فصل: الأدلة على وجوب حفظ القرآن على الأمة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المدخل لدراسة القرآن الكريم



.حفظ النبي للقرآن:

قلنا فيما سبق أن أول آيات نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم هي صدر سورة اقرأ إلى قوله تعالى: {عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ}. ثم فتر الوحي مدة كي يشتاق إليه النبي صلى الله عليه وسلم، وبعد فترة الوحي نزل القرآن، وتتابع، وكان أول آيات نزلن بعد هذه الفترة صدر سورة المدثر إلى قوله تعالى: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر 5].
ثم حمى الوحي وتتابع حتى نزول القرآن كله قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بواحد وعشرين يوما، وقيل: بأحد عشر يوما، وقيل: بتسع ليال، وكان آخر ما نزل على الصحيح هو قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [البقرة: 281].

.حرص النبي على القرآن:

وكان النبي صلى الله عليه وسلم شديد العناية بحفظ القرآن، وحريصا على تلقفه من جبريل عليه السلام حتى بلغ من شدة عنايته به، وحرصه عليه أنه كان يحرك به لسانه أكثر من المعتاد عند قراءته، ويعالجه أشد المعالجة حتى كان يجد من ذلك شدة، يقصد بذلك استعجال حفظه خشية أن تفلت منه كلمة، أو يعزب عنه حرف حتى طمأنه ربه، ووعده أن يحفظه له في صدره، وأن يقرئه لفظه، وأن يفهمه معناه فأنزل عز شأنه قوله: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ} [القيامة: 16- 19] أي: جمعه لك في صدرك، وإقراءه لك بوساطة أمين الوحي جبريل، فإذا قرأه جبريل فأنصت، حتى إذا فرغ، فاقرأ عليه ما سمعت منه.
ثم إنا سنتكفل لك أيضا ببيان تفسيره، وتوضيح ما أجمل منه، وإزالة إشكال ما عسى أن يستشكل منه، وهو ضمان من الله عز وجل بأنه لن يخشى النسيان، أو أن تتفلت منه كلمة أو حرف، وقد ورد تفسير هذه الآيات عن ابن عباس رضي الله عنهما.

.معارضة جبريل النبي بالقرآن:

وكان من الدواعي القوية لحفظ النبي صلى الله عليه وسلم القرآن وتثبيته في قلبه الشريف معارضة جبريل عليه السلام النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن في رمضان من كل عام؛ روى البخاري في صحيحه بسنده عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة فكان جبريل عليه السلام يقرأ والنبي يسمع حينا، والنبي صلى الله عليه وسلم يقرأ وجبريل يسمع، حتى كان العام الذي توفي فيه الرسول صلى الله عليه وسلم فعارضه جبريل بالقرآن مرتين، وقد شهد العرضة الأخيرة أحد مشاهير كتاب الوحي لرسول الله صلوات الله وسلامه عليه، وهو زيد بن ثابت الأنصاري رضي الله تعالى عنه.
روى الإمام البخاري في صحيحه بسنده عن عائشة رضي الله عنها قالت:
أقبلت فاطمة تمشي، وكانت مشيتها مشى النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «مرحبا بابنتي» ثم أجلسها عن يمنيه، أو عن شماله، ثم أسر إليها حديثا فبكت، فقلت لها: لم تبكين! ثم أسر إليها حديثا فضحكت، فقلت ما رأيت كاليوم فرحا أقرب من حزن، فسألتها عما قال: فقالت: ما كنت لأفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى قبض النبي صلى الله عليه وسلم، فسألتها، فقالت: أسر إليّ: أن جبريل كان يعارضني القرآن كل سنة مرة، وإنه عارضني العام مرتين، ولا أراه إلا حضور أجلي، وإنك أول أهل بيت لحاقا بي فبكيت، فقال: «أما ترضين أن تكوني سيدة نساء أهل الجنة أو نساء المؤمنين»، فضحكت.
وكان القرآن شغل النبي الشاغل في صلاته، وتهجده، وفي سره وعلانيته، وفي حضره، وسفره، وفي وحدته، وبين صحابته، وفي عسره ويسره، ومنشطه ومكرهه، ولا يغيب عن قلبه، ولا يألوا جهدا في تعهده وتكراره والائتمار بأوامره، والانتهاء عن نواهيه، والاعتبار بمواعظه، وقصصه، والتأثر بأمثاله، وحكمه، والتأدب بآدابه، وأخلاقه وتبليغه إلى الناس كافة.
كما كان أعلم الناس بأسباب نزوله، ومواقع تنزلاته، ومدلول خطاباته وأحكامه وآدابه، وحدوده، ومعالمه، وظاهره، وباطنه، فمن ثم كان أشد الناس حفظا له، وإجادة لقراءته، ومعرفة لحروفه، وقراءاته، وكان المرجع الأول للمسلمين في حفظ القرآن، وفهمه، والوقوف على معانيه، وأسراره ومراميه والتثبت من نصوصه، وحروفه وقراءاته.

.الحفظ عن ظهر قلب خصيصة للقرآن:

ومن خصائص هذا الكتاب السماوي الكريم أن الله عز وجل كلف الأمة الإسلامية بحفظه كله بحيث يحفظه عدد كثير يثبت بهم التواتر المفيد للقطع واليقين على هذا الوضع، وبهذا الترتيب الذي وجد، ويوجد في المصاحف العثمانية من لدن الصحابة إلى اليوم، فإن لم يحفظه عدد يثبت بهم التواتر أثمت الأمة كلها.
بخلاف التوراة والإنجيل والزبور، وصحف إبراهيم، وموسى، وغيرها مما أنزله الله تبارك وتعالى، فلم تكلف أممها بحفظها عن ظهر قلب، بل ترك ذلك لاختيار من يريد، فمن شاء حفظ، ومن شاء اعتمد في القراءة على المكتوب، وهذا الأخير هو الأعم الأغلب من شأن بني إسرائيل وغيرهم، ولم تتوفر الدواعي لحفظ هذه الكتب والصحف كما توفرت للقرآن الكريم.
فمن ثم لم يكن لها من ثبوت النص القطعي الموثوق به مثل ما للقرآن العظيم، ومن هنا سهل التحريف، والتبديل في التوراة والإنجيل من الأحبار والرهبان والقسس، وبعضها كالصحف ضاع بمرور الزمن، ولم يبق له وجود.

.الحكمة في تكليف الأمة بحفظ القرآن:

والسر في أن الله سبحانه وتعالى كلف الأمة المحمدية بحفظ القرآن العظيم، ولم يكلف الأمم السابقة بحفظ كتبها، وصحفها- أن هذه الكتب لم تكن معجزة بألفاظها ولم يشأ الله ذلك لحكمة يعلمها، بخلاف القرآن الكريم، فقد شاء الله سبحانه- وله الحكمة البالغة- أن يكون معجزا بلفظه فضلا عن معانيه، فكان من الضروري المحافظة على النص بالطريق المفيدة للقطع واليقين، وليس ذلك إلا بأن يحفظه العدد الكثير في كل جيل وعصر، الذين لا يجوز عليهم الكذب، ولا الغلط، ولا السهو، وهو ما يعرف في علم الرواية بالتواتر وقد وفر الله له من الدواعي إلى حفظه ما لم يتوفر لغيره من الكتب السماوية، بله الأرضية وأيضا من الحكم أن القرآن هو الأصل الأصيل للدين العام الخالد الباقي ما بقي إنسان على وجه هذه الأرض، وهو الإسلام، فكان لابد من المحافظة على كتابه، ليخلد خلود هذا الدين الذي يعتبر القرآن أصلا له.
بخلاف التوراة والإنجيل، فقد كانتا كتبا لدينين يمثلان طورين خاصين محدودين بحدود الزمان والمكان، من الأطوار التي مرت بها الأديان السماوية حتى وصلت إلى الاكتمال، في دين الإسلام قال صلى الله عليه وسلم: «وكان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة» رواه البخاري ومسلم.

.الأدلة على وجوب حفظ القرآن على الأمة:

1- ما رواه الإمام مسلم في صحيحه بسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن ربي قال لي: قم في قريش فأنذرهم، قلت: أي: ربي إذن يثلغوا رأسي، حتى يدعوه خبزة فقال: إني مبتليك، ومبتل بك، ومنزل عليك كتابا لا يغسله الماء، تقرؤه نائما، ويقظان، فابعث جندا أبعث مثلهم، وقاتل بمن أطاعك من عصاك، وأنفق ينفق عليك»، فقد أخبر سبحانه وتعالى أن القرآن لا يكتفى في ثبوته وحفظه بصحيفة أو لوح يغسل بالماء، وإنما محله القلوب، والصدور، وذلك بالحفظ عن ظهر قلب، فإذا انضم إلى الحفظ في الصدور، الكتابة في الصحف فقد ازداد التوثق، والاطمئنان، وقوله: «لا يغسله الماء» صيغة نفي ولكن النفي قد يأتي للنهي والنهي عن غسله بالماء يستلزم عادة الأمر بحفظه فهو مثل قوله: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} وقوله: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ}.
2- ما ورد في وصف الأمة الإسلامية أناجيلهم في صدورهم، أي: كتابهم المقدس المعول عليه في بقائه وسلامته من التحريف والتبديل، الحفظ في الصدور بخلاف أهل الكتاب، فإنهم لا يحفظون كتابهم إلا من الصحف، ولا يقرءونه كله إلا نظرا، لا عن ظهر قلب، كما هو الشأن في جمهرة المسلمين، وذكر هذا الوصف في معرض المفاضلة بينهم وبين غيرهم يدل على أن هذا أمر مختص بهم.
3- ما رواه البخاري في صحيحه في قصة الرجل الذي أراد أن يتزوج المرأة التي عرضت نفسها على النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن له بها حاجة، ولم يكن يملك شيئا ليكون مهرا لها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم،: «فما معك من القرآن»، قال: سورة كذا وكذا، قال: «أتقرؤهن عن ظهر قلب»، قال: نعم، قال: «فاذهب فقد زوجتكها بما معك من القرآن» وهذا الحديث وإن لم يدل على الوجوب ولكنه يدل على أن الحفظ عن ظهر قلب أمر مرغوب فيه، ومستحب، وفضيلة من الفضائل التي يختص بها المسلمون.

.حفظ الصحابة للقرآن الكريم:

وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزلت عليه الآية، أو الآيتان، أو الخمس أو العشر، أو السورة، يقرأها على أصحابه، ويحفظهم إياها، ويفقههم بها ويبين لهم طريقة أدائها، وآداب تلاوتها، كي يحفظوا اللفظ، ويفقهوا المعنى، ويلتزموا ما نزل عملا، وسلوكا، ويستقيموا عليه.
وقد أحل الصحابة رضوان الله عليهم القرآن في المحل الأول من نفوسهم، وأنزلوه المنزلة اللائقة به، يتنافسون في حفظ لفظه، ويتسابقون في فقه معناه، وجعلوه متعبدهم في ليلهم، ومسلاتهم في فراغهم، وصاحبهم في أسفارهم، وأنيسهم في وحدتهم، وصديقهم الصدوق، في منشطهم، ومكرههم، ومستشارهم الأمين في شئون دينهم ودنياهم وما ظنك بكتاب يعتقدون- وحق لهم ذلك- أن تلاوته عبادة، والاشتغال به من أعظم القربات إلى الله: وأن عزهم لن يكون إلا به، وسعادتهم في الدنيا والآخرة لن تتحقق إلا بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، والتأدب بآدابه، والتخلق بأخلاقه، لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميرا على قوم يقدم أكثرهم قراءة للقرآن، وإذا بعث بعثا جعل إمامهم في صلاتهم أكثرهم أخذا للقرآن، بل إذا جمع بين اثنين أو أكثر في قبر لضرورة- كما حدث في شهداء أحد- سأل: «أيهم أكثر أخذا للقرآن» فإذا أشير إليه قدمه في اللحد.
ولم يكن همهم من القراءة مجرد الحفظ من غير تدبر وفهم كما هو الشأن في كثير من الحفاظ اليوم، وإنما المراد الحفظ، والفهم، فالعلم، فالعمل بما حفظوا وعلموا، روي عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: حدثنا الذين كانوا يقرءوننا القرآن كعثمان بن عفان، وعبد الله بن مسعود، وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا عن النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يتجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعا. فالقراء في الصدر الأول كانوا فقهاء فاهمين، وعلماء عاملين اعتمادهم في الحفظ على التلقي الشفاهي.
وكان اعتمادهم رضوان الله عليهم في الحفظ على التلقي والسماع من النبي صلى الله عليه وسلم أو ممن سمعه من النبي من الصحابة، ولاسيما القارئين المجيدين منهم كعثمان بن عفان، وعليّ بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وأمثالهم.
وما كانوا يعتمدون في حفظه على المكتوب في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا على النقل من الصحف والمصاحف بعد كتابتها في عهد ذي النورين عثمان رضي الله عنه.
وكذلك من جاء بعد الصحابة من التابعين، وتابع التابعين ومن بعدهم، كان اعتمادهم على التلقي الشفاهي من الشيوخ أو العرض، والقراءة عليهم، وهذا هو الغالب من شأنهم، ولا تزال هذه السنة في حفظ القرآن متبعة، وملتزمة لدى القراء المجيدين إلى عصرنا هذا وبذلك بقيت سلسلة الإسناد متصلة بالقرآن، وستبقى بإذن الله حتى يرث الله الأرض وما عليها.