فصل: مميزات المكي والمدني:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المدخل لدراسة القرآن الكريم



.المكي والمدني على ترتيب النزول:

وكما عني العلماء ببيان المكي والمدني من السور عنوا أيضا بترتيب السور المكية والمدنية على حسب النزول فقد أخرج ابن الضريس في فضائل القرآن رواية عن ابن عباس في هذا الترتيب وقد سقط من هذه الرواية فاتحة الكتاب فيما نزل بمكة، كما أخرج أبو بكر محمد بن الحارث ابن أبيض في جزئه المشهور رواية عن جابر بن زيد، وجابر بن زيد من علماء التابعين بالقرآن، وقد اعتمد البرهان الجعبري على هذا الأثر في قصيدته التي سماها تقريب المأمول في ترتيب النزول، وتكاد تتفق الروايتان فيما ذكرناه من ترتيب ولم تفترقا إلا في القليل.
ومما يؤخذ على هاتين الروايتين أنهما اتفقتا على أن أول ما نزل {اقرأ} ثم {ن والقلم} ثم {يا أيها المزمل} ثم {يا أيها المدثر}... وهو يخالف ما حققناه سابقا من أن أول ما نزل بعد صدر سورة {اقرأ} هو صدر سورة المدثر وكان ذلك بعد فترة الوحي، ولعل النظرة الفاحصة في أوائل {ن} والمزمل والمدثر تهدينا إلى أن المدثر هي الأنسب بالتقديم على أختيها إذ قد اشتمل صدرها على الأمر بالإنذار وهو الأليق بالتقديم.
ولعل هذا النقد الذي ذكرته هو ما أشار إليه الإمام السيوطي حيث قال بعد أن ذكر رواية جابر بن زيد: هذا سياق غريب وفي هذا الترتيب نظر.

.الضوابط التي يعرف بها المكي والمدني:

لمعرفة المكي والمدني طريقان:
1- سماعي.
2- وقياسي.
أما السماعي فالنقل الصحيح عن الصحابة أو التابعين بأن سورة كذا أو آية كذا نزلت بمكة أو بالمدينة أو قبل الهجرة أو بعدها.
وأما القياسي فضوابط كلية لمعرفة كل منها وهذه الضوابط مبناها على التتبع والاستقراء المبني على الغالب والكثير.

.ضوابط المكي:

1- كل سورة فيها {كلا} مكية، وقد وردت في القرآن ثلاثا وثلاثين مرة في خمس عشر سورة كلها في النصف الأخير قال الدريني رحمه الله:
وما نزلت كلا بيثرب فاعلمن ** ولم تأت في القرآن في نصفه الأعلى

قال العماني: وحكمة ذلك أن النصف الأخير نزل أكثره بمكة، وأكثر أهلها جبابرة فتكررت كلا على وجه التهديد والتعنيف لهم والإنكار عليهم بخلاف النصف الأول، وما نزل منه في اليهود لم يحتج إلى إيرادها فيه لذلتهم وضعفهم.
2- كل سورة في أولها حروف المعجم فهي مكية سوى البقرة وآل عمران فإنهما مدنيتان باتفاق، وفي الرعد خلاف.
3- كل سورة فيها قصة آدم وإبليس فهي مكية سوى البقرة.
4- كل سورة فيها سجدة مكية سوى الحج، عند من يقول إنها مدنية.
5- كل سورة فيها قصص الأنبياء والأمم الماضية مكية سوى البقرة وآل عمران.

.ضوابط المدني:

1- كل سورة فيها ذكر الحدود والفرائض مدنية.
2- كل سورة فيها ذكر المنافقين وأحوالهم مدنية سوى سورة العنكبوت فإنها مكية إلا إحدى عشرة آية من صدرها فإنها مدنية وهي التي ذكر فيها المنافقون.
3- كل سورة فيها الإذن بالجهاد أو الأمر به وأحكامه والصلح والمعاهدات فهي مدنية، سوى سورة الحج عند من يرى أنها مكية.

.مميزات المكي والمدني:

قد امتاز كل من المكي والمدني غير ما تقدم من الضوابط بأمور كثرت فيه وسمات بارزة تميزه عن غيره وهذه المميزات ترجع إلى المعنى والموضوع والخصائص البلاغية فهي أدل وأدق وأشمل من الضوابط لأن غالبها يرجع إلى اللفظ والشكل.

.مميزات المكي:

1- الدعوة إلى أصول الإيمان الاعتقادية من الإيمان بالله واليوم الآخر وما فيه من البعث والحشر والجزاء والإيمان بالرسل والملائكة وإقامة الأدلة العقلية والكونية والأنفسية على ذلك، وهذه الثلاثة وأدلتها هي التي يدور عليها غالبا الحديث في السور المكية؛ وذلك لأن القوم كانوا منغمسين في حمأة الشرك والوثنية، وكانوا لا يقرون بالنبوات ولا بالبعث وما بعده، ويقولون: إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين، فكان اللائق بحالهم دعوتهم أولا إلى الإيمان بهذه الأصول فإذا ما آمنوا بها خوطبوا بالفروع والتشريعات التفصيلية.
2- محاجة المشركين ومجادلتهم وإقامة الحجة عليهم في بطلان عبادتهم الأصنام وبيان أنها بمعزل عن الألوهية واستحقاق العبادة وأنها لا تضر ولا تنفع ولا تخلق، ولا تحس، ولا تعي أي شيء، ودعوتهم إلى استعمال عقولهم ونبذ التقليد بغير حجة وعلم قال تعالى: {بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ * وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ * قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ} [الزخرف: 22- 24] وقال سبحانه: {وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ} [لقمان: 21]، وإقامة الأدلة على أن القرآن حق لا شك فيه، وأنه من عند الله، وقد وقع التحدي بالقرآن في ثلاث سور مكية ولم يقع التحدي به في القسم المدني إلا في سورة البقرة.
3- الدعوة إلى أصول التشريعات العامة والآداب والفضائل الثابتة التي لا تتغير بتغير الزمان والمكان ولاسيما ما يتعلق منها بحفظ الدين والنفس والمال والعقل والنسب وهي الكليات الخمس التي تتفق فيها جميع الشرائع السماوية وذلك كالحث على الثبات على العقيدة والاستهانة بكل شيء في سبيلها والأمر بالصلاة والصدقة، والصدق، والعفاف وبر الوالدين، وصلة الرحم، والعفو، والعدل، والإحسان والتواصي بالحق، والخير، والصبر، والنهي عن القتل، ووأد البنات، والظلم، والزنا وأكل أموال الناس بالباطل وذلك مثل قوله تعالى في أواخر سورة الأنعام: {قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} الآيتين، وفي سورة الأعراف: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ} وفي سورة النحل: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ} الآية، وقوله تعالى في سورة ن: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} الآيات.
4- ذكر قصص الأنبياء مع أقوامهم؛ ليكون في قصصهم عبرة وموعظة لأولي الألباب، لبيان أن دعوة الرسل جميعا واحدة وأنهم جاءوا بالتوحيد الخالص والإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وأن الأنبياء وأتباعهم لاقوا كل أنواع الإيذاء في سبيل عقيدتهم ومع ذلك صبروا وثبتوا على عقائدهم وكان النصر والعاقبة لهم، والهزيمة والخذلان لأعدائهم إلى غير ذلك ولقد كان ذكر القصص في القسم المكي من أعظم الأدلة على أن القرآن من عند الله؛ إذ لو تأخر نزوله إلى المدينة لقالوا: تعلمه من أهل الكتاب قال تعالى: {تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود: 49]، وقال تعالى: {لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ * ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف: 111].
5- قصر أكثر آياته وسوره؛ وذلك لنزوله بمكة، وأكثر أهلها يومئذ يمتازون بعلو كعبهم في الفصاحة والبلاغة، وتملكهم لناصية القول، والخطابة، والشعر وبلوغهم الغاية في لطف الحس، وذكاء العقل، والألمعية وسرعة الخاطر فكان المناسب لهم النذر القارعة، والعبارات الموجزة، والفقر القصيرة ذات اللفظ الجزل، والجرس القوي، والمعنى الفحل فتصخّ الآذان وتستولي على المشاعر وتعقل ألسنتهم عن المعارضة وتدعهم في حيرة ودهشة مما يسمعون فلا يلبث البليغ منهم بعد سماعها أن يلقي عصا العجز ويرسلها قولة صريحة تشهد بالإعجاز كما قال الوليد بن المغيرة القرشي لما سمع القرآن: والله لقد سمعت كلاما ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة، وإن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق، وما هو بقول بشر، وإنه ليعلو ولا يعلى، وإنه ليحطم ما تحته.
ولما أحزنت المشركين مقالته وأكرهوه على أن يقول في القرآن قولا ينقض قولته الأولى لم يسعه بعد الصراع النفسي العنيف وتكلف الخروج عن فطرته العربية وملكته الأدبية إلا أن يقول: {إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} ولكي تتأكد أن الرجل لم يقل ذلك إلا مكرها أقرأ عليك قول الله: {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} [المدثر: 18- 25]. فانظر كيف صور القرآن حالته النفسية هذا التصوير المعجز الذي يصور لك الوليد وقد بدت على وجهه آثار الصراع النفسي العميق العنيف ما بين فطرته اللغوية التي تأبى عليه أن يقول في القرآن غير ما قال، وما بين رغبته في إرضاء قومه التي تلح عليه أن يقول في القرآن ما يرضيهم ويبقي على مودتهم له، فلم يستطع إلا أن يقول: {إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ}!!! وآثر أن يناقض نفسه على أن يغضب قومه!!
ولقد كان البليغ منهم- على كفره- يسمع القرآن فيخيل إليه أن العذاب كأنه واقع بهم فلا يجد مندوحة عن أن يناشد النبي صلى الله عليه وسلم الله والرحم أن يكف عن قراءاته، وكان القرشيون يتواصون فيما بينهم أن لا يستمعوا إليه وأن يضعوا أصابعهم في آذانهم، ويستغشوا ثيابهم، حذرا أن ينفذ إلى قلوبهم فإذا هم بعد قليل تغلب عليهم فطرتهم اللغوية فيتناسون الوصية ويلقون إليه بآذانهم وقلوبهم لما يجدون في استماعه من لذة وإرضاء لملكاتهم الأدبية.