فصل: التشبيه في القرآن:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المعجزة الكبرى القرآن



.التشبيه في القرآن:

105 - انتهينا إلى أن التشبيه في القرآن ليس هو مقياس البلاغة، لأن البلاغة القرآنية العالية كما تكون في حال التشبيه والاستعارة والمجاز، تكون أيضًا في الكلام الخالي من كل هذا، وأخص ما يكون ذلك في آيات الأحكام، وقد يكون في القصص والاستدلال، وغير ذلك مما نعرض له، وقد تلونا آيات من آيات الأحكام، وجدنا فيها النص الكريم في حقائقه، وفي بعده عن كل المحسنات البديعية أعلى من كل كلام، وهو بديع في ذاته من غير حاجة إلى البديع الصناعي، أو الاصطلاحي، فإنه فوق قدر البشر، وفوق ما يصطنعه البشر، وما يصطلح عليه العلماء، وإنه يتعلم منه، وإن كان لا يحاكي، ويؤخذ منه، وإن كان الوصول إلى مقامه غير ممكن.
لقد ذكر الرماني في رسالته (النكت في إعجاز القرآن): التشبيه: هو العقد على أن أحد الشيئين يسد مسد الاخر في حس أو عقل، وإن ذلك التعريف يضع المشبه والمشبه به في مرتبة واحدة، وإني لا أرى ذلك، ولا يراه علماء البلاغة الذين جاءوا بعد أبي الحسن الرماني المتوفى سنة 386هـ - فإنهم يعرفونه بأنه جعل أحد الشيئين في مقام الشيء الاخر لأمر مشترك بينهما. وهو في ثانيهما أقوى مظهرًا أو أبين مخبرًا، كما تقول على كالأسد في الشجاعة، فهو في الأسد أظهر، ولا يمكن أن يقال: إن أحدهما يسد مسد الآخر، صورة ومعنى.
ولنترك التعريف مع رأينا فيه، ولننظر في قوله من بعد، فهو يقول: وهذا الباب يتفاضل فيه الشعراء، وتظهر فيه بلاغة البلغاء، وهو على طبقات في الحسن، فبلاغة التشبيه الجمع بين شيئين بمعنى يجمعهما، والأظهر الذي يقع فيه البيان بالتشبيه على وجوه. ويذكر وجوه التشبيه وأنواعه فيقول في ذلك:
منها إخراج ما لا تقع عليه الحاسة إلى ما تقع عليه الحاسة، ومنها إخراج ما لم تجر به عادة إلى ما جرت به عادة، ومنها إخراج ما لا يعلم بالبديهة إلى ما يعلم بالبديهة، ومنها إخراج ما لا قوة له في الصفة إلى ما لا قوة من الصفة، فالول نحو تشبيه المعدوم بالغائب، والثاني تشبيه البعث بعد الموت بالاستيقاظ بعد النوم، والثالث تشبيه إعادة الأسجام بإعادة الكتاب، والرابع تشبيه ضياء النهار.
ولا شك أن هذه الوجوه لا تشمل كل أقسام المقسم، فهن التشبيهات ما ليس بوجه من هذه الوجوه، كتشبيه غير الواضح بالواضح، كما ترى ذلك في كثر من الآيات القرآنية، وكالتشبيه الذي يقصد به بيان ما أكنَّه سبحانه، وما خلق وما دبَّر فهو تقريب بالمغيب عنه إلى المعلوم لنا، وما عند الله أعظم وأكبر، وقد يكون التشبيه لتقريب المعنى الكلي من المعنى الجزئي، أو لتصوير المعني الكلي في بعض جزئياته؛ كقوله تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر: 21] فإنه كان عقد المشابهة بين المعنى الكلي وهو المعنى الجامع الذي يوضح به الحقائق بالأمثال التي ضربها وبينها للناس، ومن ذلك الأمثال التي تضرب لتقريب أصل الخق والتكوين من عقول الملكفين، وهكذا. وقد يكون هذا يتضمنه مطوى كلامه، ولكنه غير بيَّن.
ولقد قسَّم أبو الحسن الرماني التشبيه بالنسبة للغرض منه إلى قسمين: فيقول: التشبيه على وجهين: تشبيه بلاغة وتشبيه حقيقة، فتشبيه البلاغة كتشبيه أعمال الكفَّار بالسراب، وتشبيه الحقيقة نحو: هذا الدينار كهذا الدينار، فخذ أيهما شئت.
ونحن نقول: إن ذلك التقسيم يجوز أن يكون بالنسبة لكلام الناس، أمَّا القرآن الكريم فإن كل تشبيهاته فيها البلاغة وفيها الحقيقة، والمثل الذي ذكره وإن كان في أعلى درجات البلاغة هو الحقيقة، فإن التشبيه صادق في الواقع؛ لأن أعمال الذين كفروا هي السراب الذي له واقع، ولكنَّه وهم يسيطر بأبصار ضالّ، فكما أنه لا جدوى منه، والمتعلق به لا يتعلق بأمر واقع، فكذلك إذا رأوا أن أعمالهم فيها خير يعود عليهم فهم واهمون، والصفة المشتركة في التشبيهين هي أن الوهم وهو ما ليس واقعًا، وتصوروه على أنه واقع، فقد تصوروا أن أعمالهم حسنة؛ إذ زينت لهم أمرًا فظنّوه أمرًا حسنًا، كمن يرى السراب فيحسبه ماء وهو ليس بماء.
ولذلك نقول: إنَّ الوجهين محققان في كتاب الله تعالى، ففي التشبيه القرآني الحقيقة الصادقة، والبلاغة القائمة المعجزة، وقد أتى بالأمثلة على وجه التشبيه التي ذكرها، وتبعه الباقلاني في كتابه إعجاز القرآن، فلا ضير علينا إذا تابعناه، كما تابعه من كان عصره على مقربة من عصره.
106 - وقد ذكر الرماني، وتبعه الباقلاني مثلًا للتشبيه الذي شبه فيه ما لا يقع عليه الحس بما يقع بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} [النور: 39].
هذا ما ساقه الرماني من الآية، ولنتمّه ببيان ما فيها من تشبيه، فقد قال تعالى بعد ذلك: {وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ، أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: 39، 40].
وقد علق الرماني على التشبيه الأول في الآية الأولى، فقال: وهذا بيان قد أخرج ما لا تقع عليه الحاسّة إلى ما تقع عليه الحاسة، وإن اجتمعا في بطلان التوهم مع شدة الحاجة وعظم الفاقة، ولو قيل: يحسبه الرائي ماء ثم يظهر أنه كان على خلاف ما قد رأى لكان بليغًا، وأبلغ منه لفظ القرآن؛ لأنَّ الظمآن أشدُّ عليه حرصًا، وتعلق قلبه به، ثم بعد هذه الأمنية حصل على الحساب الذي يصيره إلى عذاب الأبد، نعوذ بالله من هذا الحال، وتشبيه أعمال الكفار بالسراب من حسن التشبيه، فكيف إذا تضمن ذلك حسن النظم وعذوبة اللفظ، وكثرة الفائدة، وصحة الدلالة.
ولم يبين لنا الرماني لماذا كان تعبير القرآن في التشبيه حيث يرى السراب، أبلغ من أن يقال يحسبه الرائي ماء، لم يبين بوضوح أوجه ذلك، ونرى أنَّ قول القائل يحسبه الرائي ماء يفسد التشبيه ولا يفيد الحاجة؛ لأن النص فيه ما يفيد الرغبة في طلب الماء وشدة الحاجة إليه، وذلك محقق في المشبه؛ إذ إن الذين كفروا بآيات الله في وقت حاجتهم إلى عمل صالح يظنون أن عملهم هذا منه وهم محتاجون إلى ما يتقدمون به إلى ربهم من عمل صالح، كالظمآن يطلب الماء.
وأن التشبيه يدل على حيرة الكافرين حتى يتوهموا ما لا يقبل الوقوع واقعًا، وقد أكَّد حيرتهم ما جاء بعد ذلك؛ إذ يقول سبحانه وتعالى: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: 40].
فإذا كان التشبيه الأول شبه حالهم بحال من يتوهمون في عملهم خيرًا، فيكونون كالظمآن يحسب السراب ماء لحيرتهم، واضطرابهم وحاجتهم إلى الماء، فالمثل الثاني يصور حيرتهم، بسبب أنهم في ظلام دامس، فقد شبه سبحانه وتعالى - حالهم من حيث الحيرة والتباس الأمور عليهم، وانقطاع المل وأنَّهم يظنّون الخير حيث لا مظنَّة، أعمالهم بظلمة حالكة فوقها ظلمة مثلها، وفوق هذه الظلمات سحاب يوجد غمَّة، فليست أعمالهم خيرًا ولكنها شرٌّ عظيم عليهم، وهم يضاعفون من الظلمات بتوالي أعمال الشر فيهم، وسيرهم في طريق الغي الذي لا حدَّ له، وقد تكاتف عليهم سوء ما فعلوا.
وخلاصة ما يستنبط من التشبيهين أنهم في حيرة يطلبون ما ينجيهم فلا يجدونه، وإذا توهموه في أمر زال الوهم بالحقيقة المبصرة، وأنهم بسوء أعمالهم في ظلمات بعضها فوق بعض، وهي في نفوسهم، وما يحيط بهم ظلمة داكنة لا يجدون بصيصًا من الأمل يفتحون أعينهم لرؤيته.
والتشبيهان يعطيان صورتين من البيان تدلان على كمال الحيرة وكمال الظلمة، فالمثل الأول يعطي صورة عطشان يطلب الماء، فيتوهمه في سراب فيجري وراءه عطشان صاديًا، حتى إذا أجهدته المشقة وبعد الشقة لا يجد شيئًا، والثاني يعطي صورة لشخص كانت عليه الظلمات توضع واحدة فوق واحدة. وإذا كانت فيها فرجة يرجو منها الرؤية لا يصل إليه النور للسحاب الذي كأنه الغمة، ومن تشبيه الأمر غير المحسوس بالأمر المحسوس، كالمثل السابق في قوله: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ} [إبراهيم: 18].
ويقول الرماني في التعليق على التشبيه: فهذا بيان قد أخرج ما لا تقع عليه الحاسة إلى ما تقع عليه الحاسة، فقد اجتمع المشبه والمشبَّه به في الهلاك وعدم الانتفاع، والعجز من الاستدراك لما فات، وفي ذلك الحسرة العظيمة والموعظة البليغة. هذا كلام الرماني وهو صدق، وإني أذوق من التشبيه شيئًا بيانيًّا آخر، ذلك أن أولئك الكافرين كانوا يحسبون أن أعمالهم لها أثر في الوجود في زعمهم، ويتوهمون وقوع ذلك وأنهم قدموا، ولكنهم يفاجئون بربح شديدة في يوم عاصف تبدد ما كانوا عليه من أحلام، كانوا يتوهمون أنَّ ما لهم في الدنيا ينفعهم، فلمَّا جاء يوم القيامة بددت أحلامهم، فتقدموا عاطلين في حلبة العمل الطيب، وكان ذلك هو الضلال البعيد، لأنهم زعموا باطلًا، ثم رأوا الحقيقة عيانًا، وفي ضمن القول عبَّر عن عملهم بأنه سراب، أي: إنه شيء ليست له قيمة ذاتية بل هو هباء في ذاته.
107 - وقد جاء الرماني بمثل فيه تشبيه ما لم تجر به العادة بما تجري به العادة، وهو قوله تعالى في توثيق الميثاق على بني إسرائيل: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأعراف: 171]، ويقول في ذلك الرماني: و هذا بيان قد أخرج ما لم تجر به عادة إلى ما جرت به العادة، وقد اجتمعا في معنى الارتفاع في الصورة، وفيه أعظم الآيات لمن فكّر في مقدورات الله تعالى عند مشاهدته لذلك أو علمه به، ليطلب الخبر من قبله، ونيل المنافع بطاعته.
هذا ما ذكره الرماني في معنى التشبيه، وهو تشبيه ما لم تجر به العادة، إلى ما جرت به العادة، كأنَّ التشبيه كان لغرض تقريب المعنى، وتصوير الغريب كأنه قريب، وذلك في تشبيه الجبل مرتفعًا كأنه ظلة، وهذا المعنى في ذاته صحيح، ولكنه فيما أعتقد لا يصور معنى التشبيه من كل الوجوه؛ لأن رفع الجبل كان لتوثيق الميثاق عليهم, وحملهم على الأخذ به، وإثبات قدرة الله تعالى، وإلقاء المهابة في قلوبهم، فالتشبيه بالظلة للدلالة على الإحاطة، وتصويره لهم كأنه نازل بهم واقع عليهم، ليعرفوا أنَّ ميثاق الله له رهبته، وأن عليهم طاعته، ولذلك قال سبحانه بعد أن روا الجبل مرفوعًا عليهم وأنه محيط بهم {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} - أي: بعزم شديد، {وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.
ومن هذا النوع الذي ذكره الرماني قوله تعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [يونس: 24].
وقد أخرج الرماني التشبيه كالآية السابقة في نظره، فقال: قد أخرج ما لم تجر به العادة إلى ما جرت به العادة، وقد اجتمع المشبه والمشبه به في الزينة والبهجة، ثم الهلاك بعده، وفي ذلك العبرة لمن اعتبر، والموعظة لمن تفكر في أن كل فانٍ حقير وإن طالت مدته، وصغير وإن كبر قدره.
وما ذكره الرماني حق في إيجاره، ولكنه ناقص، ونوضحه بعض التوضيح فنقول: إن التشبيه تصوير للحياة، فإن مثلها في بهجتها ومسراتها وهناءتها والسعادة فيها مهما تبلغ من المظهر البهي، والزينة الباهرة ليس لها بقاء، وإنما مآلها إلى الفناء، كمثل الماء ينزل من السماء فينبت النبات الذي يأكل منه الناس مستمتعين، والأنعام والدواب، وأنه إذ يبلغ أقصى زخرفه ونضرته ومتعته، وامتلاء أهل الأرض بالغرور، وظنَّوا أن كل شيء في قبضة أيديهم جاءهم أمر الله، فصار النبات هشيمًا، والإنسان رميمًا، كأن لم يغن أحد بالأمس.
وإن ما ذكره الرماني صادق في إيجازه، ولكنه لا يصور الصورة التي يدل عليها التشبيه، وهو يريك الحياة كالعروس في جلوتها، ثم كالهشيم في صغاره.
ومن التشبيهات التي ساقها الرماني قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ، تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} [القمر: 19، 20].
ويقول الرماني في بيان وجه التشبيه: وهذا بيان قد أخرج ما لم تجر به عادة إلى ما جرت به عادة، وقد اجتمعا في قلع الريح لهما وإهلاكه إياهما، وفي ذلك توحد الآية الدالة على عظم القدرة، والتخويف من تعجيل العقوبة.
وإن هذا القدر الذي ذكره الرماني متحقق، ولكن لا يمكن أن يكون وجه التشبيه هو تشبيه ما لم تجر العادة به بما جرت به العادة فقط، إنما الألفاظ والأسلوب، وما يثيره من صور بيانية تعلو به عن أن يكون لمجرد إثبات ما لا تجري به العادة إلى ما تجري، إنما المقصود من التشبيه فيما نحسب تصوير عذاب الله تعالى، فالله تعالى أرسل عليهم ريحًا شديدة البرد، في يوم كله بأس وشدة، وهو كالنحس عليهم، طويل في آلامه، ومستمر فيها ولو كان الزمن قصيرًا، ثم يصور الله تعالى نزع المشركين من غرورهم واعتزازهم بمالهم وطغوائهم، وينزعون بعنف شديد لا يقوون فيه على الامتناع ولا الإصرار على البقاء، كما تنزع مؤخرات وجذور نخل غاصت في أعماق الأرض.
هذا بريق التشبيه المرعد الذي يصور ما ينزل بالمشركين الذين طغوا في البلاد وأكثروا فيها الفساد.
ومن التشبيهات التي ذكرها الرماني على أنها تقرب ما لم تجر به العادة إلى ما جرت به العادة، قوله - تعالت كلماته: {فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} [الرحمن: 37].
وقال في التشبيه: قد أخرج ما لم تجر به عادة إلى ما قد جرت به عادة، وقد اجتمعا في الحمرة وفي لين الجواهر السيالة، وفي ذلك الدلائل على عظم الشأن ونفوذ السلطان لتنصرَّف الهمم إلى ما هناك بالأمل.
وإنَّ تصوير التشبيه وقصره على ذلك الوجه، وهو تشبيه ما لم تجر به عادة إلى ما يجري به عادة، ربما يكون غير مصور لمعنى التشبيه، وما يثير من صور.
إن التشبيه تصوير لما يقع إذ تقوم القيامة، فالسماء ذلك البناء الذي تجري فيه الكواكب والنجوم، كل في مساره، وهي البناء الذي بناه الله تعالى شامخًا عظيمًا ذا بروج صار وردة كالدهان.
ومن ذلك تصويره للدنيا إذ تقوم القيامة، فتكون السماء لينة كالورد الذي يشبه الدهن مبالغة في ليونته التي تصل إلى حد السيولة.
108 - ويسوق الرماني أمثلة يتبين فيها تشبيه ما لم يعلم إلا بالنظر بما يعلم بالبداهة من غير محاولة نظر واستدلال، ومن ذلك قوله تعالى: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الحديد: 21]، ويقول في التشبيه هنا: قد أخرج ما لا يعلم بالبداهية إلى ما يعلم، وفي ذلك البيان العجيب بما قدر تقرر في النفس من الأمور، والتشويق إلى الجنة بحسن الصفة مع مالها من السعة وقد اجتمعا في العظم.
وإنا نجد الآية الكريمة في تشبيهها ليست من قبيل تشبيه ما لا يعلم بالبداهة بما يعلم بالبداهة، فإننا نرى أن كليهما لا يعلم بمجرد البداهة، بل يعلم بالنقل المصدق، فهما سواء في صلتهما بالعلم الضروري، وإنَّما إذا قيل: إنَّ المراد تصوير المعقول بما يتصور أن يكون مشهودًا محسوسًا، والجميع بإخبار الله تعالى لا بمجرد النظر، سواء كان الأمر ضروريًّا أم نظريًّا، وإنا إذا تلونا ما قبل هذا النص وما بعده وهو قوله تعالى:
{سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: 21].
ونرى من هذا أنَّ المراد السعة في النعمة، وأن السعة في النعمة كالسعة في المكان، وهي تدل عليه، والمراد من الكلام كله الحث على طلب مغفرة الله تعالى، وأن الكلام كله يصور الجنة بأنها خير من الوجود كله، وأنها أوسع، وأنه إذا كانت النار تسع كل المجرمين؛ لأن لها سبعة أبواب لكل باب جزء مقسوم، فالجنة تسع المتقين الأبرار؛ لأنها واسعة عريضة كعرض السماء والأرض.
ومن التشبيه الذي ذكره الرماني على أنه تشبيه ما لا يعلم بالبداهة إلى ما يعلم بها قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة: 5]، ثم قال: وهذا تشبيه قد أخرج ما لا يعلم بالبديهة إلى ما يعلم بالبديهة، وقد اجتمعا في الجهل بما حملا، وفي ذلك العيب لمن ضيع العلم بالاتكال على حفظ الرواية من غير، ولسنا نرى في الكلام ما يدل على أن المشبه لا يعلم بالبداهة، والمشبه به يعلم بالبداهة.
إن الذي نراه ليس علم الرواية وعلم الدراية، وإنما الذي تتجه إليه الآية الكريمة في صدرها ونهايتها، وهو تشبيه علم لا يقرنه العمل، بعدم العلم، فهم يحملون علمًا لا ينتفعون به عملًا، بل يعملون بنقيضه، يحملون علم الهداية ولا يهتدون، كمثل الحمار يحمل أسفارًا.
وكان تشبيههم بالحمار الذي يحمل أسفارًا وهو غير صالح للانتفاع، وفي التعبير القرآني إشارة بيانية تبيّن أن العمل هو ثمر العلم، ولا يقال أنَّه قد نال من أخذه من غير عمل، وذلك قوله تعالى: {حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا} أنَّ الله حملهم التوارة علمًا لأجل العمل، فعلموها ولم يعملوا بها، فكانوا غير حاملين.
109 - وقد ساق الرماني من تشبيهات القرآن تشبيهات فيها المشبه يكون أضعف صفة من المشبه به فيلحق به؛ لأنه أقوى صفة منها، ومن ذلك قوله تعالى: {وَلَهُ الْجَوَارِي الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ} [الرحمن: 24]، ويقول في ذلك: فهذا تشبيه قد أخرج ما لا قوة له في الصفة إلى ما له قوة فيها، وقد اجتمعا في العظم، إلا أن الجبال أعظم، وفي ذلك العبرة من جهة القدرة فيما سخر من الفلك الجارية مع عظمها، وما في ذلك من الانتفاع بها، وقطع الأقطار البعيدة فيها، وإن ذلك الكلام حق، فإنَّه إذا كان الجامع بين المشبه والمشبه به القوة، فالجبل أقوى، وإذا كان الظهور فالجبل أظهر، ولكن يلاحظ أنَّ المقصود من التشبيه لا يعني به الرماني كثيرًا، بل تكون عنايته بالأوصاف الظاهرة، أو المقاصد القريبة. وأن المقصود في هذا السياق هو بيان سر الله تعالى في خلقه وتخيره للإنسان، فإنه إذا كانت الجبال والأوهاد وجدها الإنسان كذلك، وهي رواسي الأرض، وبها ثباتها، فإن الجواري وهنَّ السفن التي تقارب في علوِّها وفي قوتها وأثقالها الجبال تجري على الماء وهو يحملها مع أنه سائل لا صلابة فيه، وتجري فيه، وتنقلهم إلى بلد لم يكونوا واصلين إليه بغيرها، فقدرة الله تعالى فيها أظهر؛ لأنها منشأة ترى نشأتها، وهي تجري بأمر الله تعالى ولا يجرونها.
ويضرب الرماني مثلًا فيما يجري في المعنويات. ومن ذلك قوله تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [التوبة: 19]. ثم يقول: وفي هذا إنكار لأن تجعل حرمة السقاية والعمارة كحرمة من آمن بالله وكحرمة الجهاد، وهو بيان عجيب، وقد كشفه التشبيه بالإيمان الباطل والقياس، وفي ذلك الدلالة على تعظيم حال المؤمن بالإيمان، وأنَّه لا يساويه مخلوق على صفته في القياس، ومثله قوله تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الجاثية: 21].
ونجد الرماني في المثال يأتي بالتشبيه منفيًّا مستنكرًا، كما أتى به محققًا موجهًا، فإنَّ الاستفهام هنا لإنكار الواقع، فهُم قد آثروا أن يكونوا عامرين للبيت، قائمين بالسقاية والرفادة، وتنافسوا على ذلك زاعمين أنّ فيه الخير كله، وأنه قد يغنيهم عن الإيمان بالله ورسوله والجهاد في سبيله، بل يزعمون أنهم بدانة البيت الحرام، والقيام على السقاية والرفادة أفضل ممن آمن بالله وجاهد في سبيه، والحقيقة أنهما لا يستويان، فالإنكار للمشابهة والتساوي بينهما فضلًا عن اعتبار السقاية والعمارة أفضل وأشرف. والله سبحانه وتعالى أعلم.
هذا ما ساقه الرماني من وجوه التشبيه، وقد نقلناها، كما نقلها الباقلاني؛ لأنها وجوه لها اعتبارها؛ ولأن فيها ضبطًا لأقسام التشبيهات القرآنية، وإن كانت غير شاملة لكل الأقسام، بل إنها ذات وجوه شتى.
ولكنه لم يتعرض إلا قليلًا لأغراض التشبيهات ومراميها، وما تصوره من صور بيانية، وما تنتجه من بسط للمعاني النفسية، وتوجيه للحقائق الكونية والروحية، ووصف للملائكة الأطهار، والآدميين الأخيار.
ولنضرب بعض أمثلة القرآن الكريم التي تجعل فيها المعاني كأنها صور محسوسة لافتة للعقول إلى الكون وما فيه، أقرأ قوله تعالى في تشبيه المنافقين وترددهم بين الحق والباطل، وظهور ضوء الحق، وعمي بصائرهم عنه، فقد قال تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ} [البقرة: 17]، وترى هنا تشبيه حال المنافق المضطرب بين الحق والباطل، ولكن يريد الحق تابعًا لهواه، فهو يطلبه ليستضيء بنوره، ولكن ما أن يبدو النور حتى يصاب بالعمى بسبب الهوى الذي يسيطر على قلبه، فيضيء النور ما حوله، ولا يستضيء به، وهو الذي استوقد النار، ثم ينتهي أن يصبر كالصمّ الذين لا يسمعون؛ لأنه لا يستمع لنداء الحق، ويصير كالبكم؛ لأنه لا ينطق بالحق الذي يجب عليه أن ينطق به، وكالأعمى الذي لا يميز بين الأشياء؛ لأنه قد طمس الله تعالى على بصيرته فأصبح لا يميز بين باطل استهواه لفساد قلبه، وحق قامت البينات عليه، وفي الحكم عليهم بالصم والبكم والعمي تشبيهات فردية، وهي تقوم على التشبيه.
والتشبيه في هذا النص تشبيه حالٍ بحال، والآية صريحة في ذلك؛ لأنَّ الله تعالى يقول: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا}، أي: حالهم كحال الذي استوقد نارًا، فهو تشبيه تمثيلي شبهت حال المنافقين، وأكثرهم من اليهود في كونهم كانوا يتطلعون إلى نبي قد حان حينه، وأدركهم إبانه، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به، فلمَّا بدا الضوء أضاء من حولهم، ولم يستضيئوا به، فلم يهتدوا بقولٍ سمعوه، ولا نطقوا بحق عرفوه، ولا استرعتهم بينات رأوها فكانوا صمًّا بكمًا عميًا.
وقد ضرب سبحانه وتعالى - في السياق القرآني مثلًا بتشبيه آخر، بمثل جانبًا من جوابنهم، فقال بعد التشبيه الأول: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ، يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 19، 20].
وفي هذا المثل شبه سبحانه وتعالى - حالهم بأمرين: كل واحد منهما تشبيه قائم بذاته، أولهما: إنَّه سبحانه وتعالى - شبه حالهم بحال قوم أصابهم مطر شديد ينصب عليهم انصبابًا، صحبه غمام بعد غمام فيه ظلمة بعد ظلمة وفيه رعد وبرق، وفيه الإنذار بالعذاب الشديد، فهم في خوف ووجل يحسبون كل صيحة فيها الموت، ويجعلون أصابعهم في آذانهم حذر الموت، وفي هذا تصوير لنفس منافقة، فهي نفس تائهة فارغة دائمًا لا تستقر على أمر، ولا تطمئن على قرار، فهم في اضطراب؛ لأنهم لا يؤمنون بشيء، والإيمان هو المطمئِن دائمًا، ألا بذكر الله تطمئن القلوب، وإذا كان التشبيه السابق يصور حالهم في طلب الدليل وعدم الأخذ به لغلبة الهوى، وسيطرة الشهوة، والجحود الموروث، فهذا التشبيه يصور حالهم من هلع مستمر، وخوف من غير مخوف، ولذلك يقول بعض علماء النفس: إنَّ النفاق منشؤه ضعف في النفوس.
والتشبيه الثاني متفرع عن التشبيه الأول، وإن كان يصلح تشبيهًا قائمًا بذاته، وهو ما أومأ الله تعالى إليه بقوله: {يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ}، وإن هذا تتميم للأول، وهو أيضًا قائم بذاته، فإنه إذا كان الرعد يجعلون أصابعهم في آذانهم به، فالبرق الذي يصحب الصيب شديد مفزع له بريق يكاد يخطف أبصارهم، ولكن كان هو تشبيهًا لحالهم، وهي أنَّ المنافق متردد دائمًا، فالبريق يضيء لهم فيمشون فيه، ولكن سرعان ما تظلم عليهم نفوسهم فيقيمون حيث هم من نفاق، ويختم الله تعالى النص القرآني في هذا التشبيه المحكم ببيان قدرة الله تعالى وسيطرته عليهم، وأنَّه سبحانه لو شاء لأفقدهم سمعهم وبصرهم حقيقة، كما فقدوا سماع الحق استماع إنصات، وإدراكه إدراك طالب للحقيقة.
والتشبيه في هذا المثل كسابقه تشبيه تمثيلي، إنَّه شبَّه حالهم في ضعف نفوسهم والبلبال المسيطر عليهم واضطراب أحوالهم بحال قوم أصابهم مطر لم يكن غيثًا منقذًا، بل مرهبًا ومفزعًا، فكانوا في خوف واضطراب من غمام مظلم، وريح عاصف، ورعد قاصف، وبريق خاطف، وصاروا يجعلون أصابعهم في آذانهم حذر الموت، فهو تصوير لضعفهم، وفي التشبيه الثاني الذي هو فرغ بالنسبة لما قبله، تصوير لفزعهم من البرق، وتصوير لكون أسباب الهداية بين أيديهم، وهي في ذاتها مضيئة، ولكنها تظلم عليهم فيقيمون على نفاقهم، ويستمرون في غيهم، والله قاهر فوقهم، لو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم.
110 - وقبل أن نغادر الكلام في التشبيه إلى الاستعارة، وهي لون من ألوانه لا بُدَّ أن نشير إلى أمور ثلاثة:
أولها: إن التشبيه بلا شك من أسرار الإعجاز، ويعده الباقلاني من أسباب الإعجاز، ولكن بعد الكلام في القرآن من غير مجاز ولا تشبيه بأيّ لون من ألوانه معجزًا بلغ ذروة البلاغة من غير أن تعرف سببًا واضحًا يدرس على أساسه، وتتعرف اسرار البلاغة فيه من إشعاعه، وليس معنى ذلك أنَّ الإعجاز ليس بيانيًّا، بل هو بياني، ويبدو ذلك في تساوق المعاني، وأخذ الألفاظ بعضها بحجز بعض في إحكام قول ونغم ورنين يكون أحيانًا شديدًا يصك آذان المنذرين، وأحيانًا كأنه نسيم عليل يحيي النفوس ويشفي أسقام القلوب، وأحيانًا يكون وصفًا عميقًا لخواطر النفوس، وما يستكن في القلوب، وهذه هي البلاغة في القرآن التي تعلو أن توضيحها الأفهام كما يرى ضوء الشمس ولا يعرف كنهه، وكما تحس بالحرارة الدافئة، ولا تعرف ماهيتها، والله على كل شيء قدير.
الأمر الثاني: إنَّ تشبيهات القرآن أيًّا كان وجهها صور بيانية، تتضح منها الحقائق الظاهرة، والمعاني العاطفة، كأنها أمور محسوسة مرئية، فإذا كان التشبيه يأمر محسوس كانت الصورة البيانية كأنها مرئية واضحة، فالتشبيه الأول من تشبيهات المنافقين تقرؤه كأنَّك ترى رأي العين رجلًا استوقد نارًا، والسين والتاء للطلب، وهما يدلان على أنه بذل مجهود في طلب الضوء، وعالج الأمور في طلب الوقود، حتى وصل إليه بجهد ومشقة، ولكن ما إن أضاء حتى ثبت أنه لم يكن في الضوء فائدة له، فلم ير النور الذي طلبه، وأصمّ أذنه عن الحق، وانقبض لسانه فلم ينطق بحق، والبيان القرآن الكريم صور ذلك كأنك تراه لا تقرؤه، تعالت كلمات الله.
والتشبيه بما تضمَّن من تشبيه في آخره يريك صورة الضعف وما يحدثه النفاق في النفوس من ضعف يجعلها تطير حول كل مطار، ولا تطمئن على قرار، فهي تسير برعونة نحو المطامع، وتستخذي وتذل أمام المفازع، وقد شبههم بقوم نزل عليهم مطر ينصب انصبابًا، والظلمات قد صارت كسقف مرفوع فوقهم، والرعد بهزيمه يزعجهم، والبرق يخطف أبصارهم، وذلك تصوير كأنه المرئي، وتبين لمعنى الخوف والاضطراب الذي يسكن قلوبهم، ويجعلهم بين خوف يؤرقهم، ومطامع تحركهم، والشر يحوط بهم في كل أحوالهم.
الأمر الثالث: الذي نجده في تشبيهات القرآن أننَّا نجده يقرب المعاني، ويأخذ من التشبيهات الأدلة المفرقة بين الحق والباطل، اقرأ قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النحل: 75، 76].
ونرى أن التشبيه الأول من قبيل التمثيل، وهو تشبيه حال من يعبد الأصنام إذ يسوي بينها وبين الخلاق العليم - بحال من يجعل العبد الملوك الذي لا يقدر على شيء بحال من رزقه الله تعالى رزقًا حسنًا، وهما لا يستويان حالًا وشأنًا، النتيجة لا يستوي صنم لا يقدر على شيء بالله تعالى الذي يملك الوجود كله، وهو على كل شيء قدير.
وفي التشبيه الثاني كان التشبيه بين حال المشركين في تسويتهم بين الله القادر، والحجر الذي لا يضر ولا ينفع، وحال من يسوي بين رجل أبكم وهو كَلٌّ، وبين رجل ينطق بالحكم ويقيم العدل لا يستويان، فلا تصح عبادة الأوثان وتسويتها بالله.
وإن الله سبحانه وتعالى - يقرّب الحقائق بين قوم حسيين بالمحسوسات، يضرب الأمثال بالتشبيهات لتقريب الحقائق، وتوضيح الأدلة بما يقربها، ولو كان ذلك بالأشياء التي يستحقرها المشركون، وهي في ذاتها ليست بحقيرة ولكنها جليلة، لأنها من خلق الله تعالى، ولقد قال الله تعالى في ذلك: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} [البقرة: 26].
وبعد: فإنَّ القرآن غذاء الأرواح، ومائدة الله للنفوس مختلف ألوانها، وكلها طيب الثمرات، نفعنا الله به وجعله درعنا في الأحداث التي تتنزل بنا، نأوي عنده ونركن إليه، ولا نعشو إلا إلى ضوئه.