فصل: جمع القرآن بمعنى كتابته في عهد النبي صلى الله عليه وسلم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المدخل لدراسة القرآن الكريم



.جمع القرآن بمعنى كتابته في عهد النبي صلى الله عليه وسلم:

لم يكتف النبي صلى الله عليه وسلم بحفظ القرآن وإقرائه لأصحابه وحفظهم له، بل جمع إلى ذلك كتابته وتقييده في السطور، وكان للنبي كتّاب يكتبون الوحي؛ منهم أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وأبان وخالد ابنا سعيد وخالد بن الوليد ومعاوية بن أبي سفيان، وزيد بن ثابت، وأبي بن كعب وغيرهم، فكان إذا نزل على النبي من الوحي شيء دعا بعض من يكتب فيأمره بكتابة ما نزل، وإرشاده إلى موضعه، وكيفية كتابته على حسب ما كان يرشده إليه أمين الوحي جبريل، روي عن ابن عباس أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزلت عليه سورة دعا بعض من يكتب فقال: «ضعوا هذه السورة في الموضع الذي يذكر فيه كذا وكذا» وروى أحمد وأصحاب السنن الثلاثة وصححه ابن حبان والحاكم من حديث ابن عباس عن عثمان بن عفان قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يأتي عليه الزمان ينزل عليه من السور ذوات العدد، فكان إذا نزل عليه الشيء يدعو بعض من يكتب عنده فيقول: «ضعوا هذا في السورة التي يذكر فيها كذا».
وعن زيد بن ثابت قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم نؤلف القرآن من الرقاع. قال البيهقي: يشبه أن يكون المراد به تأليف ما نزل من الآيات المفرقة في سورها وجمعها فيها بإشارة النبي صلى الله عليه وسلم.
ولم تكن أدوات الكتابة ميسرة في ذلك الوقت، فلذلك كانوا يكتبونه على حسب ما تيسر لهم في الرقاع والعسب والأكتاف واللخاف والأقتاب ونحوها، وقد كان القرآن كله مكتوبا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان مفرقا، وكانت كتابته بالأحرف السبعة التي نزل بها.
وأما الصحابة فقد كان بعضهم لا يكتب القرآن، اعتمادا على الحفظ وسيلان الأذهان، كما هو شأن العرب في حفظ شعرها ونثرها وأنسابها، وبعضهم كان يكتب ولكن كان مفرقا؛ وكان بعض الصحابة لا يقتصرون فيما يكتبونه على ما ثبت بالتواتر، بل كانوا يكتبون المنسوخ تلاوة وبعض تفسيرات وتأويلات لمعانيه، وذلك كما فعل ابن مسعود وأبي وغيرهما.
وخلاصة القول أن القرآن كله كتب بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان مفرقا، وكذلك كتب بعض الصحابة القرآن أو ما تيسر لهم منه، وإن لم تبلغ كتابتهم في الوثوق مبلغ ما كتب بين يدي النبي، وقد أذن النبي لأصحابه في كتابة القرآن دون السنة، ففي صحيح مسلم: «لا تكتبوا عني ومن كتب عني غير القرآن فليمحه» وطبعي أن المكتوب في هذا العهد لم يكن مرتب السور والآيات ضرورة التفريق في العسب والأكتاف والرقاع ونحوها، وليس معنى هذا أنهم كانوا يقرءونه غير مرتب الآيات وحاشا وإنما كانوا يقرءونه مرتب الآيات على حسب ما أوقفهم عليه الرسول، بإرشاد جبريل، عن رب العالمين وعلى ما هو عليه اليوم، والسبب الباعث على كتابته في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
1- معاضدة المكتوب للمحفوظ لتتوفر للقرآن كل عوامل الحفظ والبقاء، ولذا كان المعول عليه عند الجمع الحفظ والكتابة.
2- تبليغ الوحي على الوجه الأكمل؛ لأن الاعتماد على حفظ الصحابة فحسب غير كاف؛ لأنهم عرضة للنسيان أو الموت، أما الكتابة فباقية لا تزول، وإنما لم يجمع النبي صلى الله عليه وسلم القرآن في مكان واحد لما يأتي:
1- ما كان يترقبه النبي من تتابع نزول الوحي ونزول بعض آيات ناسخة لبعض أحكامه وألفاظه.
2- ترتيب آيات القرآن وسوره لم يكن على حسب النزول بل كان حسب تناسب الآي وترابطها وقد تنزل الآية أو السورة بعد الآية أو السورة وتكون في ترتيب الكتابة قبلها، وذلك مثل آية الاعتداد بأربعة أشهر وعشر فإنها ناسخة لآية الاعتداد بحول، مع أن الأولى مكتوبة في المصاحف قبلها، وهي متأخرة في النزول عنها قطعا لوجوب تأخر الناسخ عن المنسوخ.
فلو كتب النبي صلى الله عليه وسلم القرآن كله في مكان واحد- والشأن كما ذكرنا- لكان عرضة للتغيير والإزالة والكشط والمحو، وقد تكون كتابته في موضع واحد متعذرة إن لم تكن مستحيلة في كتاب نزل منجما في بضع وعشرين سنة، فلما انقضى الوحي بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم وأمن النسخ، وعرف الترتيب ألهم الله سبحانه الخلفاء الراشدين، فقاموا بجمع القرآن في الصحف، كما حدث في عهد الصديق رضي الله عنه، وفي المصاحف كما حدث في عهد عثمان رضي الله عنه.
وهكذا نرى أن كتابته مفرقا في العهد النبوي ضرورة لا محيص عنها.

.جمع القرآن في عهد أبي بكر رضي الله عنه:

لما تولى أبو بكر الصديق الخلافة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم كان أول عمل قام به محاربة أهل الردة والقضاء على هذه الفتنة، وبذلك أقام عمود الإسلام، وثبّت دعائمه بعد أن كادت تتقوض، ولما وقعت موقعة اليمامة سنة اثنتي عشرة للهجرة استحر القتل في الصحابة، ومات من حفاظ القرآن خلق كثير قيل خمسمائة، وقيل سبعمائة، فخشي الفاروق عمر رضي الله عنه الذي جعل الله الحق على لسانه وقلبه أن يكثر القتل في القراء في بقية المواطن، وربما كان عندهم شيء من القرآن، فيضيع بموتهم، فأشار على أبي بكر أن يجمع القرآن في مكان واحد، وصحف مجموعة بدل وجوده مفرقا في العسب، واللخاف، والرقاع، وغيرها، فتردد أبو بكر أول الأمر، ولكن لم يزل به الفاروق حتى وافق، وثبت عنده أن جمع القرآن ليس من المحدثات، وأن قواعد الدين والشريعة تدعو إليه، فأرسل الصديق إلى زيد بن ثابت، وندبه للقيام بهذا العمل الجليل، فراجعهما، ولم يزالا به حتى ظهر له الحق واستبان له الرشد، وعلم أن الحق فيما أشارا به فجمعه بعد جهد جهيد.
وإليك ما رواه البخاري في صحيحه بسنده عن زيد بن ثابت قال: أرسل إليّ أبو بكر مقتل أهل اليمامة فإذا عمر بن الخطاب عنده فقال أبو بكر: إن عمر بن الخطاب أتاني فقال: إن القتل استحر- اشتد- بقراء القرآن وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن فيذهب كثير من القرآن، وإني أرى أن يجمع القرآن فقلت لعمر: كيف تفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر: هو والله خير، فلم يزل يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك، ورأيت في ذلك الذي رأى عمر، قال زيد: قال أبو بكر: إنك رجل شاب، عاقل، لا نتهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله، فتتبع القرآن فاجمعه، فو الله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليّ مما أمرني به من جمع القرآن، قلت: كيف تفعلان شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم قالا: هو- والله- خير، فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال، ووجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدهما مع غيره {لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ...} إلى آخر السورة.
فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله ثم عند عمر في حياته ثم عند حفصة بنت عمر، وفي رواية أخرى مع خزيمة أو أبي خزيمة بالشك والأولى هي المعتمدة، وقد أخرج ابن أبي داود من طريق هشام بن عروة عن أبيه أن أبا بكر قال لعمر ولزيد: اقعدا على باب المسجد فمن جاءكما بشاهدين على شيء من كتاب الله فاكتباه، منقطع رجاله ثقات، وقد اختلف في المراد بالشاهدين، فقال الحافظ ابن حجر: المراد بالشاهدين الحفظ والكتابة، وقال السخاوي: المراد بالشاهدين أنهما يشهدان أن ذلك مكتوب كتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان غرضهم أن لا يكتب القرآن إلا من عين ما كتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم لا من مجرد الحفظ، وبهذا تعلم أنهم بالغوا في التوثق في كتابة القرآن، فلم يقبلوه إلا من المصدرين معا، وهما الحفظ والكتابة، وعلى ذلك يحمل قول زيد في الحديث السابق، في الآيتين من آخر سورة التوبة، لم أجدهما إلا مع أبي خزيمة الأنصاري أن المراد أنه لم أجدهما مكتوبتين عند غيره ممن كانوا يكتبون الوحي وليس المراد أنه لم يكن يحفظهما غيره بل كان يحفظهما الكثيرون ويتلونهما في الصلاة، ومنهم زيد بن ثابت نفسه.

.السبب الباعث على الكتابة:

والسبب الباعث على كتابته في عهد أبي بكر، خوف ضياع شيء منه بموت الكثير من القراء والحفاظ في الحروب، وقد يكون عند أحدهم شيء من القرآن المكتوب يضيع بموته، وقد سمعت آنفا أن الاعتماد في الجمع كان على الحفظ والكتابة ولذلك كانت العناية بالغة بالصحف التي جمعت في عهد أبي بكر فكانت عنده حتى توفاه الله ثم عند عمر حتى توفاه الله ثم عند حفصة حتى طلبها منها عثمان رضي الله عنه في الجمع الثالث.

.ما روي من جمع علي رضي الله عنه للقرآن:

ولا يعارض هذا ما أخرجه ابن أبي داود من طريق ابن سيرين قال: قال عليّ: لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم آليت أن لا آخذ عليّ ردائي إلا لصلاة جمعة حتى أجمع القرآن فجمعته، فقد قال الحافظ ابن حجر، هذا الأثر ضعيف لانقطاعه وبتقدير صحته فمراده بجمعه حفظه في صدره وما تقدم من رواية عبد خير عنه أصحّ، فهو المعتمد، ومراد الحافظ برواية عبد خير ما أخرجه ابن أبي داود بسند حسن عن عبد خير قال: سمع عليّا يقول: أعظم الناس في المصاحف أجرا أبو بكر، رحمة الله على أبي بكر، هو أول من جمع كتاب الله.
أقول: وعلى فرض صحة ما روي عن سيدنا علي، وأن المراد بالجمع الكتابة لا يعارض الثابت المشهور من أن أبا بكر هو أول من جمع القرآن، إذ ليس في رواية ابن سيرين التصريح بالأولية بل الذي صحّ عن علي خلافها، وغاية ما تدل عليه أنه سارع إلى كتابة القرآن، فهو كغيره من الصحابة الذي عنوا بكتابة مصاحف لأنفسهم خاصة، ولم تكن لهذه المصاحف من الثقة بها والإجماع عليها، والقبول لها مثلما لمصحف أبي بكر، فجمع الصديق أبي بكر بهذه الاعتبارات يعتبر بحق أول جمع.