فصل: الدليل على نزول القرآن منجما:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المدخل لدراسة القرآن الكريم



.كيف كان هذا النزول ومدّته:

وقد نزل به جبريل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وسلم منجما مفرقا، على حسب الوقائع، والحوادث، وحاجات الناس، ومراعاة للظروف والملابسات.
وقد اختلف العلماء في مدة هذا النزول؛ فقيل: عشرون سنة، وقيل: ثلاث وعشرون سنة، وقيل: خمس وعشرون سنة.
ومنشأ هذا الاختلاف إنما هو اختلافهم في مدة مقامه صلى الله عليه وسلم بمكة؛ فقيل عشر سنين، وقيل: ثلاث عشرة، وقيل: خمس عشرة.
وأقربها إلى الحق والصواب هو أوسطها؛ وهو ثلاث وعشرون سنة، وهذا على سبيل التقريب، وأبعدها هو آخرها.
ولو راعينا التدقيق والتحقيق، تكون مدة نزول القرآن اثنتين وعشرين سنة، وخمسة أشهر ونصف شهر تقريبا، وبيان ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم نبّئ على رأسي الأربعين من ميلاده الشريف، وذلك في شهر ربيع الأول؛ الثاني عشر منه، وقد بدئ الوحي إليه بالرؤيا الصادقة، ومكث على ذلك إلى السابع عشر من رمضان، وهو اليوم الذي نزل عليه فيه صدر سورة {اقرأ} أول ما نزل من القرآن، وجملة ذلك: ستة أشهر وخمسة أيام، وآخر آية نزلت من القرآن هي قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [سورة البقرة: 281]، وقد روي أن ذلك قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بتسعة أيام، وقيل: بأحد عشر يوما، وقيل: بواحد وعشرين يوما، فلو أخذنا بالمتوسط تكون جملة المدة التي لم ينزل فيها القرآن ستة أشهر وستة عشر يوما.
وجملة عمره صلى الله عليه وسلم ثلاثة وستون عاما؛ لأنه توفي في الثاني عشر من ربيع الأول سنة إحدى عشرة من الهجرة، كما عليه الجمهور، فتكون مدة نبوته: ثلاثا وعشرين سنة، فإذا أنقصنا منها ستة أشهر وستة عشر يوما، يكون الباقي اثنتين وعشرين وخمسة أشهر وأربعة عشر يوما، والحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وقد ذكر بعض الكاتبين في تاريخ التشريع غير هذا وقد بنى حسابه على أن آخر آية نزلت: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} وهو خطأ مشهور وسنبيّن الحق في آخر ما نزل فيما يأتي إن شاء الله.

.الدليل على نزول القرآن منجما:

المعروف الثابت: أن القرآن الكريم نزل على النبي صلى الله عليه وسلم مفرقا، ويدل على هذا القرآن، والسنة الصحيحة.
أما القرآن، فقوله تعالى: {وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا} [سورة الإسراء: 16]، وقوله تعالى: {وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا * وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} [سورة الفرقان: 32- 33]، فقد روي: أن المشركين أو اليهود عابوا على النبي صلى الله عليه وسلم نزول القرآن مفرقا، وقالوا: هلا نزل جملة واحدة، كما نزلت التوراة على موسى، فأنزل الله سبحانه هذه الآية، حاكية لأقوالهم، ورادة عليهم ببيان الحكمة في إنزاله مفرقا، أي: أنزلناه مفرقا، لنثبت به فؤادك ولترتله ترتيلا في خاصة نفسك، وعلى أصحابك.
أما السنن الصحيحة، فقد ورد فيها ما يدل على نزول القرآن منجما مفرقا، ففي الصحيحين وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها: أن أول ما نزل صدر سورة {اقرأ}... إلى قوله تعالى: {ما لَمْ يَعْلَمْ}، وفي الصحيحين- أيضا- عن جابر: أن أول ما نزل بعد فترة الوحي سورة المدثر إلى {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ}، وكذلك روي عن ابن عباس وغيره من الصحابة، القول في تقدم نزول بعض السور والآيات على بعض، وترتيب السور على حسب النزول، إلى غير ذلك من الآثار التي لا تدع مجالا للشك في نزول القرآن الكريم على النبي صلى الله عليه وسلم مفرقا، وهذه الأحاديث والآثار وإن كانت آحادية إلا أنها بمجموعها تفيد التواتر المعنوي المفيد للقطع واليقين في هذا....

.نزول الكتب السماوية السابقة:

أما الكتب السماوية السابقة، فالمشهور بين العلماء، أن ذلك كان جملة واحدة حتى كاد يكون هذا الرأي إجماعا، كما قال السيوطي.
والدليل على ذلك آية الفرقان: {وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً...} الآية، ووجه الدلالة: أن الله سبحانه لم يكذّبهم في دعواهم نزول الكتب السماوية جملة، بل بين لهم الحكمة في نزوله مفرقا، ولو كانت الكتب السماوية نزلت مفرقة لكان كافيا في الرد عليهم أن يقول لهم: إن التنجيم سنة الله في الكتب التي أنزلت على الرسل، كما أجاب بمثل ذلك قولهم: {وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ...} [سورة الفرقان: 7] فقال في الرد عليهم: {وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ} [الفرقان: 20]، فبين لهم أن ذلك سنن الأنبياء والمرسلين، وكذلك لما قالوا: {هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الأنبياء: 3] فردّ عليهم: بأن سنته ألّا يرسل رسلا إلّا من البشر فقال: {وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [سورة الأنبياء: 7] ولما قالوا: كيف يكون رسولا ولا همّ له إلا النساء رد عليهم فقال: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً} [الرعد: 38] إلى غير ذلك.
ويدل على ذلك أيضا.. قوله تعالى في إنزاله التوراة على موسى عليه السلام يوم الصّعقة: {فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ * وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ} [سورة الأعراف: 144- 145]، وقوله: {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} [سورة الأعراف: 154]، وقال تعالى: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [سورة الأعراف: 171]، والمراد بالألواح: الألواح التي كتبت فيها التوراة.
فهذه الآيات دالة على إنزاله سبحانه التوراة على موسى جملة.
وهناك آثار صحيحة عن ابن عباس تفيد نزول التوراة جملة؛ منها ما أخرجه النسائي وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما في حديث النتوق قال: أخذ موسى الألواح بعد ما سكن عنه الغضب، فأمرهم بالذي أمر الله أن يبلّغهم من الوظائف، فثقلت عليهم، وأبوا أن يقرّوا بها حتى نتق الله عليهم الجبل، كأنه ظلّة، ودنا منهم حتى خافوا أن يقع عليهم فأقروا بها.
وإذا كانت التوراة، وهي أعظم الكتب السماوية السابقة، وأكثرها أحكاما وهداية، وقد ثبت نزولها جملة واحدة، فأحر بغيرها من الكتب السماوية- كالإنجيل والزبور وصحف إبراهيم- أن تكون قد نزلت جملة واحدة، وآية (الفرقان)- كما ذكرنا- تدلّ على هذا التعميم وتؤيده.

.كيف كان جبريل يتلقى الوحي:

هذا المبحث من أنباء الغيب، فلا يطمئن الإنسان إلى رأي فيه إلا إن ورد عن معصوم، ولم نطّلع في هذا على نقل من المعصوم صلى الله عليه وسلم وإنما هي نقول عن بعض العلماء؛ منها:
1- ما قاله الطّيبيّ: لعل نزول القرآن على الملك أن يتلقفه تلقفا روحانيّا أو يحفظه من اللوح المحفوظ، فينزل به على النبي صلى الله عليه وسلم فيلقيه إليه، وكلمة لعل لا تفيد القطع، وإنما تفيد التجويز والاحتمال، وقد ردد الإمام الطّيبي الأمر بين هذين الاحتمالين، ولم يقطع برأي.
2- ما ذكره البيهقي في تفسير قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1] قال: يريد والله أعلم إنا أسمعنا الملك، وأفهمناه إياه، وأنزلناه بما سمع، وهذا الرأي أمثل الآراء وأولاها بالقبول، ويشهد له ما رواه الطبراني من حديث النواس بن سمعان مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا تكلم الله بالوحي أخذت السماء رجفة شديدة من خوف الله، فإذا سمع بذلك أهل السماء صعقوا، وخرّوا سجدا فيكون أوّلهم يرفع رأسه جبريل فيكلمه الله بوحيه بما أراد، فينتهي به إلى الملائكة فكلما مر بسماء سأله أهلها ماذا قال ربنا قال: الحق، فينتهي به حيث أمر» والحديث وإن لم يكن نصّا في القرآن إلا أن الوحي يشمل وحي القرآن، وغيره، بل يدخل فيه الوحي بالقرآن دخولا أوليا.
وهذا الرأي هو أحد الاحتمالين الّذين جوّزهما الطيبيّ وهو مراده بقوله: أن يتلقفه تلقفا روحانيّا.
والاحتمال الثاني: وهو حفظه من اللوح المحفوظ وإن كان غير مستبعد إلا أن ما دل عليه النص أولى، وينبغي أن يصار إليه وهو الأليق بالقرآن الكريم.
وفي تلقي جبريل عليه السلام القرآن من ربه دون وساطة: إعظام للقرآن وتفخيم لشأنه، وتنبيه إلى غاية العناية به، والحرص والمحافظة عليه، ومبالغة في صيانته عن التحريف، والتبديل.
ألا ترى في دنيا الناس أن الملوك والرؤساء حينما يرسلون رسولا برسالة كتابية أو شفهية فإنهم يسلمونها لهم بأيديهم أو يقرءونها عليهم مبالغة في الحرص عليها، وشدة الاعتناء بها، وتحذيرا لهم من الخيانة فيها أو عدم تبليغها بنصها، وكمالها، فما بالك بملك الملوك، وبالقرآن الذي هو رسالة الرسالات! ألا ترى أن أحد الملوك أو الرؤساء أو الأمراء إذا أرسل رسالة مهمة، في أمر مهم، لرجل ذي شأن فإنه يتخير لها الرسول، ويأبى إلا أن يختمها بختمه، وأن يناولها إليه بيده، أو أن يقرأها عليه بنفسه مبالغة منهم في الحرص عليها، وصيانتها، وعلى تبليغها كما تلقاها بنصها وفصها من غير تحريف لها ولا تزيد فيها.
فما بالك بالقرآن الذي هو كلام الله ورسالة الرسالات وأحق الكتب بالتحوط والصيانة، والحفاظ عليه.