فصل: علم الكون والإنسان في القرآن:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المعجزة الكبرى القرآن



.العلاقة في السلم والحرب:

229 - الإسلام هو دين الوحدانية، ودين الوحدة الإنسانية، وقد تلونا من قبل الآيات اللقرآنية التي تقرُّ الوحدة الإنسانية بين الناس أجمعين، ورأينا أنه بمقتضى هذه العلاقة يكون الأصل هو السلم، ولكنَّ الناس مختلفون أجناسًا وقبائل وألسنة وأقاليم:
وتلك آيات الله تعالى في الأرض، فقد قال تعالى: {وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ} [الروم: 22].
وقد نظَّم الله سبحانه وتعالى - في كتابه الكريم هذه العلاقة على أساس المساواة، كما صرَّحت الآية الكريمة: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات: 13]، والمساواة أساس التعارف، كما أن التعارف يقتضي المودَّة والتعاون في كل أمور الحياة، وقد أشرنا إلى ذلك من قبل.
والعدالة أساس العلاقات الإنسانية، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 135].
ويقول سبحانه وتعالى - في العلاقة الإنسانية العامة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: 8].
والأمر بالعدالة عام في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} [النحل: 90].
وإن العدالة توجب المعاملة بالمثل، إن اعتدوا قاومنا الاعتداء، وقد قال تعالى في ذلك: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [النحل: 126].
ومع أن الله تعالى أمرنا بردِّ الاعتداء بمثله في قوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}، أمرنا بالتقوى، فقال سبحانه: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 194]، ولذلك يجب علينا عند المعاملة بالمثل أن نستمسك بالفضيلة، فإنَّ الفضيلة هي القانون العام في كل معاملة إنسانية، فإذا كان العدوّ يقتل الذرية لا نقتلها، وإن كان ينتهك الأعراض لا ننتهكها، وإن كان يخرّب ديار الآمنين لا نخرّبها ما وسعنا ذلك. وهكذا.
وإنَّ الإسلام قرر مبدأ الوفاء بالعهد وشدَّد فيه القرآن، فقال تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} [الإسراء: 34].
ولقد قرَّر القرآن الكريم أنَّ الوفاء بالعهد في ذاته قوة، فقال تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ، وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل: 91 - 94].
وإن هذا النص الكريم يدل على أربعة أمور:
أولها: إنَّ نقض العهد يؤدي إلى الزلل، ومع الزلل الضياع، فهو ليس حكمة ولا تدبيرًا، ولكنه خطل.
وثانيها: إنَّ العهد الذي يوثق بيمين الله أو بإشهاد الله تعالى عليه هو عهد الله إذا اتخذ الله كفيلًا، فمن ينقضه فإنما ينقض عهد الله تعالى الذي وثقه بكفالته.
وثالثها: إنَّ العهد في ذاته قوة، والتزامه قوة، ولذا شبَّه من ينقضه بحال الحمقاء التي تغزل غزلًا وتفتله، ثم تنقضه أنكاثًا، أي: أجزاء صغيرة، فالعهد يثبت السلم، وفي السلم قوة وقرار، والنقض إزالة له.
ورابعها: إنَّه لا يصح أن تكون سعة الأرض وزيادة السلطان سببًا في الغدر، ولذلك قال سبحانه وتعالى - في بواعث الغدر أن تكون أمة هي أربى من أمة، أي: أوسع أرضًا، وأكثر عددًا، وأقوى سلاحًا، فلا يصح أن يكون التوسع باعثًا للغدر؛ لأنه يؤدي لا محالة إلى الضعف.
وهذا التشدد في الوفاء بالعهد؛ لأنه في ذاته عدالة، ولأنَّ العهد فيه حدّ للحقوق، وخصوصًا إذا كان بين متكافئين، ولا يصح أن يكون الاستعداد وأخذ الأهبة سببًا في ذاته للنقض، ولكن إذا قامت أمارات تدل على أن استعداد المعاهد وأهبته نذير خيانة، وعلى المؤمنين أن يأخذوا حذرهم كما قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا} [النساء: 71]. وفي هذه الحال يطبق قوله تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} [الأنفال: 58].
وإذا كان هناك ما يجب الاحتياط له فإنَّه يكون عند عقد العهد، فلا يصحُّ الاطمئنان إلى عهد من عرفوا بالخيانة، فإنَّ العهد معهم نوع من الاغترار، ولذلك كان يجب تعرف حال الطرف الذي يعاهده قبل العهد، ولذلك حذَّر الله تعالى من العهد مع بعض المشركين الذين يقول سبحانه فيهم: {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ، اشْتَرَوْا بِآَيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ} [التوبة: 8 - 10].
230 - هذا ما أردنا أن نقتبسه من آي الذكر الحكيم في أحكام الحلال والحرام، وما نقلنا كل ما اشتمل عليه القرآن العظيم، ولكن نقلنا ما يرى التالي للقرآن المقتبس من نوره، وما فصلنا الأحكام التي تعرضنا لنقلها من كتاب الله، فإنَّ تفصيلها يحتاج إلى نقل ما جاء في السنة، وما اختلف الفقهاء في ظلّ النور القرآني في دلالة بعض الألفاظ، فإنَّ الكلام في ذلك يخرجنا عن مقصدنا، وهو الإشارة إلى علم الكتاب الكريم الذي يدل على إعجازه، والله سبحانه وتعالى - الهادي إلى سواء السبيل.

.علم الكون والإنسان في القرآن:

231 - القرآن الكريم تكرَّر ذكر الكون فيه؛ لأنه كما بينا اتخذ من خلق كل من الوجود دليلًا على من أنشأه، فكان بمقتضى النهج النوراني لا بُدَّ أن الكون وما فيه من خلق عظيم يدل على منشئه وحده سبحانه وتعالى، ولا تكاد تَجِدُ سورة من القرآن مكيَّة أو مدنية خلت من ذكر الكون، وما يتصل به.
وإنَّ ذلك فيما نحسب يوجِّه نظر الإنسان إلى أنَّه جزء صغير من هذا الكون، ليربطه به، وليتعرَّف أسراره وأحواله، وليعرف أنَّه وهو الصغير قد سخر الله تعالى له هذا الكون الكبير، ولقد قال تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ}.
وأنَّ ثمة حقائق مذكورة في القرآن يستبصر بها كل متعرِّف لهذا الكون دارس له.
فالله تعالى يقول: {وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ} [الشورى: 29].
وفي القرآن الكريم ما يومئ إلى محاولة إلى محاولة الإنسان الارتفاع في القضاء، فالله تعالى يقول: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ، فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ، يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ، فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 33 - 36].
واقرأ آيات القرآن في السحاب وإرساله وأحواله، فإنك تجد توجيهًا إلى ما لم يكن الناس من قبل يتَّجِهون إليه، ودلَّت المشاهدات على أنه واقع، اقرأ قوله تعالى في وصف السحاب: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ، يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} [النور: 43].
وترى من هذا تشبيه السحاب الذي أزجاه الله تعالى بالجبال، وهذا لا يبدو للسائر على سطح الأرض، ولا للواقف على آكامها ومرتفعاتها، وما كان ذلك معلومًا عند العرب، ولكن الذي يرتفع فوق السحاب في الطائرات التي تقطع أجواء الفضاء يرى السحاب جبالًا.
وإنَّ هذا بلا شكٍّ نوع من العلم بالكون فوق ما فيه من دلالة على إعجاز القرآن؛ إذ إن ذلك الوصف لا يمكن أن يكون من محمد؛ لأنه لم يرتفع حتى يكون فوق السحاب، فلا بُدَّ أن يكون الوصف بعلم الله تعالى، والكلام كله من عند سبحانه وتعالى، لا من عند محمد.
وأنت ترى أوصافًا كثيرة للأرض والسماء لا تكون من الأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب، أو لا يعلم علوم الكون وما يجري فيه، وما كانت معروفة عند العلماء في عصر نزول القرآن، كالعلم بطبقات الأرض والسماء، ذكرها القرآن، والباحثون لا يزالون دائبين في البحث عنه، وعلمهم يصدق بالقرآن، اقرأ قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12].
واقرأ قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 29]، وقوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ، الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ، ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك: 1 - 4].
واقرأ قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا، وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا} [نوح: 15، 16].
وترى النص الكريم يفرّق بين الشمس والقمر، فيجعل الشمس هي السراج الذي يضيء، والقمر نورًا مقتبسًا من غيره، وهو الشمس.
واقرأ قوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا، وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان: 61، 62].
ويقول سبحانه وتعالى - في خلق السماوات والأرض، وأدوار خلقهن: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54].
ولقد بيِّنَ القرآن أنَّ السماوات والأرض كانتا شيئًا واحدًا، وأنَّ الأرض انفصلت عن السماء وتكوَّنت فيها القشرة الأرضية، وكان عليها الماء، ومنه كانت الأحياء التي خلقها الله تعالى، واقرأ في ذلك: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ، وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ، وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آَيَاتِهَا مُعْرِضُونَ} [النبياء: 30 - 32].
وترى أنَّ النص الكريم صريح في أنَّ السماوات والأرض كانت كونًا واحدًا، وفصل الله تعالى جزءًا منه وهو الأرض، وكانت فيها هذه الحياة التي يحياها الحيوان والطير في السماء، والسمك في الماء، والزرع في الفيحاء.
وإذا كان العلماء اليوم يقررون أنَّ الكون ابتدأ خلقه بالسديم، وهو يشبه الدخان، فقد صرَّح القرآن الكريم قبل ذلك، وقبل أن يعلموا، فقال الله تعالى في خلق السماوات والأرض: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ، ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ، فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [فصلت: 9 - 12].
ونقف وقفة قصيرة عند هذه الآيات البيِّنَات، فنرى الله سبحانه وتعالى - يبيِّن لنا أنَّ الأرض خلقها في يومين، واليوم هنا كما أشرنا من قبل ليس هو اليوم الذي نعرفه، وإنِّمَا هو الدور في التكوين، وهو كونها من السموات رتقًا، وهذا دور، ثم انفصالها وهذا دور ثان، ودوران آخران للأرض جعل فيها رواسي عالية، وهي الجبال، وخلق فيها الماء وما تبعه من خلق للأحياء من حيوان ونبات، فكانا أربعة أدوار.
ويبيِّن سبحانه أنَّ السماء والأرض كانت دخانًا، وهو ما نحسب أنه السديم الذي يقوله العلماء.
232 - وإن القرآن الكريم فيه إشارات بيِّنَات إلى علم الكون، ونعتقد أن الذين درسوا علوم الكون في السماوات والأرض وما بينهما لو تتبَّعوا آيات القرآن الكريم التي تعرَّضت لذكر الكون لوجدوا حقائق كثيرة ما وصل إليه العلم الحديث، قد تعرَّض لها القرآن بالإشارة الواضحة التي تجعل ولا تفصل، وهي في كلتا الحالتين صادقة كلَّ الصدق بيَّنَة لمن يطلب الحقائق الصادقة، وإن بضاعتنا في علوم الكون محدودة لا تسمح لنا بالخوض في كلامٍ تفصيلي في هذا، وقد رأينا كثيرين من العلماء المخلصين المحققين قد تعرضوا لهذا، فمنهم من بَيِّنَ طبقات الأرض، كما أشار القرآن، ومنهم من بَيِّنَ غير ذلك.
ونحن نرحب ببيانهم، ولكن لا بُدَّ من ملاحظتين:
الملاحظة الأولى: إنَّهم يحاولون أن يحملوا القرآن نظرياتهم، وعليهم أن يفهموه كما تبيّن ألفاظه، وكما تومي إشاراته؛ وذلك لأنهم أحيانًا يحملون القرآن ما لا يتحمَّل ويرهقون ألفاظه بالتأويل، وأحيانًا يأتون بنظريات لم تكن قد حررت من بعد من الشك والنظر، وقد تتغير، ولا يصح أن يبقى القرآن تتردد معانيه باختلاف النظريات، بل إنَّ الواجب أن ندرس ما في القرآن على أنه حقائق، فما وافقه من العلوم قبلناه.
الملاحظة الثانية: أن ندرس الكون في القرآن على أنه حقائق ثابتة هو مواضع التسليم من المؤمن بالله تعالى وبالقرآن، فلا تجعل حقائق موضع نظر، بل إن الإيمان بالقرآن يوجب الإيمان بكل ما اشتمل عليه، ولا يصح لنا أن نترك ظاهر القرآن ونتجه إلى تأويله إلَّا أن يكون الظاهر يقبل التأويل، وتكون حقائق العلم الثابتة تقتضي الأخذ بالتأويل الذي يحتمله القرآن من غير تعسُّف لا خروج بالألفاظ إلى غير معانيها.
وإننا بهذه الدراسة العميقة المسلّمة بحقائق نفتح مغاليق في العلم، ونتكشف الحقائق الكونية بهداية من القرآن، على أنه المرشد لها، وليس التابع، ولا الخاضع، وكتاب الله تعالى هو كتاب الحق والصدق والعلم؛ لأنه من عند الله الذي لا يخفى عليه شيء في السماء ولا في الأرض، وهو كتاب الوجود، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.