فصل: معجزات سيدنا موسى:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المعجزة الكبرى القرآن



.معجزات سيدنا موسى:

167 - قصصنا بعض القصص عن سيدنا موسى عليه السلام، وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتمّ التسليم، وكنّا نذكر ذلك بصدد بيان أنَّه لا تكرار في قصة موسى لمن تدبر وتفكَّر في المغازي والمقاصد، لا في ظواهر الألفاظ، والآن نذكر فقط الخوارق للعادات التي جرت على يد موسى عليه السلام، وهي تسع آيات كما جاء في القرآن الكريم. فقد قال تعالى: {وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا} [الإسراء: 101].
ولنذكر إن شاء الله تعالى تلك الآيات التي لم تجد مع فرعون وقومه الضالين.
أولهما: العصا التي قال الله تعالى فيها: {فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} [الشعراء: 45]، وقد نزل موسى يباهل بها السحرة من قوم فرعون: {قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ، قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ، وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ، فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ، وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ} [الأعراف: 115 - 120].
الثانية: أنه يخرج يده من جيبه، فإذا هي بيضاء من غير سوء، كما قال تعالى: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آَيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [النمل: 12] وكما قال تعالى: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [الأعراف: 10].
الثالثة: إنَّ الله تعالى أخذ آل فرعون بالجدب ونقص الأموال والأنفس والثمرات، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأعراف: 130].
الرابعة والخامسة والسادسة والسابعة والثامنة: ما ذكره الله تعالى بقوله: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آَيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ} [الأعراف: 133].
الآية التاسعة: أنَّهم عندما نزل بهم الرجز الشديد طلبوا من موسى أن يدعو ربه ليكشف عنهم الرجز، كما قال تعالى: {وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ} [الأعراف: 134، 135].
وإذ لم تجد هذه المعجزات مع أنها قارنت حياتهم، ومسّت معيشتهم، حتى لم يكن لطالب حقٍّ أن يرتاب، ولا لطالب الهداية أن يمتري، عندئذ كانت الضربة القاصمة لفرعون وملئه، ولذلك قال تعالى: {فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ، وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} [الأعراف: 136، 137].
هذه إشارات إلى معجزات سيدنا موسى، وكل خارق للأسباب والمسببات مما يدل بذاته أولًا: على أنَّ الله تعالى فعَّال لما يريد، خلق الأشياء بإرادته وقدرته، ولم تنشأ عنه كما ينشأ المعلول عن علته، وتدل على رسالة موسى عليه السلام وبعثه إلى بني إسرائيل، وفرعون وقومه.

.الخوارق التي جاءت على يد سليمان:

168 - كان سليمان حاكمًا ونبيًّا، ولم يكن حاكمًا طاغوتيًّا، بل كان حاكمًا ربانيًّا، أعطاه الله تعالى علم الحاكم العادل ذي السلطان غير المسيطر، وأعطاه علمًا آخر، أعطاه العلم بلغة الحيوان، وسخر له الطير، وسخر له الجن، وأوتي علم لغة النمل والطير، ولنتل ما جاء في سورة النمل من خوارق كانت مع سليمان، قال الله تعالى، وهو أصدق القائلين: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ، وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ، حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ، فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ، وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ، لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ، فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ، إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ، وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ، أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ، اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ، اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ، قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ، إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ، قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ، قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ، قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ، وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ، فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آَتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آَتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ، ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ، قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ، قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ، قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآَهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ، قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ، فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ، وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ، قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل: 16 - 44].
تلونا هذا الجزء من هذه السورة الكريمة، وكلها أمور ليست مما يجري في عادات الناس، ولنشر إليها إشارات نوجّه فيها الأنظار إلى ما اشتملت عليه الآيات الكريمات من بيان فوق طاقة البشر.
أولها: الأمر الذي لا يعرف لغير سليمان، وهو أنه عُلِّم منطق الطير والحيوان، وهذا يدل على أنَّ غير الإنسان أمم أمثال الإنسان، لها منطق ولغة، وإن كنَّا لا نعرفها، وعرف نبي الله سليمان بعضها، كما قال تعالى في كتابه الكريم: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38] فإذا كان سليمان قد عُلِّمَ منطق بعض الحيوان، فهو مصداق لقول الله تعالى الخالق الفعال لما يريد.
وثانيها: تسخير الطير له، فهذا الهدهد كان له من الإدراك الرباني ما جعله يعرف الهدى من الضلال.
وثالثها: الإتيان بعرشها بين غمضة عين وانتباهتها، أو كما عبَّر القرآن الكريم {آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ}، وهذا من تسخير الله تعالى لسليمان، ومن العلم الذي أعطاه الله بعض عباده المخلصين، ونقول: إنَّ الآية صريحة في أنَّ الذي أتى هو عرشها حقيقة لا صورته، كما يقول المتشددون في المادية، ومع ذلك إذا كانت هي الصورة فإنَّ الخارق ثابت، وهو أنَّه أتى به قبل أن يرتد إليه طرفه.
وفي قصة نبي الله سلميان عليه السلام خوارق أخرى غير ما جاء في سورة النمل، فقد جاء في سورة سبأ ما نصه: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ، يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آَلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ، فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} [سبأ: 12 - 14].
العبرة في خوارق العادات لسليمان:
169 - أطنبنا بعض الإطناب في النقل من القرآن الكريم عن خوارق العادات في عهد نبي الله سليمان عليه السلام؛ وذلك لأنَّ هذا العصر كانت فيه الفلسفة الأيونية مسيطرة في آسيا الصغرى، وتولدت عنها فلسفة اليونان، وكانت الفلسفة الأيونية قائمة على الأخذ بالأسباب والمسببات، وتولّد المعلول من العلة في انتظام قائم لا يتخلف، فجاء سليمان عليه السلام، وقام سلطانه كله على خرق للأسباب والمسببات، والقيام على إثبات أنَّ الكون كله بإرادة مريد مختار، ولا يفعل إلا ما يريد، ولا يصدر عنه شيء بغير إرادته الخالدة الثابتة، فقام سليمان بذلك، وأجرى الله تعالى تلك الخوارق على يديه، فأجرى الريح التي غدوّها شهر ورواحها شهر على يديه، وعلِّم منطق الطير، وسمع حديث النمل، وجاءه عرش بلقيس بين يديه قبل أن يرتدَّ إليه طرفه، وسخَّر الله تعالى له الجنّ، وكان كل شيء في حكمه بخوارق العادات، أو بخرق نظام الأسباب والمسببات العادية التي بنيت عليها نظرية أنَّ المخلوقات نشأت عن الموجد الأول نشوء العلة عن معلولها، فكانت حياة نبي الله تعالى سليمان في ملكه تجري على هدم هذا النظر، وسخر الله له الريح تجري بأمره حيث أصاب، وكذلك كانت الخوارق للأسباب هي المسيطرة في معجزات من جاء بعده من الرسل.

.معجزات عيسى عليه السلام:

170 - في هذا العصر الأيوني كان مبعث عيسى عليه السلام، ووجوده، ولم يكن علم الطب رائجًا عند بني إسرائيل كما توهم عبارات بعض الكتاب في العقائد من المسلمين، بل كان بنو إسرائيل أجهل الناس بالطبِّ كما يقرّر علماء تاريخ الفلسفة، ومنهم رينان الفيلسوف المسيحي.
إنما كانت معجزات عيسى لإبطال النظرية الأيونية التي تعتقد أنَّ المخلوقات نشأت عن الموجد نشوء العلة عن معلوله.
وكانت ولادة عيسى إبطالًا صارخًا لهذه النظرية، فإنَّ المعتاد في الحياة الحيوانية ومنها الحياة الإنسانية أن الولد يولد من أبوين، أب ملقح ببذرة الوجود، وأم تتلقى في رحمها تلك البذرة، أو الجرثومة كما يعبّر العلماء، أو المني الذي يُمْنََى كما عبَّر القرآن.
فجاء عيسى من غير أب، وكان ذلك خرقًا للأسباب الطبيعية الجارية، وكان غريبًا على مريم البتول.
واقرأ قوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا، فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا، قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا، قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا، قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا، قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آَيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا، فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا، فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا، فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا، وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا، فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا، فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا، يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا، فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا، قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا، وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا، وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا، وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا، ذَلِكَ عيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ، مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [مريم: 16 - 36].
هذه كلها خوارق تنبئ عن أن الله خلق الكون بإرادة سرمدية، وولادة عيسى نفسها أول خارق للعادة، ولذا قال الشهرستاني: إنَّ وجود عيسى ذاته معجزة. وأكدت معجزة الإيجاد من غير أب بمعجزات أخرى، أو بخوارق عادات أخرى، أولها: الرطب الجني من النخل بهزه، ومناداته لها وهو في المهد، وحديثه في المهد حديث الحكماء، فكل هذه خوارق للأسباب والمسببات تدل على أنّ الإيجاد والتصوير والتربية كلها بإرادة الله العليم الحكيم خالق كل شيء، ومنها الأسباب والمسببات. تعالى الله علوًا كبيرًا.
ومعجزاته عليه السلام من هذا القبيل الذي هو تحدٍّ حسيّ للأسباب والمسببات، فقد قال تعالى بعد أن بعثه رسولًا لله رحمه للعالمين: {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ، وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ، إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [آل عمران: 48 - 51].
هذه دعوة عيسى عليه السلام، وفيها البينات الدالة على رسالته، بما هو خرق حسيّ واضح يرى بالعين، وليس خفيًّا يدرك بالمعنى، هو يبرئ الأكمه الذي ولد أعمى، والأبرص الذي عجز الطب إلى الآن عن إبرائه، وهو فوق ذلك يحيى الموتى بإذن الله بالفعل لا بمجرَّد الإمكان كما ادَّعى بعض المفسرين، وهو روحاني ينبئهم بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم.
وهل يسير كل هذا على قانون الأسباب والمسببات، لكي نقول ما يقوله الفلاسفة يجب أن نلغي حكم العقول، وبدهيات المدارك.
وقد ذكر سبحانه وتعالى - معجزات أخرى في آخر سورة المائدة، فقد قال تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ، إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ، وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آَمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آَمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ، إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ، قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآَخِرِنَا وَآَيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ، قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة: 109 - 115].
وهكذا نرى أن هذه الآيات الكريمات ذكرت بعض المعجزات السابقة، وأضافت إليها معجزتين أخريين.
إحداهما: أنه ينادي الموتى من القبول فتخرج، وذلك في قوله تعالى: {وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى}.
والثانية: أنَّ الله تعالى أنزل عليهم مائدة من السماء.
164 - ونرى من هذا أنَّ الخوارق للعادات كثرت على يد عيسى عليه السلام، وكان وجوده ذاته خارقًا للعادة؛ إذ ولد من غير أب كما بيَّنَّا، وكلها تدل على أن كل شيء في الوجود هو بإرادة مختار، فعال لما يريد.
وما كان ذلك إلَّا إبطالًا لنظرية وجود الأشياء بالفلسفة التي سادت في العصر الأيوني، ثم انتقلت إلى اليونان، وأخذت تتسع حتى كانت الأفلاطونية الحديثة التي التقت مع النصرانية المحرّفة غير المسيحية الأولى في نظرية العلية، فجعلت العقل الأول هو الأب، والعقل الثاني هو الابن. ثم كانت بعد ذلك الروح القدس المنبثقة من الاثنين أو أحدهما.
ووجود المسيح وحياته، وما أجراه الله تعالى من خوارق للعادات، كانت تحيط بكل تصرفاته وأعماله، كل ذلك كان حججًا قاطعة مثبتة أنَّ العالم كله مخلوق بإرادة حكيم قادر قهار سميع بصير مريد مختار.
172 - وإن قصة أهل الكهف التي أشرنا إليها في بعض ما قلناه، وقد حدثت بعد المسيحية على ما يبدو من وقائعها، كانت فيها إرادة الله ظاهرة في بيان سر هذا الوجود، وأنَّ الفاعل له مريد مختار لا يتقيد في إيجاده لخلقه بأن يكون وجود الأشياء مربوطًا بالعلة والمعلول، بل هو مربوط بإرادة حكيم بفعل ما يشاء ويختار، ولنتلها عليكم، ولا مانع من تكرار تلاوتها، إن كنا قد تلوناها هي من قبل.
{أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آَيَاتِنَا عَجَبًا، إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آَتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا، فَضَرَبْنَا عَلَى آَذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا، ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا، نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى، وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا، هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا، وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا، وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا، وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا، وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا، إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا، وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا، سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا، وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا، إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا، وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا، قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} [الكهف: 9 - 26].
وإنَّ المفسرين والمؤرِّخين للديانات يقررون أنهم مسيحيون مؤمنون بالمسيحية الحق التي جاء بها عيسى عليه السلام، وأنهم فروا بدينهم من الرومان الذين أرهقوا المسيحيين الصادقين من أمرهم عسرًا، حتى أنّ نيرون اللعين، كان يطليهم بالقار، ويشعل فيهم النيران، ويسيرهم في موكبه، وهو فخور مختار بتلك المشاعل البشرية.
وإذا كان القرآن الكريم ذكر أنهم لبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعًا، فإنه يكون ظهورهم في وقت الأفلاطونية التي نسخت النصرانية، والتي دخل فيها قسطنطين بعد أن ابتدأ بالسير بها في طريق التثليث الأفلاطوني، الذي بني على أساس أنَّ الكون ظهر من الأول ظهور المعلول عن علته.
فكانت واقعة أهل الكهف، وظهورهم بعد ثلاثمائة سنة وتسع، وهي وقت الانحراف المسيحي في الاعتقاد دليلًا قويًا على بطلانه، وعلى بطلان الأساس الذي قام عليه، وهو مذهب الأفلاطونية الحديثة، الذي يقوم على أنَّ الموجودات علة لمعلول، وليست من خالق مريد قادر.
173 - أطنبنا بعض الإطناب في ذكر الخوارق التي هي بعض ما جاء في القرآن الكريم، وذلك لأمرين: أولهما: أنَّ التوحيد الذي هو لبّ العقيدة الإسلامية، بل هو اللب في كل الأديان السماوية، يقوم على أوصاف ثلاثة:
الأول هو: وحدة الخالق في إنشاء الكون، ووحدانيته في ذاته، فهو منزه عن المماثلة للحوادث، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، ووحدة المعبود، وهو الله سبحانه وتعالى.
الثاني: أنَّ الله تعالى مريد مختار فعَّال لما يريد، وأنَّه أنشأ كل ما في الوجود بإرادته وقدرته، ولم ينشأ عنه نشوء المعلول عن علته.
الثالث: ثبوت الرسالة الإلهية للمصطفين من خلقه، ولا تثبت الرسالة إلَّا بأمره.
الأمر الثاني: الذي من أجله أفضنا في ذكر بعض الخوارق، ولم نضنّ على القرطاس فيه، أنَّ بعض الذين يجعلون أمور الدين خاضعة للتجارب ويحسبون أنهم يخدمون القرآن، يدَّعون أنَّ رسالة محمد قامت على العقل ولم تقم على الخوارق، وأن القرآن الذي هو حجة محمد الكبرى خاطب العقول ولم يخاطب بالخوارق، وجرت عباراتهم بما يفيد أنَّ الإسلام لا يعرف الخوارق، إلى درجة أنَّ بعض علماء اللاهوت المسيحي سألنا: هل القرآن يعارض الخوارق والمعجزات، فأجبنا سؤالهم بأنَّ القرآن سجّل معجزات الأنبياء، وها نحن أولاء نبيِّن بعض ما في هذا السجل الخالد.