فصل: أول ما نزل من القرآن:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المدخل لدراسة القرآن الكريم



.المبحث الثالث: أول ما نزل من القرآن وآخر ما نزل منه:

.المدار في هذا المبحث وفوائده:

هذا المبحث.. المدار فيه على النقل عن الصحابة والتابعين، ولا مجال للعقل فيه إلا بالترجيح بين الأدلة، أو الجمع بين ما ظاهره التعارض منها، ويترتب على العلم بأول ما نزل، وآخر ما نزل فوائد منها:
1- معرفة الناسخ والمنسوخ: فيما إذا وردت آيتان أو أكثر في موضوع واحد، وحكم إحداهما يغاير الأخرى تغايرا لا يمكن معه الجمع، فنعرف أن المتأخر منها ناسخ للمتقدم.
2- معرفة تاريخ التشريع الإسلامي: وذلك مثل ما إذا عرفنا أن الآيات التي نزلت في فرضية الصلاة بمكة، قبل الهجرة، وأن الآيات التي نزلت في فرض الزكاة والصوم كانت في السنة الثانية بعد الهجرة.. وأن الآيات التي نزلت في فرض الحج كانت في السنة السادسة، على ما هو الراجح، أمكننا أن نرتبها ترتيبا تشريعيّا، فنقول: إن أول ما فرض الصلاة، ثم الصوم ثم الزكاة، ثم الحج.
ومثل ما إذا عرفنا: أن آية: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا...} [سورة الحج: 28] نزلت بالمدينة في السنة الثانية، علمنا: أن تشريع الجهاد كان بالمدينة، بالسنة الثانية وهكذا بقية التشريعات.
3- معرفة التدرج في التشريع، فتوصل إلى حكمة الله سبحانه العالية في أخذ الشعوب بهذه السياسة الحكيمة في الإسلام، وذلك مثل ما إذا عرفنا ترتيب الآيات التي نزلت في شأن تحريم الخمر، وقد ذكرنا ذلك آنفا، ومثل ما إذا عرفنا أن الآيات الداعية إلى أصول العقائد نزلت أولا، وأن الآيات التي نزلت في التشريعات التفصيلية، والأحكام العملية نزلت بعدها، أدركنا أسرار الله في التربية والتشريع، فما لم تعرف الأصول، وتطمئن إليها القلوب، لا يسهل الأخذ بالفروع.

.أولية النزول وآخريته من حيث الإطلاق والتقييد:

ثم إن أولية النزول وآخريته تارة تكون على الإطلاق أي بالنسبة للقرآن كله، وتارة تكون مقيدة؛ إما بالنسبة لموضوع معين، وذلك مثل أول ما نزل في الجهاد، وآخر ما نزل فيه، وإما بالنسبة لمكان خاص مثل أول ما نزل بمكة، وآخر ما نزل بها، وأول ما نزل بالمدينة وآخر ما نزل بها، وإما بالنسبة لسورة ما؛ مثل أول ما نزل من سورة كذا وآخر ما نزل منها.
أما الأولية والآخرية المطلقتان، فسأتناولهما بالتفصيل، وأما المقيدتان فسأكتفي بضرب بعض الأمثلة؛ لأن استيعابها يحتاج إلى مؤلف خاص.
ولنبدأ بأول ما نزل وآخر ما نزل على الإطلاق.

.أول ما نزل من القرآن:

اختلف العلماء في هذا على أقوال أربعة:

.القول الأول:

إن أول ما نزل هو قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ} [العلق 1- 5]، ويدل لذلك ما يأتي:
أ- روى البخاري ومسلم- واللفظ للبخاري- بسندهما عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنها قالت: أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم؛ فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ثم حبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء، فيتحنث فيه- وهو التعبد- الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة، فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق، وهو في غار حراء، فجاءه الملك، فقال: اقرأ، قلت: «ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ}» [العلق: 1- 5] فرجع بها إلى خديجة يرتجف فؤاده، فقال: «زملوني»، فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة- وأخبرها الخبر- «لقد خشيت على نفسي»، فقالت خديجة: كلا والله ما يخزيك الله أبدا؛ إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم وتقري الضيف... الحديث وقد سقت الحديث بطوله، وشرحته في كتابي السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة، وعائشة، وإن لم تعاين القصة وتشاهدها، إلا أنه يحتمل أن تكون سمعتها من النبي بعد، أو حدثها بها صحابي سمعها من النبي، وأيّا كان الأمر فهو حديث متصل مرفوع، ولذلك أجمعوا على أن مراسيل الصحابة حجة.
ب- وروى الحاكم في مستدركه والبيهقي في دلائل النبوة وصححاه عن عائشة أنها قالت: أول سورة نزلت من القرآن: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} ومرادها بالسورة صدرها، وإلا فباقيها نزل بعد، كما تدل على ذلك رواية الصحيحين.
ج- وروى الطبراني في المعجم الكبير- بسند على شرط الصحيح- عن أبي رجاء العطاردي قال: كان أبو موسى- يعني الأشعري- يقرئنا فيجلسنا حلقا، عليه ثوبان أبيضان فإذا تلا هذه السورة: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} قال: هذه أول سورة أنزلت على محمد صلى الله عليه وسلم.
د- وأخرج ابن أشتة في كتاب المصاحف عن عبيد بن عمير قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بنمط فقال: اقرأ، فقال: ما أنا بقارئ قال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} فيرون أنها أول سورة أنزلت من السماء.
وأخرج أيضا عن الزهري أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بحراء، إذ أتى ملك بنمط من ديباج فيه مكتوب: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} إلى {مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق 1- 5]
ولعل هذا- إن صح- يفسر لنا الأمر بالقراءة في رواية الصحيحين؛ أي اقرأ ما في هذا النمط إلى غير ذلك من الآثار التي ذكرها الإمام السيوطي في الإتقان وهذا القول هو الصحيح، وعليه جمهور العلماء سلفا، وخلفا.

.القول الثاني:

إن أول ما نزل هو قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} * إلى {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر: 1- 5] وهذا القول مروي عن جابر بن عبد الله وأبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، ويدل لهذا ما رواه الشيخان- واللفظ للبخاري- عن يحيى بن أبي كثير قال: سألت أبا سلمة عبد الرحمن: أي القرآن أنزل أول فقال: {يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} فقلت: أنبئت أنه {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} وفي رواية: يقولون: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}. فقال أبو سلمة: سألت جابر بن عبد الله: أي القرآن أنزل أول فقال: {يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} فقلت: نبئت أنه: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}. فقال: لا أخبرك إلا بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال رسول الله: «جاورت في حراء، فلما قضيت جواري هبطت، فاستبطنت الوادي، فنوديت فنظرت أمامي، وخلفي، وعن يميني، وعن شمالي، فإذا هو جالس على عرش بين السماء والأرض، فأتيت خديجة، فقلت: دثروني وصبوا علي ماء باردا، وأنزل علي: {يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ}».
وقد أجاب القائلون بالأول عن هذا بأجوبة أحسنها وأخلقها بالقبول:
1- أن {يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} أول ما نزل بعد فترة الوحي، أما {اقرأ} فهي أول ما نزل على الإطلاق.
ويؤيد هذا التأويل ويقويه ما رواه الشيخان أيضا من طريق الزهري- واللفظ للبخاري- عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحدث عن فترة الوحي، فقال في حديثه: «فبينا أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء، فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فجئثت منه رعبا، فقلت: زملوني، زملوني، فدثروني، فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} إلى {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ}»- قبل أن تفرض الصلاة- وهي الأوثان.
فقوله: وهو يحدث عن فترة الوحي نص على أن ذلك كان بعد فترة الوحي، فهي أولية مقيدة لا مطلقة.
وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «فإذا الملك الذي جاءني بحراء..» يدل على أن هذه القصة متأخرة عن قصة حراء، التي نزل فيها: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}.
على أننا نلاحظ أن جابرا استنبط ذلك باجتهاده، على حسب علمه من روايته، ولذلك لما روجع لم يجد بدّا من ذكر ما سمعه، ولم يقطع برأي، ثم لما تبين له الأمر، وتذكر الرواية التي فيها أن ذلك كان بعد فترة الوحي، ذكر ذلك صراحة كما في طريق الزهري بخلاف حديث عائشة فالمتيقن أنه من روايتها لا من اجتهادها.
ومن الأجوبة التي أجيب بها:
2- أن أول سورة المدثر مقيد بما نزل متعلقا بالإنذار، ولذلك دعا النبي بعدها إلى الله، بخلاف صدر سورة العلق، فهو مطلق غير مقيد بشيء خاص.
3- أن سورة المدثر أول سورة نزلت بكمالها قبل نزول تمام سورة اقرأ فإنها أول ما نزل منها صدرها.
أقول هذا الجواب غير مسلم، فقد ذكرت آنفا رواية الصحيحين عن جابر، وفيها فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} إلى {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ}.
فكيف يدعي مدع، أو يقول قائل: إن المدثر أول سورة نزلت بتمامها! فالحق أنه لا يصلح أن يكون جوابا.
ولذلك لما تعرض الحافظ ابن حجر في الفتح للتوفيق بين الحديثين- حديث عائشة، وحديث جابر- لم يذكر هذا الوجه، وإنما ذكره صاحب الإتقان.