فصل: حكم نزول القرآن منجما مفرقا:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المدخل لدراسة القرآن الكريم



.نزول جبريل بالسنة:

وما ذكرنا من محافظة جبريل عليه السلام على تبليغ اللفظ كما سمعه، من غير تغيير حتى ولو كان اللفظان بمعنى واحد... إنما هو فيما يتعلق بتبليغ القرآن، أما وحي السنة فلا يلتزم فيه جبريل عليه السلام اللفظ الذي سمعه، لأن تبليغ السنة مبناه: المعنى لا اللفظ، إذ ليس لفظها معجزا، ولا متعبدا بتلاوتها كالقرآن.
وللإمام الجوينيّ في هذا المقام كلام حسن ذكره السيوطي في الإتقان وعلق عليه وإليك هذا الكلام.

.الفرق بين الوحيين:

قال الجويني: كلام الله المنزل قسمان؛ قسم قال الله لجبريل: قل للنبي الذي أنت مرسل إليه إن الله يقول: افعل كذا- وكذا وأمر بكذا ففهم جبريل ما قاله ربه، ثم نزل بعد ذلك إلى النبي وقال له ما قاله ربه، ولم تكن العبارة تلك العبارة، كما يقول الملك لمن يثق به: قل لفلان: يقول لك الملك اجتهد في الخدمة، واجمع جندك للقتال، فإذا قال الرسول: يقول لك الملك: لا تتهاون في خدمتي، ولا تترك الجند تتفرق، وحثهم على المقاتلة.. لا ينسب إلى كذب، ولا تقصير في أداء الرسالة.
وقسم آخر: قال الله لجبريل: اقرأ على النبي هذا الكتاب، فنزل جبريل بكلمة من الله من غير تغيير كما يكتب الملك كتابا ويسلمه إلى أمين، ويقول: اقرأه على فلان، فهو لا يغير منه كلمة ولا حرفا.
قال السيوطي قلت: القرآن هو القسم الثاني، والقسم الأول هو السنة، كما ورد أن جبريل كان ينزل بالسنة كما ينزل بالقرآن، ومن هنا جاز رواية السنة بالمعنى؛ لأن جبريل أداها بالمعنى، ولم تجز القراءة بالمعنى لأن جبريل أداه باللفظ، ولم يبح له إيحاءه بالمعنى، والسر في ذلك: أن المقصود منه، التعبد بلفظه، والإعجاز به؛ فلا يقدر أحد أن يأتي بلفظ يقوم مقامه، وأن تحت كل حرف منه معاني، لا يحاط بها كثرة؛ فلا يقدر أحد أن يأتي بما يشتمل عليه، والتخفيف على الأمة، حيث جعل المنزل إليهم على قسمين، قسم يروونه بلفظه الموحى به، وقسم يروونه بالمعنى، ولو جعل كله مما يروى باللفظ لشق، أو بالمعنى لم يؤمن التبديل والتحريف، فتأمل، وسئل الزهري عن الوحي فقال: الوحي ما يوحي الله به إلى نبي من الأنبياء، فيثبته في قلبه، فيتكلم به ويكتبه وهو كلام الله، ومنه ما لا يتكلم به، ولا يكتبه لأحد، ولا يأمر بكتابته، ولكنه يحدث به الناس حديثا ويبين لهم أن الله أمره أن يبينه للناس ويبلغهم إياه.
وحي السنة: أما وحي السنة فمنه ما يكون عن طريق أمين الوحي جبريل، وفي إطار الحالة الأولى، وهي الحالة الملائكية. وذلك كما في قصة يعلى بن أمية؛ روى البخاري في صحيحه بسنده عن يعلى قال: قلت لعمر رضي الله عنه أرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يوحى إليه، قال فبينما النبي في الجعرانة جاءه رجل فقال: يا رسول الله كيف ترى في رجل أحرم بعمرة، وهو متضمخ بطيب، فسكت النبي ساعة، فجاءه الوحي، فأشار عمر رضي الله عنه إلى يعلى، وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثوب قد أظلّ به، فأدخل رأسه، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم محمّر الوجه، وهو يغط، ثم سري عنه، فقال: «أين السائل عن العمرة» فأتي بالرجل. فقال: «اغسل الطيب الذي بك ثلاث مرات؛ وانزع عنك الجبة، واصنع في عمرتك كما تصنع في حجتك».
وبعضه في إطار الحالة الثانية كما في حديث جبريل، وبعضه بالمكالمة كما حدث ليلة الإسراء والمعراج، وبعضه بالإلهام والمنام، وبعضه بالقذف في القلب، وسواء أكانت السنة بوحي جلي أو خفي فلفظها من عند النبي صلى الله عليه وسلم.

.حكم نزول القرآن منجما مفرقا:

لنزول القرآن الكريم على النبي صلى الله عليه وسلم مفرقا حكم كثيرة، وأسرار عديدة نجملها فيما يأتي:

.الحكمة الأولى:

تثبيت فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم وتطمين قلبه وخاطره وهي ما أشار إليها الحق تبارك وتعالى في رده على المشركين أو اليهود حيث قال: {كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا} [سورة الفرقان: 32]، وهذه الحكمة من أجلّ الحكم وأعظمها، ولذا ذكرها الله أول ما ذكر في الرد على هؤلاء.
ويندرج تحت هذه الحكمة:
1- تثبيت فؤاد النبي، وتقوية قلبه، وإلهاب حماسه، وتسليته، وذلك بسبب تكرر نزول الوحي، وتوالي آياته وما اشتملت عليه الآيات من أن رسالته حق لا شك فيها، وأن العاقبة للمتقين، والنصر إنما هو للأنبياء وأتباعهم، وأن الله مؤيده وناصره، وكان النبي صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يتحسر ويحزن، لعدم إيمان قومه، كما قال تعالى: {فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً} [سورة الكهف: 6]. فكانت تنزل عليه الآيات مسلية له، فتارة تنهاه أن يذهب نفسه عليهم حسرات، كما قال تعالى: {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ} [سورة فاطر: 8].
وتارة يبين له: أن هدايتهم إنما هي على الله، وإنما عليك البلاغ كما قال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ} [سورة البقرة: 272]، {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ} [سورة القصص: 56] وقال: {فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ} [سورة الرعد: 40].
وكان كلما آذاه قومه ونالوا منه، وسفهوا عليه، نزلت الآيات داعية له إلى التحمل والصبر والثبات عليه، وأن العاقبة للصابرين، كما قال تعالى: {فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [سورة الأحقاف: 35]، {وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} [سورة النحل: 127]، وقال: {وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [سورة هود: 115].
وتارة تنزل الآيات قاصّة على النبي أخبار الأنبياء مع أممهم وما لاقوه منهم من عنت ومشقة، وكيف كان تحملهم من أقوامهم وما الـ إليه أمرهم من الفوز والنصر على الأعداء والمكذبين وذلك مثل قصص نوح وإبراهيم وولوط وهود وصالح وموسى وما لاقاه من بني إسرائيل. وقد ذكر الله هذا في قوله: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ} [سورة هود: 120].
وحينا آخر- تنزل الآيات بوعيد المكذبين للأنبياء والمناهضين لدعوتهم كما قال تعالى: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [سورة الأعراف: 97- 98]. وقال: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ} [سورة فصلت: 13]، {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ} [سورة الأنفال: 38].
وآونة.. كانت تنزل الآيات بالحجج والبراهين مبطلة لعقائدهم الزائفة، ورادة عليهم ما يتمسكون به من شبه واهية؛ كالآيات الواردة في إثبات الله وصفاته وتوحيده، واستحقاقه للعبادة، وإثبات البعث والحشر، وأحوال اليوم الآخر، وإثبات رسالة الرسل وحاجة البشر إليهم. وكان من ثمرة هذا التثبيت: أن أبدى النبي غاية الثبات والشجاعة، والوثوق بالله تعالى في أحرج المواقف وأشدها هولا؛ ألا ترى إلى قوله للصديق في الغار: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا} وإلى ثباته يوم أحد وحنين يدعو إلى الله وقد فرّ عنه الكثيرون فما زاده إلا إيمانا وثباتا!
2- تيسير حفظه وفهمه على النبي صلى الله عليه وسلم فقد كان حريصا على ذلك غاية الحرص، ولقد بلغ من حرصه أنه كان لا ينتظر حتى يفرغ جبريل من قراءته، بل كان يتعجل القراءة، فأنزل الله عليه: {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} [سورة طه: 114]، وقوله: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ} [سورة القيامة: 16- 19] فضمن الله لنبيه الحفظ والفهم.
وطبعيّ أن نزول القرآن مفرقا أدعى إلى سهولة حفظه وفهمه، وأيسر وأوفق بالفطرة البشرية.
وهذا المعنى الذي أراده الحق سبحانه- فيما أراده من حكم لنزول القرآن منجما ومفرقا قطعا قطعا- هو غاية ما وصل إليه أهل التربية في حفظ النصوص الطويلة، وتسهيل فهمها.
وهذا المعنى التربوي ما كان يجول بخاطر بشر في هذا العصر، وفي هذه البيئة البدوية، مما يدل على أن منزّل القرآن على هذه الطريقة البديعة هو الله.. العالم بالطبائع البشرية، والنفوس وأسرارها.

.الحكمة الثانية:

التدرج في تربية الأمة دينيّا وخلقيّا واجتماعيّا، وعقيدة وعلما وعملا، وهذه الحكمة هي التي أشار إليها الحق تبارك وتعالى بقوله: {وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا} [سورة الإسراء: 106]، ويندرج تحت هذه الحكمة ما يأتي:
التدرج في انتزاع العقائد الفاسدة، والعادات الضارة والمنكرات الماحقة، فقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى قوم يعبدون الأصنام، ويشركون بالله غيره، ويسفكون الدماء، ويشربون الخمر، ويزنون، ويغتصبون الأموال، ويئدون البنات خشية العار، ويقتلون الأولاد خشية الفقر، ويظلمون النساء، ويتزوجون نساء الآباء، ويجمعون بين الأختين، كما كانوا يتظالمون، ويقع بينهم الحروب لأوهى الأسباب كناقة رعت من حمى، أو سبق فرس، أو نحو ذلك. وكانت الحروب تدوم بينهم عشرات الأعوام حتى تأكل الأخضر واليابس، وكان التكافل والتعاون بينهم يكاد يكون معدوما فلا تراحم بين الأغنياء والفقراء، ولا بين السادة والعبيد ولا بين الأقوياء والضعفاء.
ومعلوم: أن النفس يشق عليها ترك ما تعودته مرة واحدة وشديد عادة منتزعة، والإقلاع عما اعتقدته بمجرد النهي عنه؛ لأن للعقائد- حتى ولو كانت باطلة- وللعادات- ولو كانت مستهجنة- سلطانا على النفوس، والناس أسراء ما ألفوا، ونشئوا عليه، فلو أن القرآن نزل جملة واحدة، وطالبهم بالتخلي عمّا هم منغمسون في حمأته من كفر وجهل ومنكرات مرة واحدة لما استجاب إليه أحد، ولما وفّق الرسول في أداء مهمته، ولعاد ذلك بالنقض على الشريعة الجديدة.
لذلك اقتضت حكمة الله سبحانه- ولله الحكمة البالغة- أن يتدرج معهم في انتزاع هذه العقائد والمنكرات، فينهاهم عن عبادة غير الله، فإذا ما أقلعوا عنه، أخذ في النهي عن منكر غيره.. وهكذا.
وكذلك كان القرآن يتدرج معهم في انتزاع المنكر الواحد، كما حدث في تحريم الخمر، فقد نزل فيها أول ما نزل: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ} [البقرة: 219] فشربها قوم، وتركها آخرون، ثم إن بعض المسلمين صنع طعاما، ودعا أصحابه؛ فأكلوا وشربوا ثم قام أحدهم ليصلي بهم، فقرأ: قل يا أيها الكافرون، أعبد ما تعبدون، فأنزل الله سبحانه: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى} [النساء: 43] فكانوا يتركونها عند الصلوات، وفي الأوقات القريبة منها؛ حتى لا يقعوا في مثل هذا الخلط.
وبذلك صار من السهل تحريمها تحريما باتّا قاطعا؛ فقد صنع بعض المسلمين طعاما، فأكلوا وشربوا حتى لعبت الخمر برءوسهم فتقاولوا الأشعار فتشاجروا حتى شج أحدهم رأس الآخر، فقال الفاروق عمر: اللهم بيّن لنا في الخمر بيانا شافيا، فحرّمها الله تحريما باتّا بقوله: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} إلى قوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [سورة المائدة: 90- 91] فقال عمر: انتهينا فمن ثم.. اقتضت الحكمة نزول القرآن مفرقا.
2- التدرج في تثبيت العقائد الصحيحة، والأحكام التعبدية والعملية والآداب والأخلاق الفاضلة، فأمرهم أولا: بالإيمان بالله وصفاته، وعبادته وحده، حتى إذا ما آمنوا بالله دعاهم إلى الإيمان باليوم الآخر، ثم بالإيمان بالرسل، والملائكة، حتى إذا ما اطمأنت قلوبهم بالإيمان وأشربوا حبّه، سهل عليهم بعد ذلك تقبل الأوامر والتشريعات التفصيلية، والأحكام العملية والفضائل والآداب العالية، فأمروا بالصلاة والصدق والعفاف، ثم أمروا بالزكاة، ثم بالصوم ثم بالحج، وبيّنت لهم أحكام النكاح والطلاق والرجعة والمعاملات، من بيع وشراء، وتجارة وزراعة، ودين ورهن..
إلى غير ذلك من المعاملات الصحيحة منها وغير الصحيحة.
ولذلك كان مدار الآيات في القسم المكي على إثبات العقائد والفضائل التي لا تختلف باختلاف الشرائع. بخلاف القسم المدني، فكان مدار التشريعات فيه على الأحكام العملية والتشريعات التفصيلية التي تتعلق بصيانة الدماء، والأعراض، والأموال، وصيانة العقول، والمحافظة على الأنساب سواء منها ما يتعلق بالمجتمع الصغير وهي الأسرة، أو ما يتعلق بالمجتمع الكبير وهي الأمة، وذلك كأحكام النكاح والطلاق والرجعة والعدة، والحضانة والنفقة، وكالحدود، والعقود، والمعاهدات والسياسات ونحوها. وتفصيل ما أجمل قبل ذلك من الآداب والفضائل.
وقد أشارت السيدة العاقلة العالمة، التي تربت في منزل الوحي عائشة رضي الله عنها إلى هذه الحكمة، فقالت كما ورد في صحيح البخاري: إنما نزل من القرآن أول ما نزل منه سورة من المفصل، فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر، لقالوا: لا ندع الخمر أبدا، ولو نزل: لا تزنوا، لقالوا: لا ندع الزنا أبدا.
ولا شك أن من طبيعة التدرج نزول آيات القرآن، وسوره بعضها في أثر بعض، وقد دل القرآن بهذه السياسة الرشيدة في إصلاح الشعوب وتهذيبها على أنه معجز، وأنه من عند الله؛ فما كان لبشر- مهما كان ذكيّا- أن يتوصل إلى هذه الطرق الحكيمة في ذلك الوقت الذي بعث فيه النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما ذلك من صنع الحكيم العليم الخبير.
3- تيسير حفظه وفهمه على الأمة، فقد أوجب الله على المسلمين حفظ ألفاظه، كما أوجب عليهم فهم معانيه، قال تعالى: {كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ} [سورة ص: 29]، {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها} [سورة محمد: 24].
وقد ابتلي المسلمون في مكة بالمشركين، كما ابتلوا في المدينة باليهود والمنافقين هذا إلى اشتغالهم بأمور معايشهم، وبإقامة الدين، ونشر الإسلام، والدفاع عن دعوته، فلو نزل القرآن مرة واحدة لما أمكنهم حفظه ولا فهمه مع وجود هذه الملابسات والظروف المحيطة بهم.
لذلك اقتضت حكمته أن ينزل القرآن مفرقا، حتى إذا ما نزلت قطعة منه أمكنهم أن يحفظوها ويجيدوا فهمها.
4- تثبيت قلوب المؤمنين، وتعويدهم على الصبر والتحمل بذكر قصص الأنبياء والسابقين الفينة بعد الفينة، وتذكيرهم بأن النصر مع الثبات والصبر، وأن العاقبة للمتقين، والخذلان والخسران للكافرين، اقرأ- إن شئت- قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [سورة البقرة: 214]، فقد ذكر عطاء أن المسلمين لما هاجروا إلى المدينة، وتركوا الأهل والوطن والمال، وآثروا رضاء الله ورسوله، وتعرضوا لألوان من الإيذاء والجهد والفقر والمرض، ومعاداة اليهود والمنافقين لهم، شق ذلك على نفوسهم، فأنزل الله هذه الآية.
وقال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [سورة ال عمران: 142]، وقال تعالى: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ} [سورة العنكبوت: 1- 3].
بل اقرأ هذا الوعد الذي يستحث الهمم، ويقوي العزائم إلى الجهاد والكفاح حتى تقوم لهم دولة ويكون لهم سلطان: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} [سورة النور: 55].
وطبعي: أن دواعي هذا التذكير والإرشاد والتوجيه لم تكن في وقت واحد، بل كانت في أزمنة متعددة متفاوتة، فاقتضى ذلك نزول القرآن مفرّقا على حسب ذلك.