه ما جرى ببجاية واستيلاء الملثمين عليها وخوفه عاقبة التواني فجهز العساكر في البر عشرين ألف فارس وجهز الأسطول في البحر في خلق كثير واستعادوها‏.‏

  ذكر وفاة صاحب ماردين وملك ولده

في هذه السنة مات قطب الدين إيلغازي بن نجم الدين بن ألبي بن تمرتاش ابن إيلغازي بن أرتق صاحب ماردين وملك بعده ابنه حاسم الدين بولق أرسلان وهو طفل وقام بتربيه وتدبير مملكته نظام الدين البقش مملوك أبيه وكان شاه أرمن صاحب خلاط خال قطب الدين فحكم في دولته وهو رتب البقش مع ولده وكان البقش دينًا خيرًا عادلًا حسن السيرة حليمًا فأحسن تربيته وتزود أمه فلما كبر الولد لم يمكنه النظام من مملكته لخبط وهوج فيه وكان لنظام الدين هذا مملوك اسمه لؤلؤ قد تحكم في دولته وحكم فيها فكان يحمل النظام على ما يفعله مع الولد ولم يزل الأمر كذلك إلى أن مات الولد وله أخ أصغر منه لقبه قطب الدين فرتبه النظام في الملك وليس له منه إلا الاسم والحكم إلى النظام ولؤلؤ فبقي كذلك إلى سنة إحدى وستمائة فمرض

النظام البقش فأتاه قطب الدين يعوده فلما خرج من عنده معه لؤلؤ وضربه قطب الدين بسكين معه فقتله ثم دخل إلى النظام وبيده السكين فقتله أيضًا وخرج وحده ومعه غلام له وألقى الرأسين إلى الأجناد وكانوا كلهم قد أنشأهم النظام ولؤلؤ فأذعنوا له بالطاعة فلما تمكن أخرج من أراد وترك من أراد واستولى على قلعة ماردين وأعمالها وقلعة البارعية وصور وهو إلى الآن حاكم فقيهًا حازم في أفعاله‏.‏

  ذكر عدة حوادث

في هذه السنة توفي صدر الدين شيخ الشيوخ عبد الرحمن بن شيخ الشيوخ إسماعيل بن شيخ الشيوخ أبي سعيد أحمد في شعبان وكان قد سار في ديوان الخلافة رسولًا إلى صلاح الدين ومعه شهاب الدين بشير الخادم في معنى الصلح بينه وبين عز الدين صاحب الموصل فوصلا إلى دمشق وصلاح الدين بحصر الكرك فأقاما إلى أن عاد فلم يستقر في الصلح أمر ومرضا وطلبا العودة إلى العراق فأشار عليهما صلاح الدين بالمقام إلى أن يصطلحا فلم يفعل وسارا في الحر فمات بشير بالحسنة‏.‏

ومات صدر الدين بالرحبة ودفن بمشهد البوق وكان واحد زمانه قد جمع بين رياسة الدين والدنيا وكان ملجأ لكل خائف صالحًا كريمًا حليمًا وله مناقب كثيرة ولم يستعمل في مرضه هذا دواء توكلًا على الله تعالى‏.‏

وفيها توفي عبد اللطيف بن محمد بن عبد اللطيف الخجندي الفقيه الشافعي رئيس أصفهان وكان موته بباب همذان وقد عاد الحج وله شعر فمنه‏:‏ بالحمى دار سقاها مدمعي يا سقى الله الحمى من مربع ليت شعري والأماني ضلة هل إلى وادي الغض من مرجع أذنت علوة للواشي بنا ما على علوة لو لم تسمع أو تحرت رشدًا فيما وشى أو عفت عني فما قلبي معي رحمه الله ورضي عنه وأرضاه‏.‏

  ثم دخلت سنة إحدى وثمانين وخمسمائة

  ذكر حصر صلاح الدين الموصل ورحيله عنها لوفاة شاه أرمن

في هذه السنة حصر صلاح الدين يوسف بن أيوب الموصل مرة ثانية وكان مسيره من دمشق في ذي القعدة من السنة الماضية فوصل إلى حلب وأقام بها إلى أن خرجت السنة وسار منها فعبر إلى أرض الجزيرة‏.‏

فلما وصل حران قبض على مظفر الدين كوكبري بن زين الدين الذي كان سبب ملكه الديار الجزرية‏.‏

وسبب قبضه عليه أن مظفر الدين كان يراسل صلاح الدين كل وقت ويشير عليه بقصد الموصل ويحسن له ذلك ويقوي طمعه حتى إنه بذل له إذا سار إليها خمسين ألف دينار فلما وصل صلاح الدين إلى حران لم يف له بما بذل من المال وأنكر ذلك فقبض عليه ووكل به ثم أطلقه وأعاد إليه مدينتي حران والرها وكان قد أخذهما منه وإنما أطلقه لأنه خاف انحراف الناس عنه بالبلاد الجزرية لأنهم كلهم علموا بما اعتمده مظفر الدين معه من تمليكه البلاد فأطلقه‏.‏

وسار صلاح الدين عن حران في ربيع الأول فحضر عنده عساكر الحصن ودارا ومعز الدين سنجر شاه صاحب الجزيرة وهو ابن عز الدين صاحب الموصل وكان قد فارق طاعة عمه بعد قبض مجاهد الدين وسار مع صلاح الدين إلى الموصل فلما وصلوا إلى مدينة بلد سير أتابك عز الدين والدته إلى صلاح الدين ومعها ابنة عمه نور الدين محمود بن زنكي وغيرهما من النساء وجماعة من أعيان الدولة يطلبون منه المصالحة وبذلوا الموافقة والإنجاد بالعساكر ليعود عنهم وإنما أرسلهن لأنه وكل من عنده ظنوا أنهن إذا طلبن منه الشام أجابهن إلى ذلك لا سيما ومعهن ابنة مخدومه وولي نعمته نور الدين فلما وصلن إليه أنزلهن وأحضر أصحابه واستشارهم فيما يفعله ويقوله فأشار أكثرهم بإجابتهن إلى ما طلبن منه وقال له الفقيه عيسى وعلي نب أحمد المشطوب وهما من بلد الهكارية من أعمال الموصل‏:‏ مثل الموصل لا يترك لامرأة فإن عز الدين ما أرسلهن إلا وقد عجز عن حفظ البلد‏.‏

ووافق ذلك هواه فأعادهن خائبات واعتذر بأعذار غير مقبولة ولم يكن إرسالهن عن ضعف ووهن إنما أرسلهن طلبًا لدفع الشر بالتي هي أحسن‏.‏

فلما عدن رحل صلاح الدين إلى الموصل وهو كالمتيقن أنه يملك البلد وكان الأمر بخلاف ذلك فلما قارب البلد نزل على فرسخ منه وامتد عسكره في تلك الصحراء بنواحي الحلة المراقية وكان يجري بين العسكرين مناوشات بظاهر الباب العمادي وكنت إذا ذاك بالموصل وبذل العامة نفوسهم غيظًا وحنقًا لرده النساء فرأى صلاح الدين ما لم يكن يحسبه فندم على رجه النساء ندامة الكسعي حيث فاته حسن الذكر وملك البلد وعاد على الذين أشاروا بردهن باللوم والتوبيخ‏.‏

وجاءته كتب القاضي الفاضل وغيره ممن ليس له هوى في الموصل يقبحون فعله وينكرونه وأتاه وهو على الموصل زين الدين يوسف بن زين الدين صاحب إربل فأنزله ومعه أخوه مظفر الدين كوكبري وغيرهما من الأمراء بالجانب الشرقي من الموصل وسير من المنزلة علي بن أحمد المشطوب الهكاري إلى قلعة الجديدة من بلد الهكارية فحصرها واجتمع عليه من الأكراد والهكارية كثير وبقي هناك إلى أن رحل صلاح الدين عن الموصل‏.‏

وكان عامة الموصل يعبرون دجلة فيقاتلون من الجانب الشرقي من العسكر ويعودون ولما كان صلاح الدين يحاصر الموصل بلغ أتابك عز الدين صاحبها أن نائبه بالقلعة زلفندار يكاتبه ويصدر عن رأيه وضبط الأمور وأصلح ما كان فسد من الأحوال حتى آل الأمر إلى الصلح على ما نذكره إن شاء الله‏.‏

وحضر عند صلاح الدين إنسان بغدادي أقام بالموصل ثم خرج إلى صلاح الدين فأشار عليه بقطع دجلة عن الموصل إلى ناحية نينوى وقال‏:‏ إن دجلة إذا نقلت عن الموصل عطش أهلها فملكناها بغير قتال‏.‏

فظن صلاح الدين أن قوله صدق فعزم على ذلك حتى علم أنه لا يمكن قطعه بالكلية فإن المدة تطول والتعب يكثر ولا فائدة وراءه وقبحه عنده أصحابه فأعرض عنه‏.‏

وأقام بمكانه من أول ربيع الآخر إلى أن قارب آخره ثم رحل عنها إلى ميافارقين‏.‏

وكان سبب ذلك أن شاه أرمن صاحب خلاط توفي بها تاسع ربيع الآخر فوصل الخبر بوفاته في العشرين منه فعزم على الرحيل إليها وتملكها حيث إن شاه أرمن لم يخلف ولدًا ولا أحدًا من أهل بيته يملك بلاده بعده وإنما قد استولى عليها مملوك له اسمه بكتمر ولقبه سيف الدين فاستشار صلاح الدين أمراءه ووزراءه فاختلفوا فأما من هواه بالموصل فيشير بالمقام وملازمة الحصار لها وأما من يكره أذى البيت الأتابكي فإنه أشار بالرحيل وقال‏:‏ إن ولاية خلاط أكبر وأعظم وهي سائبة لا حافظ لها و هذه لها سلطان يحفظها ويذب عنها وإذا ملكنا تلك سهل أمر هذه وغيرها فتردد في أمره فاتفق أنه جاءه كتب جماعة من أعيان خلاط من أهلها وأمرائها يستدعونه ليسلموا إليه البلد فسار عن الموصل وكانت مكاتبة من كاتبه خديعة ومكرًا فإن شمس الدين البهلوان بن إيلدكز صاحب أذربيجان وهمذان وتلك المملكة قد قصدهم ليأخذ البلاد منهم وكان قبل ذلك قد زوج شاه أرمن على كبر سنه بنتًا له ليجعل ذلك طريقًا إلى ملك خلاط وأعمالها فلما بلغهم مسيره إليهم كاتبوا صلاح الدين يستدعونه إليهم ليسلموا البلد إليه ليدفعوا به البهلوان يدفعوه بالبهلوان ويبقى البلد بأيديهم فسار صلاح الدين وسير في مقدمته ابن عمه ناصر الدين محمد بن شيركوه ومظفر الدين بن زين الدين وغيرهم فساروا إلى خلاط ونزلوا بطوانة بالقرب من خلاط وسار صلاح الدين إلى ميافارقين وأما البهلوان فإنه سار إلى خلاط ونزل قريبًا منها وترددت رسل أهل خلاط بينهم وبينه وبين صلاح الدين ثم

  ذكر وفاة نور الدين صاحب الحصن

في هذه السنة توفي نور الدين محمد بن قرا أرسلان بن داود صاحب الحصن وآمد لما كان صلاح الدين على الموصل وخلف ابنين فملك الأكبر منهما واسمه سقمان ولقبه قطب الدين وتولى تدبير الأمور وزيره القوام بن سماقا الأسعردي‏.‏

وكان عماد الدين بن قرا أرسلان قد سيره أخوه نور الدين في عساكره إلى صلاح الدين وهو يحاصر الموصل وهو معه فلما بلغه خبر وفاة أخيه سار ليملك البلاد بعد لصغر أولاده فتعذر عليه ذلك فسار إلى خرت برت فملكها وهي بيد أولاده إلى سنة عشرين وستمائة ولما حصر صلاح الدين ميافارقين حضر عنده ولد نور الدين فأقره على ملك أبيه ومن جملته آمد وكانوا خافوا أن يأخذها منهم فلم يفعل وردهم إلى بلادهم وشرط عليهم أن يراجعوه فيما يفعلونه ويصدروا عن أمره ونهيه ورتب معه أميرًا لقبه صلاح الدين من أصحابه أبيه‏.‏

  ذكر ملك صلاح الدين ميافارقين

لما سار صلاح الدين إلى خلاط جعل طريقه على ميافارقين مطمع ملكها حيث كان صاحبه قطب الدين صاحب ماردين قد توفي كما ذكرنا وملك بعد ابنه وهو طفل وكان حكمها إلى شاه أرمن وعسكره فيها فلما توفي طمع في أخذها فلما نازلها رآها مشحونة بالرجال وبها زوجة قطب الدين المتوفي ومعها بنات لها منه وهي أخت نور الدين محمد صاحب الحصن فأقام صلاح الدين عليها يحصرها من أول جمادى الأولى‏.‏

وكان المقدم على أجنادها أميرًا اسمه يرنقش ولقبه أسد الدين وكان شجاعًا شهمًا يحفظ البلد فأحسن إليه واشتد القتال عليه ونصبت المجانيق والعرادات فلم يصل صلاح الدين إلى ما يريد منها فلما رأى ذلك عدل عن القوة والحرب إلى أعمال الحيلة فراسل امرأة قطب الدين المقيمة بالبلد يقول لها‏:‏ إن أسد الدين يرنقش قد مال إلينا في تسليم البلد ونحن نرعى حق أخيك نور الدين فيك بعد وفاته ونريد أن يكون لك في هذا الأمر نصيب وأنا أزوج بناتك بأولادي وتكون ميافارقين وغيرها لك وبحكمك ووضع من أرسل إلى أسد يعرفه أن الخاتون قد مالت للمقاربة والانقياد إلى السلطان وأن من بخلاط قد كاتبوه ليسلموا إليه فخذ لنفسك‏.‏

واتفق أن رسولًا وصله من خلاط يبذلون له الطاعة وقالوا له من الاستدعاء إليهم ما كانوا يقولونه فأمر صلاح الدين الرسول فدخل إلى ميافارقين وقال لأسد‏:‏ أنت عمن تقاتل وأنا قد جئت في تسليم خلاط إلى صلاح الدين‏!‏ فسقط في يده وضعفت نفسه وأرسل يقترح أقطاعًا ومالًا فأجيب إلى ذلك وسمل البلد سلخ جمادى الأولى وعقد النكاح لبعض أولاده على بعض