فصل: المقياس الأول: موافقة العربية ولو بوجه:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المدخل إلى علوم القرآن الكريم



.المقياس الأول: موافقة العربية ولو بوجه:

الأصل في القراءة الصحيحة أن تكون موافقة لقواعد اللغة العربية، نظرا لأن القرآن نزل بلغة عربية، ولا يتصور أن تكون هناك قراءة ليست متلائمة مع القواعد النحوية، ومع هذا فإن علماء القراءات يعتمدون في صحة القراءة القرآنية على الإسناد الصحيح، ولا يبحثون عن مطابقة القراءة للقواعد النحوية، قال (الداني):
(وأئمة القراءة لا تعمل في شيء من حروف القرآن على الأفشى في اللغة والأقيس في العربية بل على الأثبت في الأثر والأصح في النقل، والرواية إذا ثبتت عنهم لم يردها قياس عربية ولا فشو لغة، لأن القراءة سنة متبعة يلزم قبولها والمصير إليها).
ولا يحتج البصريون بالقراءات إلا حينما تتفق مع أصولهم، ويرى الكوفيون أن القراءات يجب أن تشتق منها المقاييس النحوية لأن سندها الرواية، وهي أقوى في مجال الاستشهاد من الشعر، وهذا هو الأصل، إذ لا يتصور أن يتم الاستشهاد بالشعر وهو قول بشر، ولا يحتج بالقراءات في مجال النحو، وانتقد ابن حزم موقف البصريين في ذلك...
ولا شك أن هذا الخلاف بين القراء والنحويين أدى إلى نشاط لغوي كبير، وازدهرت بفضله حركة النقد والتخريج للقراءات، وقد أثرى هذا الخلاف المدارس النحوية، وعمق حوارها اللغوي...

.المقياس الثاني: موافقة أحد المصاحف العثمانية ولو احتمالا:

وهذا المقياس يجعل المصاحف العثمانية هي الأساس في القراءات القرآنية، بحيث تتوافق القراءة الثابتة عن طريق النقل والرواية بما جاء في المصاحف العثمانية ولو احتمالا، لأن الرسم العثماني قد يخالف بعض القراءات، في زيادة حرف أو نقصانه أو إدغامه في حرف آخر، كما في قوله: {مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}، فقد كتبت بغير ألف في الرسم القرآني، وكذلك قوله: وأوصى، ووصّى.
وأكد ابن الجزري أن مخالف صريح الرسم في حرف مدغم أو مبدل أو ثابت أو محذوف أو نحو ذلك لا يعد مخالفا إذا ثبتت القراءة به ووردت مشهورة مستفاضة وفرق بين مخالفة الرسم في زيادة حرف زائد أو نقصانه وبين مخالفة الرسم بزيادة كلمة أو نقصانها، ولو كانت تلك الكلمة حرفا من حروف المعاني، فإن حكم ذلك الحرف كحكم زيادة أو نقصان كلمة، ولا تجوز مخالفة الرسم فيه.
وهذا معيار دقيق في طبيعة العلاقة بين القراءات القرآنية والرسم العثماني، فالمصحف العثماني هو المصحف الذي أجمعت الأمة على قبوله والرسم العثماني هو النص القرآني الثابت، ولا يجوز لأية قراءة أن تخالفه أو تخرج عنه بإضافة كلمة أو نقصانها، ما لم يكن ذلك الاختلاف محصورا في حرف لا يترتب عليه أي تغيير في المعنى كحروف الزوائد.

.المعيار الثالث: صحة السند:

يشترط في القراءة القرآنية الصحيحة والمعتمدة والمقبولة أن يكون سندها صحيحا، بنقل العدل الضابط عن مثله، وتكون مشهورة عند القراء الثقات، فإذا لم تكن القراءة صحيحة السند بنقل الثقات فلا تقبل، ولو وافقت الرسم القرآني، واشترط بعض العلماء التواتر في الرواية، فإذا انتفى النقل في القراءة فلا مجال لقبولها، وإن جاءت موافقة لكل من الرسم وقواعد العربية، لأن النقل هو الشرط الأهم في إثبات القراءات...
والأجدر في هذا المجال أن يقال بأن المقياس في قبول القراءات صحة الرواية وهو شرط وحيد ومقياس لا خلاف فيه، ولكي يتم اعتماد هذا النقل لابد فيه من موافقة تلك القراءة لقواعد العربية والرسم القرآني، واعتبار مقياس النقل هو الأساس يخرجنا من تناقض واضح فيما يتعلق بأهمية المقاييس الثلاثة، ومقياس الرسم هو قرينة لصحة الرواية، ولا يمكن اعتباره كافيا في قبول القراءة...
ونقل السيوطي في الإتقان عن الكواشي قوله:
(كل ما صح سنده واستقام وجهه في العربية ووافق خط المصحف الإمام فهو من السبعة المنصوصة، ومتى فقد شرط من الثلاثة فهو الشاذ).
وأكد (ابن الجزري) مقاييسه للتفريق بين القراءات الصحيحة والقراءات الشاذة والضعيفة في أول كتابه (النشر):
كل قراءة وافقت العربية ولو بوجه ووافقت أحد المصاحف العثمانية ولو احتمالا وصح سندها فهي القراءة الصحيحة التي لا يجوز ردها، ولا يحل إنكارها، بل هي من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن، ووجب على الناس قبولها سواء كانت عن الأئمة السبعة أم عن العشرة أم عن غيرهم من الأئمة المقبولين، ومتى اختل ركن من هذه الأركان الثلاثة أطلق عليها ضعيفة أو شاذة أو باطلة سواء كانت عن السبعة أم عمن هو أكبر منهم، هذا هو الصحيح عند أئمة التحقيق من السلف والخلف.
وقال أبو شامة في المرشد الوجيز:
لا ينبغي أن يغتر بكل قراءة تعزى إلى أحد السبعة ويطلق عليها لفظ الصحيحة. وأنها أنزلت هكذا، إلا إذا دخلت في ذلك الضابط، وحينئذ لا ينفرد بنقلها مصنف عن غيره، ولا يختص ذلك بنقلها عنهم، بل إن نقلت عن غيرهم من القراء فذلك لا يخرجها عن الصحة، فإن الاعتماد على استجماع تلك الأوصاف لا على من تنسب إليه، فإن القراءة المنسوبة إلى كل قارئ من السبعة وغيرهم منقسمة إلى المجمع عليه والشاذ، غير أن هؤلاء السبعة لشهرتهم وكثرة الصحيح المجمع عليه في قراءتهم تركن النفس إلى ما نقل عنهم فوق ما ينقل عن غيرهم.
ثم شرح (ابن الجزري) هذه المعايير والضوابط، من حيث موافقة العربية ولو بوجه، أي نريد به وجها من وجوه النحو سواء كان أفصح أم فصيحا، ونعني بموافقة أحد المصاحف ما كان ثابتا في بعضها دون بعض، وموافقة الرسم ولو احتمالا ولو تقديرا.

.القراءات الشاذة:

يراد بالقراءات الشاذة تلك القراءات التي لم تبلغ درجة الصحة في ثبوتها، وفي رأي ابن مجاهد أن القراءات السبعة هي القراءات الصحيحة، وما عداها فهو قراءات شاذة، ولم يوافق العلماء على هذا التحديد، ووضعوا مقاييس للقراءة الصحيحة والشاذة، وهي أن كل قراءة توفرت فيها شروط القبول الثلاثة تعتبر قراءة صحيحة، وما لم تتوفر فيه تلك الشروط من حيث الصحة وموافقة العربية والرسم العثماني فهو شاذ، وانتقد العلماء تحديد القراءات الصحيحة بسبعة قراءات، ورأوا أن تطبيق المقاييس هي الطريق الأدق لمعرفة القراءات الصحيحة من القراءات الشاذة...
واهتم العلماء بالقراءات الشاذة، من حيث إثبات الشذوذ والضعف فيها، وأفردوا لها مؤلفات قيمة، وناقشوا مواطن الشذوذ فيها، وحكم القراءة بها.
ومن أهم الكتب التي ألّفت في القراءات الشاذة، كتاب المحتسب لابن جني، وإعراب القراءات الشواذ للعكبري، وكتاب الشواذ لأبي العباس المعروف بثعلب النحوي، وكتاب المصاحف لأبي داود السجستاني، وكتاب الشواذ لابن مجاهد، وكتاب البديع لابن خالويه وكتاب المحتوى في القراءات الشواذ لأبي عمرو الداني، واللوامح لأبي فضل الرازي، وشوق العروس لأبي معشر الطبري القطان...
واختلف العلماء في حكم الصلاة بالقراءة الشاذة على أقوال:
الأول: عدم جواز الصلاة بالقراءة الشاذة، لعدم ثبوت هذه القراءات عن النبي صلى الله عليه وسلم، وذهب إلى هذا الرأي جمهور العلماء.
الثاني: جواز الصلاة بالقراءة الشاذة، نسب إلى الشافعي وأبي حنيفة.
الثالث: لا يجوز أن يقرأ بها في القراءة الواجبة في الصلاة لعدم التيقن من أداء الواجب، ويجوز أن يقرأ بها فيما عدا ذلك.

.فوائد اختلاف القراءات:

لخص السيوطي فوائد اختلاف القراءات بما يلي:
أولا: التهوين والتخفيف على الأمة...
ثانيا: إظهار شرف الأمة الإسلامية وفضلها بما ميزها الله به على غيرها من الأمم.
ثالثا: إعظام الأجر على تحقيق كتاب الله وضبط لفظه وتتبع معانيه واستنباط أحكامه وحكمه والكشف عن أوجه التعليل والترجيح فيه..
رابعا: إظهار سر الله في كتابه وصيانته له عن التبديل والاختلاف.
خامسا: المبالغة في إعجازه بإيجازه عن طريق تنوع القراءات..
سادسا: إظهار بعض المعاني في بعض القراءات مما يجهل في القراءات الأخرى، ولا شك أن ظاهرة تعدد القراءات تؤكد لنا حقيقة أساسية تتمثل في أمرين اثنين:
الأمر الأول: عناية العلماء بكتاب الله، وحرصهم على ضبط القراءات القرآنية التي ثبت عن طريق النقل الصحيح بالسند المتصل الموثوق بروايته أنها من أوجه القراءات التي أقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم واعتمدها تيسيرا على الأمة ومراعاة لتعدد لهجاتها وطرقها في التعبير، وأساليبها في الخطاب.
الأمر الثاني: توقيف كل ما يتعلق بالقرآن، قراءة له، ورسما لكلماته وحروفه، وأداء لألفاظه، وضبطا لكيفيات نطق كلماته وعباراته، بحيث تقتصر مهمة القراء على تتبع الروايات المنقولة عن الثقات والتأكد من حصة تلك الروايات..
والفرق بين الرواية الصحيحة والرواية الشاذة يظهر في مدى قوة السند وضبط الرواة، وإذا كانت المقاييس لقبول القراءة الصحيحة تشترط لقبول الرواية بالإضافة إلى صحة السند ملائمة القراءة لكل من قواعد اللغة والرسم العثماني، فإن صحة السند هي الأساس وهي المعيار الأقوى والأكثر سدادا واعتبارا في هذا الموضوع.
واشترط العلماء الدقة في كل ما يتعلق بالقرآن، والضبط في نقل القراءات عن القراء من الصحابة والتابعين الذين اشتهروا بالإقراء وحسن المعرفة بالقرآن...

.أنواع القراءات:

نقل السيوطي عن القاضي جلال الدين البلقيني قوله:
القراءة تنقسم إلى متواتر وآحاد وشاذ، فالمتواتر: القراءات السبعة المشهورة، والآحاد: قراءات الثلاثة التي هي تمام العشر، ويلحق بها قراءة الصحابة، والشاذ: قراءات التابعين كالأعمش ويحيى بن ثابت وابن جبير ونحوهم.
ولم يوافقه على هذا التقسيم وقال: (هذا الكلام فيه نظر)، واختار السيوطي كلام ابن الجزري في كتابه النشر الذي وضع معيارا موضوعيا للقراءة الصحيحة ومقياسا دقيقا، وهي الرواية التي صح سندها ووافقت العربية ولو بوجه، ووافقت أحد المصاحف العثمانية ولو احتمالا وفسر ابن الجزري معنى قوله وافقت العربية (ولو بوجه) نريد به وجها من وجوه النحو، سواء كان أفصح أم فصيحا مجمعا عليه أم مختلفا فيه، وقسم السيوطي القراءات إلى ستة أنواع:
الأول: المتواتر: وهو ما نقله جمع لا يمكن تواطؤهم على الكذب، عن مثله إلى منتهاه، وغالب القراءات كذلك.
الثاني: المشهور: وهو ما صح سنده ولم يبلغ درجة التواتر ووافق العربية والرسم، واشتهر عند القراء، فلم يعدوه من الغلط ولا من الشذوذ... ومثاله ما اختلفت الطرق في نقله عن السبعة، فرواه بعض الرواة عنهم دون بعض...
الثالث: الآحاد: وهو ما صح سنده وخالف الرسم أو العربية أو لم يشتهر الاشتهار المذكور، ولا يقرأ به، من ذلك ما أخرجه الحاكم في مستدركه عن أبي بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ: {مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ} [الرحمن: 76]، ومن حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17].
الرابع: الشاذ: وهو ما لم يصح سنده ومنه قراءة: ملك يوم الجنّة وهم هذا ينفقون رزقناهم المضاجع يستكبرون بصيغة الماضي ونصب يوم.
الخامس: الموضوع: وهو ما ثبت أنه ليس له أصل، كقراءات أبي جعفر الخزاعي التي نسبها إلى أبي حنيفة.
السادس: وهو ما يشبه حديث المدرج، ويراد به الزيادة على وجه التفسير، كقراءة سعد: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [في مواسم الحج] [البقرة: 198].
قال ابن الجزري:
ربما كانوا يدخلون التفسير في القراءة إيضاحا وبيانا، لأنهم محققون لما تلقوه عن النبي صلى الله عليه وسلم قرآنا، فهم آمنون من الالتباس، وربما كان بعضهم يكتبه معه.
وقال السيوطي:
لا خلاف أن كل ما هو من القرآن يجب أن يكون متواترا في أصله وأجزائه، ولما في محله ووضعه وترتيبه.. للقطع بأن العادة تقضي بالتواتر في تفاصيل مثله، لأن هذا المعجز العظيم الذي هو أصل الدين القويم والصراط المستقيم مما تتوفر الدواعي على نقل جمله وتفاصيله، فما نقل آحادا ولم يتواتر يقطع بأنه ليس من القرآن قطعا.
العشر الذي يعتبر حجة في القراءات، ووصفه السيوطي بقوله: (أتقن الإمام ابن الجزري هذا الفصل جدا)، وفي مجال التساؤل عما يقبل من القرآن الآن فيقرأ به، وما لا يقبل ولا يقرأ به قال ابن الجزري:
أولا: قسم يقرأ به اليوم وذلك ما اجتمع فيه ثلاث خلال، وهي أن ينقل عن الثقات عن النبي صلى الله عليه وسلم ويكون وجهه في العربية التي نزل بها القرآن سائغا، ويكون موافقا لخط المصحف، فإذا اجتمعت فيه هذه الخلال الثلاث قرئ به وقطع على مغيبه وصحته وصدقه لأنه أخذ عن إجماع من جهة موافقة خط المصحف وكفر من جحده..
ثانيا: ما صح نقله عن الآحاد وصح وجهه في العربية وخالف لفظه خط المصحف فهذا يقبل ولا يقرأ به لعلتين:
إحداهما: أنه لم يؤخذ بإجماع إنما أخذ بأخبار الآحاد، ولا يثبت قرآن يقرأ به بخبر الواحد.
والعلة الثانية: أنه مخالف لما قد أجمع عليه فلا يقطع على مغيبه وصحته، وما لم يقطع على صحته لا يجوز القراءة به، ولا يكفر من جحده، ولبئس ما صنع إذا جحده.
ثالثا: ما نقله غير ثقة أو نقله ثقة ولا وجه له في العربية، فهذا لا يقبل وإن وافق خط المصحف....
ثم قال بعد ذلك:
واختلف العلماء في جواز القراءة بذلك في الصلاة، فأجازها بعضهم لأن الصحابة والتابعين كانوا يقرءون بهذه الحروف في الصلاة، وهذا أحد القولين لأصحاب الشافعي وأبي حنيفة وإحدى الروايتين عن مالك وأحمد، وأكثر العلماء على عدم الجواز، لأن هذه القراءات لم تثبت متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم وإن ثبتت بالنقل فإنها منسوخة بالعرضة الأخيرة أو بإجماع الصحابة على المصحف العثماني، أو أنها لم تنقل إلينا نقلا يثبت بمثله القرآن أو أنها لم تكن من الأحرف السبعة، كل هذه مآخذ للمانعين، وتوسط بعضهم فقال: إن قرأ بها في القراءة الواجبة وهي الفاتحة عند القدرة على غيرها لم تصح صلاته، لأنه لم يتيقن أنه أدى الواجب من القراءة.... وإن قرأ بها فيما لا يجب لم تبطل، لأنه لم يتيقن أنه أتى في الصلاة بمبطل، لجواز أن يكون ذلك من الحروف التي أنزل عليها القرآن.