فصل: رأي السيوطي في المكثرين في النسخ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المدخل إلى علوم القرآن الكريم



.رأي السيوطي في المكثرين في النسخ:

أشار السيوطي إلى ظاهرة الإكثار من آيات النسخ، ووصف العلماء المكثرين من آيات النسخ بأنهم أدخلوا أقساما في النسخ ليست منه، وأهم هذه الأقسام:
الأول: قسم ليس من النسخ في شيء ولا من التخصيص، ولا له بهما علاقة بوجه من الوجوه، وذلك مثل قوله تعالى: {وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ}. وقالوا: إنه منسوخ بآية الزكاة، وليس كذلك بل هو باق... وكذلك القول بأن قوله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ}، مما نسخ بآية السيف، لأنه تعالى أحكم الحاكمين أبدا، وهذا الكلام لا يقبل النسخ.
الثاني: قسم هو من قسم المخصوص لا من قسم المنسوخ، وقد اعتنى ابن العربي بتحرير هذا القسم وأجاد فيه، ويشمل هذا القسم الآيات التي خصت باستثناء أو غاية، كقوله تعالى: {إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا}، {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ}. وقد أخطأ من أدخلها في المنسوخ.
الثالث: قسم رفع ما كان عليه الأمر في الجاهلية أو في شرائع من قبلنا أو في أول الإسلام، ولم ينزل فيه قرآن، كإبطال نكاح نساء الآباء، ومشروعية القصاص والدية وحصر الطلاق في الثلاث، والراجح عند العلماء عدم اعتبار هذا من النسخ، لأن الأحكام الشرعية كلها رافعة لما كان عليه العمل في الجاهلية، والنسخ هو نسخ آية بأخرى أو رفع حكم ثبت بدليل بحكم لاحق يثبت بدليل أيضا.
واعتبر ابن العربي المعافري عدد الآيات المنسوخة لا تتجاوز مائة آية، خمس وسبعون آية منها منسوخة بآيات القتال، وذهب ابن حزم في كتابه معرفة الناسخ والمنسوخ أن آيات النسخ تبلغ مائتين وأربع عشرة آية، وذهب أبو جعفر النحاس في كتابه: (الناسخ والمنسوخ) إلى أنها تبلغ مائة وأربعا وثلاثين آية، وأوصلها ابن سلامة الضرير إلى مائتين وثلاث عشرة آية، وقصرها عبد القاهر البغدادي في كتابه الناسخ والمنسوخ إلى ست وستين آية.

.قواعد النسخ عند ابن العربي:

استخرج الدكتور عبد الكبير العلوي المدغري ثلاثين قاعدة من قواعد النسخ من كتاب الناسخ والمنسوخ لابن العربي المعافري، وسجلها في معرض دراسته وتحقيقه لهذا الكتاب، وأهم هذه القواعد ما يلي:
1- كل قول وعمل كان بعد النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لا يجوز أن يكون ناسخا ولو كان إجماعا.
2- لا يجوز نسخ حكم في الشريعة بعد استئثار الله بالرسول صلى الله عليه وسلم.
3- لا ينسخ الإجماع القرآن والسنة.
4- إن كان الإجماع ينعقد على نظر، لم يجز أن ينسخ، وإن انعقد على أثر جاز أن يكون ناسخا، ويكون الناسخ الخبر الذي انبنى عليه الإجماع.
5- حكم الجاهلية ليس بحكم فيرفعه آخر، وإنما هو باطل كله.
6- إن كان الخبر عن الشرع فيدخل فيه النسخ لدخوله في المخبر عنه، فالخبر إنما يكون على وفق المخبر عنه، وإن كان القول في الوعد والوعيد فلا يدخل فيه النسخ بحال، لأنه لا يحتمل التبديل، إذ التبديل فيه كذب، ولا يجوز ذلك على الله سبحانه.
7- الخبر ينسخ إذا دخله التكليف، لأنه يكون حينئذ خبرا عن الشرع، فينسخ الخبر بنسخ المخبر، وإنما يمتنع نسخ الخبر الذي لا ينسخ خبره.
8- لا نسخ في الوعد والوعيد وإنما تنسخ الأحكام.
9- كل تهديد في القرآن منسوخ بآيات القتال.
10- الزيادة في التكليفات بعد حصرها بالنفي والإثبات لا تعد نسخا.
11- الحكم المحدود إلى غاية لا تكون الغاية ناسخة له.
12- الاستثناء ليس بنسخ باتفاق من العقلاء وأرباب اللغة، وإنما هو نوع من التخصيص.
13- خبر الواحد لا ينسخ القرآن إجماعا.
14- خبر الواحد إذا اجتمعت الأمة على نقله أو على معناه جاز نسخ القرآن به.
15- النسخ إنما يدخل في الأحكام لا في التوحيد.
16- المتقدم لا ينسخ المتأخر عقلا ولا شرعا.
17- إذا جهل التاريخ بطلت دعوى النسخ بكل حال.
18- القرآن ينسخ السنة والسنة تنسخ القرآن.
19- لا ينسخ المنقول إلا المنقول.
وهذه القواعد ترسخ منهج ابن العربي في فهمه للناسخ والمنسوخ، وهي قواعد هامة، وتحتاج لدراسة عميقة، لوضع أسس نظرية ابن العربي في النسخ، وهي نظرية متميزة دقيقة محكمة، تقيم أساسا متينا لكل ما يتعلق بالنسخ في القرآن الكريم.

.الفصل الحادي عشر: رسم القرآن:

تطلق كلمة (الرسم القرآني) على الكتابة القرآنية التي كتب بها مصحف عثمان، وجاء هذا الرسم مخالفا في بعض الكلمات لما اقتضته قواعد الإملاء وليس متطابقا مع اللفظ المنطوق.
وتتميز المصاحف العثمانية برسم مغاير لما ألفته الكتابة المعتادة، وهذه الظاهرة دفعت العلماء إلى تفسير هذا الغموض، في محاولة جادة لوضع قواعد الرسم القرآني، ملتمسين أوجه الحكمة في هذا الرسم.
ومن أبرز العلماء الذين أفردوا هذا الموضوع بالتأليف: أبو عمرو الداني في كتابه: (المقنع) وأبو العباس المراكشي المعروف بابن البناء في كتابه: (عنوان الدليل في رسوم خط التنزيل)، والشيخ محمد خلف الحسيني في كتابه: (مرشد الحيران إلى معرفة ما يجب اتباعه في رسم القرآن)، وفي شرحه لأرجوزة (اللؤلؤ المنظوم في ذكر جملة من المرسوم).
ومعظم العلماء الذين كتبوا في علوم القرآن خصصوا فصلا مستقلا لعلم مرسوم الخط، ووضعوا قواعد للرسم القرآني، وتحدث الزركشي في البرهان عن الرسم القرآني، كما تحدث السيوطي في الإتقان عن (مرسوم الخط القرآني وآداب كتابته).

.أقوال العلماء في الرسم القرآني:

اختلف العلماء في حكم الرسم القرآني من حيث وجوب الالتزام به، وهناك آراء متعددة في الموضوع، ونستطيع أن نلخص هذه الآراء بما يلي:

.الرأي الأول: الرسم القرآني توقيفي:

ذهب جمهور العلماء إلى أن الرسم القرآني توقيفي، ولا يجوز أن يكتب القرآن إلا برسمه، لأنه الرسم الذي ارتضاه الصحابة الذين كتبوا القرآن بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الرسم الذي أجمعت عليه الأمة.
واستدل من قال بهذا الرأي بما روي عن جمهور العلماء من دعوتهم إلى ضرورة الالتزام بالرسم القرآني وعدم الزيادة والنقصان فيه، وحرم بعضهم مخالفة هذا الرسم.
قال أحمد بن حنبل: (تحرم مخالفة خط مصحف عثمان في واو أو ألف أو ياء أو غير ذلك).
وقال البيهقي في شعب الإيمان: (من كتب مصحفا ينبغي أن يحافظ على الهجاء الذي كتبوا به تلك المصاحف ولا يخالفهم فيه ولا يغير مما كتبوه شيئا، فإنهم كانوا أكثر علما وأصدق قلبا وأعظم أمانة، فلا ينبغي أن نظن بأنفسنا استدراكا عليهم).
وقال أشهب: سئل مالك رحمه الله:
(هل تكتب المصحف على ما أخذته الناس من الهجاء؟ فقال: لا، إلا على الكتبة الأولى، رواه أبو عمرو الداني في المقنع ثم قال: ولا مخالف له من علماء الأمة).
وقال النيسابوري: (وقال جماعة الأئمة إن الواجب على القراء والعلماء وأهل الكتابة أن يتبعوا هذا الرسم في خط المصحف، فإنه رسم زيد بن ثابت وكان أمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وكاتب وحيه).
وقال ابن فارس في فقه اللغة: الذي نقوله: إن الخط توقيفي، لقوله تعالى: {عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ}، و:{ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ}، وإن هذه الحروف داخلة في الأسماء التي علم الله آدم.

.الرأي الثاني: الرسم القرآني اجتهادي:

ذهب بعض العلماء ومنهم الباقلاني وابن خلدون إلى أن رسم القرآن اجتهادي، ولا مجال للتوقيف في مجال الإملاء الذي تحكمه قواعد، ونفى الباقلاني أن يكون هناك أي دليل يثبت التوقيف في الرسم، والتوقيف يحتاج إلى دليل.
وقال في كتابه الانتصار: وأما الكتابة فلم يفرض الله على الأمة فيها شيئا، إذ لم يأخذ على كتاب القرآن وخطاط المصاحف رسما بعينه دون ما أوجبه عليهم وترك ما عداه، إذ وجوب ذلك لا يدرك إلا بالسمع والتوقيف، وليس في نصوص الكتاب ولا مفهومه أن رسم القرآن وضبطه لا يجوز إلا على وجه مخصوص وحد محدود، لا يجوز تجاوزه، ولا في نص السنة ما يوجب ذلك ويدل عليه، ولا في إجماع الأمة ما يوجب ذلك، ولا دلت عليه القياسات الشرعية.
وأكد الباقلاني أن السنة دلت على جواز رسمه بأي وجه سهل لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يأمر برسمه، ولم يبين لهم وجها معينا ولا نهى أحدا عن كتابته، ولذلك اختلفت خطوط المصاحف، فمنهم من كان يكتب الكلمة على مخرج اللفظ، ومنهم من كان يزيد وينقص لعلمه بأن ذلك اصطلاح وأن الناس لا يخفى عليهم الحال، ولأجل هذا بعينه جاز أن يكتب بالحروف الكوفية والخط الأول، وأن يجعل اللام على صورة الكاف وأن تعوج الألفات وأن يكتب على غير هذه الوجوه.
وعلل ذلك بأن الخطوط إنما هي علامات ورسم تجري مجرى الإشارات والعقود والرموز، فكل رسم دال على الكلمة مقيد لوجه قراءتها تجب صحته، وتصوير الكاتب به على أي صورة كانت.
وختم الباقلاني كلامه بأن كل من ادعى أنه يجب على الناس رسم مخصوص وجب عليه أن يقيم الحجة على دعواه، وأنّى له ذلك.
وتطرف ابن خلدون وابتعد، وتحدث عن الرسم القرآني في مقدمته خلال كلامه عن الحضارة والعمران وربط بين الحضارة والكتابة، فالكتابة تزدهر بازدهار العمران وتتراجع بتراجعه، وكلما كانت الأمة أقرب إلى البداوة كانت أبعد عن صناعة الكتابة، لأن الكتابة صناعة، والصناعة لا تزدهر إلا في ظل الحضارة.
وقال في معرض كلامه عن الكتابة عند العرب: وانظر ما وقع لأجل ذلك في رسمهم المصحف حيث رسمه الصحابة بخطوطهم، وكانت غير مستحكمة في الإجادة، فخالف الكثير من رسومهم ما اقتضته أقيسة رسوم صناعة الخط عند أهلها، ثم اقتفى التابعون من السلف رسمهم فيه تبركا بما رسمه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخير الخلق من بعده المتعلقون بوحيه من كتاب الله وكلامه، كما يقتفى لهذا العهد خط ولي أو عالم تبركا، ويتبع رسمه خطأ أو صوابا.
ولا تلتفتن في ذلك إلى ما يزعمه بعض المغفلين من أنهم كانوا محكمين لصناعة الخط، وأن ما يتخيل من مخالفة خطوطهم لأصول الرسم ليس كما يتخيل...
(وما حملهم على ذلك إلا اعتقادهم أن في ذلك تنزيها للصحابة عن توهم النقص من قلة إجادة الخط، وحسبوا أن الخط كمال فنزهوهم عن نقصه، ونسبوا إليهم الكمال بإجادته، وطلبوا تعليل ما خالف الإجادة من رسمه وذلك ليس بصحيح).
ثم قال بعد ذلك:
(واعلم أن الخط ليس بكمال في حقهم، إذ الخط من جملة الصنائع المدنية المعاشية، كما رأيته فيما مر، والكمال في الصنائع إضافي، وليس بكمال مطلق، إذ لا يعود نقصه على الذات في الدين ولا في الخلال، وإنما يعود على أسباب المعاش وبحسب العمران والتعاون عليه لأجل دلالته على ما في النفوس).
وتبرز خطورة رأي ابن خلدون فيما طرحه في جرأته على كتاب الوحي، وجمّاع القرآن من حيث عدم إجادتهم قواعد الإملاء، وعدم تمكنهم من الكتابة الصحيحة، وتأكيده على وجود أغلاط إملائية في الرسم القرآني، وهذا اتجاه خطير، ولا يمكن التسليم به، لأنه يتعلق بكتاب الله أولا، ولأنه لا يحترم خصوصية الرسم القرآني ثانيا.
ويختلف رأي ابن خلدون عن رأي الباقلاني من حيث تفسير ظاهرة الرسم القرآني، فالباقلاني اكتفى بالقول بعدم التوقيف في مجال الرسم، لعدم قيام الدليل على ذلك، ولكن ابن خلدون اعتبر الرسم القرآني ناتجا عن جهل العرب بقواعد الإملاء بسبب انتشار البداوة التي تضعف الاهتمام بصناعة الكتابة، وهذا قول كبير وادعاء خطير.
وليس هناك أي دليل عليه، ولم يفرق ابن خلدون بين جودة الخط وأناقة الرسم وبين صحة الإملاء ومعرفة قواعد اللغة، وإذا صح أن جودة الخطوط تتعلق بالحضارة والعمران، فإن صحة الإملاء لا علاقة لها بالعمران، وربما أفسدت الحضارة الكثير من قواعد اللغة والإملاء، لأن الحضارة توجه الاهتمام إلى مظاهر الترف، وتبعد الفرد عن أصالته وتضعف لديه القدرة على التركيز.
ولا خلاف في أن الخط ليس بكمال في حق الصحابة وكتاب الوحي، ولا يتفاضل الصحابة بجودة الخطوط وحسن الرسوم، فذلك فن يحتاج إلى إعداد وتكوين وتعليم، إلا أن ذلك كله لا يمكن أن يكون حجة على ما يقوله ابن خلدون من وقوع أخطاء إملائية في الرسم القرآني، وذلك دليل قصور، وهذا أمر مرفوض بالنسبة لجماع القرآن.
ولو توقف ابن خلدون عند حدود القول بأن الرسم القرآني أمر اجتهادي، ولا مجال للتوقيف فيه لكان الأمر مقبولا، وبخاصة وأن بعض العلماء ذهبوا إلى ذلك، واعتبروا أن القضايا التوقيفية تحتاج إلى دليل، وردّ الفريق الذي قال بالتوقيف على من قال بالاجتهاد أن الدليل موجود، ويتمثل الدليل في إقرار الرسول صلى الله عليه وسلم للرسم القرآني، كما كتبه كتاب الوحي، وكان صلى الله عليه وسلم يوجههم في بعض الأحيان ويعلمهم كيف ترسم بعض الكلمات.
وفضلا عن هذا، فقد انعقد الإجماع على الإشادة بالرسم القرآني، ومحاولة استكشاف جوانب الخصوصية في هذا الرسم، ولم يقل أحد بما انفرد به ابن خلدون من القول بأن الرسم القرآني مخالف لقواعد الإملاء بسبب جهل الصحابة بتلك القواعد.
وقد أوردت في كتابي (الفكر الخلدوني من خلال المقدمة) رأي ابن خلدون في رسم القرآن، وناقشت هذا الرأي وبينت بطلان ما ذهب إليه ابن خلدون وخطورته ثم قلت: ويجب أن تستبعد كليا فكرة الخطأ في الكتابة، لأن الخطأ يؤدي إلى نتائج أكثر خطورة، ولا تستقيم مع حفظ الله تعالى لكتابه، إذ من المؤكد أن الرسم العثماني هو رسم لا يتطرق الخطأ إليه من حيث الكتابة، ولا يجوز القول بذلك، ولو صح وقوع الخطأ لأدى ذلك إلى ملاحظة الصحابة لذلك الخطأ أو اللحن، ولأشاروا إليه وأنكروه، وأصلحوا في المصاحف العثمانية، إذ لا مبرر لإبقاء اللحن والخطأ، وهم أكثر الناس حرصا على كتاب الله تعالى.